الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #14
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الخامس عشر

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

اخي العزيز! ان سؤالك الاول الذي هو:

معلوم ان صغار الصحابة هم اعظم بكثير من اعاظم الاولياء، فلماذا اذن لم يكشف الصحابة الكرام بنظر ولايتهم المفسدين المندسين في المجتمع، حتى سبّبوا استشهاد ثلاثة من الخلفاء الراشدين؟

جوابه: في مقامين اثنين:

المقام الاول

بتوضيح سر دقيق للولاية وبيانه تحل عقدة السؤال وهو:

ان ولاية الصحابة الكرام هي ((الولاية الكبرى)) ومنبعها واصولها الاولى من وراثة النبوة، وطريقها: النفوذ من الظاهر الى الحقيقة مباشرة، من دون المرور بطريق البرزخ. فهي ولاية متوجهة الى انكشاف ((الاقربية الإلهية)) حيث ان طريق هذه الولاية رغم قصرها الشديد سامية وعالية جداً، خوارقها قليلة وكشوفاتها وكراماتها نادراً ما تظهر، الا ان مزاياها وفضائلها عالية جداً. بينما كرامات الاولياء اغلبها ليست اختيارية، فقد يظهر منهم أمر خارق للعادة من حيث لم يحتسبوا، اكراماً من الله لهم، وأغلب هذه الكشوفات والكرامات يظهر لهم اثناء فترة السير والسلوك وعند مرورهم في برزخ الطريقة. وحينما يتجردون - الى حد ما - من حظوظ البشرية ينالون حالات خارقة للعادة.

أما الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم اجمعين - فهم ليسوا مضطرين الى قطع الدائرة العظيمة بالسير والسلوك ضمن الطريقة للوصول الى الحقيقة، وذلك لتشرفهم بانعكاس انوار الصحبة النبوية الشريفة، فهم قادرون - بهذا السر - ان ينفذوا من الظاهر الى الحقيقة بخطوة واحدة وفي جلسة واحدة. فمثلاً:

ان هناك طريقين لإدراك ليلة القدر التي مضت ليلتها بالأمس وغدت ماضياً:

الاولى:

معاناة الايام يوماً بعد يوم سنة كاملة، لأجل الوصول الى تلك الليلة المباركة مرة اخرى ومقابلتها وموافقتها، فلابد من السير والسلوك وقطع سنة كاملة للظفر بهذه ((القربـية الإلهية)).

وهذا هو مسلك معظم السالكين من اهل الطرق.

الثانية:

انسلال الجسم المادي المقيد بالزمان من غلافه، والتسامي روحياً بالتجرد، ورؤية ليلة القدر الماضية بالأمس مع ليلة العيد المقبلة بعد يوم حاضرتين ماثلتين كأنهما اليوم الحاضر، حيث ان الروح ليست مقيدة بالزمان. فحينما تسمو الاحاسيس الانسانية الى درجة رهافة الروح يتوسع ذلك الزمان الحاضر - ويطوي فيه الماضي والمستقبل - فتكون الاوقات الماضية والمستقبلة بالنسبة للاخرين بمثابة الحاضر بالنسبة اليه.

في ضوء هذا التمثيل، يكون العبور الى ليلة القدر الماضية بالأمس، بالرقي الى مرتبة الروح ومشاهدة الماضي كأنه الحاضر.

واساس هذا السر الغامض انما هو انكشاف ((الاقربية الإلهية)).

ولنوضح هذا بمثال:

ان الشمس قريبة منا لأن ضياءها وحرارتها وصورتها تتمثل في مرآتنا التي في ايدينا، ولكن نحن بعيدون عنها. فلو أحسسنا بأقربيتها من حيث النورانية، وادركنا علاقتنا مع صورتها المثالية في مرآتنا، وعرفناها بتلك الوساطة، ولمسنا حقيقة ضيائها وحرارتها وهيئتها فان اقربيتها تنكشف لنا لدرجة تغرينا بتكوين علاقة معها عن معرفة وقرب.

ولكن لو اردنا التقرب اليها والتعرف عليها من حيث بعدنا عنها لأضطررنا الى كثير جداً من السير الفكري والسلوك العقلي لنصعد فكرياً بصحبة القوانين العلمية الى السموات ونتصور من ثمة الشمس متألقة في فضاء الكون، ولابد من الاستعانة بهذه القوانين والتدقيقات المطولة جداً لادراك ما في ماهيتها من ضياء وحرارة والوان سبعة. وبعد هذا كله قد نحصل على القربية المعنوية منها، بمثل التي حصل عليها الشخص الاول بتأمل يسير في مرآته.

وعلى غرار هذا المثال؛

فالنبوة، والولاية الموروثة عنها، متوجهتان الى انكشاف ((الاقربية الإلهية)). اما سائر الولايات فان معظمها تسلك على أساس ((القربية الإلهية)) فتضطر الى السير والسلوك عبر مراتب عدة قبل بلوغها المقام المطلوب.



المقام الثاني

ان الذي كان وراء حوادث الفتن ليس هو عدداً قليلاً من اليهود كي يمكن حصرهم وايقاف ذلك الفساد، واطفاء تلك الفتن بمجرد كشفهم. اذ بدخول اقوام كثيرة متباينة الى حظيرة الاسلام، تداخلت واختلطت تيارات متناقضة وغير متجانسة في باطنها مع عقيدة الاسلام. وبخاصة اولئك الذين أصيب غرورهم القومي بالضربات القوية من يد سيدنا عمر رضي الله عنه. فكانوا يضمرون في نفوسهم الانتقام ويترقبون الفرصة له حيث أُبطل دينهم السابق ودُمّر سلطانهم وازيلت دولتهم التي كانت مدار افتخارهم وعزهم، لذا فقد كانوا يحملون احساساً بالانتقام شعورياً وغير شعوري من خلافة الاسلام. ولهذا قيل ان المنافقين الدساسين الاذكياء امثال اليهود قد استغلوا تلك الحالة الاجتماعية.

اي ان مقاومة تلك الفتن وازالتها هي بمواجهتها باصلاح ذلك المجتمع وتنوير الافكار المختلفة، وليس بكشف قلة من المفسدين.

واذا قيل:

ان سيدنا عمر رضي الله عنه قد هتف من فوق المنبر بسارية احد قواد سراياه وهو على بعد مسيرة شهر منه بـ((يا سارية الجبل الجبل!))(1) فهتافه هذا وتوجيهه هذا اصبحا سبباً من اسباب نيل النصر في تلك المعركة. هذه الحادثة المشهورة تبين مدى نفاذ بصيرته الحادة.

والسؤال هو: لماذا لم تر تلك البصيرة بنظرها الثاقب قاتلَه فيروز الذي كان قريباً منه؟

الجواب: نجيب عن هذا السؤال بما اجاب عنه سيدنا يعقوب عليه السلام(2) ،فقد سئل عليه السلام: كيف وجدت ريح يوسف عليه السلام من قميصه الذي في ارض مصر، ولم تره في الجب القريب منك في ارض كنعان؟

فأجاب عليه السلام: ان حالاتنا كالبرق الخاطف، يظهر احياناً ويختفي اخرى، فنكون احيانا كمن هو جالس في اعلى مقام ويرى جميع ما حوله، واحياناً اخرى لا نرى ظهر اقدامنا.

والخلاصة: انه مهما كان الانسان فاعلا ذا اختيار الا أن المشيئة الإلهية هي الاصل، والقدر الإلهي حاكم مهيمن والمشيئة الإلهية ترد المشيئة الانسانية،بمضمون قوله تعالى: } وما تشاؤون إلاّ انْ يشاء الله{ (الانسان:30) واذا جاء القدر عمي البصر، فينفذ حكمه، واذا ما تكلم القدر تسكت القدرة البشرية، ويصمت الاختيار الجزئي.



o مـضمون سؤالكم الثاني هو:

ما حقيقة الوقائع التي دبّت في صفوف المسلمين في عهد سيدنا علي رضي الله عنه؟ وماذا نسمي اولئك الذي ماتوا وقُتلوا فيها؟

الجواب: ان ((معركة الجمل)) التي دارت رحاها بين سيدنا على رضي الله عنه وجماعته من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين من جهة اخرى، هي معركة بين العدالة المحضة والعدالة الاضافية (النسبية). وتوضيحها كالأتي:

لقد جعل سيدنا علي رضي الله عنه، العدالة المحضة أساساً لسياسته في ادارة دفة الحكم. وسار بمقتضاها على وفق اجتهاده وبمثل ما كان الشيخان يسيران عليه من قبله. أما معارضوه فقد قالوا: ان صفاء القلوب وطهارة النفوس في عهد الشيخين كانا ملائمين وممهّدين لكي تنشر العدالة المحضة سلطانها على المجتمع، الاّ أن دخول اقوام متباينة الطبائع والاتجاهات وهم على ضعف الاسلام بمرور الزمن، في هذا المجتمع ادّى الى وضع عوائق مهمة ازاء الرغبة في تطبيق العدالة المحضة، فغدا تطبيقها صعباً، لذا فقد اجتهدوا على اساس بالعدالة النسبية التي هي اختيار لأهون الشرين.

ولكن، لأن المنافسة حول هذين النوعين من الاجتهاد آلت الى ميدان السياسة، فقد نشبت الحرب بين الطرفين. وحيث أن كل طرف قد توصل الى اجتهاده بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى ومصلحة الاسلام، ونشبت الحرب نتيجة هذا الاجتهاد الخالص لله، فيصح أن نقول: القاتل والمقتول كلاهما من أهل الجنة، وكلاهما مأجوران مثابان، رغم معرفتنا أن اجتهاد الامام علي رضي الله عنه كان صواباً وان اجتهاد مخالفيه مجانب للصواب. وهؤلاء المخالفون ليسوا اهلاً للعقاب الاخروي. اذ المجتهد لله اذا أصاب فله اجران وان اخطأ فله اجر واحد، أي أنه ينال ثواب بذله الجهد في الاجتهاد، وهو نوع من العبادة، اي هو معذور في خطئه.

وقد قال أحد اعلام علمائنا المحققين ويعدّ قوله حجة، شعراً باللغة الكردية:

ذى شر صحابان مَكَه قال وقيل لورا جنتينه قاتل وهم قتيل

أي لا تخض فيما وقع بين الصحب الكرام؛ لأن القاتل والمقتول كليهما في الجنة.

أما ايضاح الفرق بين العدالة المحضة والعدالة الاضافية فهو:

ان حق الشخص البرئ الواحد لا يبطل لأجل الناس جميعاً، اي أن حقه محفوظ، وهذا المعنى هو الذي تشير اليه الآية الكريمة } مَنْ قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً{ (المائدة: 32) فلا يُضحى بفردٍ واحد لأجل الحفاظ على سلامةٍ الجميع؛ اذ الحق هو حق ضمن اطار الرحمة الإلهية، فلا يُنظر الى كونه صغيراً أو كبيراً، لذا لا يُفدى بالصغير لأجل الكبير، ولا بحياة فرد وحقه لأجل سلامة جماعة والحفاظ عليها، ان لم يكن له رضى في الأمر. اما اذا كانت التضحية برضاه ورغبة منه فهي مسألة اخرى.

أما العدالة الاضافية فهي أن الجزء يضحى لأجل سلامة الجميع، فهذه العدالة لا تأخذ حق الفرد بنظر الاعتبار لأجل الجماعة، وانما تحاول القيام بنوع من عدالة اضافية من حيث الشر الأهون. ولكن اذا كانت العدالة المحضة قابلة للتطبيق فلا يُصار الى العدالة الاضافية، وان صار اليها فقد وقع الظلم. فالامام علي رضي الله عنه قال: ان العدالة المحضة قابلة للتطبيق، كما كان عليه في عهد الشيخين. لذا حاول بناء الخلافة الاسلامية على تلك القاعدة من العدالة المحضة. بينما معارضوه كانوا يقولون ان هذه العدالة المحضة غير قابلة للتطبيق، حيث هناك، عوائق ومشكلات كثيرة تظهر اثناء تطبيقها، فصار اجتهادهم الى العدالة الاضافية.

أما ما أورده التاريخ من اسباب اخرى فهي ليست اسباباً حقيقية، بل حجج ومبررات واهية.

o فان قلت:

لِمَ لَمْ يُوفّق الامام علي رضي الله عنه بمثل ما وفق اسلافه في ادارة دفة الخلافة رغم اتصافه ـ من هذه الناحية - بقابليات فائقة وذكاء خارق، ولياقة تامة جديرة بمنصب الخلافة؟

الجواب: ان الامام علياً كان حرياً ومؤهلاً للقيام بمهمات جسام تفوق اهمية السياسة والحكم، اذ لو كان التوفيق تاماً له في السياسة والحكم لما كان يحرز لقب "سيد الاولياء" بجدارة تامة، ذلك المقام المعنوي الذيهو أهل له بحق. فظفر بسلطنة معنوية وبحكم معنوي أرقى بكثير من خلافة سياسية ظاهرية. حيث اصبح بمثابة استاذ الجميع، وغدا حكمه المعنوي سارياً وماضياً الى يوم القيامة.

m أما ما وقع من حرب بين الامـام علي رضـي الله عنـه وسيـدنا معاوية رضـي الله عنه وانصاره في واقعة ((صفين)) فهي حرب بين الخلافة والسلطنة - الملك الدنيوي - أي أن الامام علياً رضي الله عنه قد اتخذ احكام الدين وحقائق الاسلام والآخرة اساساً، فكان يضحي بقسم من قوانين الحكم والسلطنة وما تقتضيه السياسة من امور فيها اجحاف في سبيل الحقائق والاحكام. أما سيدنا معاوية ومَن معه، فقد التزموا الرخصة الشرعية وتركوا الاخذ بالعزيمة،لاجل اسناد الحياة الاجتماعية الاسلامية بسياسات الحكم والدولة. فعدّوا انفسهم مضطرين في الأخذ بهذا المسلك في عالم السياسة. لذا رجحوا الرخصة على العزيمة، فوقعوا في الخطأ.

m أما مقاومة الحسن والحسين رضي الله عـنهـما للامويـين، فهي في حقـيقـتها صراع بين الدين والقومية، اذ اعتمد الامويون على جنس العرب في تقوية الدولة الاسلامية، وقدّموهم على غيرهم، اي فضّلوا رابطة القومية على رابطة الاسلام فاضروا من جهتين:

الاولى: آذوا الاقوام الاخرى بنظرتهم هذه، فوّلدوا فيهم الكراهية والنفور.

الثانية: ان الاسس المتبعة في القومية والعنصرية اسس ظالمة لا تتبع العدالة ولا توافق الحق، اذ لا تسير تلك الاسس على وفق العدالة، لأن الحاكم العنصري يفضل من هم بنو جنسه على غيرهم، فأنَّى له أن يبلغ العدالة! بينما ((الاسلام يجبّ ما قبله))(1) من عصبية جاهلية، لا فرق بين عبد حبشي وسيد قرشي اذا أسلما(2) فلا يمكن اقامة رابطة القومية بدلاً من رابطة الدين في ضوء هذا الأمر الجازم. اذ لا تكون هناك عدالة قطٍ وانما تهدر الحقوق ويضيع الانصاف.

وهكذا فان سيدنا الحسين رضي الله عنه قد تمسّكَ برابطة الدين، وهو محق في ذلك، لذا قاوم الامويين حتى رزق مرتبةالشهادة.

o واذا قيل:

لِمَ لم ينجح سيدنا الحسين رضي الله عنه في مسعاه رغم انه كان على حق وصواب؟ وكيف سمحت الرحمة الإلهية والقدر الإلهي ان تكون عاقبته وعاقبة آل بيته فاجعة أليمة؟

الجواب: اذا استثنينا المقربين من سيدنا الحسين رضي الله عنه، نجد ان الاقوام المختلفة الذين التحقوا بهم هم ممن اُصيب غرورهم القومي بجروح بيد العرب المسلمين، فهم يضمرون ثأراً تجاههم، مما كّدر صفاء النية ونقاءها التي كان يتحلى بها مسلك الحسين ومن معه، وادّى تعكـُّر ذلك الصفاء وخفوت سطوع ذلك النهج القويم الى تقهقرهم امام اولئك.

m اما حكمة تلك الحادثة المؤلمة من زاوية نظر القدر الإلهي فهي:

ان الحسن والحسين رضي الله عنهما وذويهما ونسلهما كانوا مرشحين لسلطنة معنوية ومؤهلين لتسنم مرتبة سامية معنوية.و لما كان الجمع بين سلطنة الدنيا وتلك السلطنة المعنوية من الصعوبة بمكان، لذا جعلهم القدر الإلهي يُعرضون عن الدنيا، وأظهر لهم وجه الدنيا الدميم، لئلا تبقى لهم علاقة قلبية مع الدنيا، ودفعهم الى أن ينفضوا ايديهم من سلطنة صورية دنيوية مؤقتة زائلة، بينما عيّنهم لتسنم الامور لدى سلطنة معنوية سامية دائمة، فاصبحوا مرجِعاً لأقطاب الاولياء بدلاً من ان يكونوا مرجعاً للولاة الاعتياديين.

o أما سؤالكم الثالث الذي هو:

ما الحكمة في المصيبة الاليمة والمعاملة الظالمة التي اصابت اولئك الطاهرين الميامين؟.

الجواب: لقد بينا سابقاً ان هناك ثلاثة اسس كان معارضو سيدنا الحسين رضي الله عنه وهم الامويون يسيرون عليها والتي ادت الى ارتكاب تلك المظالم والمعاملات القاسية:

الأول: هو دستور السياسة الظالم ومؤداه؛ ان الاشخاص يضحى بهم في سبيل الحفاظ على الدولة واستتباب النظام في البلاد.

الثاني:كانت دولتهم تستند الى القومية والعنصرية، وكان الحاكم المهيمن على الامور قانون القومية الظالم وهو: ((كل شئ يضحى في سبيل الحفاظ على سلامة الامة)).

الثالث: تأصل عرق المنافسة لدى الامويين منذ مدة طويلة تجاه الهاشميين، فظهر في يزيد وامثاله، مما سبب تفجّر استعدادات ظالمة قاسية لا رحمة فيها ولا رأفة.

وهناك سبب رابع وهو الذي يخص الذين انضموا الى صف سيدنا الحسين رضي الله عنه، وهو ان اعتماد الامويين على قومية العرب وحدهم في ادارة شؤون الدولة، ونظرتهم المتعالية على سائر الأقوام كأنهم عبيد لديهم وتسميتهم بالموالي، اصاب غرور اولئك، مما دفعهم الى الالتحاق بصف سيدنا الحسين، وهم يحملون نية غير خالصة لله. وهي نيّة اساسها دافع الثأر. هذا الأمر هيّج العصبية القومية لدى الأمويين فأدى بهم الأمر الى ارتكاب تلك الفاجعة الأليمة التي لا تجد فيها رحمة ولا عطفاً ولا رأفة.

هذه الأسباب الاربعة المذكورة:هي اسباب ظاهرية. الاّ اننا اذا نظرنا الى الأمر من زاوية القدر الإلهي نجد أن سيدنا الحسين وذويه رضي الله عنهم قد احرزوا نتائج اخروية وسلطنة روحية ورقياً معنوياً، من جراء تلك الفاجعة الاليمة، بحيث تكون تلك الآلام والصعوبات التي لاقوها في تلك الحادثة الأليمة زهيدة ويسيرة تجاه تلك المنازل الرفيعة التي حظوا بها.فمثلاً:

ان الذي يستشهد نتيجة تعذيب يستغرق ساعة يغنم من المراتب العالية والدرجات السامية للشهادة مالا يمكن ان يحصل عليها من يسعى بجهد متواصل خلال عشر سنين. فلوسئل ذلك الشهيد بعد فوزه بدرجة الشهادة عن ذلك التعذيب لأجاب: لقد فزت كثيراً جداً بشئ يسير جداً.

o فحوى سؤالكم الرابع:

ان الاكثرية المطلقة من الناس يدخلون الدين الحق بعد قتل سيدنا عيسى عليه السلام الدجالَ في آخر الزمان، بينما وردت في روايات اخرى: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الارض: الله.. الله..))(1) فكيف يسقط الناس بهذه الكثرة في هاوية الكفر بعد أن دخلوا بكثرة مطلقة في حظيرة الايمان؟

الجواب: ان ضعاف الايمان يستبعدون ما جاء في الحديث الصحيح من نزول سيدنا عيسى عليه السلام وقتله الدجال وعمله بالشريعة الاسلامية ولكن لو وضحت حقيقة الرواية لا يبقى موضع للاستبعاد قط. وذلك.

ان المعنى الذي يفيده ذلك الحديث والروايات الواردة حول المهدي والسفياني(1) هو الآتي:

ان تيارين للالحاد سيشتدان ويتقويان في آخر الزمان:

الاول: ان شخصاً رهيباً يقال له ((السفياني)) سينكر الرسالة الأحمدية (نبوة محمد e ) متستراً بالنفاق، ويتولى قيادة المنافقين، ويسعى لتدمير الشريعة الاسلامية، وسيقابله شخص نوراني من آل البيت يسمى محمد المهدي يتولى قيادة اهل الولاية واهل الكمال المرتبطين بالسلالة النورانية لآل البيت، ويقتل تيار النفاق الذي يمثل شخص السفياني المعنوي ويدمّره تدميراً.

أما التيار الثاني: فهو التيار الطاغي المتمرد، المتولد من فلسفة الطبيعيين والماديين، هذا التيار ينتشر ويتقوى تدريجياً بوساطة الفلسفة المادية في آخر الزمان حتى يبلغ به الأمر الى انكار الإلوهية ويمنح افراد هذا التيار المنكرين لله سبحانه انفسَهم نوعاً من الربوبية كأنهم نماردة صغار، مثلما يمنح الجاهل بالسلطان غير المعترف بجنوده وضباطه نوعاً من السلطنة وشكلاً من الحاكمية الى كل جندي. اما الدجال وهو كبيرهم الذي يتولاهم فيؤتى من الخوارق ما يشبه اعمال السحر والتنويم المغناطيسي، ويتمادى كثيراً حتى يضفى على حكومته الجبارة ظاهراً نوعاً من الربوبية، ويعلن الوهيته. ولا ريب ان ادعاء انسان عاجز الالوهيةَ، والذي يقهره ذباب ويعجز حتى عن خلق جناحها، حماقة ما بعدها حماقة، تستحق منتهى الهزء والسخرية.

وهكذا ففي مثل هذه الفترة، وحينما يبدو ذلك التيار قوياً شديداً يظهر الدين الحق الذي اتى به عيسى عليه السلام، والذي هو الشخصية المعنوية لسيدنا عيسى عليه السلام، اي ينزل من سماء الرحمة الإلهية، فتتصفى النصرانية الحاضرة تجاه تلك الحقيقة وتتجرد من الخرافات والتحريفات وتتحد مع حقائق الاسلام، اي ان النصرانية ستنقلب معنى الى نوع من الاسلام، فذلك الشخص المعنوي للنصرانية يكون تابعاً، باقتدائه بالقرآن الكريم ويظل الاسلام في مقام الامام المتبوع، ويجد الدين الحق نتيجة هذا الالتحاق قوة عظمى، اذ في الوقت الذي كان الاسلام والنصرانية منفردين - كل على حدة - غير قادرين على صدّ تيار الإلحاد يكونان بفضل الاتحاد بينهما على استعداد لتدمير تيار الالحاد تدميراً كاملاً. ففي هذه الاثناء يتولى شخص عيسى عليه السلام الموجود بجسمه البشري في عالم السموات قيادة تيار ذلك الدين الحق. اخبر بهذا مخبر صادق استناداً الى وعد من لدن قدير على كل شئ، واذ هو قد أخبر، فالأمر حق لا ريب فيه. واذ وعد به القدير على كل شئ، فلاشك أنه سينجزه.

نعم ان الذي يرسل الملائكة تترى من السموات الى الارض ويجعلهم احياناً في صورة انسان (كما جعل سيدنا جبريل عليه السلام في صورة الصحابي دحية الكلبي) ويرسل الروحانيين من عالم الارواح، ويجعلهم يتمثلون في صور بشرية، بل يرسل حتى ارواح كثير من الاولياءالمتوفين في اجسادهم المثالية الى الدنيا..لا يستبعد من حكمة هذا الحكيم ذي الجلال ان يرسل عيسى عليه السلام الموجود حياً بجسده في سماء الدنيا الى الدنيا، بل حتى لو كان ذاهباً الى اقصى نواحي عالم الآخرة، وكان ميتاً حقاً فانه سبحانه قادر وتقتضي حكمته ان يلبسه جسداً من جديد، ويرسله الى الدنيا لأجل هذه النتيجة الجليلة العظيمة، وليكون مسك الختام والنهاية الجليلة للدين الذي اتى به عيسى عليه السلام. وقد وعد بهذا سبحانه وتعالى لإقتضاء حكمته الجليلة. واذ قد وعد فانه سيرسله حتماً. ولا يلزم ان يعرف كل أحدٍ انه عيسى عليه السلام بذاته اثناء نزوله الى الدنيا، وانما يعرفه خواصه والمقربون منه بنور الايمان، اذ لا يعرفه الناس كلهم بدرجة البداهة.

o سؤال:

لقد جاء في الروايات: ان للدجال جنة كاذبة يلقى فيها اتباعه، وله جهنم كاذبة يلقى فيها من لا يتبعه، حتى انه جعل احد اُذني دابته كالجنة والاخرى كجهنم(1)، وله جسم عظيم طوله كذا وكذا وغيرها من الاوصاف التي يعرف بها. فالسؤال: ما المراد من هذه الروايات؟.

الجواب: ان الشخص الظاهري للدجال هو كالانسان، فهو انسان دساس، شيطان احمق مغرور، تفرعن وطغى ونسى الله تعالى حتى اطلق على حاكميته الجبارة ظاهراً اسم الالوهية.

أما شخصه المعنوي الذي هو تيار الالحاد الطاغي فهو شخص جسيم جداً. وما ورد من روايات في اوصافه الدالة على الضخامة يشير الى ذلك الشخص المعنوي. كما صوّر في وقت ما القائد العام للقوات اليابانية تصوير انسان واضع احدى قدميه في البحر المحيط الهادي والاخرى في قلعة (بورت آرثر) التي تبعد عن الاولى مسافة عشرة ايام. فهذا التصوير لذلك القائد الصغير اظهر ومثّل الشخص المعنوي العظيم لجيشه.

اما الجنة الكاذبة للدجال، فهي ملاهي الحضارة وزخارفها الفاتنة.

أما دابته فهي واسطة نقل شبيهة بالقطار، في رأسه موقد النار يرمى فيها احياناً من لا يتبعه. والاذن الاخرى لتلك الدابة، اي رأسها الآخر مفروش بفرش وثيرة كالجنة اعدّها لجلوس اتباعه.

وحقاً ان القطار دابة مهمة للحضارة السفيهة الظالمة. اذ يأتي بجنة كاذبة لأهل السفاهة والدنيا، الاّ انه بيد المدنية الحاضرة يكون كزبانية جهنم يأتي بالهلاك والاسر والذل لأهل الدين والاسلام المساكين.

وعلى الرغم من نشر الدين الحقيقي الذي اتى به عيسى عليه السلام نورَه على الاكثرية المطلقة من الناس وذلك بظهوره وانقلابه الى الاسلام، الاّ انه عند قرب قيام الساعة يبرز تيار إلحاد مرة اخرى ويتغلب، فلا يبقى على وجه الارض - بالاكثرية العظمى - من يقول: الله.. الله.. اي لا تتولى جماعة مهمة لها شأنها موقعاً مهماً على الكرة الارضية..

ولا يعنى الحديث انه لا يبقى اهل الحق والداعين له على وجه الارض، بل سيبقى اهل الحق الذين يظلون في الأقلية ازاء الالحاد أو يُغلَبون على أمرهم، سيبقون الى يوم القيامة، الاّ أنه اثناء قيامها تُقبض ارواح اهل الايمان اولاً رحمة منه سبحانه بهم لئلا يروا اهوال القيامة، وتقوم القيامة على رؤوس الكفار.

o فحوى سؤالكم الخامس: هل تتأثر الارواح الباقية باهوال القيامة؟

الجواب: نعم تتأثر حسب درجاتها، كما تتأثر الملائكة تأثراً خاصاً بهم بالتجليات القهرية، اذ كما لو إطّلع من كان في مكان دافئ على اناس يرتجفون في الثلوج يتأثر ويتألم لحالهم لما يحمل من عقل ووجدان، كذلك الارواح الباقية التي لها شعور ذات علاقة مع الكون، تتأثر بالحوادث العظيمة التي تجري فيه. كلٌ حسب درجته، والاشارات القرآنية تبين تأثر الارواح بألم ان كانت من اهل العذاب، وإن كانت من اهل السعادة فانها تتأثر بالاستحسان والإعجاب، بل بنوع من الاستبشار. ولما كان القرآن الحكيم يذكر عجائب اهوال القيامة في اسلوب تهديد وزجر قائلاً : } لَتَرونّها{ بينما الذين سيرون تلك الاهوال بأجسامهم الانسانية هم الذين يبلغون قيام الساعة من الناس، اذن الارواح التي رُمّت اجسادها في القبور لها نصيبها من هذا التهديد القرآني ايضاً.

o فحوى سؤالكم السادس:

أتشمل هذه الآية الكريمة: } كلّ شيء هالكٌ الاّ وَجْهَه{ (القصص:88) الآخرة والجنة وجهنم واهليها، ام لا؟

الجواب: لقد صارت هذه المسألة موضع بحث كثير جداً من العلماء المحققين واصحاب الكشف والاولياء الصالحين، فالقول قولهم في هذه المسألة فضلاً عن أن لهذه الآية الكريمة سعة عظيمة جداً مع تضمنها لمراتب كثيرة جداً. فقد قال القسم الاعظم من المحققين: لا تشمل هذه الآية عالم البقاء. في حين قال اخرون: ان تلك العوالم تتعرض ايضاً لنوع من الهلاك في زمن قصير جداً بحيث يعدّ آناً، وهو زمان قصير الى درجة لا يُشعر بذهابها الى الفناء والعودة منه.

أما ما يحكم به بعض اصحاب الكشف المفرطين في افكارهم من حدوث الفناء المطلق، فليس حقيقة ولا صواباً، لأن ذات الله سبحانه وتعالى دائمى وسرمدي، فلابد أن صفاته واسماءه ايضاً دائمية وسرمدية. ولما كانت صفاته واسماؤه دائمية فلابد أن أهل البقاء والباقيات الموجودة في عالم البقاء - التي هي مراياها وجلواتها ونقوشها ومظاهرها - لا تذهب بالضرورة الى الفناء المطلق قطعاً.

وحالياً وردت نقطتان من فيض القرآن الحكيم الى البال نكتبها اجمالاً:

اولاها: ان قدرة الله جل وعلا لا حدود لها، حتى أن الوجود والعدم بالنسبة الى قدرته وارادته تعالى كمنزلَين، يرسل اليهما الاشياء ويجلبها منهما بكل يسر وسهولة، فان شاء يجلبها في يوم واحد أو في آن واحد.



ثم ان العدم المطلق لا وجود له اصلاً لوجود العلم المحيط، علماً انه لا شئ خارج دائرة العلم الإلهي، كي يُلقى اليه شئ. والعدم الموجود ضمن دائرة العلم هو عدم خارجي، وعنوان صار ستاراً على الوجود العلمي، حتى حدا ببعض العلماء المحققين التعبير عن هذه الموجودات العلمية أنها ((اعيان ثابتة)). لذا فالذهاب الى الفناء، انما هو نزع الاشياء لألبستها الخارجية مؤقتاً، ودخولها في وجود معنوي وعلمي، اي أن الهالكات والفانيات تترك الوجود الخارجي وتلبس ماهياتها وجوداً معنوياً وتخرج من دائرة القدرة داخلة في دائرة العلم.

النقطة الثانية: لقد اوضحنا في كثير من ((الكلمات)): ان كل شئ فانٍ بمعناه الاسمي، وبالوجه الناظر الى ذاته، فليس له وجود مستقل ثابت بذاته، وليست له حقيقة قائمة بذاتها وحدها. ولكن الشئ في الوجه الناظر الى الله سبحانه - اي اذا صار بالمعنى الحرفي - فليس فانياً، لأن فيه جلوات ظاهرة لأسماء باقية فلا يكون معدوماً، لانه يحمل ظلاً لوجود سرمدي، وله حقيقة ثابتة وهي حقيقة سامية لأنها نالت نوعاً من ظل ثابت لإسم باقٍ.

ثم ان قوله تعالى } كلُّ شيء هالكٌ الاّ وَجْهَه{ سيفٌ ليقطع يد الانسان عمّا سوى الله تعالى، حيث ان الآية تقطع العلائق مع الاشياء الفانية، في دنيا فانية، في غير سبيل الله. فحكم الآية الكريمة اذاً تنظر الى الفانيات في الدنيا، بمعنى أن الشئ ان كان في سبيل الله، اي ان كان بالمعنى الحرفي، اي ان كان لوجه الله، فلا يدخل ضمن ما سواه تعالى اي لا يضرب عنقه بسيف الآية الكريمة } كل شيء هالك الاّ وجهه{ .

حاصل الكلام: اذا كان الأمر لله، ووجد الله، فلا غير اذن، حتى يُقطع رأسه، ولكن ان لم يجد الله، ولم ينظر في سبيل الله فكل شئ غيرٌ. فعليه أن يسلّ سيف } كلّ شيء هالكٌ الاّ وَجْهَه{ ويمزّق الحجاب حتى يجده سبحانه تعالى.



الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس