الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #19
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب التاسع عشر

تبيّن هذه الرسالة اكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزات الرسول الاكرم e الدالة على صدق رسالته، وهي في الوقت الذي تبيّنها تعلن عن نفسها ايضاً بأنها كرامة من كرامات تلك المعجزات، وعطية من عطياتها، فاصبحت هي بذاتها خارقة واضحة باكثر من ثلاثة وجوه:

الاول: ان تأليفها حَدَثٌ خارق بلا شك، حيث اُلـّفت من دون مراجعة لمصدر، اعتماداً على الذاكرة فقط رغم ما تشتمل عليه من روايات للاحاديث الشريفة في أكثر من مائة صحيفة. علاوة على أنها كُتبت في زوايا الجبال وبواطن الوديان والبساتين، خلال ما يقرب من اربعة ايام وبمعدل ثلاث ساعات يومياً، أي في اثنتي عشرة ساعة!.

الثاني: ان مستنسخها لا يملّ من استنساخها مهما استنسخ منها، ومداومة القراءة فيها لا تُذهب بحلاوتها رغم طولها؛ لذا فقد اثارت همم الكسالى من المستنسخين، فكتبوا - حوالينا - ما يقارب السبعين نسخة، خلال سنة واحدة، في هذا الوقت العصيب، مما اعطى للمطلعين على ظروفنا قناعة كافية بأن هذه الرسالة هي واحدةٌ من كرامات تلك المعجزات.

الثالث: ان كلمة ((الرسول الاكرم)) e في الرسالة كلها، ولفظ ((القرآن الكريم)) في القطعة الخامسة منها، قد توافقت عند أحد المستنسخين دون أن يكون له علم بالتوافق، وحصل التوافق نفسه لدى المستنسخين الثمانية الآخرين دون ان يلتقى هؤلاء بعضهم ببعض وقبل ان ينكشف التوافق المذكور حتى بالنسبة لنا. فمن كان على شئ من الانصاف لا يحمل هذا على المصادفة البتة، بل حَكَم كلُ مَن اطلع عليه أن هذا سرٌ من اسرار الغيب، وان الرسالة كرامة من كرامات المعجزة الأحمدية على صاحبها افضل الصلاة والسلام.

هذا وان الاسس التي تتصدر الرسالة مهمة جداً، وان الاحاديث الواردة فيها فضلاً عن كونها صحيحة ومقبولة لدى ائمة الحديث، فهي تبين الاكثر ثبوتاً وقطعية من الروايات.

فلو اردنا تبيان مزايا هذه الرسالة لاحتجنا الى رسالة اخرى مثلها، لذا نهيب بالمشتاقين اليها قراءتها ولو مرة واحدة كي يلمسوا بأنفسهم تلك المزايا.

سعيد النورسي

تنبيه

لقد أوردتُ احاديث شريفة كثيرة في هذه الرسالة، ولم يكن لديّ شئ من كتب الحديث، فإن أخطأت في لفظ الاحاديث الواردة فليُصحح أو ليُحمل على الرواية بالمعنى، اذ القول الراجح: انه تجوز رواية الحديث الشريف بمعناه، اي أن يذكر الراوي معنى الحديث بلفظٍ من عنده، فما وجد في هذه الرسالة من اخطاء في الالفاظ، فلينظر اليها باعتبارها ((رواية بالمعنى)).Y

سعيد النورسي

المعجزات الأحمدية

على صاحبها افضل الصلاة وأتم التسليم

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

بسم الله الرحمن الرحيم

} هو الذي ارسل رسولَه بالهُدى ودين الحق ليُظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً ` محمدٌ رسولُ الله والذين معه اشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم تريهم ركّعاً سُجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السُجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرجَ شطئَه فازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجبُ الزرّاع ليغيظ بهم الكفارَ وعَد الله الذين آمَنُوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة ًواجراً عظيماً{ (الفتح: 28ــ 29)



[نظراً لقيام الكلمتين التاسعة عشرة والحادية والثلاثين الخاصتين بالرسالة الاحمدية اثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بدلائل قاطعة، نحيل اليهما قضية الاثبات ونبيّن هنا – تتمةً لهما – لمعاتٍ من تلك الحقيقة الكبرى ضمن ((تسع عشرة اشارة بليغة ذات مغزى))].





الاشارة البليغة الاولى

لا ريب ان مالك هذا الكون وربّه يخلق ما يخلق عن علمٍ ويتصرف في شؤونه عن حكمة، ويدير كل جهة عن رؤية ومشاهدة، ويربي كل شئ عن علم وبصيرة، ويدبّر الأمر قاصداً اظهار الحِكمَ والغايات والمصالح التي تتراءى من كل شئ.

فما دام الخالق يعلم، فالعالِمُ يتكلم. وحيث انه سيتكلم، فسيكون كلامه حتماً مع مَن يفهمه من ذوي الشعور والفكر والادراك، بل مع الانسان الذي هو افضل انواع ذوي المشاعر والفهم وأجمعهم لتلك الصفات. ومادام كلامه سيكون مع نوع الانسان، فسيتكلم، اذاً مع مَن هو أهل للخطاب من الكاملين من بني الانسان الذين يملكون أعلى استعداد وأرفع أخلاق والذين هم أهلٌ لأن يكونوا قدوة للجنس البشري وأئمة له. فلا ريب انه سيتكلم مع محمد صلى الله عليه وسلم الذي شهد بحقه الاولياء والخصماء بأنه صاحب أسمى أخلاق وأفضل استعداد، والذي اقتدى به خُمس العالم، وانضم تحت لوائه المعنوي نصف الارض، واستضاء المستقبل بالنور الذي بُعث به طوال ثلاثة عشر قرناً من الزمان، والذي يصلّي عليه أهل الايمان والنورانيون من الناس دوماً ويدعون له بالرحمة والسعادة والثناء والحب، ويجددون معه البيعة خمس مرات يومياً وقد تكلم معه فعلاً. وسيجعله رسوله حتماً وقد جعله فعلاً. وسيجعله قدوة وإماماً للناس كافة وقد جعله فعلاً.





الاشارة البليغة الثانية

لقد اعلن الرسول الكريم e النبوة، وقدّم برهاناً عليها، وهو القرآن الكريم، واظهر نحو الفٍ من المعجزات الباهرة، كما هو ثابت لدى اهل التحقيق من العلماء(1). هذه المعجزات بمجموعها الكلي ثابتة قطعية كقطعية ثبوت دعوى النبوة، حتى ان اسناد المعجزات الى السحر الذي يورده القرآن الكريم في مواضع كثيرة على لسان الكفار الألداء ليشير الى انهم لم ينكروا وقوع المعجزات ولم يسعهم ذلك، وانما اسندوها الى السحر خداعاً لأنفسهم وتغريراً باتباعهم.

نعم، أن للمعجزات الأحمدية قطعية تامة تبلغ قوة مائة تواتر، فلا سبيل الى انكارها قط.

والمعجزة بحد ذاتها تصديقٌ من رب العالمين لدعوى رسوله الكريم، أي كأن المعجزة تقوم مقام قول الله: صدق عبدي فأطيعوه.

مثال للتوضيح:

لو كنتَ في حضرة سلطان أو في ديوانه، وقلتَ لمن حولك: لقد عينني السلطان عاملاً في الأمر الفلاني، وحينما طلبوا منك دليلاً على ادعائك أومأ السلطان بنفسه: أنْ نعم، اني جعلته عاملاً. ألا يكون ذلك شهادة صدق لك؟. فكيف اذا خرق السلطان - لأجلك - عاداته وبدّل قوانينه لرجاء منك؟ أفلا يكون ذلك تصديقاً أقوى لدعواك وأثبت من قول: نعم؟

وكذلك كانت دعوى الرسول e ، اذ قال: انني رسول من رب العالمين. وأما دليلي فهو انه سبحانه يبدّل قوانينه المعتادة بالتجائي ودعائي وتوسلي اليه. وهاكم انظروا الى أصابعي، انه يفجّر منها الماء كما يتفجّر من خمس عيون.. وانظروا الى القمر، انه يشقّه لي شقين باشارة من اصبعي.. وانظروا الى تلك الشجرة كيف تأتي اليّ لتصدقني وتشهد لي.. وانظروا الى هذه الحفنة من الطعام كيف انها تُشبع مائتين أو ثلاثمائة رجلٍ! وهكذا أظهر صلى الله عليه وسلم مئات من المعجزات أمثال هذه.

واعلم، ان دلائل صدق الرسول e وبراهين نبوته لا تنحصر في معجزاته، بل يرى المدققون ان جميع حركاته وافعاله وأحواله وأقواله وأخلاقه وأطواره وسيرته وصورته، كل ذلك يثبت اخلاصَه وصدقَه. حتى آمن به كثير من علماء بني اسرائيل بمجرد النظر الى طلعته البهية، أمثال: عبد الله بن سلام الذي قال: ((فلما اسْتَبنتُ وجهَهُ عرفتُ ان وجهه ليس بوجه كاذب))(1).

وعلى الرغم من ان العلماء المحققين قد ذكروا ما يقارب الألف من دلائل نبوته ومعجزاته فان هناك ألوفاً منها، بل مئات الألوف. ولقد صدّق بنبوته مئات الألوف من الناس المتباينين في الفكر بمئات الألوف من الطرق. والقرآن الكريم وحده يظهر ألفاً من البراهين على نبوته e ، عدا اعجازه البالغ أربعين وجهاً.

ولما كانت النبوة محققة وثابتة في الجنس البشري، وان مئات الألوف(1) من البشر جاءوا فاعلنوا النبوة، وقدّموا المعجزات برهاناً وتأييداً لها، فلا شك ان نبوة محمد e تكون اثبت واكد من الجميع، لأن مدار نبوة الانبياء وكيفية معاملاتهم مع اممهم والدلائل والمزايا والأوضاع التي دلت على نبوة عامة الرسل أمثال موسى وعيسى عليهما السلام توجد بأتم صورها وأفضل معانيها لدى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وحيث ان علة حكم النبوة وسببها أكمل وجوداً في ذاته e ، فان حكم النبوة لا محالة ثابت له بقطعية اوضح من سائر الانبياء عليهم السلام.

الاشارة البليغة الثالثة

ان معجزات الرسول e كثيرة جداً ومتنوعة جداً، وذلك لأن رسالته عامة وشاملة لجميع الكائنات؛ لذا فله في أغلب أنواع الكائنات معجزات تشهد له، ولنوضح ذلك بمثال:

لو قَدِم سفير كريم من لدن سلطان عظيم لزيارة مدينة عامرة بأقوام شتى، حاملاً لهم هدايا ثمينة متنوعة، فان كل طائفة منهم ستُوفد في هذه الحال ممثلاً عنها لاستقباله بأسمها والترحيب به بلسانها.

كذلك لما شرَّف العالَم السفيُر الأعظم صلى الله عليه وسلم لملك الأزل والأبد، ونوَّره بقدومه، مبعوثاً من لدن رب العالمين الى أهل الأرض جميعاً، حاملاً معه هدايا معنوية وحقائق نيّرة تتعلق بحقائق الكائنات كلها، جاءه من كل طائفة مَن يرحب بمقدمه ويهنؤه بلسانه الخاص، ويقدِّم بين يديه معجزة طائفته تصديقاً بنبوته، وترحيباً بها، ابتداء من الحجر والماء والشجر والانسان، وانتهاء بالقمر والشمس والنجوم، فكأن كلاً منها يردد بلسان الحال: أهلاً ومرحباً بمبعثك.

ان بحث تلك المعجزات كلها يحتاج الى مجلدات لكثرتها وتنوعها، وقد ألّف العلماء الأصفياء مجلدات ضخمة حول تفاصيل دلائل النبوة والمعجزات، إلاّ أننا هنا نكتفي باشارات مجملة الى ما هو قطعي الثبوت والمتواتر معنىً من الأنواع الكلية لتلك المعجزات.

ان دلائل نبوة الرسول e قسمان:

الأول: الحالات التي سُميت بالأرهاصات، وهي الحوادث الخارقة التي وقعت قبل النبوة ووقت الولادة.

الثاني: دلائل النبوة الاخرى وهذا ينقسم الى قسمين:

أحدهما: الخوارق التي ظهرت بعده صلى الله عليه وسلم تصديقاً لنبوته.

ثانيهما: الخوارق التي ظهرت في فترة حياته المباركة e . وهذا ايضاً قسمان:

الأول: ما ظهر من دلائل النبوة في شخصه وسيرته وصورته وأخلاقه وكمال عقله.

الثاني: ما ظهر منها في أمور خارجة عن ذاته الشريفة، أي في الآفاق والكون. وهذا أيضاً قسمان:

قسم معنوي وقرآني. وقسم مادي وكوني. وهذا الأخير قسمان أيضاً:

القسم الأول: المعجزات التي ظهرت خلال فترة الدعوة النبوية، وهي إما لكسر عناد الكفار أو لتقوية أيمان المؤمنين؛ كانشقاق القمر، ونبعان الماء من بين أصابعه الشريفة، وإشباع الكثيرين بطعام قليل، وتكلم الحيوان والشجر والحجر.. وأمثالها من المعجزات التي تبلغ عشرين نوعاً، كل نوع منها بدرجة المتواتر المعنوي، ولكل نوع منها نماذج عدة مكررة.

القسم الثاني: الحوادث التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها - بما علّمه الله سبحانه - وظهرت تلك الحوادث وتحققت كما أخبر.

ونحن الآن نستهل بهذا القسم الأخير للوصول الى فهرس متسلسل عام(1).





الاشارة البليغة الرابعة

ان ما أنبأ به الرسول الكريم e من أنباء الغيب بتعليم من الله علام الغيوب كثيرٌ لا يعد ولا يحصى، وقد أشرنا الى أنواعه في ((الكلمة الخامسة والعشرين)) الخاصة باعجاز القرآن، وسقنا هناك براهينه؛ لذا فالأخبار الغيبية المتعلقة بالأزمنة السالفة والأنبياء السابقين وحقائق الألوهية وحقائق الكون، وحقائق الآخرة يُراجع في شأنها تلك الكلمة.

أما هنا فسنورد بضعة أمثلة من اخبار غيبية صادقة تتعلق بالحوادث التي ستصيب الآل والاصحاب - رضوان الله عليهم أجمعين - من بعده صلى الله عليه وسلم وما ستلقاه أمته في مُقبل أيامها.

ولأجل الوصول الى ادراك هذه الحقيقة ادراكاً كاملاً نبين بين يديها أسساً ستة مقدّمة لها.

l الاساس الاول

ان جميع احوال الرسول الكريم e وأطواره يمكن ان تكون دليلاً على صدقه وشاهداً على نبوته، الاّ ان هذا لا يعني ان تكون جميع احواله وافعاله خارقة للعادة؛ ذلك لأن الله سبحانه قد أرسله بشراً رسولاً، ليكون باعماله وحركاته كلها إماماً ومرشداً للبشر كافة، وفي احوالهم كافة، ليحقق لهم بها سعادة الدنيا والآخرة وليبيّن لهم خوارق الصنعة الربانية وتصرف القدرة الإلهية في الأمور المعتادة، تلك الامور التي هي بحد ذاتها معجزات.

فلو كان صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله خارقاً للعادة، خارجاً عن طور البشر، لما تسنّى له ان يكون أسوةً يُقتدى به، وما وَسِعه ان يكون بأفعاله وأحواله وأطواره إماماً للآخرين؛ لذا ما كان يلجأ الى اظهار المعجزات الاّ بين حين وآخر، عند الحاجة، اقراراً لنبوته أمام الكفار المعاندين. ولما كان الابتلاء والاختبار من مقتضيات التكليف الإلهي، فلم تعد المعجزة مُرغِمةً على التصديق - اي سواء أراد الانسان أم لم يرد - لأن سر الامتحان وحكمة التكليف يقتضيان معاً فتح مجال الاختيار أمام العقل من دون سلب الارادة منه. فلو ظهرت المعجزة ظهوراً بديهياً ملزماً للعقل كما هو شأن البديهيات لما بقي للعقل ثمة إختيار، ولصدَّق ابو جهل كما صدّق أبو بكر الصديق - رضى الله عنه ـ ولأنتفت الفائدة من التكليف والغاية من الامتحان، ولتساوى الفحم الخسيس مع الألماس النفيس!

بيد ان الذي يثير الدهشة والحيرة؛ انه في الوقت الذي آمن ألوف من أجناس مختلفة من الناس بمعجزة منه e أو بكلام منه أو بالنظر الى طلعته البهية، أو ما شابهها من دلائل صدق نبوته e ، وآمن به ألوف العلماء المدققين والمفكرين المحققين بما نُقِل اليهم من صدق أخباره وجميل آثاره نقلاً صحيحاً متواتراً، أقول: أفلا يدعو الى العجب ان يرى أشقياء هذا العصر جميع هذه الدلائل الواضحة كأنها غير وافية لايمانهم وتصديقهم فتراهم ينزلقون الى هاوية الضلال؟

l الاساس الثاني

ان الرسول الكريم e بشر، فهو يتعامل مع الناس انطلاقاً من بشريته هذه. وهو كذلك رسول، وبمقتضى الرسالة هو ناطق أمين باسم الله تعالى ومبلّغ صادق لأوامره سبحانه، فرسالته تستند الى حقيقة الوحي. والوحي قسمان:

الأول: الوحي الصريح كالقرآن الكريم وبعض الأحاديث القدسية. فالرسول e في هذا مبلّغ محض لا غير، من دون أن يكون له تصرف أو تدخل في شئ منه.

الثاني: الوحي الضمني، وهو الذي يستند في خلاصته ومُجمَله الى الوحي والالهام، الاّ انه في تفصيله وتصويره يعود الى الرسول صلى الله عليه وسلم. فتفصيل الحادثة الآتية مُجملةً من هذا الوحي وتصويرها إما يبينه الرسول e أحياناً استناداً الى الالهام أو الى الوحي، أو يبينه بفراسته الشخصية. وهذه التفاصيل التي يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده الذاتي. اما أنه يبينها بما يتمتع به من قوة قدسية عليا، بمقتضى الرسالة، أو يبينها بخصائصه البشرية وبمستوى عرف الناس وعاداتهم وافكارهم.

وهكذا لا يُنظر الى جميع تفاصيل كل حديث شريف بمنظار الوحي المحض. ولا يُتحرى عن الآثار السامية للرسالة في معاملاته e وافكاره التي تجري بمقتضيات البشرية.

وحيث أن بعض الحوادث يوحى اليه وحياً مجملاً ومطلقاً وهو بدوره يصوّره بفراسته الشخصية أو حسب نظر العرف العام، لذا يلزم أحياناً التفسير وربما التعبير لهذه المتشابهات والمشكلات التي ينطوي عليها ذلك التصوير. مثال ذلك:

سمع الناس - ذات مرة - وهم جلوس عند الرسول صلى الله عليه وسلم دوياً هائلاً فقال الرسول e موضحاً الحدث: ((ان هذا صوت حجر ظل يتدحرج سبعين عاماً حتى وصل الآن الى قعر جهنم))(1)... ولم تمض ساعة حتى جاء الجواب، اذ أتى أحدهم يقول: ان المنافق المشهور الذي ناهز السبعين من عمره قد مات وولّى الى جهنم وبئس المصير، فكان هذا تأويلاً للتشبيه البليغ الذي ذكره الرسول e .

l الاساس الثالث

ان الآثار المنقولة إن كانت متواترة فهي قطعية الثبوت وتفيد اليقين. والتواتر قسمان:

الأول: التواتر الصريح، أو التواتر اللفظي.

الثاني: التواتر المعنوي وهذا قسمان:

الأول: سكوتي؛ أي ابداء الرضا بالسكوت عنه. مثال ذلك:

لو أخبر شخصٌ جماعته عن حادثة وقعت أمامهم ولم يكذّبوه في خبره بل قابلوه بالسكوت، فان ذلك يعني قبولهم لوقوعها، ولاسيما اذا كانت الحادثة المروية ذات علاقة بالجماعة، والجماعة مستعدة للانتقاد والرد والتجريح، وممن لا يقبلون بالخطأ أصلاً، بل يرون الكذب أمراً قبيحاً بشعاً، فان سكوتهم عنها يدل على وقوع تلك الحادثة دلالة قاطعة.

القسم الثاني من التواتر المعنوي: هو اتفاقهم على القدر المشترك بين أخبارهم وان كانت الروايات متنوعة. مثال ذلك:

اذا قيل ان أوقية من الطعام أشبعت مائتي رجل. فالذين حدّثوا بهذا يروونه في صور متنوعة وبعبارات مختلفة متباينة. فهذا ذكر مائة رجل وذاك ثلاثمائة رجل والآخر أوقيتين من الطعام وهكذا. فترى ان الجميع متفقون على وقوع الحادثة، وهو ان الطعام القليل أشبع أناساً كثيرين. فالحادثة اذن بشكلها المطلق متواترة معنىً، وهي تفيد اليقين، ولا تضرّ بها صور الاختلاف. وفي بعض الاحيان يفيد خبر الآحاد ضمن بعض الشروط حكم القطعي كقطعية التواتر، وقد يفيد القطعية احياناً تحت امارات خارجية.

وهكذا، فالقسم الأعظم مما نقل الينا من دلائل النبوة ومعجزات الرسول e هو: بالتواتر الصريح أو المعنوي أو السكوتي، وقسم منها بخبر الآحاد، الاّ انه ضمن شروط معينة ممحّصة اُخذ وقُبل من قبل أئمة الجرح والتعديل من أهل الحديث النبوي فاصبحت دلالته قطعية كالتواتر. ولاشك اذا ما قبل بصحة خبر الآحاد محدِّثون محققون من أصحاب الصحاح الستة وفي مقدمتهم البخاري ومسلم وهم الحفاظ الجهابذة الذين كانوا يحفظون ما لا يقل عن مائة ألف حديث، واذا ما رضى به ألوف من الأئمة العلماء المتقين، ممن يصلون صلاة الفجر بوضوء العشاء زهاء خمسين سنة من عمرهم. أقول: اذا ما قَبِل هؤلاء بصحة خبر الآحاد، فلا ريب اذاً في قطعيته ولا يقلّ حكمُه عن التواتر نفسه.

نعم، ان علماء علم الحديث ونقّاده قد تخصصوا في هذا الفن الى درجة انهم اكتسبوا مَلَكَةً في معرفة سمو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وبلاغة تعابيره، وطراز افادته، فاصبحوا قادرين على تمييزه عن غيره، بحيث لو رأوا حديثاً موضوعاً بين مائةٍ من الأحاديث لرفضوه قائلين: هذا موضوع!. هذا لا يمكن ان يكون حديثاً شريفاً! فقد أصبحوا كالصيارفة الـبـارعين الأصـلاء يـعرفون جوهـر الحديث النــبوي من الدخيل فيه.

بيد ان قسماً من المحققين قد أفرط في نقد الحديث كابن الجوزي الذي حكم على أحاديث صحيحة بالوضع(1). علماً أن ((الموضوع)) يعني: ان هذا الكلام ليس بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعني انه باطل وكلام فاسد.

سؤال: ما فائدة السند الطويل: عن فلان.. عن فلان.. عن فلان.. حيث لا جدوى من ذكرهم في حادثة معلومة؟.

الجواب: فوائده كثيرة، اذ ان ذكر هذا السند الطويل يبين نوعاً من الاجماع فيمن هم في السند من الموثوقين الصادقين من الرواة الذين يعتّد بهم، فيظهر لنا نوعاً من الأتصال والاتفاق لأهل العلم المحققين في ذلك السند، فكأنما كلّ أمامٍ وعلامة في السند يوقّع على حكم ذلك الحديث الشريف ويختم على صحته بختمه.

سؤال: لماذا لم تُنقل ((المعجزات)) باهتمام بالغ مثلما نُقلَت الأحكام الشرعية الضرورية الأخرى نقلاً متواتراً وبطرق متعددة؟.

الجواب: لأن معظم الناس في أغلب الأوقات محتاجون حاجة ماسة الى الاحكام الشرعية، فهي ((كفروض عين)) لهم، لما لها من علاقة بكل شخص. بينما المعجزات لا يحتاجها كل انسان كل حين. حتى لو فرضنا الحاجة اليها، فيكفي سماعها مرة واحدة، فهي ((كفروض كفاية)) اذ يكفي ان يعلم بها عادةً قسمٌ من الناس.

ولهذا السبب قد يحدث ان نرى وقوع أحدى المعجزات ثابتاً بقطعيةٍ أقوى من قطعية ثبوت حكم شرعي أضعافاً مضاعفة، الاّ ان راويها شخص واحد أو شخصان، بينما يكون عدد رواة ذلك الحكم الشرعي عشرة أو عشرين.

l الاساس الرابع

ان قسماً من حوادث المستقبل الذي أخبر عنه الرسول e هو حوادث كليّة، تتكرر في أوقات مختلفة، وليس بحادثة جزئية مفردة. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يُخبر عن تلك الحادثة الكلية بصورة جزئية مبيناً بعض حالاتها، حيث ان لمثل هذه الحادثة الكلية وجوهاً كثيرة، فيبين صلى الله عليه وسلم في كل مرة وجهاً من وجوهها. ولكن لدى جمع هذه الوجوه من قبل راوي الحديث في موضع واحد، يبدو هناك ما يشبه الخلاف للواقع. مثال ذلك:

هناك روايات مختلقة حول ((المهدي)) تتباين فيها التفاصيل والتصويرات. وقد أخبر الرسول e عن ظهور المهدي مستنداً الى الوحي، ليصون قوة أهل الأيمان المعنوية في كل عصر، وليحول دون سقوطهم في اليأس والقنوط ازاء ما يرونه من حوادث مهولة، وليربط الأمة ربطاً معنوياً بالسلسلة النورانية لآل البيت. وقد أثبتنا ذلك في أحد اغصان الكلمة الرابعة والعشرين. ومن هنا ترى أن كل عصر من العصور قد وجد نوعاً من ((المهدي)) من آل البيت كالذي يظهر في آخر الزمان، بل مهديين، حتى وجد في المهدي العباسي - الذي يعدّ من آل البيت - كثيراً من أوصاف ذلك المهدي الكبير.

وهكذا، فاوصاف الذين يسبقون المهدي الكبير ممن يمثّلونه في عهودهم - كالخلفاء المهديين والأقطاب المهديين - اختلطت وتداخلت مع أوصاف ذلك المهدي الكبير. فوقع الاختلاف في الروايات(1).

l الاساس الخامس

لم يكن الرسول الأعظم e يعلم الغيب ما لم يُعلّمه الله سبحانه، اذ لا يعلم الغيب الاّ الله فهو e يبلغ الناس ما علـّمه الله اياه. وحيث ان الله حكيم ورحيم، فحكمته ورحمته تقتضيان ستر أغلب الأمور الغيبية وابقاءها في طي الخفاء والابهام، لأن ما لا يسرّ الانسان من حوادث في هذه الدنيا هو اكثر مما يسره، فمعرفته تلك الحوادث قبل وقوعها أليم جداً.

فلأجل هذه الحكمة ظل الموت والأجل مبهَمَين مستورين عن علم الانسان، وبقي ما سيصيب الانسان من مصائب ونكبات محجوباً في ثنايا الغيب، فكان من مقتضى هذه الحكمة الربانية والرحمة الإلهية الاّ يُطلع سبحانه نبيَّه e اطلاعاً كلياً ومفصلاً على ما سيلقاه آلُه وصحبه وامته من بعده من حوادث مؤلمة ومصائب مفجعة، بل أخبره سبحانه عن بعضٍ من الحوادث المهمة - بناء على حِكَم معينة - إخباراً غير مفجع، رفقاً بما يحمله من رحمة عظيمة ورأفة شديدة نحو أمته وتجاه آله واصحابه. كما انه سبحانه قد بشّره بحوادث مفرحة أيضاً بشارةً مجملة لبعضها ومفصلةً للاخرى(1) فأخبر e أمته بما علّمه ربُّه ونقله المحدّثون الصادقون العدول بروايات صحيحة الينا، اولئك الذين كانوا أشد تقوى وخشية من ان يصيبهم الزجر المخيف في قوله e : ((مَن كَذب عليَّ مُتعمـّداً فَلْيَتبوأ مَقعدَه من النار))(2) والذين كانوا يهربون خوفاً من ان تنالهم الآية الكريمة: } فَمَنْ أظْلمُ ممّن كَذَبَ على الله{ (الزمر:32).



l الاساس السادس

ان احوال الرسول e واوصافه قد بُيّنت على شكل سيرة وتاريخ. الا ان اغلب تلك الاحوال والاوصاف تعكس بشريته فحسب، اذ ان الشخصية المعنوية لتلك الذات النبوية المباركة رفيعة جداً وماهيته المقدسة نورانية الى حدّ لا يرقى ما ذُكر في التاريخ والسيرة من اوصاف واحوال الى ذلك المقام السامي والدرجة الرفيعة العالية، لأنه e في ضوء قاعدة ((السبب كالفاعل)) تضاف يومياً - حتى الآن - الى صحيفة كمالاته عبادةٌ عظيمة بقدر عبادات امته بأكملها. وكماينال باستعداد غير متناه نفحات الرحمة الإلهية غير المتناهية بشكل غير متناهٍ وبقدرة غير متناهية، كذلك ينال يومياً دعاءً غير محدود ممن لا تحد من امته.

هذا النبي المبارك e الذي هو انبل نتائج الكائنات واكمل ثمراتها والمبلّغ عن خالق الكون، وحبيب رب العالمين، لا تبلغ احوالُه واطوارهُ البشرية التي ذكرَتْها كتب السيرة والتاريخ الاحاطة بماهيته الكاملة ولا تصل الى حقيقة كمالاته. فأنّى لهذه الشخصية المباركة الذي كان كلُّ من جبرائيل وميكائيل مرافقين امينين(1) له في غزوة بدر ان تنحصر في حالة ظاهرية أو ان تظهرها بجلاء حادثة بشرية كالتي وقعت مع صاحب الفرس الذي ابتاع e الفرس منه ولكنه أنكر هذا البيع وطلب من الرسول الكريم شاهداً يصدّقه فتقدم الصحابي الجليل ((خزيمة)) بالشهادة له(2).

فلئلا يقع أحدٌ في غائلة الخطأ يلزم من يسمع اوصافه e البشرية الاعتيادية ان يرفع بصره دوماً عالياً لينظر الى ماهيته الحقيقية، والى شخصيته المعنوية النورانية الشامخة في قمة مرتبة الرسالة، وإلاّ أساء الادب، ووقع في الشبهة والوهم.

ولإيضاح هذه المسألة تأمل في هذا المثال:

نواة للتمر وضعت تحت التراب فانفلقت عن نخلة مثمرة باسقة، وهي في توسع ونمو مطرد، أو بيضة للطاووس فقست عن فرخ الطاووس بعدما سلطت عليها الحرارة، وكلما نما وكبر اصبح اجمل وازهى، بما زيّن قلمُ القدرة على كل جهاته من نقوش بديعة رائعة.

فهناك صفات وحالات خاصة تعود لكل من تلك النواة ولتلك البيضة، ويحوي كل منهما مواد دقيقة لطيفة جداً. والنخلة والطاووس كذلك لهما صفات عالية وكيفيات واوضاع راقية بالنسبة لصفات البذرة والبـيضة. فعندما تُربط اوصاف النواة والبيضة بأوصاف النخل والطير وتُذكران معاً، يلزم ان يرفع العقل الانساني بصره عن النواة الى النخلة وينظر اليها، وان يتوجه من البيضة الى الطاووس ويمعن فيه، كي يقبل تلك الاوصاف التي يسمعها. وبخلافه ينساق الى التكذيب حين يسمع احدهم يقول: ((لقد اخذتُ طناً من التمر من حفنة من النوى، او هذه البيضة هي سلطان الطيور)).

وهكذا فان بشرية الرسول الاكرم e تشبه تلك النواة أو البيضة ((في المثال)) وماهيته المشعة بمهمة الرسالة مثلُها كمثل شجرة طوبى الجنة وطير الجنة في سمو ورقي.

لذا في الوقت الذي نفكر في النزاع الذي حصل في السوق مع البدوي، يلزم ان نرفع عين الخيال عالياً ونتصور الذات النورانية الممتطية الرفرف ((البُراق)) والمنطلقة سعياً الى قاب قوسين أو أدنى، تاركة خلفها جبريل عليه السلام. وإلاّ فان النفس الامارة بالسوء إما ستسئ الادب وتنحط الى درك قلة التوقير والاحترام، أو تزل قدماها الى عدم التصديق.

الاشارة البليغة الخامسة

وهي تخص الحوادث المتعلقة بامور غيبية، نذكر منها بضعة أمثلة:

المثال الاول:

T قال رسول الله e في خطبةٍ بين جمع من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ونقل الينا الحديث نقلاً صحيحاً ومتواتراً: ((ان إبني هذا سَيّدٌ ولَعلّ الله انْ يُصلحَ به بين فِئَتين من المسلمين))(1) وفي رواية ((عظيمتين)). وبعد مرور أربعين سنة التقى جيشان عظيمان للمسلمين، فصالح الحسنُ معاوية رضى الله عنهما، وصدَّق بهذا الصلح المعجزةَ الغيبية لجدِّه الأمجد e .

المثال الثاني:

T ثبت بنقل صحيح انه e قال لعلي رضى الله عنه:ستقاتل الناكثين(2) والقاسطين والمارقين(3). فأخبر عن وقعة الجمل وصفين وعن الخوارج.

T وقال e للزبير: ((لتقاتلُنَّه وانتَ ظالمٌ له))(4) عندما رآه وعلياً يتحابّان.





T وقال e لأزواجه الطاهرات: ((كيف بأحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب))(1) ((يُقتَل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيرة..))(2).

وبعد ثلاثين سنة تحققت هذه الأحاديث الصحيحة فعلاً، وذلك في وقعة الجمل التي جرت بين عليّ وعائشة ومعها الطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين، كما تحققت في وقعة صفين التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وقد تحققت في وقعة حروراء ونهروان التي كانت بين عليّ رضي الله عنه والخوارج.

T وأخبر e علياً عن الذي يقتله فقال: ((الذي يضربك يا عليّ على هذه حتى تبلّ منها هذه))(3) اي تبلّ لحيته من دم رأسهِ وكان عليّ يعرفه، وهو عبدالرحمن بن ملجم الخارجي.

T وأخبر كذلك عن ذي الثُدية بعلامة فارقة فيه، انه سيكون بين قتلى الخوارج وفعلاً كان ذو الثدية فيهم وهو ((رجل أسود أحدى عضدية مثل ثدي المرأة)) فجعله عليٌّ حجةً على انه المُحِقُّ، وأعلن عن معجزة الرسول الاكرم e .(4)

T وأخبر e برواية صحيحة عن أم سلمة وغيرها: ان الحسين يُقتَل بالطَّفْ(1) أي في كربلاء. وبعد خمسين سنة وقعت تلك الفاجعة الأليمة، فصدّقت ذلك الاخبار الغيبي.

T وأخبر e : ((ان أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً))(2)، فكان كما أخبر.

T T T

هنا يرد سؤال مهم:

يُقال: ان علياً رضي الله عنه كان أحرى بالخلافة وأولى بها، فهو ذو قرابة مع النبي e ، وذو شجاعة نادرة خارقة، وذو علم غزير.. فلماذا لم يُقدَّموه في الخلافة؟ ولماذا اضطربت أحوال المسلمين في عهده؟.

الجواب: لقد قال قطب عظيم من آل البيت: كان الرسول e قد تمنّى ان يكون عليّ هو الخليفة، ولكن اُعلِم من الغيب أن إرادة الله غير هذا، فتخلى عن رغبته تبعاً لما يريده الله سبحانه وتعالى.

وفيما يأتي حكمةٌ واحدة مما تنطوي عليه ارادة الله تعالى في هذا الأمر:

كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أحوج الى الاتفاق والاتحاد بعدما ارتحل النبي e الى الرفيق الأعلى، فلو كان عليّ رضي الله عنه قد تولّى الخلافة، لكان هناك احتمال قوي ان تثير اطواره المتسمة بعدم مسايرة الآخرين واستقلالية آرائه مع زهده الشديد وبسالته النادرة واستغنائه عن الناس فضلاً عن شجاعته الفائقة، فتحرِّك - هذه المزايا - عرق المنافسة لدى كثير من الأشخاص والقبائل، فتنجم الفرقة بين صفوف المسلمين، مثلما حدث في عهد خلافته من حوادث وفتن.

أما سبب تأخر خلافة عليّ رضي الله عنه فان احد أسبابه هو ما يأتي:

لقد هبّت أعاصير الفتن في أوساط أمة الاسلام التي تضم أقواماً متباينة في الفكر والتي يحمل كلٌّ منها بذور الفرقة الى ثلاث وسبعين فرقة - مثلما أخبر بذلك الرسول e (1) - فكان ينبغي وجود شخصية قوية فذة، مهيبة الجانب، ذات شجاعة فائقة وفراسة نافذة ونسب عريق أصيل من أهل البيت ومن بني هاشم، كي يَثْبُت أمام هذه الفتن. فمثل هذه الشخصية الفذة، كانت تتمثل في علّي رضي الله عنه، فثبت فعلاً أمام تلك الأعاصير الهوجاء.. ولقد أخبره الرسول e بذلك أنه سيحارب في سبيل تأويل القرآن كما حارب هو e في سبيل نزوله(2). ثم انه لولا علي رضي الله عنه لربما كانت سلطنة الدنيا تعصف بالأمويين وتفتنهم كلياً، وتزلّهم عن الصراط السوى، ولكن لأنهم كانوا يرون ازاءهم علياً وآل البيت، فقد حاولوا ان يبلغوا شأوهم ويوازوهم في مكانتهم لئلا يفقدوا منزلتهم في نظر الأمة، فاضطر أغلبُ رؤساء الدولة الأموية الى حضّ اتباعهم على القيام بحفظ حقائق الايمان ونشرها وصيانة أحكام القرآن والإسلام رغم أنهم لم يفعلوا شيئاً بأنفسهم، لذا نشأت في ظل دولتهم مئات الألوف من العلماء المحققين المجتهدين وائمة الحديث والأولياء الصالحين والأصفياء والعاملين، فلولا كمالات يتصف بها آل البيت وصلاحهم وولايتهم لله لزلّ الأمويون وابتعدوا كلياً عن طريق الصواب، كما آل اليه أمرهم في أواخر أيامهم، وكما حدث في أواخر أيام العباسيين.

واذا قيل:

لماذا لم تستقر الخلافة في آل البيت، علماً انهم كانوا أحق بها؟

الجواب: ان سلطنة الدنيا خدّاعة، بينما أهل البيت مكلفون بالحفاظ على حقائق الإسلام واحكام القرآن. وينبغي لمن يتسلم زمام الخلافة الاّ تغره الدنيا، كأن يكون معصوماً كالنبي، أو يكون عظيم التقوى عظيم الزهد كالخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز والمهدي العباسي لئلا يغتر. فسلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت، اذ تنسيهم وظيفَتهم الاساس؛ وهي المحافظة على الدين وخدمة الاسلام. وخلافة الدولة الفاطمية التي قامت باسم آل البيت في مصر، وحكومة الموحدين في أفريقيا، والدولة الصفوية في إيران، كل منها غدت حجة على ان سلطنة الدنيا لا تصلح لآل البيت. بينما نراهم متى ما تركوا السلطنة، فقد سعوا سعياً حثيثاً وبذلوا جهداً منقطع النظير في خدمة الإسلام ورفع راية القرآن.

فان شئت فتأمل في الأقطاب الذين أتوا من سلالة الحسن رضي الله عنه، ولا سيما الأقطاب الأربعة، وبخاصة الشيخ الكيلاني. وان شئت فتأمل في الأئمة الذين جاءوا من سلالة الحسين رضي الله عنه، ولا سيما زين العابدين وجعفر الصادق وأمثالهم..

فكلٌ من هؤلاء قد أصبح بمثابة مهدي معنوي، بدّدوا الظلم والظلمات المعنوية بنشرهم أنوار القرآن وحقائق الأيمان، واثبتوا حقاً أنهم وارثو جدهم الأمجد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فان قيل: ما حكمة تلك الفتنة الدموية الرهيبة التي اصابت الأمة الاسلامية في عصر الراشدين وخير القرون، حيث لا يليق باولئك الابرار القهر ونزول المصائب وأين يكمن وجه الرحمة الإلهية فيها؟

الجواب: كما ان الأمطار الغزيرة المصحوبة بالعواصف في الربيع تثير كوامن قابليات كل طائفة من طوائف النباتات وتكشفها فتنثر البذور وتطلق النوى، فتتفتح أزهارها الخاصة بها، ويتسلم كلٌّ منها مهمته الفطرية، كذلك الفتنة التي أبتلي بها الصحابةُ الكرام والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين، أثارت بذور مواهبهم المختلفة، وحفّزت نوى قابلياتهم المتنوعة، فانذَرتْ كلَّ طائفةٍ منهم وأخافتهم من أن الخطر مُحدقٌ بالاسلام، وان النار ستنشب في صفوف المسلمين؛ مما جعل كلَّ طائفة تهرع الى حفظ الدين والذود عن حياض الإيمان، فأخذ كلٌ منهم على عهدته مهمةً من مهمات حفظ الايمان وجمع شمل الاسلام، كلٌ حسب قابليته، فانطلق بكل جدٍ واخلاص في هذا السبيل. فمنهم من قام بحفظ الحديث النبوي الشريف، ومنهم من قام بحفظ فقه الشريعة الغراء، ومنهم من قام بحفظ العقائد والحقائق الايمانية، ومنهم من قام بحفظ القرآن الكريم.. وهكذا انضوت كلُّ طائفة تحت مهمةٍ وواجب من الواجبات التي يفرضها حفظ الايمان وصيانة الأسلام، وسَعَتْ في سبيل اداء مهمتها سعياً حثيثاً، فتفتحت من البذور التي نشرتها تلك الأعاصير الهوجاء العنيفة في الارجاء، زهورٌ بهيجة بالوان زاهية شتى في عالم الاسلام، حتى غدا العالم الاسلامي رياضاً يانعة بالورود والرياحين. الاّ انه - للأسف - ظهرت بين تلك الرياض البديعة أشواكُ اهل البدع ايضاً. وكأن يد القدرة الإلهية قد خضَّتْ ذلك العصر بجلال وهيبة، وادارته بشدة وعنف، فأثارت الهمم وألهَبت المشاعر لدى أهل الهمة والغيرة، فبعثت تلك الحركة المنطلقة عن المركز؛ كثيراً من أئمة المجتهدين والمحدّثين والحفاظ والأصفياء والأقطاب الأولياء الى أنحاء العالم الأسلامي وألجأتهم الى الهجرة. وهيّجت المسلمين شرقاً وغرباً وفتحت بصيرتهم ليغنموا من كنوز القرآن وخزائنه. والآن لنرجع الى ما نحن بصدده.

ان ما أخبر عنه الرسول e من امور الغيب ووقع فعلاً كما أخبر، يبلغ الألوف بل يزيد، الاّ اننا نشير الى امثلة منها فقط، تلك التي اتفق على صحتها أصحاب الكتب الستة الصحيحة، وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، حتى ان كثيراً منها نقلت نقلاً متواتراً من حيث المعنى، واتفق العلماء وأهل التحقيق على صحة بعضها انه بمثابة التواتر الصريح.

T .. خرَّج أهلُ الصحيح والأئمة: ما أعلَمَ به e أصحابه مما وعدهم به من الظهور على أعدائه وفتح مكة(1) وبيت المقدس(2) واليمن والشام والعراق(3).. وتُفتح خيبر وأخبر(1) عن ((قسمَتِهم كنوز كسرى وقيصر))(2) أكبر دولتين في العالم في ذلك العهد. ثم أنه e حينما كان يخبر بهذا الخبر الغيبي لم يقل: أظن، أحسب، ربما.. وانما أخبر عن علم يقيني كأنه واقع يراه.. وقد وقع كما أخبر، علماً انه عندما أخبر بهذا الخبر كان مأموراً بالهجرة، واصحابه قليلون، والعالم كله ومَن حول المدينة أعداء يحدقون من كل جانب.

T وفي رواية صحيحة، أخبر الرسول e مراراً: ((اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر وعمر))(3) فأفاد بهذا ان ابا بكر وعمر سيعمران بعده، وسيكونان خليفتين، وسيؤديان الخلافة حقها كاملاً بما يرضي الله سبحانه ورسوله. ثم ان ابابكر سيتولى الخلافة لفترة قصيرة، بينما عمر سيتولاها لمدة أطول، فضلاً عن انه سيقوم بكثير من الفتوحات.

T وقال الرسول e : ((ان الله زوى ليَ الأرضَ فرأيت مشارقها ومغاربها وان أمتي سيبلُغ مُلكاً ما زوي لي منها))(4)، وكان كما قال.

T واخبر e قبل غزوة بدر - في رواية صحيحة(5) - عن مصارع الكفار في بدر وأشار الى محال قتلهم ومصارع رؤسائهم: هذا مصرع ابي جهل، هذا مصرع عتبة، وهذا مصرع أميّة، هذا مصرع فلان وفلان ((واعلم بانه سيقتل اُبي بن خلف))(6)، وكان كما أعلم.

T وثبت في الصحيح انه قال كمن يشاهد أصحابه وينظر اليهم في غزوة مؤتة، وهي على بُعدِ مسيرة شهر من حدود الشام: ((أخذ الرايةَ زيدٌ فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان.. حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم))(1)، وبعد مرور بضعة أسابيع عاد يعلى بن مُنبّه من ساحة المعركة، وقبل ان يخبر عما جرى هناك بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دار في المعركة مفصلاً. فأقسم يعلى، وقال: ((والذي بعثك بالحق ما تركتَ من حديثهم حرفاً واحداً))(2).

T وفي رواية صحيحة انه e أخبر عن ان الخلافة بعده ثلاثون عاماً ثم تصير ملكاً عضوضاً(3)؛ ((وان هذا الامر بدأ نبوة ورحمة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم يكون ملكاً عضوضاً، ثم يكون عتواً وجبروتاً وفساداً في الأمة))(4)، فأخبر e عن مدة الخلافة الراشدة وهي؛ ثلاثون سنة، وتكمل هذه المدة بالأشهر الستة لخلافة الحسن رضي الله عنه، ثم تتعاقب السلطنة والجبروت وفساد الأمة، وفعلاً تحقق مثلما قال.

T وثبت برواية صحيحة ان سيدنا عثمان رضي الله عنه يُقتل وهو يقرأ المصحف(5)، وان الرسول e قد قال: ((ان الله عسى ان يلبسه قميصاً وانهم يريدون خلعه))(1) فكان كما قال.

T وفي رواية صحيحة أخرى أنه؛ عندما احتجم الرسول e شَرب عبد الله بن الزبير دمه الطاهر تبركاً، ولم يسكبه فقال له: ((ويلٌ للناس منك وويلٌ لك من الناس))(2) فأخبر بأن عبد الله سيتولى أمر الناس بشجاعة فائقة، وسيكون هدفاً لهجوم عنيف وستنزل بالناس بسببه نوائبٌ ومصائبٌ. وفعلاً وقع كما قال؛ حيث أعلن عبد الله بن الزبير الخلافة في مكة في عهد الأمويين وحاصره الحجاج بن يوسف الظالم بجيش عظيم في مكة، وبعد قتال عنيف وبسالة نادرة ومعارك دامية سقط شهيداً.

T وأخبر e ((بمُلك بني أمية))(3) أي بظهور الدولة الأموية ((وولاية معاوية، ووصّاه)) لما قال له: اذا ملكت فاسجح أو فأنصح(4) وأخبر عن ((اتخاذ بني أمية مال الله دولاً))(5) وسيكون ملوكها ورؤساؤها ظلمة، وسيظهر منهم أشخاص أمثال يزيد(6) والوليد.

T كما أخبر e عن ((خروج وَلد العباس بالرايات السُّود ومُلْكِهم أضعاف ما مَلكوا))(1) من ان الدولة العباسية ستظهر بعد الأمويين، وسيظلون في الحكم مدة أطول. وتحقق كل ذلك فعلاً كما أخبرe .

T وثبت في الصحيح أنه قال: ((ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقتَرب))(2) فأخبر بفتن جنكيزخان وهولاكو، وتدميرهم الدولة العباسية العربية، وقد تحقق فعلاً كما قالe .

T وقال لسعد بن أبي وقاص في رواية صحيحة، حينما كان في مرض شديد: ((لعلك تُخلـِّفُ حتى ينتَفعَ بكَ أقوامٌ، ويستضرَّ بك آخرون))(3) فأخبر e أنه سيكون قائداً عظيماً، وسيفتح الله بيده بلداناً وينتفع به أقوام كثيرة بدخولهم حظيرة الاسلام، ويتضرر به آخرون حيث تنقرض دولتهم. وقد كان كما قال؛ اذ أصبح سعد قائداً للجيش الأسلامي ودمّر دولة الفرس وصار سبباً في دخول كثير من الأقوام والملل في حوزة الأسلام.

T وثبت كذلك أنه e ((نعى النجاشي(4) في اليوم الذي مات فيه))، في السنة السابعة من الهجرة، وصلّى عليه، وبعد مرور اسبوع جاء الخبر بأنه توفي في اليوم الذي أخبر فيه الرسول e .

T وقال e : ((اُثبت فانما عليك نبي وصديق وشهيد))(5) عندما كان e مع

صفوة من الصحابة الكرام على جبل اُحد - أو على حراء(1) - واهتزّ الجبل من تحتهم، فأفاد أن عمر وعثمان وعلي سيستشهدون، فكان كما قال.



T T T



أيها الضعيف ويا من مات قلبه ويا أيها الشقي!.

لعلك تقول ان محمداً e كان عبقرياً، فعرف بعبقريته هذه الأمور الغيبية وتغمض عينك عن حقيقة النبوة الساطعة كالشمس!.

أيها المسكين! ان ما سمعتَه ليس الاّ جزء من خمسة عشر نوعاً من الأنواع الكلية لمعجزاته e وقد علمتَ انها جميعاً ثابتة بروايات صحيحة وبتواتر معنوي. وانت لم تسمع بعدُ الاّ نبذةً يسيرة مما يتعلق بالامور الغيبية.. أفبعد ما يسمع الانسان هذه المعجزات يقول لصاحبها: انه عبقري يكشف المستقبل بفراسته؟.

هب اننا قلنا مثلك: انه عبقري! أفيمكن ان تلتبس الرؤية على من يملك مئات الأضعاف من الذكاء المقدس والعبقرية السامية؟ وهل يمكن لمثل هذه الشخصية السامية ان تهبط من سموها الصادق فيخبر أخباراً عارية عن الصحة؟ أليس جنوناً وبلاهةً ما بعدها بلاهة الاعراضُ عما تخبر به هذه العبقرية الفذة حول سعادة الدارين!؟.

الاشارة البليغة السادسة

T ثبت انه e أخبر فاطمة: أنها ((أول أهله لحوقاً به))(1).. أي أول من يموت بعده e فيتبعه من أهل البيت. وبعد ستة أشهر وقع ما قال.

T وثبت أيضاً أنه e : ((اخبر أبا ذر رضي الله عنه بتطريده)) أي من المدينة المنورة ((وبعيشه وحده وبموته وحده))(2)، وبعد عشرين سنة وقع الأمر كما أخبر.

T وأيضاً انه e استيقظ من النوم في بيت أم حرام (خالة أنس بن مالك فتبسم قائلاً: ((ناسٌ من امتي عرضوا عليّ غزاةً في سبيل الله يركبون ثَبجَ هذا البحر(3) ملوكاً على الأسرَّة، فقالت: ادع يا رسول الله ان اكون معهم، فدعا لها))(4). وبعد أربعين سنة اصطحبت زوجها عُبادة بن الصامت لفتح قبرص وتوفيت هناك. وقبرها الآن هناك معروف يزار.

T وثبث انه e قال: ((ان في ثقيف كذّاباً ومُبيراً))(5) فاخبر عن المختار المشهور الذي إدّعى النبوة، وسفاك الدماء الحجاج الظالم الذي قتل مائة ألف نفس(1).

T وثبت ايضاً انه e قال: (( لتُفْتَحَنَّ القسطنطينية، فَلَنِعْمَ الأميرُ أميرها ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش))(2) فأفاد بهذا انه ستَفتح مدينة استانبول بيد المسلمين، وسيكون لمحمد الفاتح مرتبة عالية: ((نِعمَ الأمير)). وظهر الأمر كما قال.

T و ثبت كذلك أنه e قال: ((ان الدِّين لو كان منوطاً بالثريا لنالَه رجالٌ من أبناء فارس))(3) مشيراً الى الذين أنجبتهم بلاد فارس من العلماء والأولياء أمثال الأمام ابي حنيفة النعمان.

T وقال e أيضاً: ((عالمُ قريش يَملأ طباق الأرض علماً))(4)، مشيراً بذلك الى الامام الشافعي.

T وأخبر e : ((أن الأمة ستفترق الى ثلاث وسبعين فرقة وان الناجية منها أهل السنة والجماعة))(5).

T وقال e : ((القَدَرية مجوس هذه الأمة))(6)، مشيراً بذلك الى طائفة القدرية المنكرين للقَدر، والتي هي منقسمة الى شعب وفرق كثيرة.

T وكذا أخبر عن فرق كثيرة، اذ ثبت انه قال لعلي ما معناه: ان مثلك مثل عيسى عليه السلام، ستكون سبباً في هلاك فئتين من الناس: احداهما من فرط المحبة والاخرى من فرط العداوة(1). حيث افرط النصارى في حب عيسى عليه السلام حتى تجاوزوا الحد المشروع فيهلكون وقالوا: انه ابن الله ــ حاش لله ـ واليهود أيضاً أفرطوا في العداوة له فانكروا نبوته ومنزلته الرفيعة. وكذلك سيفرط فريق من الناس في الحب لك ويتعدّون الحدّ المشروع فيهلكون، اذ قال e في حقهم: ((لهم نبزٌ يُقال لهم الرافضة))(2)، وفريق آخر سيفرطون في العداء لك وهم (الخوارج وقسم من المغالين في موالاة الأمويين وهم (الناصبة ).

فان قيل:

ان القرآن الكريم يأمر بحب آل البيت، وقد حث النبي e على ذلك، فلربما يشكّل هذا الحب عذراً، حيث ان أهل الحب أهل انتشاء وسكر ـ أي ذاهلون ـ فَلِمَ لا تَنتفع الشّيعة ولا سيما الرّافضة من هذا الحب ولا ينقذهم من العذاب، بل نرى العكس من ذلك فانهم يدانون من فرط الحب كما أشار اليه الحديث الشريف؟!.

الجواب: ان الحب قسمان

أحدهما: حب (بالمعنى الحرفي) وهو حب عليّ والحسن والحسين وآل البيت محبة لله وللرسول وفي سبيلهما. فهذا الحب يزيد حب الرسول e ويكون وسيلة لحب الله عز وجل فهذا الحب مشروع، لا يضر افراطُه، لانه لا يتجاوز الحدود ولا يستدعي ذم الغير وعداوته.

وثانيهما: حب (بالمعنى الاسمي) وهو حبهم حباً ذاتياً، ولأجلهم، اي حب عليّ من أجل شجاعته وكماله، وحب الحسن والحسين من أجل فضائلهما ومزاياهما الكاملة فحسب، من غير تذكّر للنبي e ، حتى ان منهم من يحبهم ولو لم يعرف الله ورسوله. فهذا الحب لا يكون وسيلةً لحب الله ورسوله. واذا ما كان في هذا الحب افراط فانه سيفضي الى ذم الغير وعداوته.

وهكذا أفرط منهم ـ كما ذكر في الحديث الشريف ـ في الحب لعليّ وتبرأوا من أبي بكر وعمر، فوقعوا في خسارة عظيمة. فكان هذا الحب السلبي ـ غير الايجابي ـ سبباً لخسارتهم .

T ونقل نقلاً صحيحاً انه e حذّر الأمة من أنهم ((اذا مشوا المُطَيطاء(1) وخَدَمَتْهم بناتُ فارس والروم ردَّ الله بأسَهُم بينهم وسلّط شِرارَهم على خِيارِهم))(2). وبعد ثلاثين سنة وقع الأمر كما قال.

T وثبت كذلك انه e أعلَمَ أصحابه: ((بفتح خيبر على يَدي عليّ))(3). وفي غد يومه وقعت المعجزة النبوية ـ فوق ما كان يُتوقع ـ فأخذ عليّ باب القلعة بيده وجعله ترساً. ولما تم أمر الفتح رماه في الأرض، وكان الباب عظيماً، حتى انه لم يستطع ثمانية رجال ـ وفي رواية اربعون رجلاً ـ رفعه من الارض(4).

T وقال e : ((لا تقومُ الساعةُ حتى تَقتَتِلَ فئتان عظيمتان دعواهُما واحدة))(1) فأخبر عن الحرب التي وقعت في صفين بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما.

ومما أخبر به e : ((ان عماراً تَقتُلُه الفئةُ الباغية"))(2)، وبعد ذلك قُتل في حرب صفين. فاحتج علي به من ان الموالين لمعاوية هم الفئة الباغية، ولكن معاوية أوّل الحديث. وقال عمرو بن العاص: البغاة هم قاتلوه فقط، ولسنا جميعاً بغاة.

وقال e أيضاً: ((ان الفتنَ لا تَظهر ما دام عمر حياً))(3). فكان الأمر كما أخبر.

T ((ولما اُسِرَ سُهيل بن عمرو ـ قبل اسلامه ـ يوم بدر قال عمر: يا رسول الله انه رجل مفوّه فَدَْعني انتزع ثنيتيه السفليتين، فلا يقوم خطيباً عليك بعد اليوم))، فقال رسول الله e : ((وعسى ان يقومَ مقاماً يَسرُّك يا عمر))(4). فكان كذلك اذ حينما وقعت وفاة النبي e ، تلك الحادثة العظمى التي كلَّ الصبرُ فيها، قام أبو بكر الصديق رضى الله عنه مُعزّياً المسلمين في المدينة المنورة ومثبّتاً قلوبَ الصحابة فخطب فيهم خطبة بليغة. وقام سهيل أيضاً في مكة المكرمة يحذو حذو أبي بكر، فالقى خطبة شبيهة بخطبة أبي بكر، حتى ان كلمات الخطبتين تواردت على معنى واحد، الى حدٍ ما.

T وقال الرسول e لسُراقة: ((كيف بك اذا اُلبستَ سوارَيْ كسرى))(5) وفي عهد عمر رضي الله عنه سقطت دولة كسرى وجاءت زينة كسرى وحليه فألبسها عمرُ سراقةَ وقال: ((الحمد)) الذي سَلَبهما كِسرى والْبَسهما سُراقةَ(1) وصدّق ما أخبر به النبي e .

T وقال أيضاً e : ((اذا هَلكَ كسرى فلا كسرى بعدَه(2))) فكان الأمر كما أخبر.

T وأخبر e رسولَ كسرى: ((ان الله سلّط على كسرى ابنَه شهَرَوَيه فقَتَله في وقت كذا..))(3) فلما حقق ذلك الرسول وقتَ مقتل كسرى، ايقنَ ان قتلَه كان في نفس الوقت الذي أخبر عنه e فأسلم بسبب ذلك. واسمُ ذلك الرسول ((فيروز)) كما ورد في بعض الروايات

T وأخبر عن كتاب حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسله سراً الى كفار قريش. فأرسلe علياً والمقداد رضي الله عنهما بأن في الموضع الفلاني جارية معها رسالة. فأتوني بها، فذهبا واتيا بالرسالة في المكان الذي وصفه الرسول e ، واستدعى حاطباً وقال له: ما الذي حَمَلك على هذا؟ فابدى عذره فقَبِل منه(4). وهذه رواية صحيحة ثابتة.

T وثبت أيضاً انه e قال في عتبة ابن أبي لهب: ((يأكله كلبُ الله))(5) فأخبر عن عاقبته المفجعة، وبعد مدة من الزمن ذهب عتبة متوجهاً نحو اليمن فجاءه سبع وأكله. فصدّق دعاءه عليه.

T ونقل نقلاً صحيحاً: ((ان الرسول e لما فتح مكة أمر بلالاً رضي الله عنه بأن يعلو ظهر الكعبة ويؤذن عليها. وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام وهم رؤساء قريش جلوس في فناء الكعبة. فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيداً اذ لم ير هذا اليوم. وقال الحارث: أما وَجَد محمدٌ مؤذناً غير هذا الغراب الأسود!

فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، ولو تكلمتُ لأخْبَرَتْه هذه الحصباء. فخرج عليهم النبي e وقال: لقد علمتُ الذي قلتُم وذكرَ مقالتهم.

فقال الحارث وعتاب: نشهدُ انكَ رسولُ الله، ما اطّلع على هذا أحدٌ كان معنا فنقول به))(1).

فيامن لا يؤمن بهذا النبي الكريم ويا أيها الملحد!

تأمل في هذين العنيدين من رؤساء قريش كيف رأيا نفسيهما مضطرَّين الى الايمان، بما سَمِعاه من أخبارٍ غيبي واحد. فما أفسد قلبك وانتَ تسمع ألوفَ المعجزات من امثالها وكلها ثابتة بطرق التواتر المعنوي ومع ذلك لا يطمئن قلبُك... فلنرجع الى الصدد.

T وثبت أيضاً انه e ((أخبر بالمال الذي تركه عمُّه العباس رضي الله عنه عند أم الفضل (زوجه) بعد أن كتمه))(2) ((فلما أسر ببدر وطُلبَ منه الفداء فقال: لا مال لي)). فقال له e : ما صنع المال الذي وضعتَه عند أم الفضل. فقال: ((ما عَلِمَه غيري وغيرُها. فأسلَمَ))(3).

T وثبت أيضاً: ان الساحر الخبيث لبيد اليهودي عمل سحراً ليؤذي النبي e فشدّ الشعر على مشط، ودسّه في بئر، فأمر الرسول الأكرم e علياً والصحابة؛ أن يذهبوا الى البئر الفلانية ويأتوا بأدوات السحر، فذهبوا وأتوا بها، وكان كلما انحلَّت منه عقدةٌ وَجَد الرسول e شيئاً من الخفة(4).

T وثبت أيضاً، ان الرسول الأكرم e قال لجماعة فيها أبو هريرة وحذيفة: ((ضرسُ احدكم في النار مثلُ اُحد))(1)، فأخبر عن ردّة واحدةمن تلك الجماعة وبيّن عاقبته الوخيمة. قال أبو هريرة: ((فذهب القوم ــ يعني ماتوا ــ وبقيتُ أنا ورجل، فقُتِل مرتداً يومَ اليَمامة))(2). وظهرت حقيقة خبر النبي e .

T وثبت أيضاً ((بقضية عُمَير مع صفوان حين سارَّه وشارَطَه على قتل النبي e )) مقابل مبلغٍ عظيمٍ من المال ((فلما جاء عُمير النبي e قاصداً لقتله، وأطْلَعَه رسول الله e على الأمر والسر ــ ووضع يده على صدره ــ أسلم))(3).

هذا وقد وقع كثيرٌ من أمثال هذه الأنباءات الغيبية الصادقة، وذكرتها كتب الصحاح الستة المعروفة مع أسانيدها. واغلب ما ذكر في هذه الرسالة من الحوادث انما هو في حكم المتواتر المعنوي، وهي قطعية الثبوت ويقينية، وقد نقلها البخاري ومسلم في صحيحَيهما اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن الكريم، على ما هو عليه أهل العلم والتحقيق، علماً أنها بُيّنَت في كتب السنن الصحيحة الأخرى كالترمذي والنسائي وابي داود ومستدرك الحاكم ومسند أحمد بن حنبل ودلائل البيهقي مع اسانيدها.

فيا أيها الملحد الغافل! لا تلق الكلام جزافاً فتقول:

ان محمداً e رجل عاقل ذكي! ثم تَدع الامر هكذا وتنصرف، فهذه الاخبار الصادقة التي تمس الامور الغيبية لا تخلو من أمرين اثنين؛ اما انك تقول: ان هذا الرجل له نظرٌ ثاقب وعبقرية واسعة جداً، أي له عينٌ بصيرة ترى الماضي والمستقبل معاً والعالم أجمع، فيعلم بها كل شيء وكل حادث، فاقطار الارض والعالم كله شرقاً وغرباً تحت نظر شهوده، وله من الدهاء العظيم ما يمكنه ان يكشف جميع أمور الماضي والمستقبل.! فهذه الحالة لا يمكن كما ترى ان تكون في بشر قط. واذا ما وقعت في اي فردٍ فهو اذاً خارق للعادة وله موهبة رفيعة منحها له ربُّ العالمين.. وهذا الامر بحد ذاته معجزة عظمى.. أو ينبغي لك أن تؤمن بأن ذلك الشخص الكريم مأمور وتلميذ يتلقى الارشاد والتعليمات ممن يرى كل شئ، وله القدرة بالتصرف في كل شئ في الكون كله والازمان جميعاً، فكل شيء مكتوب في لوحه المحفوظ، يعلّم منه تلميذه ما شاء متى شاء. فثبت اذاً ان محمداً e يتلقى الدرسَ من معلمه الأزلي سبحانه ويبلّغه كذلك.

T وثبت ايضاً انه e حينما بعث خالداً بن الوليد ليحارب اكيدر ـ رئيس دومة الجندل(1) ـ قال له: ((انك سَتَجده يَصيد البَقَر))(2) ـ اي البقر الوحشي ـ وأخبره بأنه سيأتي به أسيراً من غير مقاومة منه. وذهب خالد ورآه كما وصفه الرسول الكريم e فأخذه أسيراً وأتى به.

T وثبت أيضاً انه e أعلم ((قريشاً بأكل الأرضة ما في صحيفتهم التي تظاهروا بها على بني هاشم وقطعوا بها رحمهم، وانها أبْقَت فيها كل اسمٍ لله، فوجدوها كما قال))(3)، وهي معلقة على الكعبة.

T وثبت أيضاً انه e أخبر عن ظهور الطاعون عند فتح بيت المقدس. ففي عهد عمر انتشر وباء الطاعون انتشاراً فظيعاً بحيث ان عدد الذين توفوا نتيجة الأمراض سبعون الف شخص خلال ثلاثة أيام(4).

T وثبت أيضا انه e أخبر عن وجود البصرة(1) وبغداد(2) قبل ان تعمُرا، وأخبر عن جبي خزائن الارض الى مدينة بغداد.

T وأخبرهم e عن ((قتالهم الترك))(3) والأمم التي حول بحر الخزر ثم بعد ذلك يدخل اكثر هؤلاء الامم في دين الاسلام، وسيحكمون العرب بينهم حيث قال: ((يوشَكُ ان يَكثُر فيكم العَجَم يأكلون فيئَكُم ويضربون رِقَابكم))(4).

T وقال e : ((هلاكُ أمتي على يدي اُغيلمةٍ من قريش))(5) فأخبر عن يزيد والوليد وأمثالهم من الرؤساء الأشرار في الأمويين.

T وأخبر e عن وقوع ردّة في بعض الاماكن كاليمامة(6).

T وقال في غزوة الخندق: ((ان قريشاً والأحزاب لا يغزونني أبداً وانا أغزوهم))(7) وكان الأمر كما أخبر.

T وثبت كذلك انه e أخبر قبل وفاته بشهرين: ((بأن عبداً خُيِّرَ فاختار ما عند الله))(8).

T وقال في حق زيد بن صوحان: ((يَسبقُهُ عضوٌ الى الجنة، فقُطعت يدهُ في الجهاد))(1) وأصبحت شهيدة، يوم نهاوند، فسبقته الى الجنة.



T T T



وهكذا فان جميع ما بحثناه من أمور الغيب انما هو نوع واحد فقط من بين عشرة أنواع من معجزاته e ، فنحن لم نعرف بعدُ عُشر معشار هذا النوع، وقد بينّا اجمالاً أربعة أنواع من الاخبار الغيبي في الكلمة الخامسة والعشرين الخاصة باعجاز القرآن.

فتأمل الآن في هذا النوع، وضمّه الى الانواع الاربعة الاخرى التي أخبر عنهاe بلسان القرآن، وانظر كيف يشكل برهاناً قاطعاً لامعاً على الرسالة بحيث يذعن مَن لم يختل عقلُه وقلبُه ويصدّق بأن هذا النبي الكريم e انما هو رسول يخبر عن الغيب من لدن خالق كل شئ وعلام الغيوب.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس