عرض مشاركة واحدة
قديم 03-04-2014
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: رحلتي إلى القدس

رحلتي إلى القدس (3): عظمة الأقصى
4 Mar

أي شخص يزور مكة للمرة الأولى لن ينسى مطلقًا نظرته الأولى إلى الكعبة. فبغض النظر عن عدد المرات التي ستزورها بعد ذلك؛ سيظل دائمًا هناك تعلق خاص بهذه اللحظة الأولى، وبجميع اللحظات الأولى التي تشهدها هناك فيما بعد. بداية من الصلاة الأولى لك هناك، والمرة الأولى التي تدمع فيها عينيك من خشية الله، ومرورًا بالمرة الأولى التي تدخل فيها المدينة المنورة وترى القبة الخضراء للنبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، وصولًا إلى المرة الأولى التي تقف فيها أمام رسول الله لتلقي عليه السلام من القلب. فصفاء اللحظات الأولى هي بمثابة تجربة روحية على أعلى مستوى، وغالبًا تتميز بها اللحظة التي تقود فيها النشوة الروحية إلى مسئولية روحية وجهاد روحي. يقول الإمام الحداد – قدس الله سره – في إحدى قصائده من ديوانه “أطلتم بعادي بعد قرب ألفته فعد يا زمان الوصل قبل فنائي”. نشتاق جميعًا إلى تلك الساعات التي تأنس فيها أرواحنا بالقرب من الحضرة الإلهية، ولم يكون رق اتباع المحرمات وشهوات أنفسنا الضعيفة مسيطرا علينا …. نشتاق إلى جمال تلك اللحظة الأولى “ألست بركم”. كانت النظرة الأولى إلى قبة الصخرة وإلى المسجد القِبلي والصلاة الأولى والتجول في الحرم الشريف تحمل صفاء تلك اللحظات الأولى. كان ذلك ارتقاءً للروح وأخرجنا من الوضع السياسي المحيط بالحرم القدسي.

دخلنا المسجد القِبلي أولًا ثم صلينا ركعتين. كان جمال المسجد الداخلي مبهرًا. فالتاريخ الذي ينطوي عليه هذا المكان المقدس يبدو جماله وجميع جدرانه وأعمدته مفعمين بالحياة كما لو كانوا قادرين على حكاية القصة. يوجد في المقدمة المنبر والمحراب. وما زال يوجد في المحراب لوحة ثبتها صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – منذ أن فتح القدس عام 1187. على يسارها تجد نموذجًا من المنبر الذي بناه ووضعه هناك والذي حُفظ على مدار 800 عام حتى عام 1969 عندما اقتحم مسيحي استرالي المسجد وأضرم فيه النيران لأنه كان يريد مساعدة اليهود في إعادة بناء معبدهم وبذلك يعجلوا بمجيء المسيح. ويرجع الفضل كله في ترميمه إلى الملك عبد الله ملك الأردن. وبعد أن أخذنا جولة قصيرة في ساحة المصلى الرئيسي للمسجد القبلي، انتقلنا نحو قبة الصخرة لاقتراب آذان صلاة العصر. قادنا أحد الحراس إلى الطابق السفلي حيث ساحة الصلاة تحت المسجد القِبلي. لم نكن نعرف الكثير عن التاريخ الذي غمر هذا المكان.

كان التجول في ساحة المصلى الموجودة تحت الأرض شيء خيالي. فالجدران تحمل طابعًا فريدًا وبراقًا. يمكنك قضاء الكثير من الوقت، فقط لتتأمل وتعيد التفكير في التاريخ الذي مر به هذا المسجد المبارك. قادنا المرشد إلى أقصى نهاية ساحة المصلى (في اتجاه القبلة) حيث نزلنا عدة درجات فوجدنا مكتبة ومنطقة للصلاة يحيطها أعمدة حجرية ضخمة وسميكة ويبدو واضحًا أن عمرها بلغ مئات السنين. في الوقت الذي شاهدناها عن قرب وأُخبرنا بأنها الأساس الأول للمكان توجهنا بلطف إلى مدخل المكتبة الختنية. تم إنشاء هذه المكتبة بواسطة صلاح الدين الأيوبي وظلت تستخدم منذ ذلك الحين. لن تلاحظ المكتبة إلا عندما يشير لك أحد إليها، حيث أن مدخل المكتبة كان باب مسجد القِبلي المعروف بباب النبي صلى الله عليه وسلم. إن الباب ضخم ومهيب ويعتقد الكثير من الناس أنه الباب الذي دخل منه الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – إلى هذا المسجد عندما أُسرى به إلى الأقصى في رحلة الإسراء و المعراج. كما يعتقد أنه الباب الذي دخل منه الخليفة عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي أيضًا. أثناء إخبارنا بذلك كانت نظراتنا مثبتة بقوة على رصد تفاصيل الباب المعقدة، كنت حينها مبتهجًا للغاية لمجرد الوقوف في المكان الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن مجرد سير بسيط أو عشوائي، إنما كانت الليلة التي أكرمه فيها ربه بالدرجات العلى ومنًّ عليه بمنزلة كريمة “فكان قاب قوسين أو أدنى” (سورة النجم). وفي طريقه إلى لقاء حبيبه، عندما لم يُكذب فؤاده ما رأى من وجه الله الكريم، مر عليه أفضل الصلاة والسلام من هذا الباب. فصليت على الفور في أقرب بقعة كان يمكن العثور عليها وتمنيت من قلبي أن أصلي في البقعة التي قد يكون وقف أو صلى أو جلس أو حتى سار فيها. حينها كان من الممكن أن أغادر القدس في هذه اللحظة بدون أي ندم.

اتجهنا مرة أخرى في اتجاه مسجد قبة الصخرة للصلاة هناك قبل آذان صلاة العصر. تزين قبة الصخرة جميع صور القدس التي عرفناها في أي وقت. ويعتبرها الكثير من الناس رمز القدس. فجمالها يصعب تفسيره، في تقديري، ليس السبب وراء ذلك هو تعقيد تفاصيل تصميمها ولكن الحقيقة أن من هنا عرج النبي الحبيب – صلى الله عليه وسلم – إلى السماء. أُخبر أن يصعد من الجانب الأيمن من الصخرة. بنى العثمانيون قبة صغيرة خارج مسجد قبة الصخرة وأطلقوا عليها اسم قبة المعراج، القبة التي صعد منها لأنهم يعتقدون أن هذا هو المكان الذي حدث عنده المعراج.

عند دخولنا مسجد قبة الصخرة سرحت بعقلي في تذكر حادثة المعراج. ليس فقط في سرد الحادثة التي نقرأها في كتب السيرة ولكن في التجربة الفعلية. كيف كانت هذه البقعة مباركة للدرجة التي اختارها الله من بين جميع الأماكن على الأرض ليعرج منها حبيبه؟ كيف كانت حينها، لتشهد الحدث وتخوض التجربة وتشارك في هذه اللحظة؟ بالطبع شعرت كما لو كنَّا متواجدين هناك ومشاركين في هذه اللحظة، لأن القبة تفيض ببركة هذه اللحظة، حتى الآن، بعد مرور 1433 عام. بينما تسير داخل مسجد قبة الصخرة أول ما يلفت انتباهك هو الطراز المعماري. وإن وصفته بالجمال فهذا أمر غير عادل! حيث يظهر إحكام صنع كل جزء داخل القبة من خلال تصميمات الزخارف وانتقاء استخدام الألوان الذي يعزز من التجربة الجمالية للمُشاهِد. ويعد التصميم الداخلي للمسجد فريدًا من نوعه، نظرًا لبنائه حول الصخرة التي تعتبر ضخمة للغاية. لم أتخيل أبدًا أنها كبيرة لهذه الدرجة، وعلى الرغم من أن الصخرة كانت مطوقة بسبب التجديدات التي كانت تحدث هناك، فمازال باستطاعتنا مشاهدة جزء منها. قال النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – أنها صخرة من الجنة. إن الله يُكرم مَن يشاء وما يشاء، وبكرمه يصبح الناس و الأشياء مبجلين. فلولا ذلك، لكانت هذه الصخرة مثل أي صخرة أخرى، تمامًا مثل ما حدث مع الحجر الأسود في الكعبة.

فهو حجر أيضًا من الجنة و لكن لولا معرفتنا بالشرف الذي ناله، لاعتبرناه مثل أي حجر آخر.

كان الخليفة عمر هناك ذات مرة عند الحجر الأسود فقبَّله وقال “إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك”.

قبل الرحلة، طُلب مني العثور على منطقة الصلاة تحت الصخرة لأنه يُعتقد أن النبي عليه السلام صلى هناك. وعلمت أيضًا أن هذا هو المكان الذي جلس فيه الإمام الغزالي- رحمة الله عليه – وألف بعض من كتاب إحياء علوم الدين. بينما تتجول حول الصخرة من المدخل الغربي الرئيسي، تجد سلم يقود إلى الأسفل أسفل الحجر المقابل للمحراب الذي يستخدمه الإمام حاليًا ليؤم الصلاة. يوجد بالأسفل مساحة صغيرة، أشبه بالكهف، حيث يأتي الناس ويؤدون صلاتهم. نزلنا السلم وصلينا على الجانب الأيمن وجلسنا بعدها هناك لنستخلص بركة هذا المكان. لم أشعر من قبل مطلقًا بالقرب من تراثنا مثلما شعرت هنا ولن يشعر الإنسان أبدًا بالبعد عن وجود النبي – صلى الله عليه وسلم – في مسجد قبة الصخرة. أن تتواجد هنا لتجلس وتفكر وتتأمل وتستوعب وتحن، كل ذلك جعلني أدرك الحجم الحقيقي للدمار الذي لحق بتقليدنا وتراثنا في الحرمين المقدسين مكة والمدينة. أخبرني أحد أساتذتي أنه يسهل على جميع المؤمنين الشعور بجمال الأقصى و بركته؛ لأنه تم الحفاظ عليه مع إجراء تغييرات قليلة وضرورية عبر التاريخ، بينما في مكة والمدينة تم إجراء تغيرات جذرية، والمتاجرة بها، فمُحي تاريخها، فبات الشعور بأضوائه أصعب. شعرت ببالغ الأسف على ذلك ومازال يؤلمني حتى اليوم أن الكثير من تاريخنا في الحجاز قد دمر بسهولة. ماذا سيبقى للأجيال القادمة لتلمسه وتشعر به وتشمه وتتذكر به الماضي الذي مازال باقيًا ولن تنطفئ أضوائه مطلقًا؟

انقضى آذان العصر وأدينا أول فرض لنا في الأقصى. بعد ذلك أخذنا جولة على الأرض لنشعر بوجودنا هناك وحاولنا التعرف بأنفسنا على تاريخ الأقصى. في المنشور التالي سأروي بالتفصيل زيارتنا لبعض الأماكن في الحرم الشريف التي تحمل أهمية خاصة.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس