الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #18
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة الثانية والعشرون

باسـمه سبحانه

هذه الرسالة الصغيرة التي كتبتها قبل اثنتين وعشرين سنة، وانا نزيل ناحية ((بارلا)) التابعة لولاية اسبارطة، هي رسالة خاصة لأخلص اخوتي واخصـّهم. وقد كتبتها في غاية السرية ومنتهى الكتمان. ولكن لـما كانت ذات علاقة بأهالي ((اسبارطة)) والـمسؤولين فيها، فاني اقدّمها الى واليـّها العادل والى مسؤولي دوائر العدل والامن والانضباط فيها. واذا ما ارتؤي انها تستحق الطبع، فلتُطبع منها نسخ معدودة بالـحروف القديـمة او الـحديثة بآلة الطابعة كي يعرف اولئك الـمترصدون الباحثون عن اسراري منذ اكثر من خـمس وعشرين سنة، أنه لا سرّ لنا في الـخفاء، وان اخفى اسرارنا هو هذه الرسالة.

سعيد النورسي

الاشارات الثلاث

كانت هذه الرسالة الـمسألة الثالثة من الـمذكرة السابعة عشرة للمعة السابعة عشرة، الاّ ان قوة اسئلتها وشمولها وسطوع اجوبتها وسدادها جعلتها اللمعة الثانية والعشرين من المكتوب الـحادي والثلاثين، فدخلت ضمن ((اللمعات)) وامتزجت بها. وعلى ((اللمعات)) ان تفسح لها موضعاً بينها، فهي رسالة سرية خاصة لأخص اخواننا واخلصهم واصدقهم.

بِسم الله الرَّحـمنِ الرَّحيمِ

} وَمَن يَتوكـّل على الله فهو حَسْبُه إن الله بالغُ أمْره قَدْ جَعَل اللهُ لكلّ شيء قدْراً{

(الطلاق:3)

هذه الـمسألة ثلاث اشارات

الاشارة الاولى:

سؤال مهم يـخصـّني بالذات ويـخص رسائل النور. يقول كثيرون:

لِم يتدخل اهل الدنيا بامور آخرتك كلما وجدوا لـهم فرصة، مع أنك لاتتدخل في شؤون دنياهم؟ علماً انه لا يـمسّ قانون اية حكومة كانت شؤون تاركي الدنيا الـمعتزلين الناس!

الـجواب: ان جواب ((سعيد الـجديد)) عن هذا السؤال هو: السكوت؛ اذ يقول: ليُجب عني القدر الإلـهي. ومع هذا يقول بعقل ((سعيد القديـم)) الذي اضطر الى استعارته: ان الذي يـجيب عن هذا السؤال هو حكومة مـحافظة اسبارطة واهالي هذه الـمحافظة؛ لان هؤلاء – الـمسؤولين والناس كافة – اكثر علاقة مني بالـمعنى الذي ينطوي عليه السؤال.

وما دامت حكومة افرادها يربون على الالوف، واهلون يزيدون على مئات الالوف مضطرين الى التفكير والدفاع عوضاً عني، فلِمَ اذاً احاور – دون جدوى – المدّعين دفاعاً عن نفسي؟.

فها أنذا منذ تسع سنوات في هذه الـمحافظة، وكلما مرّ الزمان ادرت ظهري الى دنياهم. ولم تبق لي حال من احوالي مخفية عنهم مستورة عليهم، بل حتى اخص رسائلي واكثرها سرية يتداولها الـمسؤولون في الدولة وهي في متناول عدد من النواب. فلو كان لي شيء من تدخلٍ او مـحاولة ما لتعكير صفو دنياهم والاخلال بها، او حتى التفكير في هذا الامر، لـما آثر الـمسؤولون في هذه الـمحافظة والاقضية السكوت تـجاهي وعدم الاعتراض عليّ على الرغم من مراقبتهم اياي وترصدهم لي وتـجسسهم عليّ طوال تسع سنوات، وعلى الرغم من انني ابوح دون تردد بأسراري الى من يزورني.

فان كان لي عمل مـخل بسعادة الامة وسلامة الوطن ويلـحق الضرر بـمستقبلها، فالـمسؤول عنه جـميع افراد الـحكومة طوال تسع سنوات ابتداءً من الـمحافظ الى اصغر موظف في مـخفر القرية.

فعلى هؤلاء جـميعاً يقع الدفاع عني، وعليهم ان يستصغروا ما استهوله واستعظمه الآخرون، وذلك لينجوا من تبعات الـمسؤولية. ولاجل هذا احيل جواب هذا السؤال اليهم.

أما ما يدفع مواطني هذه الـمحافظة عامة للدفاع عني اكثر من نفسي فهو:

ان هذه تسع سنوات، ومئات الرسائل التي نسعى لنشرها، قد اثبتت تأثيرها في هذا الشعب الاخ الصديق الـمبارك الطيب، واظهرت مفعولـها الفعلي والـمادي في حياته الابدية وفي دعم قوة أيـمانه وسعادة حياته، ومن غير ان تـمسّ احد بسوء او تولد أي اضطراب او قلق كان، اذ لـم يشاهد منها ما يؤمىء الى غرض سياسي ونفع دنيوي مهما كان، حتى ان هذه الـمحافظة، اسبارطة، قد اكتسبت ولله الـحمد بوساطة رسائل النور مقام البركة من حيث قوة الإيـمان والصلابة في الدين، من نوع البركة التي نالتها الشام الطيبة في السابق ومن نوع بركة الـجامع الازهر الذي هو مدرسة العالـم الإسلامي عامة.

فهذه الـمحافظة لـها فضل ومزيـّة على الـمحافظات الاخرى، حيث قد كسبت من رسائل النور التـمسك باذيال الدين، فتهيمن فيها قوة الإيـمان ازاء الاهمال، وتسيطر فيها الرغبة في العبادة تـجاه السفه والغي؛ ولاجل هذا كله فالناس كلهم في هذه الـمحافظة، حتى لوكان فيهم ملحد (فرضاً) مضطرون الى الدفاع عني وعن رسائل النور.

وهكذا لا يسوقني حقي الـجزئي الذي لا اهمية له ضمن حقوق دفاع ذات أهمية الى هذا الـحد، ان ادافع عن نفسي ولا سيما انني قد انهيت خدماتي ولله الـحمد ويسعى لـها الوف من الطلاب عوضاً عن هذا العاجز. فمن كان له وكلاء دعوى ومـحامون يربون على الالوف، لا يدافع عن دعواه بنفسه.

الاشارة الثانية:

جواب عن سؤال يتسم بالنقد.

يقال من جانب اهل الدنيا:

لِمَ استأت منـّا وسكتّ فلا تراجعنا ولو لـمرة واحدة. ثـم تشكو منا شكاية شديدة قائلاً: ((انتم تظلمونني)). فنـحن اصحاب مبدأ، لنا دساتيرنا الـخاصة نسير في ضوئها على وفق ما يتطلبه هذا العصر بينما انت لا تنفذ هذه الدساتير على نفسك وترفضها علماً أن من ينفذ القانون لا يكون ظالـماً، بينما الرافض له يكون عاصياً. ففي عصرنا هذا، عصر الـحرية – مثلاً – وفي عهد الـجمهوريات التي بدأنا به حديثاً يـجري دستور رفع الاكراه والتسلط على الاخرين. اذ الـمساواة قانون اساس لدينا، بينما انت تكسب اقبال الناس نـحوك وتلفت انظارهم اليك تارة بزيّ العلم واخرى بالتزهد، فتحاول تكوين قوةٍ وكسب مقامٍ خارج نطاق نفوذ الدولة.

هكذا يُفهم من ظاهر حالك وهكذا يدلنا مـجرى حياتك السابقة، فهذه الـحالة ربـما تُستصوب في نطاق تـحكـّم البرجوازيين – بالتعبير الـحديث – الاّ ان صحوة طبقة العوام وتغلبها جعلت جميع دساتير الاشتراكية والبلشفية تسيطر وتهيمن، وهي التي تلائم امورنا اكثر من غيرها. فنـحن في الوقت الذي رضينا بدساتير الاشتراكية نشمئز من اوضاعك، اذ هي تـخالف مبادئنا. لذا لا حق لك في الاستياء منا ولا الشكوى من مضايقاتنا لك.

الـجواب: ان من يشق طريقاً في الـحياة الاجتماعية ويؤسس حركة، لايستثمر مساعيه ولن يكون الـنجاح حليفه في امور الـخير والرقي ما لـم تكن الـحركة منسجمة مع القوانين الفطرية التي تـحكم الكون، بل تكون جـميع اعماله في سبيل التـخريب والشر.

فـما دام الانسجام مع قانون الفطرة ضرورياً، فان تنفيذ قانون الـمساواة الـمطلقة لا يـمكن الاّ بتغيير فطرة البشر ورفع الـحكمة الاساسية في خلق النوع البشري.

نعم! انني من حيث النسب ونـمط معيشة الـحياة من طبقة العوام، ومن الراضين بالـمساواة في الـحقوق فكراً ومشرباً، ومن العاملين على رفض سيطرة طبقة الـخواص. الـمسلمين بالبرجوازيين واستبدادهم منذ السابق وذلك بـمقتضى الرحـمة وبـموجب العدالة الناشئة من الاسلام.

لذا فانا بكل ما اوتيت من قوة بـجانب مع العدالة التامة، وضد الظلم والسيطرة والتحكم والاستبداد.

بيد ان فطرة النوع البشري وحكمة خلقه تـخالفان قانون الـمساواة الـمطلقة، اذ الفاطر الـحكيم سبحانه كما يستحصل من شيء قليل مـحاصيل كثيرة، ويكتب في صحيفة واحدة كتباً كثيرة، ويُجرى بشيء واحد وظائف جـمة، كذلك يُنجز بنوع البشر وظائف الوف الانواع، وذلك اظهاراً لقدرته الكاملة وخكمته التامة.

فلاجل تلك الـحكمة العظيمة، خلق سبحانه الانسان على فطرة جامعة، لها من القدرة ما يثمر الوف سنابل الانواع، وما يعطى طبقات كثيرة بعدد انواع سائر الـحيوانات؛ اذ لـم يحدِّد سبحانه قوى الانسان ولطائفه ومشاعره كما هو الـحال في الـحيوانات، بل اطلقها واهباً له استعداداً يتمكن به من السياحة والـجولان ضمن مقامات لاتـحد، فهو في حكم الوف الانواع، وان كان نوعاً واحداً.

ومن هنا اصبح الانسان في حكم خليفة الارض.. ونتيجة الكون.. وسلطان الاحياء.. وهكذا فان اجلّ خـميرة لتنوع النوع البشري واهم نابض مـحرك له هو التسابق لإحراز الفضيلة الـمتسمة بالإيـمان الـحقيقي . فلا يـمكن رفع الفضيلة الاّ بتبديل الـماهية البشرية واخماد العقل وقتل القلب وافناء الروح.

((لا يـمكن بالظلم والـجور مـحو الـحرية

ارفع الادراك ان كنت مقتدراً من الانسانية!))

هذا الكلام الرصين اُثير خطأً في وجه رجل ذي شأن ما كان يليق به مثل هذه الصفعة، بل جدير بهذا الكلام أن يصفع به الوجه الغدار لهذا العصر الـحامل لاستبداد رهيب يتستر بهذه الـحرية.

فانا اقول بدلاً من هذا الكلام:

لا يـمكن بالظلم والـجور مـحو الـحقيقة

إرفع القلب ان كنت مقتدراً من الانسانية!

او اقول:

لا يـمكن بالظلم والـجور مـحو الفضيلة

إرفع الوجدان ان كنت مقتدراً من الانسانية!

نعم! ان الفضيلة الـمتسمة بالإيـمان، كما لا تكون وسيلة للاكراه، لا تكون سبباً للاستبداد قطعاً. اذ الاكراه والقسر والتسلط على الآخرين، رذيلة ليس الاّ، بل ان اهم مشرب لدى اهل الفضيلة هو الاندماج في الـمجتمع بالعجز والفقر والتواضع. ولقد مضت حياتنا ولله الـحمد وما زالت كذلك تـمضي على وفق هذا الـمشرب. فانا لا أدعي متفاخراً انني صاحب فضيلة، ولكن اقول تـحدثاً بنعمة الله عليّ وبنية الشكر له سبحانه: قد احسن اليّ جلّ وعلا بفضله وكرمه فوفقني الى العمل للعلوم الإيـمانية والقرآنية وادراكها وفهمها. فتصرفت طوال حياتي – لله الـحمد – هذا الاحسان الإلـهي بتوفيق منه تعالى، في مصالح هذه الامة الـمسلمة وبذلته في سبيل سعادتها، ولـم يك في أي وقت كان وسيلة للاكراه والتسلط على الآخرين. كما انني – بناء على سرّ مهم – أنفر من اقبال الناس وجلب استحسانهم الـمرغوبتين لدى اهل الغفلة؛ اذ قد ضيـّعا عليّ عشرين سنة من عمري السابق، فلهذا اعدّهما مضَّرين لي. الاّ انني اراهمـا أمارة على اقبال الناس على رسائل النور فلا أُسخطهم.

فيا اهل الدنيا!

في الوقت الذي لا اتدخل في دنياكم قط؛ ولا علاقة لي بأية جهة كانت بـمبادئكم. ولست عازماً على التدخل مـجدداً بالدنيا، بل ولا لي رغبة فيها اصلاً كما تشهد بذلك حياتي، هذه التي قضيتها اسير الـمنفى طوال تسع سنوات. فلماذا تنظرون اليّ وكأنني متجبـّر سابق، يضمر التسلط على الآخرين ويتحين الفرص لذلك. بأي قانون يُجرى وعلى اية مصلحة يُبنى هذا الـمدى من الترصد والـمراقبة والعنت؟

فلا توجد في العالم كله، حكومة تعمل فوق القانون، وتسمح بهذه الـمعاملة القاسية التي اعامل بها والتي لا يرضى بها فرد مهما كان.

فهذه الـمعاملات السيئة التي تعاملونني بها لا تولد سخطي وحده، بل سخط نوع الانسان – إن ادرك – بل سخط الكائنات.





الاشارة الثالثة:

سؤال يرد على وجه البلاهة والـجنون وينطوي على مغالطة.

يقول قسم من افراد الدولة واهل الـحكم:

مادمت قائماً في هذه البلاد، فعليك الانقياد لقوانين الـجمهورية الصادرة فيها، فلماذا تنجي نفسك من تلك القوانين تـحت ستار العزلة عن الناس.؟

فمثلاً: ان من يـجري نفوذه على الآخرين خارج وظيفة الدولة متقلداً فضيلة ومزية لنفسه ينافي قانون الـحكومة الـحاضرة ودستور الـجمهورية الـمبني على اساس الـمساواة. فلماذا تتقلد صفة من يريد جلب الاعجاب بنفسه وكأن على الناس الانقياد له وطاعته. وتـجعلهم يقبـّلون يدك مع أنك لا وظيفة لك في الدولة؟

الـجواب: ان على منفـّذي القانون تنفيذه على انفسهم اولاً ثـم يـمكنهم اجراؤه على الاخرين. فاجراء دستور على الآخرين دون انفسكم يعني مناقضتكم لدستوركم وقانونكم قبل كل احد لانكم تطلبون اجراء قانون الـمساواة الـمطلقة هذا عليّ بينما لم تطبقوه انتم على انفسكم.

وانا أقول: متى ما صعد جندي اعتيادي الى مقام الـمشير الاجتماعي، وشارك الـمشير فيما يوليه الناس من احترام واجلال، ونال مثله ذلك الاقبال والاحترام.. او متى ما صار الـمشير جندياً اعتيادياً وتقلد احواله الـخامدة، وفقد اهميته كلها خارج وظيفته.. وايضاً متى ما تساوى رئيس ذكي لاركان الـجيش قادهم الى النصر مع جندي بليد في اقبال الناس عامة والاحترام والـمحبة له، فلكم ان تقولوا حينذاك، حسب قانونكم، قانون الـمساواة: لا تسم نفسك عالـماً. ارفض احترام الناس لك، انكر فضيلتك، إخدم خادمك ، رافق الـمتسولين.

فان قلتم: ان هذا الاحترام والـمقام والاقبال الذي يوليه الناس، انـما هو خاص بالـموظفين واثناء مزاولتهم مهنتهم، بينما انت انسان لا وظيفة لك، فليس لك ان تقبل احترام الامة كالـموظفين.

فالـجواب: لو اصبح الانسان مـجرد جسد فقط.. وظل في الدنيا خالداً مـخلداً.. واُغلق باب القبر.. وقُتل الـموت.. فانـحصرت الوظائف في العسكرية والـموظفين الاداريين.. فكلامكم اذاً يعني شيئاً. ولكن لـما كان الانسان ليس مـجرد جسد، ولا يُجرد من القلب واللسان والعقل ليعطى غذاءً للجسد، فلا يـمكن افناء تلك الـجوارح. فكل منها يطلب التغذية والعناية. ولـما كان باب القبر لا يغلق، بل ان اجلّ مسألة لدى كل فرد هو قلقه على ما وراء القبر. لذا لا تنحصر الوظائف التي تستند الى احترام الناس وطاعتهم في وظائف اجتماعية وسياسية وعسكرية تـخص حياة الامة الدنيوية. اذ كما ان تزويد الـمسافرين بتذاكر سفر وجواز مرور وظيفة، فان منح وثيقة سفر للـمسافرين الى ديار الابد ومناولتهم نوراً لتبديد ظلمات الطريق وظيفة جليلة، بـحيث لا ترقى اية وظيفة اخرى الى اهميتها. فانكار وظيفة جليلة كهذه لا يـمكن الاّ بانكار الـموت، وبتكذيب شهادة ثلاثين الف جنازة يومياً تُصدق دعوى: أن الـموت حق.

فـما دامت هناك وظائف معنوية تستند الى حاجات ضرورية معنوية، وان اهم تلك الوظائف هي الإيـمان وتقويته والارشاد اليه، اذ هو جواز سفر في طريق الابدية ومصباح القلب في ظلمات البرزخ ومفتاح دار السعادة الابدية. فلاشك ان الذي يؤدي تلك الوظيفة، وظيفة الإيـمان، من اهل الـمعرفة لا يبخس قيمة النعمة التي انعم الله عليه كفراناً بها، ولا يهوّن من فضيلة الإيـمان التي منحها الله اياه، ولا يتردى الى درك السفهاء والفسقة، ولا يلوث نفسه بسفاهة السافلين وبدعهم. فالانزواء واعتزال الناس الذي لا يروق لكم وحسبتموه مـخالفاً للـمساواة انـما هو لاجل هذا.

ومع هذه الـحقيقة، فلا اخاطب – بكلامي هذا – اولئك الذين يذيقونني العنت بتعذيبهم اياي، من امثالكم الـمتكبرين الـمغترين بنفوسهم كثيراً حتى بلغوا الفرعونية في نقض هذا القانون، قانون الـمساواة. اذ ينبغي عدم التواضع امام الـمتكبرين لـما يُظن تذللاً لـهم.. وانـما اخاطب الـمنصفين الـمتواضعين العادلين من اهل الـحكم فاقول:

انني ولله الـحمد على معرفة بقصوري وعجزي، فلا ادّعى مستعلياً على احد من الناس مقاماً للاحترام فضلاً عن ان ادّعيه على الـمسلمين! بل ابصر بفضل الله تقصيراتي التي لاتـحد، واعلم يقيناً اني لست على شيء يُذكر، فأجد السلوان والعزاء في الاستغفار ورجاء الدعاء من الناس، لا التماس الاحترام منهم. واعتقد ان سلوكي هذا معروف لدى اصدقائي كلهم. الا ان هناك امراً وهو انني، اتقلد مؤقتاً وضعاً عزيزاً يتطلبه مقام عزة العلم ووقاره، وذلك اثناء القيام بـخدمة القرآن ودرس حقائق الإيـمان، اتقلده موقتاً في سبيل تلك الـحقائق وشرف القرآن ولأجل الاّ أحني رأسي لأهل الضلالة. اعتقد أنه ليس في طوق قوانين أهل الدنيا معارضة هذه النقاط.

معاملة تـجلب الـحيرة:

ان اهل العلم والـمعرفة في كل مكان – كما هو معلوم – يزنون الامور بـميزان العلم والـمعرفة. فاينما وجدوا معرفة وفي أي شخص تلمسوا علماً يولون له الاحترام ويعقدون معه الصداقة باعتبار مسلك العلم. بل حتى لو قدم عالم – بروفسور – لدولة عدوة لنا، الى هذه البلاد، لزاره اهل الـمعرفة واصحاب العلوم، وقدروه واحترموه لعلمه ومعرفته.

والـحال أنه عندما طلب اعلى مـجلس علمي كَنَسي انكليزي من الـمشيخة الإسلامية الاجابة عن ستة اسئلة عهدت الى الـمشيخة، بستمائة كلمة، قام احد اهل العلم – الذي تلقى عدم الاحترام من اهل هذه البلاد – بالاجابة عن تلك الاسئلة بست كلمات حتى نالت اجابته التقدير والاعجاب.

وهو الذي قاوم بالعلم الـحقيقي والـمعرفة الصائبة اهم دساتير الاجانب واسس حكمائهم وتغلب عليهم.

وهو الذي تـحدى فلاسفة اوروبا استناداً الى ما استلهمه من القرآن الكريـم من قوة الـمعرفة والعلم.

وهو الذي دعا العلماء واهل الـمدارس الـحديثة في استانبول – قبل اعلان الـحرية بستة شهور – الى الـمناظرة والـمناقشة، والاجابة عن اسئلتهم دون ان يسأل احداً شيئاً. فاجاب عن جـميع استفساراتهم اجابة شافية صائبة(1).

وهو الذي وقف حياته لإسعاد هذه الامة. فنشر مئات الرسائل بلغتها، اللغة التركية، ونورّهم بها.

هذا الذي قام بهذه الاعمال، وهو ابن هذا الوطن، والصديق لأهله، والاخ في الدين، قابله قسم من الـمنسوبين الى العلم والـمعرفة مع عدد من علماء الدين الرسـميين بالاضطهاد واضمار العداء نـحوه، بل اهين.

فتعال، وتأمل هذه الـحالة! ماذا تسميها؟

أهي مدنية وحضارة؟ أم هي مـحبة للعلم والـمعرفة؟ أم هي وطنية؟ أم هي قومية؟ أم هي دعوة الى التمسك باهداف الـجمهورية؟..

حاش لله وكلا لاشيء من هذا قط!

بل هي قدر إلـهي عادل أظهر من اهل العلم العداء لذلك الشخص فيما كان يتوقع الصداقة منهم لكيلا يدخل في علمه الرياء بسبب توقع الاحترام، وليفوز بالاخلاص.



الـخاتـمة

اعتداء محيـّر لي يوجب الشكران!

ان اهل الدنيا الـمتكبرين الـمغرورين غروراً فوق الـمعتاد، لهم حساسية شديدة في معرفة الانانية والغرور، بـحيث لو كانت تلك الـمعاملة بشعور منهم لكانت تعدّ كرامة او دهاء عظيماً. وهي كالآتي:

ان ما لا تشعر به نفسي وعقلي من حالة غرور جزئية متلبسة بالرياء، كأنهم يشعرون بها بـميزان غرورهم وتكبرهم الـحساس فيجابهون غروري الذي لا اشعر به.

ففي غضون هذه السنين التسع تقريباً لي ما يقارب التسع من الـتجارب، حتى انني عقب معاملتهم الـجائرة نـحوي، كنت افكر في القدر الإلـهي واقول: لـماذا سلـّط القدر الإلـهي هؤلاء عليّ؟ فاتـحرى بهذا السؤال عن دسائس نفسي.

ففي كل مرة، كنت افهم، إما انها مالت فطرياً الى الغرور والتكبر من غير شعور مني. او انها غرّتني على علم.

فكنت اقول حينذاك: ان القدر الإلـهي قد عدل في حقي من خلال ظلم اولئك الظالـمين. فمنها:

في هذا الصيف، اركبني اصدقائي حصاناً جميلاً، فذهبت به الى متنزه، وما ان تنبهت رغبة في نفسي نـحو اذواق دنيوية مشوبة بالغرور من غير شعور مني حتى تعـّرض اهل الدنيا لتلك الرغبة بشدة بـحيث قطعوا دابرها بل دابر كثير من رغبات اخرى في النفس.

وفي هذه الـمرة، بعد شهر رمضان الـمبارك وفي جو من اخلاص الاخوة الكرام وتقواهم واحترام الزائرين وحسن ظنهم، عقب الالتفات الذي اولاه إمام عظيم سامٍ من السابقين نـحونا بكرامة غيبية، رغبت نفسي في ان تتقلد – دون شعور مني – حالة غرور مـمزوج بالرياء، فأبدت رغبَتها مفتخرة تـحت ستار الشكر، وفي هذه الاثناء تعّرض ليَ فجأة اهل الدنيا بـحساسية شديدة، حتى كأنها تتحسس ذرات الرياء.

فالى الـمولى القدير ابتهل شاكراً لأنعمه، إذ اصبح ظلم هؤلاء وسيلة للاخلاص.

} وقُل ربِ أعوذُ بكَ من هَمزاتِ الشياطين ` وأعوذُ بك ربِ أن يحضُرون { (المؤمنون:97-98).

اللهم يا حافظ يا حفيظ يا خير الـحافظين، احفظني واحفظ رفقائي من شر النفس والشيطان ومن شر الـجن والانسان ومن شر اهل الضلالة واهل الطغيان. آمين.. آمين.. آمين.







} سُبحَانَكَ لاعِلمَ لنا إلاّ ما عَلمْتَنا إنك أنتَ العَليمُ الحَكيمُ{

(البقرة:32 )
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس