الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #25
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الثامنة والعشرون

هذه اللمعة عبارة عن فقرات مـختصرة كتبتها لبعث السلوان الى قلوب اخواني الذين كانوا معي، حينما كنت مـمنوعاً عن التكلم والاختلاط مع الاخرين في سجن ((اسكي شهر)).

مـحاورة لطيفة

مع سليمان رشدي(1) الذي هو رمز الوفاء والاخلاص، الـمتميز بنقاء السريرة.

عندما يقترب زمن تسريح الذباب من مهمة الـحياة وذلك في موسم الـخريف، يستعمل بعض من يقصد نفعه بالذات دواءً لـمكافحة الذباب ليحولوا دون ان يـمسهم شيء من الازعاج. فـمسّ ذلك رقة قلبي واثـّر فيّ كثيراً. علماً ان الذباب قد تكاثر اكثر من قبل على الرغم من استعمال الدواء القاتل. وكان في غرفتي في السجن حبل لنشر الـملابس لأجل تنشيفها فكانت تلك الطويرات الصغيرة جداً تتراصف على ذلك الـحبل مساءً تراصفاً جـميلاً منتظماً. فقلت لرشدي: لا تتعرض لـهذه الطويرات الصغيرة، انشر الـملابس في مكان آخر. فردّ عليّ بـجدّ: اننا بـحاجة الى هذا الـحبل، فلتجد الذبان لـها موضعاً آخر!

وعلى كل حال، ولـمناسبة الـمحاورة اللطيفة التي جرت بيننا انفتح باب البحث عن الذباب والـنحل وما شابههما من الـحشرات الكثيرة، فدار الكلام حولـها.

فقلت له:

ان مثل هذه الانواع من الـحيوانات التي تتكاثر نسخها بكثرة هائلة، لـها وظائف مهمة. فالكتاب تطبع بطبعات كثيرة نظراً لقيمته، بـمعنى ان جنس الذباب(1) له وظيفة مهمة وقيمة كبيرة حيث يُكثر الفاطر الـحكيم من نسخ تلك الرسائل القَدَرية وكلمات القدرة الإلـهية.

نعم! ان هذه الطائفة من الذباب التي تنظـّف وجهها وعينيها وجناحيها كل حين، وكأنها تتوضأ، تشكـّل موضوعاً مهما للآية الكريـمة: } يا ايها الناسُ ضُربَ مثلٌ فاستمعوا له إنّ الذين تَدعونَ من دون الله لن يَخلـُقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإنْ يَسْلـُبهم الذبابُ شيئاً لا يستنقذوه منه ضَعُفَ الطالبُ والـمطلوبُ{ (الـحج:73).

بـمعنى ان الاسباب وما يدّعيه اهل الضلالة من ألوهية من دون الله لو اجتمعت على خلق ذبابة واحدة لعجزت. اى ان خلق الذباب معجزة ربانية وآية تكوينية عظيمة، بـحيث لو اجتمعت الاسباب كلها لـما خلقت مثل تلك الآية الربانية ولا استطاعت ان تعارضها ولا تقليدها قطعاً. فتلك الـمعجزة قهرت نـمرود، ودافعت عن حكمة خلقها دفاعاً فاق ألف اعتراض، لـما شكى موسى عليه السلام من ازعاجاتها قائلاً: يارب لِمَ اكثرتَ من نسل هذه الـمخلوقات الـمزعجة.. اُجيب إلـهاماً: لقد اعترضتَ مرةَ على الذبان، وهي كثيراً ما تسأل: يارب ان هذا الانسان الكبير ذا الرأس الضخم لا يذكرك الاّ بلسان واحد بل يغفل احياناً عن ذكرك، فلو خلقتَ من رأسه فحسب مـخلوقات من امثالنا لكانت الوف الـمخلوقات ذاكرة لك.

وفضلاً عن هذا فان الذباب يرعى النظافة أيـمـّا رعاية، اذ ينظف وجهه وعينيه باستمرار ويـمسح على اجنحته دوماً ويؤدي كل ذلك كمن يتوضأ. اذاً لـهذه الطائفة وظائف مهمة وجليلة بلاشك، الاّ ان نظر الـحكمة البشرية وعلمها قاصر لـم يـحط بعدُ بتلك الوظائف.

نعم، ان الله سبحانه وتعالى قد خلق قسماً من الـحيوانات مفترسة آكله للـحوم، وكأنها موظفات صحيات ومأمورات للتنظيف تؤدي وظيفتها في غاية الاتقان، بتنظيفها وجه البحر وجـمعها لـجثث ملايين الـحيوانات البحرية يومياً، وانقاذ وجه البحر من الـمناظر القذرة(1). فان لـم توف هذه الـحيوانات بوظيفتها الصحية حق الوفاء وعلى اجـمل وجه لـما تلألأ وجه البحر كالـمرآة الساطعة، ولكان البحر يورث الكآبة والـحزن.

وكذا فانه سبحانه قد خلق حيوانات مفترسة وطيوراً جارحة بـمثابة مأمورات للنظافة والامور الصحية، تقوم بتنظيف وجه الارض يومياً من جثث مليارات من الـحيوانات البرية والطيور وانقاذها من التعفن، وانقاذ ذوي الـحياة من ذلك الـمنظر الكئيب الأليم. حيث تستطيع تلك الـحيوانات ان تتحسس مواضع تلك الـجثث الـخفية والبعيدة من مسافة تبلغ حوالي ست ساعات، وذلك بسَوق من إلـهام رباني، فتنطلق الى تلك الـمواضع وتزيل الـجثث. فلولا هذه الـموظفات الصحيات البرية وهي تؤدي وظائفها على افضل وجه لكان وجه الارض في حالة يرثى لـها.

نعم، ان الرزق الـحلال للحيوانات الوحشية الـمفترسة هو لـحوم الـحيوانات الـميتة، وحرام عليها لـحوم الـحيوانات الـحية، بل لـها جزاء إن اكلت منها، فالـحديث الشريف ((حتى يقتصّ الـجمـّاء من القَرناء))(2). يدل على أن الـحيوانات التي تبقى ارواحها رغم فناء اجسادها لـها جزاء وثواب يناسبها في دار البقاء. فعلى هذا يصح القول ان لـحوم الـحيوانات الـحية حرام على الـمفترسات.

وكذا النمل موظف بـجمع شتات القطع الصغيرة للنعم الإلـهية وصيانتها من التلف والامتهان لئلا تداس تـحت الاقدام، فضلاً عن جـمعه جثث الـحيوانان الصغيرة وكأنه موظف صحي.

وكذا الذبان لـها وظائف – اهم مـما ذكر – فهي مأمورة بتنظيف مالا يراه الانسان من جراثيم مرضية وتطهير الـمواد السامة. فهي ليست ناقلة للجراثيم، بل العكس تهلك تلك الـجراثيم الـمضرة وتـمحيها بمصها لـها واكلها، وتـحيل تلك الـمواد السامة الى مواد اخرى. فتحُول دون سريان كثير من الامراض، وتوقفها عند حدّها.

والدليل على أن الذبان موظفات صحيات، ومأمورات تنظيف وكيمياويات حاذقات، وان لوجودها حكمة الـهية واسعة.. هو كثرتها الـمتناهية، اذ الـمواد النافعة والثمينة تكثـّر منها(1).

ايها الانسان الذي يقصد نفع ذاته وحده!

انظر الى فائدة واحدة للذباب تعود اليك فحسب مـما سوى فوائده ومنافعه للحياة. وتخلّ عن عدائك له. فكما انه يورثك الانس والسلوان في الاغتراب والوحدة والانفراد، كذلك يوقظك من نوم الغفلة وغمرات تشتت الفكر، فيذكـّرك بوظائف انسانية كالـحركة والنشاط والنظافة الدائمة بوضوئه وصلاته وتنظيفه وجهه وعينه، كما هو مشاهد.

وكذا النحل – وهي صنف من الذباب – تطعمك العسل الذي هو ألذّ غذاء والطفه، وهي الـملهمة بالوحي الإلـهي كما نص عليه القرآن الكريم، فعليك ان توليها حبـّك.

ان العداء للذباب لا معنى له، بل هو ظلم واجحاف بـحق تلك الـحيوانات التي تعاون الانسان وتسعى لصداقته وتتحمل أذاه، وانـما يـجوز مكافحة الـمضرة منها فحسب، وذلك دفعاً لأضرارها، كدفع ضرر الذئاب عن الاغنام.

فيا ترى أليس من الـمحتمل ان تكون البعوض والبرغوث الـمسلـّطين علينا حجـّامات فطرية، أي موظفات بـمص الدم الفاسد الـجاري في الاوردة وقت الـحر وزيادة الدم اكثر من حاجة الـجسم؟.. سبحان من تـحيـّر في صنعه العقول..

كنت يوماً في جدال مع نفسي، اذ اغترت بـما انعم الله عليها، وتوهمت انها مالكة لـها، وبدأت بالفخر والـمدح.

فقلت لـها: انك لاتـملكين شيئاً بل هو أمانة. فتركت الغرور والفخر. ولكنها تكاسلت قائلة: لِمَ أَرعى ما ليس لي؟ وماذا عليّ لو ضاع؟.

وفجأة رأيت ذبابة وقفت على يدي وبدأت بتنظيف وجهها وعينها وجناحيها وهي امانات لديها تنظيفاً على اجـمل ما يكون، مثلما ينظف الـجندي سلاحه وملابسه التي سلـّمتها له الدولة، فقلت لنفسي: انظري الى هذه الذبابة، فنظرت وتعلـّمت منها درساً بليغاً. وهكذا اصبح الذباب استاذاً لنفسي الكسلانة.

ان فضلات الذباب لاضرر لـها من حيث الطب، بل قد تكون شراباً حلواً (وغذاء لـحشرات اخرى) اذ ليس من الـمستبعد عن الـحكمة الإلـهية، بل من شأنها ان تـجعل من الذباب مكائن تصفية واجهزة استحالة، نظراً لأكلها الوف الأصناف من مواد هي منشأ الـجراثيم والسموم.

نعم ان من طوائف الذباب – مـما سوى النـحل – طائفة تأكل الـمواد الـمتعفنة الـمختلفة(1) فتقطر دوماً قطرات من مواد حلوة بدلاً من فضلاتها – كنزول الـمنّ على اوراق الاشجار – فتثبت انها مكائن استحالة.

وهكذا يتبين امام الانظار مدى عظمة امة الذباب الصغير هذا، ومدى عظمة وظائفها. وكأنها تقول بلسان الـحال: لا تنظروا الى صغر اجسامنا بل الى عِظَم وظائفنا. وقولوا: سبحان الله.





((الـحروف القرآنية))(1)



بِسْم الله الرَّحـمن الرَّحيم

} إنـّما أمرُه إذا أراد شَيئاً أنْ يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون { (يس:82)

يفهم من اشارة هذه الآية الكريـمة: ان الـخلق يتم بالأمر، وان خزائن القدرة الإلـهية بين الكاف والنون. ولـهذا السر الدقيق وجوه كثيرة، وقد ذكر بعضها في الرسائل.

اما الآن فنحاول ان نفهم هذا السر وفق مثال مادي مـحسوس لأجل تقريب الأحاديث النبوية الواردة حول خواص الـحروف القرآنية ومزاياها وتأثيراتها الـمادية – ولاسيما الـحروف الـمقطعة في اوائل السور – الى نظر هذا العصر الـمادي، وذلك:

ان للخالق الـجليل ذي العرش العظيم سبحانه وتعالى أربعة عروش إلـهية، هي مـحاور لتدبير امور الـمخلوقات الـموجودة على كرة الارض، التي هي بـمثابة مركز معنوي للعالـم وقلب الكائنات وقبلتها.

احدها: هو عرش التحفظ والـحياة وهو التراب، الـمظهر لتجلي اسم الـحفيظ والـمحيي.

ثانيها: هو عرش الفضل والرحـمة وهو عنصر الـماء.

ثالثها: هو عرش العلم والـحكمة وهو عنصر النور.

رابعها: هو عرش الامر والارادة وهو عنصر الـهواء.

اننا نشاهد بابصارنا ظهور الـمعادن التي تدور عليها حاجات غير مـحدودة غير مـحدودة حيوانية وانسانية، وظهور مالايـحد من النباتات الـمختلفة، من تراب بسيط كما نشاهد ظهور ما لا يـحد من معجزات الصنعة الإلـهية ولاسيما من نطف الـحيوانات التي هي سائل شبيه بالـماء، ظهورها في الاحياء الـمختلفة بالـماء.. أي ظهور تلك الكثرة الكاثرة والانواع الـمختلفة من عنصر بسيط، وبانتظام تام وكتابتها على صحيفة بسيطة على صورة نقوش بديعة لاتـحد، مـما يدلنا على ان النور والـهواء ايضاً - كهذين العرشين - مظاهر لـمعجزات عجيبة لقلم علم الـمصور الازلي العليم الـجليل وقلم ارادته وأمره كالعرشين السابقين، رغم بساطتهما.

سندع حالياً عنصر النور. ولـمناسبة مسألتنا نـحاول كشف الـحجاب عما يستر عجائب الامر والارادة وغرائبهما في عنصر الـهواء الذي يـمثل عرش الامر والارادة بالنسبة الى كرة الارض. وذلك:

كما اننا نزرع الـحروف والكلمات بالـهواء الذي في افواهنا، واذا بها تتسنبل وتثمر، أي ان الكلمة تصبح حبة في آن واحد كأنه بلازمان وتتسنبل في الـهواء الـخارجي، هواءً حاوياً على مالايـحد من الكلمة نفسها، صغيرها وكبيرها. كذلك ننظر الى عنصر الـهواء فنرى انه مطيع ومنقاد لأمر ((كن فيكون)) ومسخـّر له الى حد عظيم حتى كأن كل ذرة من ذراته جندي لـجيش منظم متأهب لتلقي الأمر في كل آن، ويُظهر الطاعة والامتثال للارادة الـمتجلية في أمر ((كن)) بلازمان، سواءً في ذلك أبعد الذرات وأقربها.

مثلاً: ان الـخطاب الذي يلقيه انسان من الاذاعة يُسمع في كل مكان في الارض في الوقت نفسه وكأنه بلا زمان – بشرط وجود الراديوات – مـما يبين مدى امتثال كل ذرة من ذرات الهواء لتجلي امر ((كن فيكون)) امتثالاً كاملاً.

فالأمر كذلك في الـحروف التي هي غير مستقرة في الـهواء، يـمكن ان تصبح بكيفياتها القدسية مظاهر لتأثيرات خارجية ولـخواص مادية كثيرة حسب سر الامتثال هذا. فتشاهد فيها خاصية، كأنها تقلب الـمعنويات الى ماديات وتـحول الغيب الى شهادة.

وهكذا بـمثل هذه الامارة، فان امارات اخرى لاتـحد تظهر لنا ان الـحروف التي هي موجودات هوائية، ولاسيما الـحروف الـمقدسة القرآنية وبـخاصة حروف الشفرات الإلـهية وهي الـمقطعات التي في اوائل السور، تسمع الاوامر وتـمتثلها امتثالاً في غاية الانتظام والشعور التام والـحساسية الكاملة وبلا حاجة الى زمان. فلا شك ان هذا يـحمل الـمرء على التسليم بالـخواص الـمادية والـمزايا الـخارقة الـمروية للحروف التي في ذرات الـهواء ومن حيث القدسية، والتي ينعكس فيها تـجلي الارادة الازلية وجلوة من أمر ((كن فيكون)).

وهكذا فان تعابير القرآن الكريم التي تبين احياناً اثر القدرة كأنها صادرة من صفة الارادة وصفة الكلام مبني على هذا السر. فتلك التعابير القرآنية تدل على ان الـموجودات تُخلق في منتهى السرعة ومسخـّرة ومنقادة انقياداً تاماً للاوامر حتى لكأن الأمر ينفـّذ حُكمه كالقدرة.

أي ان الـحروف الآتية من الأمر التكويني تؤثر في وجود الاشياء وكأنها قوة مادية، ويظهر الامر التكويني كأنه القدرة نفسها والارادة نفسها. نعم ان هذه الـموجودات الـخفية التي وجودها الـمادي هوائي وهي في غاية الـخفاء، حتى كأنها موجودات نصف معنوية ونصف مادية، تشاهد فيها آثار الامر والارادة بـحيث يشبه الامر التكويني كالقدرة بعينها، بل القدرة نفسها.

وهكذا لأجل جلب الانظار والـحث على التدبير في موجودات كأنها برزخ بين الـمعنويات والـماديات يقول القرآن الكريم } إنـّما أمرُه إذا أراد شَيئاً أنْ يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون { (يس:82). لذا فمن الـمعقول جداً ان تكون الـحروف الـمقطعة التي في اوائل السور امثال: الـم، طس، حم، وما شابهها من الشفرات الإلـهية، عقداً وازراراً حرفية تستطيع ان تهزّ اوتار العلاقات الدقيقة الـخفية بين ذرات الـهواء بلا زمان، بل هذا من شأن تلك الـحروف ومن وظائفها أن تؤدي مـخابرات قدسية – كاللاسلكي الـمعنوي – من الارض الى العرش.

نعم ان كل ذرة بل كل ذرات الـهواء الـمنتشرة في اقطار العالـم تـمتثل الاوامر وتنقلها عبر اللاسلكي والـهاتف والبرقية، فضلاً عن نقلها سائر السيالات اللطيفة كالكهرباء. فلقد شاهدت بالـحدس القطعي بل بالـمشاهدة الـحقة احدى وظائفها – مـما سوى الـمذكورة – في ازاهير اللوز، وهي: ان الاشجار الـمنتشرة في اقطار الارض كأنها جيش منظم يستلم الامر نفسه في آن واحد. فبمجرد هبوب نسيم رقيق تستلم الامر من تلك الذرات، وتظهر وضعاً معيناً. مـما اورثتني تلك الـحالة يقيناً تاماً وقناعة كاملة. بـمعنى ان قيام الـهواء في سطح الارض كـخادم امين نشط فعال، يـخدم ضيوف الرحـمن الرحيم الذين يسكنون سطح الارض، يبلـّغ في الوقت نفسه اوامر الرحـمن بذراته الشبيهة باللاسلكي الى النباتات والـحيوانات، بـحيث تكون ذراته كلها في حكم خدّام الامر وشبيهة بلاقطات اللاسلكي والـهاتف. وفي الوقت نفسه يؤدي بأمر ((كن)) مهمات جليلة ووظائف منتظمة كثيرة، من امثال تشكيل الـحروف في الفم بعد خروجه منه، وتهوية الانفاس واسترواح النفوس، أي بعد ادائه وظيفة تنقية الدم الباعث على الـحياة، واشعال الـحرارة الغريزية التي هي وقود الـحياة، ثم يـخرج الـهواء من الفم ويكون مبعث نطق الـحروف وانطلاقها.. وهكذا تـجري وظائف كثيرة بأمر ((كن فيكون)).

فبناء على خاصية الـهواء هذه، فان الـحروف التي هي موجودات هوائية كلما اكتسبت قداسة، أي اتـخذت اوضاع البث والالتقاط يصبح لـها حظ وافر من تلك الـخاصية.

لذا فلكون حروف القرآن، وهي في حكم العقد، وحروف الـمقطعات في حكم الـمركز لرؤوس تلك الـمناسبات الـخفية، وفي حكم عقدها وازرارها الـحساسة، يكون وجودها الـهوائي مالكاً لـهذه الـخاصية، كما ان وجودها الذهني، بل وجودها النقشي ايضاً، لـهما خاصية من تلك الـخاصية.

أي يـمكن بقراءة تلك الـحروف وبكتابتها كسبَ الشفاء – كالدواء الـمادي – والـحصول على مقاصد اخرى.

سعيد النورسي















((الكلمات الإلـهية))



بِسْمِ اللهِ الرَّحْـمنِ الرَّحيمِ

} قُل لَو كان البحرُ مِداداً لكلمات ربـّي لَنَفد البحرُ قبل ان تَنفَدَ كلماتُ ربـّي ولو جئنا بـمثله مَدداً { (الكهف:109)

ان هذه الآية اللطيفة بـحر واسع رفيع زاخر باللآلىء والدرر، ينبغي لكتابة جواهرها النفسية كتابة مـجلد ضخم، لذا نعلقها الى وقت آخر بـمشيئة الله. ولقد تراءى لي من بعيد شعاع صدر من نكتة من نكاتها الدقيقة، فلفت نظر فكري اليه بعد اذكار الصلاة التي اعدّها افضل وقت لـخطور الـحقائق. الاّ أنني لـم اتـمكن من تسجيل تلك النكتة في حينه، فتباعد ذلك الشعاع كلما مرّ الزمان، فنذكر هنا بضع كلماتٍ لتخط حوله دوائر لاقتناص جلوة منها قبل ان يغيب كلياً ويتوارى عن الانظار.

الكلمة الأولى:

ان الكلام الازلي صفة إلـهية، كالعلم والقدرة، لذا فهو غير مـحدد وغير متناهٍ، والذي لا نهاية له لا ينفد ولو كان البحر مداداً له.

الكلمة الثانية:

ان اظهر شىء للإشعار بوجود شخص ما هو تكلمه، فهو أقوى أثر للدلالة عليه؛ اذ سـماع كلام صادر من شخص ما، يثبت وجوده اثباتاً يفوق الف دليل، بل بدرجة الشهود. لذا فان هذه الآية تقول بـمعناها الاشاري:

لو كان البحر مداداً لعدّ الكلام الإلـهي الدال على وجوده سبحانه وتعالى وكانت الاشجار اقلاماً تكتب ذلك العدد، مانفد كلام الله. بـمعنى أن ما يدل على الأحد الصمد – دلالة الكلام على الـمتكلم – لا يعدّ ولا يـحصى ولا حدّ له، حتى لو كانت البحار مداداً له.

الكلمة الثالثة:

لـما كان القرآن الكريـم يرشد جـميع الطبقات البشرية الى حقائق الإيـمان، يكرر ظاهراً الـحقيقة الواحدة بـمقتضى تقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة وإقناعهم.

لذا فهذه الآية الكريـمة جواب ضمني لأهل العلم وعلماء اليهود من اهل الكتاب في ذلك الوقت، على اعتراضهم الـمجحف الظالـم ظلماً بيـّناً على أُمية الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام وعلى قلة علمه.

فالآية تقول: ان تكرار الـمسائل الـجليلة التي لكل منها قيمة الف مسألة وتتضمن الوفاً من الـحقائق – كما هي في مسائل الاركان الايـمانية – تكراراً معجزاً وبأساليب شتى، وان تكرار حقيقة واحدة وهي تتضمن كثيراً جداً من النتائج من حيث الفوائد الـمتنوعة، لإقرارها في قلوب الناس كافة ولاسيما العوام.. هذا التكرار الذي تقتضيه حكمٌ كثيرة – كالتقرير والاقناع والتحقيق – لايعدّ حصراً للكلام ولا هو نابع من قصور الذهن ولا من قلة البضاعة وقصر الباع، بل لو كانت البحار مداداً، وذوو الشعور كتـّاباً والنباتات اقلاماً، بل حتى الذرات لو كانت رؤوس اقلام وقامت كلها بعدّ كلمات الكلام الإلـهي الازلي، ما نفدت ايضاً، لأن كل ماذكر من امور هي متناهية وكلمات الله غير متناهية، وهي منبع القرآن الكريم الـمتوجه الى عالـم الشهادة من عالـم الغيب مـخاطباً الـجن والانس والـملائكة والروحانيين، فيرنّ في اسماع كل فرد منهم. ولا غرو فهو النازل من خزينة الكلام الإلـهي الذي لا ينفد.

الكلمة الرابعة:

من الـمعلوم ان صدور كلامٍ مـما لا يُتوقع منه الكلام، يـمنح الكلام اهمية ويدفع الى سماعه، ولاسيما الاصداء الشبيهة بالكلام، الصادرة من الاجسام الضخمة كالسحاب وجوّ السماء، فانها تـحمل كل احد على سماعها باهتمام بالغ، وبـخاصة النغمات التي يطلقها جهاز ضخم ضخامة الـجبل فانها تـجلب الاسماع اليها اكثر. ولا سيما الصدى السماوي القرآني الذي يبث – بالراديو – فترن به السموات العلى حتى تسمع هامة الكرة الارضية برمتها. فتصبح ذرات الـهواء بـمثابة لاقطات تلك الـحروف القرآنية ومراكز بثـّها. فتكون الذرات بـمثابة الـمرايا العاكسة للانوار والاذان الصاغية للأصداء، والألسنة الذاكرة لـها، وكأنها نهايات إبر لـجهاز حاك عظيم تـخرج الاصوات.

فالآية تبين رمزاً مدى اهمية الـحروف القرآنية ومدى قيمتها ومزاياها وكونها نابضة بالـحياة، فتقول بـمعناها الاشاري: ان القرآن الكريـم الذي هو كلام الله، حي يتدفق بالـحيوية، رفيع سام الى حدّ لا ينفد عدد الاسماع التي تنصت اليه ولاعدد الكلمات الـمقدسة التي تدخل تلك الاسماع.. لا تنفد تلك الاعداد حتى لو كانت البحار مداداً والـملائكة كتـّاباً لـها والذرات نقاطاً والنباتات والشعور اقلاماً.

نعم، لا تنفد، لان الله سبحانه الذي يُكثر في الـهواء عدد ما لا روح فيه ولا حياة من كلام الانسان الضعيف، الى الـملايين فكيف بعدد كل كلمة من كلام رب السموات والارض الذي لاشريك له والـمتوجه الى جـميع ذوي الشعور في السموات والارضين.

الكلمة الـخامسة: عبارة عن حرفين:

الـحرف الاول: كما أن لصفة الكلام كلمات، كذلك لصفة القدرة كلمات مـجسمة. ولصفة العلم كلمات قَدَرَية حكيمة وهي الـموجودات ولاسيما الأحياء ولاسيما الـمخلوقات الصغيرة، فكل منها كلمة ربانية بـحيث تشير الى الـمتكلم الازلي اشارة اقوى من الكلام. فهذه الآية الكريـمة تومىء الى هذا الـمعنى: ان إحصاء عدد تلك الـمخلوقات لا ينفد حتى لو كانت البحار مداداً له.

الـحرف الثاني: ان جـميع انواع الالـهام الآتي الى الـملائكة والانسان وحتى الى الـحيوانات، نوع من كلام إلـهي. فلاشك ان كلمات هذا الكلام غير متناهية. فان الآية الكريـمة تخبرنا عن مدى كثرة ولا نهائية عدد كلمات الالـهام والامر الإلـهي الذي يستلهمه دوماً مالايعد ولا يـحصى من جنود رب السموات والارض.

والعلم عند الله .. ولا يعلم الغيب إلا الله

((انزال الـحديد))

بِسْمِ الله الرَّحـمن الرَّحيم

} وأنزلـْنا الـحديدَ فيه بأسٌ شَديدٌ وَمَنافعُ للنـّاس { (الـحديد:25)

جواب مهم جداً ومـختصر عن سؤال يـخص هذه الاية الكريـمة، طرحه رجل له اهميته وعلى علم واسع، وألزم به بعض العلماء.

سؤال:

يقال: ان الـحديد يـخرج من الارض ولا ينزل من السماء حتى يقال: ((انزلنا)). فلِمَ لـم يقل القرآن الكريم: ((اخرجنا)) بدلاً عن ((انزلنا)) الذي لا يوافق الواقع ظاهراً؟

الـجواب: ان القرآن الكريم قد قال كلمة ((انزلنا)) لأجل التنبيه الى جهة النعمة العظيمة التي ينطوي عليها الـحديد والتي لـها اهميتها في الـحياة. فالقرآن الكريم لا يلفت الانظار الى مادة الـحديد نفسها ليقول ((اخرجنا)) بل يقول ((انزلنا)) للتنبيه الى النعمة العظيمة التي في الـحديد والى مدى حاجة البشر اليه. وحيث ان جهة النعمة لا تـخرج من الاسفل الى الاعلى بل تأتي من خزينة الرحـمة، وخزينة الرحـمة بلا شك عالية وفي مرتبة رفيعة معنى، فلا بد ان النعمة تنزل من الاعلى الى الاسفل، وان مرتبة البشر الـمحتاج اليها في الاسفل، وان الإنعام هو فوق الـحاجة. ولـهذا فالتعبير الـحق الصائب لورود النعمة من جهة الرحـمة اسعافاً لـحاجة البشر هو: ((انزلنا)) وليس ((اخرجنا)).

ولـما كان الاخراج التدريـجي يتم بيد البشر، فان كلمة ((الاخراج)) لا يُشعر جهة النعمة ولا يـحسسها لانظار الغافلين.

نعم لو كانت مادة الـحديد هي الـمرادة، فالتعبير يكون ((الاخراج)) باعتبار الـمكان الـمادي. ولكن صفات الـحديد، والنعمة التي هي الـمعنى الـمقصود هنا، معنويتان؛ لذا لا يتوجه هذا الـمعنى الى الـمكان الـمادي، بل الى الـمرتبة الـمعنوية.

فالنعمة الآتية من خزينة الرحـمة التي هي احدى تـجليات مراتب سـمو الرحـمن ورفعته غير الـمتناهية تُرسل من اعلى مقام الى اسفل مرتبة بلاشك؛ لذا فالتعبير الـحق لـهذا هو: انزلنا. والقرآن الكريم ينبه البشر بهذا التعبير الى ان الـحديد نعمة إلـهية عظيمة. نعم، ان الـحديد هو منشأ جـميع الصناعات البشرية ومنبع جـميع رقيها ومـحور قوتها، فلاجل تذكير هذه النعمة العظمى يذكر القرآن بكل عظمة وهيبة وفي مقام الامتنان والإنعام قائلاً: } وأنزلـْنا الـحديدَ فيه بأسٌ شَديدٌ وَمَنافعُ للنـّاس { (الـحديد:25) كما يعبـّر عن اعظم معجزة لسيدنا داود عليه السلام بقوله تعالى } وَأَلَنـّاَ لَهُ الْحَدِيدَ { (سبأ:10). اي انه يبين تليين الـحديد معجزة عظيمة ونعمة عظيمة لنبي عظيم.

ثانياً: ان ((الاعلى)) و ((الاسفل)) تعبيران نسبيان، فيكون الاعلى والاسفل بالنسبة الى مركز الكرة الارضية. حتى ان الذي هو اسفل بالنسبة الينا هو الاعلى بالنسبة لقارة امريكا. بـمعنى ان الـمواد الاتية من الـمركز الى سطح الارض تتغير اوضاعها بالنسبة الى من هم على سطح الارض.

فالقرآن الـمعجز البيان يقول بلسان الاعجاز: ان للـحديد منافع كثيرة وفوائد واسعة، بـحيث انه ليس مادة اعتيادية تـخرج من مـخزن الارض التي هي مسكن الانسان، وليس هو معدناً فطرياً يستعمل في الـحاجات كيفما اتفق. بل هو نعمة عظيمة أنزلـها خالق الكون بصفته الـمهيبة ((رب السموات والارض)) انزلـها من خزينة الرحـمة وهيأها في الـمصنع العظيم للكون، ليكون مداراً لـحاجات سكنة الارض. فعبـّر عنه بالانزال قائلاً } وأنزلـْنا الـحديدَ{ لأجل بيان الـمنافع العامة التي ينطوي عليها الـحديد وفوائده الشاملة، كما للـحركة والـحرارة والضياء الآتي من السماء فوائد. تلك التي ترسل من مصنع الكون. فالـحديد لا يـخرج من الـمخازن الضيقة لكرة الارض، بل هو في خزينة الرحـمة التي هي في قصر الكون العظيم ثم ارسل الى الارض ووضع في مـخزنها كيما يـمكن استخراجه من ذلك الـمخزن حسب حاجة العصور تدريـجياً.

فلا يريد القرآن الكريم ان يبين استخراج الـحديد هذا تدريـجياً من هذا الـمخزن الصغير، الارض. بل يريد ان يبين ان تلك النعمة العظمى قد انزلت من الـخزينة الكبرى للكون مع كرة الارض، وذلك لاظهار الـحديد انه هو اكثر ضرورة لـخزينة الارض. بـحيث ان الـخالق الـجليل عندما فصل الارض من الشمس انزل معها الـحديد ليحقق اكثر حاجات البشر ويضمنها. فالقرآن الـحكيم يقول باعجاز، ما معناه: انـجزوا بهذا الـحديد اعمالكم واسعوا للاستفادة منه باخراجه من باطن الارض.

وهذه الآية الـجليلة تبين نوعين من النعم التي هي مـحور لدفع الاعداء وجلب الـمنافع. ولقد شوهد تـحقق منافع الـحديد الـمهمة للبشرية قبل نزول القرآن، إلاّ ان القرآن يبين ان الـحديد سيكون في الـمستقبل في صور تـحيـّر العقول سيراً في البحر والـهواء والارض حتى انه يسخـّر الارض ويظهر قوة خارقة تهدد بالـموت، وذلك بقوله تعالى } فيه بأسٌ شَديدٌ { مظهراً لـمعة اعجاز في إخبار غيبي.

* * *

عندما طرق البحث عن النكتة السابقة انفتح الكلام حول هدهد سليمان. فيسأل احد اخواننا الذي يلح في السؤال(1): ان الهدهد يصف الـخالق الكريم سبحانه بقوله } يُخرِجُ الْخَبَء فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضْ { (النمل:25) فما سبب ذكره في هذا الـمقام الـجليل هذا الوصف الرقيق بالنسبة الى الاوصاف الـجليلة؟.

الـجواب: ان احدى مزايا الكلام البليغ هو ان يُشعر الكلامُ صنعةَ الـمتكلم التي ينشغل بها. فهدهد سليمان الذي يـمثل عريف الطيور والـحيوانات كالبدوي العارف الذي يكشف بالفراسة الشبيهة بالكرامة مواضع الـماء الـخفية في صحراء جزيرة العرب الشحيحة بالـماء، فهو طير ميمون مأمور بايـجاد الـماء ويعمل عمل الـمهندس لدى سيدنا سليمان عليه السلام، فلذلك يُثبت بـمقياس صنعته الدقيقة، كون الله معبوداً ومسجوداً له، باخراجه سبحانه ما خبىء في السماوات والارض، فيعرّف اثباته هذا بصنعته الدقيقة.

ألا ما أحسن رؤية الـهدهد! اذ ليس من مقتضى فطرة ما تـحت التراب من الـمعادن والنوى والبذور التي لا تـحصى، ان تـخرج من الاسفل الاعلى. لأن الاجسام الثقيلة التي لا روح لـها ولا اختيار لا تصعد بنفسها الى الاعلى، وانـما تسقط من الاعلى الى الاسفل. فاخراج جسم مـخفي تـحت التراب، من الاسفل الى الاعلى ونفض التراب الثقيل الـجسيم من على كاهله الـجامد لابد ان يكون بقدرة خارقة لا بذاته. فادرك الـهدهد أخفى براهين كون الله تعالى معبوداً ومسجوداً له وكشفها بعارفيته ووجد أهم تلك البراهين بصنعته، والقرآن الـحكيم منح اعجازاً بالتعبير عنه.





((انزال الأنعام))

بِسْمِ اللهِ الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

} وَأنزلَ لكَم مِن الأنعامِ ثـمانيةَ أزواجٍ يَخْلُقُكُم في بُطونِ اُمـّهاتِكُم خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلقٍ في ظُلُماتٍ ثَلثْ.. { (الزمر:6)

ان هذه الآية الكريـمة تتضمن النكتة نفسها التي بينـّاها في الآية الكريـمة: } وأنزلـْنا الـحديدَ { فهي تؤيدها وتتأيد بها في الوقت نفسه.

نعم، ان القرآن الكريم يقول في سورة الزمر: } وَأنزلَ لكَم مِن الأنعامِ ثـمانيةَ أزواجٍ { ولا يقول: ((وخلق لكم من الانعام ثـمانية ازواج)) وذلك للإفادة بان ثـمانية ازواج من الـحيوانات الـمباركة قد انزلت لكم وارسلت اليكم من خزينة الرحـمة الإلـهية وكأنها مرسلة من الـجنة، لان تلك الـحيوانات الـمباركة نعمة بـجميع جهاتها للبشرية كافة. فمن أشعارها واوبارها يستفيد البدو في حلـّهم وترحالـهم، ومنها تنسج الـملابس، ومن لـحومها تهيأ ألذّ الـمأكولات، ومن ألبانها تستخرج أطيب الاطعمة، ومن جلودها تصنع الاحذية والنعال وغيرها من الـمواد النافعة، حتى ان روثها تكون رزقاً للنباتات ووقوداً للانسان. فكأن تلك الـحيوانات الـمباركة قد تـجسمت واصبحت النعمة بعينها والرحـمة بنفسها. ولـهذا اُطلق عليها اسم ((الأنعام)) مثلما اطلق على الـمطر اسم ((الرحـمة)) فكأن الرحـمة قد تـجسمت مطراً والنعمة تـجسدت في صور شتى من اشكال الـمعزى والضأن والبقر والـجاموس والابل.

وعلى الرغم من ان موادها الـجسمانية تُخلق في الارض، فان صفة النعمة ومعنى الرحـمة قد غلبتا واستحوذتا على مادتها، فعبـّر القرآن عنها بـ ((انزلنا)) الذي يفيد: ان الـخالق قد أنزل هذه الـحيوانات الـمباركة من خزينة الرحـمة مباشرة، أي ان الـخالق الرحيـم قد ارسلها من مرتبة رحـمته الرفيعة، ومن جنته الـمعنوية العالية، هدية الى وجه الارض بلا وساطة.

نعم، تُدرج احياناً صنعةٌ تقدّر بـخمس ليرات في مادة لاتساوي خـمسة قروش، فلا تؤخذ مادة الشىء بنظر الاعتبار، بل تعطى الاهمية للصنعة الـموجودة عليها، كالصنعة الربانية العظيمة الـموجودة في الـجرم الصغير للذباب. واحياناً تكون صنعة زهيدة في مادة ثـمينة، فالـحكم عندئذٍ للـمادة.

على غرار هذا الـمثال: فان مادة جسمانية قد تـحمل من معاني الرحـمة ومعاني النعمة الكثيرة بـحيث تفوق مائة مرة في الاهمية على مادتها. حتى لكأن مادة ذلك الشىء تـختفي وتنزوي امام عظم اهمية النعمة والرحـمة، لذا فالـحكم هنا يتوجه الى حيث النعمة.

وكما تـخفي الـمنافع العظيمة للـحديد وفوائده الكثيرة مادتها الـمادية، فان النعمة الـموجودة في كل جزء من اجزاء هذه الـحيوانات الـمباركة الـمذكورة كأنها قد قلبت مادتها الـجسمانية الى نعمة، فأخذت صفاتها الـمعنوية بنظر الاعتبار دون مادتها الـجسمانية. لذا عُبـّرت عنها في الآية الكريـمة ((وانزل.. وانزلنا)).

نعم، ان عبارة ((وانزل.. وانزلنا)) كما تفيد النكات السابقة من حيث الـحقيقة فانها تفيد ايضاً معنى بلاغياً مهماً إفادة معجزة. وذلك:

ان منح الـحديد خواص مـميزة، كوجودها في كل مكان، وسهولة تليينها كالعجين، نعمة إلـهية، حيث يـمكن الـحصول عليه واستعماله في كل عمل رغم صلابته واختفائه ووجوده في الاعماق فطرة، لذا فان التعبير بـ } وأنزلـْنا الـحديدَ { انـما يبين هذا الـمعنى أي كأن الـحديد نعمة من النعم الفطرية السماوية التي يـمكن الـحصول عليها بيسر، وكأن مادة الـحديد تنزل من مصنع علوي رفيع وتسلـّم بيد الانسان بسهولة.

وكذلك الـحيوانات الضخمة كالبقر والـجاموس والابل وغيرها من الـمخلوقات الـجسيمة، مسخـّرة وذليلة ومطيعة ومنقادة حتى لصبي صغير، اذ تسلم قيادها له وتطيعه. لذا فالتعبير بـ } وَأنزلَ لكَم مِن الأنعامِ{ يفيد ان هذه الـحيوانات الـمباركة ليست حيوانات دنيوية تستوحش منها وتلحق بنا الضرر كالبعوض والـحية والعقرب والذئب والسبع وما شابهها من الضوارى الـمفترسة، بل كأنها حيوانات آتية من جنة معنوية، لـها منافع جليلة، ولا يأتي منها ضرر، بل كأنها تنزل من الاعلى، أي من خزينة الرحـمة.

ولعل الـمقصود من قول بعض الـمفسرين: ان هذه الـحيوانات قد اُنزلت من الـجنة ناشىء من هذا الـمعنى الـمذكور(1).

ان كتابة صحيفة كاملة حول ايضاح ما في حرف واحد من القرآن الكريم من مسائل ونكات لا تعد اطناباً، فليس اذن من الاسراف في شيىء كتابتنا ثلاث صفحات لبيان نكات العبارة القرآنية ((انزلنا)). بل قد يكون احياناً حرف واحد من القرآن الكريم مفتاحاً لـخزينة معنوية عظيمة.

* * *

دستور

ان طلاب النور لا يتحرّون عن نورٍ خارج دائرة رسائل النور، وما ينبغي لـهم. ولو تحرّى أحدٌ منهم فلا يـجد الاّ مصباحاً بدلاً من شـمس معنوية تضىء من نافذة رسائل النور، بل قد يفقد الشمس.

ثم ان ما في دائرة رسائل النور من مشرب الـخلة ومسلك الاخوة، هذا الـمشرب الـخالص والـمسلك القوي الذي يُكسب الفرد الواحد ارواحاً كثيرة ويُظهر سراً من اسرار الاخوة التي ورثها الصحابة الكرام من نور النبوة، هذا الـمشرب لايدع حاجة الى البحث عن الـمرشد الوالد في الـخارج – مع إضرار به بثلاث جهات – بل يوجد له بدلاً من الوالد الـمرشد الواحد، اخواناً كباراً كثيرين. فلاشك ان ما تسبغه اَنواع الشفقة النابعة من قلوب اخوة كبار، يزيل شفقة الوالد الواحد.

نعم، ان الذي اتـخذ لنفسه شيخاً قبل دخوله الدائرة يـمكنه ان يـحافظ على رابطته بشيخه ومرشده ضمن الدائرة ايضاً، ولكن من لـم يكن له شيخ بعد الدخول في الدائرة، ليس له ان يتخذ شيخاً إلاّ ضمن الدائرة.

ثم ان ما في درس رسائل النور للـحقائق من علم الـحقيقة الذي يـمنح فيض الولاية الكبرى النابعة من سر الوراثة النبوية، لا يدع حاجة الى الانتماء الى الطرق الصوفية خارج الدائرة، إلا من فهم الطريقة على غير وجهها وكأنها رؤى جـميلة وخيالات وانوار وأذواق، ويرقب في الـحصول على اذواق الدنيا وهوساتها مـما سوى فضائل الآخرة، ويطلب مقام الـمرجعية كعبدة النفس. ان هذه الدنيا دار حكمة. والأجر والثواب فيها على قدر الـمشقات والتكاليف، وهي ليست دار مكافأة وجزاء. ولـهذا لا يهتم اهل الـحقيقة بالاذواق والانوار التي في الكشف والكرامات، بل قد يفرّون منها يريدون سترها.

ثم ان دائرة رسائل النور دائرة واسعة جداً، وطلابها كثيرون جداً، فلا تعقب الذين يهربون منها، ولا تهتم بهم. وربـما لا تدخلهم ضمن دائرتها مرة اخرى. لأن الانسان يـملك قلباً واحداً والقلب الواحد لا يـمكن أن يكون في داخل الدائرة وخارجها معاً.

ثم ان الراغبين في ارشاد الآخرين مـمن هم خارج دائرة النور، عليهم الاّ ينشغلوا بطلاب النور لأن احتمال خسرانهم بثلاث جهات وارد. فالطلاب الذين هم في دائرة التقوى ليسوا بـحاجة الى الارشاد، علماً ان في الـخارج الكثيرين من تاركي الصلاة، فترك اولئك والانشغال بهؤلاء الـمتقين ليس من الارشاد في شىء. فان كان مـمن يـحب هؤلاء الطلاب فليدخل اولاً ضمن الدائرة، وليكن لـهم أخاً، وان كان ذو مزايا وفضائل فليكن لـهم اخاً كبيراً.

ولقد تبيـّن في هذه الـحادثة ان للانتساب الى رسائل النور اهمية عظيمة وثمناً غالياً جداً، فالراشد الذي بذل هذه التضحيات وجاهد الالـحاد باسم العالـم الإسلامي، لا يترك هذا الـمسلك الذي هو أثـمن من الألـماس ولا يتسطيع ان يدخل مسالك اخرى غيره.



سعيد النورسي
























__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس