الموضوع: رمضان في سوريا
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-29-2009
  #7
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: رمضان في سوريا

عبق دمشق و سحر رمضان

في رمضان تخيم على دمشق – تلك المدينة العتيقة الرابضة على سفوح قاسيون–أجواء ساحرة تزيد هذه المدينة العتيقة تفردا وجمالا.
فأول ما يطرق رمضانُ أبوابَ الدمشقيين في ليلة النصف من شعبان – تلك الليلة التي اعتاد الدمشقيون إحياءها في المساجد- فيحرك لواعج الشوق في قلوبهم , و يهيئ الأرواح و الأفئدة أن تحتضن نفحة من نفحات السماء .
و يترقب الدمشقيون موعد( إثبات الهلال) في مشهد عجيب من يوم التاسع و العشرين من شعبان , فالكل يسأل ( ثبتوها؟ ) , و الجميع يتزاحم في الأسواق يعد العدة لشهر الصوم .
و تعلن المحكمة الشرعية في قصر العدل – القابع أمام باب النصر المندثر من أبواب قلعة دمشق – ثبوت هلال رمضان بالرؤية الشرعية , و ترتسم على الشفاه أجملُ تعابير التهنئة و التبريك ( رمضانِ مْبارك ) ( الله يحيكم لأمثالو ) ( كل عام و إنتو بخير ) .
و تستقبل دمشق ضيفها العزيز الوافد بضربات المدفعية تهز أرجاء دمشق فرحا و طربا , و تتعالى صيحات التكبير على مآذن دمشق العتيقة الرشيقة إيذانا بحلول عيد المسلمين الأعظم .
و ينام الدمشقيون تلك الليلة تداعب خيالاتهم ذكرياتُ رمضان ( أيام زمان ) , ليهبوا من نومهم على طرق طبلة ( المسحر ) ذلك الذي تسري نداءاته بين أزقة الشام العتيقة لتنبه آذان أهلها الغافلين في دعة و آمان .
و تتداعى نساء البيت لوضع ( السفرة ) فكل واحدة لها مهمة , إحداهن توقظ إخوتها , و الأخرى تعد ( قمر الدين ) , و ثالثة تسكب المربيات و الأجبان في صحاف الخزف الصيني , و رابعة ( تلقم الشاي ) , و يتحلق أهل البيت حول مائدة السحور العامرة بأنواع ( الحواضر ) الدمشقية التي لا يعرف طعمها إلا من ذاقها , لا يغنيه وصفها عن ذوقها .
و تلامس الدموعُ صفحاتِ الخدود إذ تصافحُ الآذانَ ترانيمُ السحر و ابتهالاتُ (الرابطة) , و تصدح رابطة المنشدين بأرق القصائد تحملها نسمات السحر من أطهر بقعة في قلب دمشق النابض , من حضن دمشق الدافئ , من مفخرة تاريخها الغابر من جامعها الأموي .
و يتناهى إلى سمعك في هدوء السحر ذلك الصوت الأسطوري الذي سرى فيه يوما عبقُ دمشق وسحرها فكان صوت(توفيق المنجد) وهو يلهب العواطف فرحا بالقادم الغالي ,ويصدح بصوته منشدا(روح فؤادك قد أتى رمضان) .
و يؤَذَّن للسحر فتنفضُّ العائلة عن سحورها, ليهيئ الرجال أنفسهم لصلاة الفجر في مسجد الحي , و تتداعى النساء لـ ( لم السفرة ) و ارتداء ( غطا الصلاة ) علَّهن يدركن شيئا من بركة الصلاة في السحر .
و يسير الأب مع أبنائه في مهابة و إخبات , و يتلاقي أهل الحي في طريقهم إلى بيت الله ,فتتعانق الأرواح في فضاء الحارة الدمشقية , و تتصافح القلوب قبل الأيدي في رحاب مسجد الحي الذي يدلِفُ إليه المصلون قبل الوقت المعتاد , و كأنما ألهب الشوقُ إلى لقاء الله قلوبَهم فما يطيقون الانتظار , و تنقضي الصلاة و ما يحتف بها من أوراد و أذكار , و يهرع الناس إلى مصاحفهم يعانقونها عناق الواله المشتاق .
و تطلع شمس اليوم الأول من رمضان تداعب أشجار النارنج و الليمون ,و تلاعب الحبق و الياسمين ,و تتمايل أشعتها بين ( زواريب ) دمشق و حاراتها الضيقة , و تنشر ضياءها على مشارب البيوت و أسقف الأسواق .
و تتبدى أسواق دمشق عن أبهى حلة و أحلى زينة , و تعرض للغادي و الرائح ما لذ و طاب من أطعمة و مشروبات لا يغني وصفها عن ذوقها .
و تدخل سوق ( البزورية ) فلا تملك بصرك أن يرمي بنظراته إلى بهاء ما فيه ,و لا تمسك قلبك أن يهفو إلى لذيذ ما حواه . فلا تملك يدَك عندها أن تمتد لتشتري ما تريده النفس ويسر به الأولاد.
و تعود إلى بيتك عند الأصيل و قد انحنت الشمس إلى الغروب رويدا رويدا , فتتلقاك
( الأهل ) ببسمة حانية و كلمات رقيقة ( الله يعطيك العافية و لا يحرمني من فوتك عليِّ) ,و تتراكض من حولها بناتها ينظرن ما أتيت لهن من لذيذ ( المعروك ) و ( الناعم ).
و ما أجمل لحظات رمضان قبل الغروب و البيت كله في شغل و حركة , فالبنات تعد مائدة الإفطار , و الأب يتلو آيات من القرآن , و الأبناء يطرقون أبواب الجيران بـ ( سكبة ) الأم إلى جاراتها من الطعام , و تتناثر الأطباق على مائدة الإفطار , و يتحلق الشاميون حولها و عيونهم تحتار بين أطايبها .
و تخلو حارات الشام و شوارعها إلا من أطباق الطعام يتهاداها الجيران قبل مدفع الإفطار , ويجلس (كبير العيلة ) و حوله الأبناء و الأحفاد يتحلقون حول مائدة الإفطار , و يرهف بعضهم السمع إلى المدفع , و آخرون ينصتون إلى أذان الأموي الجماعي الذي أراده أهل دمشق دليلا فريدا على حبهم للجماعة و الوحدة .
و ينساب صوت المؤذن رخيا خاشعا بين أزقة الشام و حواريها , و تهدأ الحركة في الحارة لتبدأ الحركة على المائدة , و يعلو صوت الأب بالدعاء و هو يرتشف ماء ( الفيجة ) عذبا فراتا أساغه الله لأهل الشام دون غيرهم ,فتؤمِّن الأم و بناتها على دعواته , و يتساقى الجميع (شراب الورد) و (العرقسوس) و (التمر هندي) , و يضحك الكل في جو ملؤه المرح و السرور .
و لا ينسى أهل الشام أن يشربوا الشاي بعد الفراغ من الطعام , يرتشفونه ساخنا عله يقذف فيهم حرارة القوة ليقوموا مسرعين إلى صلاة التراويح ,صلاة التراويح التي تمتلئ فيها مساجد دمشق بالشيب و الشباب , و يتداعى الدمشقيون إلى الصلاة , كل يسأل صاحبه ( وين الصلاة اليوم ؟) .
و يؤم الناسُ المساجد و قد لبست أبهى حللها , و تهيأت لاستقبال ضيوفها , و تتلاصق الأجساد في صلاة ينساب فيها صوت الإمام نديا هادئا , يلف المكان بهالة من الخشوع و الإخبات , و ينعم المصلون بسماع جزء كامل من القرآن ينفضُ عن قلوبهم غفلة رانت عليه أياما وربما شهورا .
وينفضُّ المصلون بعد ذلك إلى بيوتهم , فيخرجون من المسجد جماعات جماعات , جماعات تتعانق فيها البسمات و تتعالى منها الضحكات , و يبلغ كل رجل بيته فيدلف إليه و قد هيأت له زوجه الفاكهة و المكسرات و التف حوله الأهل و الأولاد , فيداعبهم و يلاطفهم,و يمازحونه و يضاحكونه و يكون أجمل سهر و أطهر سمر , يقضي فيه الرجل حق أهله بعد أن قضى في الصلاة حق ربه.
و تمر ليالي رمضان , و تتعاقب أيامه , و تبرهن دمشق لربها كل ليلة أنها على العهد باقية .................. ظئر الإسلام..... و فسطاط المسلمين
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس