عرض مشاركة واحدة
قديم 03-04-2014
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: رحلتي إلى القدس

رحلتي إلى القدس (4): كنوز الحرم الشريف
4 Mar

طوال الأيام المتبقية لنا في القدس، سعينا في البحث عن التفاصيل الدقيقة الخاصة بالحرم الشريف بعد زيارتنا للمسجد القِبلي ومسجد قبة الصخرة. لقد كانت مفاجأة سارة ومبهرة ما يحمله الثراء التاريخي لهذا الحرم المقدس. لن يكون أو بإمكانك أن تدع حجرًا جدارًا أو قبة أو عمودًا أو شجرة دون أن تلمس فيه رواية تاريخية متعلقة به. أقام العثمانيون العديد من المنشآت (وحتى بقايا هذه المنشآت) والأركان المنتشرة حول الحرم أو جددوها أو حفظوها – جزاهم الله خيرًا لجميل صنيعهم في حفظ هذا التاريخ القائم إلى اليوم. وبينما نحن نتجول حول الحرم، شاهدت ما قدمه العثمانيون من إنجازات ولا يسعني سوى أن أفكر في مدى بقاء الأعمال الجيدة وتأثيرها في الأجيال المقبلة. بعد ما يقرب من 100 عام على سقوط ملكهم، ومئات أخرى تمر على إسهاماتهم في الحرم الشريف، يتجول بريطاني مسلم وعائلته داخل أروقة المسجد الأقصى وتتغذى أفئدتهم وعقولهم بتفاعلهم مع مثل هذا التاريخ الحي. ماذا لو لم يكونوا على هذا القدر من الاهتمام وتركوا الحرم دون تعمير ولم يشغلهم أمر توثيق دلالة وتاريخ العديد من المنشآت والأركان الخاصة بالحرم، وكيف يمكن لأطفال القدس والمسلمين بصفة عامة، إدراك أهمية الأقصى والتمتع بالاتصال الروحي به؟ لا أقوى على الرد لكن ينتابني شعور بالألم خلال قيامي بهذه الزيارات إذا راودتني فكرة تدمير تاريخ الأمة في الحرمين الشريفين في مكة والمدينة المنورة. في أحايين كثيرة جلسنا فيها سواء في المسجد القِبلي أو مسجد قبة الصخرة، كان ينتابني شعورًا عميقًا بالأسف والندم على كل شيء فقدناه في الحجاز. إن الحفاظ على المواقع والآثار التاريخية يُعد سبيلاً قويًا لاستحضار شعورًا عميقًا بالهوية الروحية للمسلمين، بالإضافة إلى أنه يربط الأفراد بماض لا يبدو بعيدًا جدًا. إن طمس ذلك التاريخ يجعل أطفالنا عرضة لخطر وجود هذا الفراغ المليء بأشياء سطحية وعابرة تهدد عقيدتهم والحفاظ على وجود الله محورًا لإيمانهم. هذه كانت تجربتنا في القدس، والله وحده أسأل أن يمن علينا بتذوق قيم عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أحلامنا وميعادنا في اليوم الآخر.

وكان أحد أهم المواقع التي زرناها في الحرم الشريف بعد صرحي الصلاة، مُصلى البراق. الذي يقع إلى الغرب من مدخل المسجد القِبلي بجوار بوابة المغربي (باب المغاربة) وهو مفتوح فقط في الصباح. حيث هبطنا منحدر حاد مكون من مجموعة من الدرجات لنصل إلى مساحة صغيرة تُؤدى فيها الصلاة. هنا حيث دخل الرسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحرم الشريف وربط البراق. وصلى ركعتين ثم انتقل بعد ذلك في اتجاه المسجد الرئيسي إلى أقصى زاوية في جنوب الحرم. حائط المبكى، أحد مواقع اليهود المقدسة، ويقع مباشرةً على الجانب الآخر للمُصلى. إن الصلاة داخل المُصلى تُعد أمرًا استثنائيًا لارتباطها الوثيق بالنبي صلى الله عليه وسلم. إنها تملئ القلب بالغبطة والشوق والرغبة في أن نكون في صحبته والحزن على فوات فرصة أن نكون من بين صحابته. نسأل الله صحبته في الآخرة.

في نهاية الشمال الشرقي للحرم الشريف تقع بوابة تُسمى باب الذهبي. كانت مفتوحة في الأيام الأولى لكنها أُغلقت بأمر من صلاح الدين الأيوبي بعد تحريره للقدس ولا تزال مغلقة حتى اليوم. تقع هذه البوابة في محيط الحرم الشريف وهي تمثل أهمية خاصة لجميع الديانات الإبراهيمية الثلاث – فتُمثل للمسلمين مدخلاً للمسجد الأقصى، ويعتقد المسيحيون أن عيسى عليه السلام قد مر من خلالها عند دخوله القدس ويؤمن اليهود أن المسيح سوف يدخل من خلالها. يحتوى سقف البوابة على قبتين مميزتين. وأحد هاتين القبتين كان المكان الذي اعتاد الإمام الغزالي المكوث فيها والتدريس والانشغال بسعيه للمعرفة وهي معروفة على نطاق واسع بين سكان القدس الأصليين الذين يترددون على الأقصى. وفي الحقيقة، هم يطلقون عليها قبة الغزالي. لقد شرفنا بالذهاب إليها ورؤيتها ومشاهدة المكان الذي كان شاهدًا على التبحر في العلم وتألق هذا الإمام الجليل وقرأنا الفاتحة على روحه.

يمتد الجانب الخارجي من البوابة الذهبية إلى مقبرة شهداء الأقصى، باب الرحمة، ذلك المكان الرائع المليء بمقابر صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والقديسين والعلماء والشهداء. وقد دُفن اثنين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان وهما شداد بن أوس وعبادة بن الصامت، تغمدهما الله بواسع رحمته. تعود أصول شداد بن أوس إلى المدينة المنورة، وكثيرًا ما كان يزور القدس ويمكث فيها. وكان من بين رواة الحديث النبوي وقيل عنه أنه “إن شداد من الذين أنعم الله عليهم بالعلم والحلم”. لقى ربه في مدينة القدس سنة 85 من الهجرة عن عمر يناهز 75 عامًا. وتعود أصول عبادة بن الصامت أيضًا إلى المدينة المنورة، حيث شهد العديد من الغزوات أثناء عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان حاضرًا مع عمرو بن العاص عند قدومه إلى مصر. عُين قاضيًا على الشام وكان أول قاضيًا مسلمًا يتولى قضاء القدس. لقى ربه سنة 34 من الهجرة عن عمر يناهز 72 عامًا. وتعتبر زيارة كلا من سيدنا شداد وسيدنا عبادة تعزيزًا لوجود الروح النبوية التي تسكن جنبات المسجد الأقصى وتتخلل نسمات الحرم الشريف. تغمد الله صحابة النبي صلى الله عليه وسلم برحمته ورضوانه ورزقنا صحبتهم في الآخرة.

وأثناء تنقلنا بين أرجاء الحرم الشريف، عثرنا على عدد من الهياكل المفتوحة والشاهقة مُحاطة بسقف متوج بقبة مدعومة بأربعة أعمدة. كل واحد منها، وهناك الكثير، لديه اسم فريد ومحراب للصلاة. يمكنك أن ترى في بعضهم أماكن للجلوس. حيث كانت بمثابة أماكن تُلقن فيها المعرفة وتتجمع الناس لإحياء ذكر الله. يقع أحد هذه الأماكن أقصى نهاية الجانب الشمالي من الحرم الشريف ويتميز إلى حد ما عن البقية. حدثوني بأنها يُطلق عليها قبة العشاق. حيث كان يجلس الناس وينشدون القصائد في حب الله ورسوله وينعمون ببركاتهم. وهذا مثال آخر على ما كانت عليه مدن المسلمين ما قبل الحداثة وخاصة القدس التي كانت ملاذًا آمنًا للعلم والتقوى.

في المدينة القديمة التي تحيط أرجاء الحرم الشريف مر زمنًا حين كان بإمكان الفرد أن يعثر على 43 زاوية أو مركز روحي حيث يتمكن خلاله من إحياء ذكر الله ودراسة الكتب الروحانية الإسلامية. أقام أبو مدين، حكيم القرن الـ 6 (القرن الـ 12 الميلادي) العلامة والعالم الرباني، زاوية في المدينة القديمة بعد أن شارك في تحرير القدس واستقر فيها لمدة من الزمن. خلال تجولنا في المدينة القديمة، مررنا بعدد من الزوايا الأخرى وهي ليست مستغلة على أية حال، بما في ذلك زوايا النقشبندي والأفغاني والهندي والسوداني. حيث كان غالبًا ما يأتي لزيارة القدس وفودًا من أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي ويستقرون فيها ويقيمون زوايا أو ينشئون أبنية بأمر من الحاكم. وقد حدث هذا مع زاوية الأفغاني، الزاوية الوحيدة المتبقية والمستخدمة في مدينة القدس القديمة. أنشئت سنة 1043 من الهجرة (1603 ميلاديًا) كهدية من الوالي العثماني للقدس في ذلك الوقت للطريقة القادرية الروحانية. وظلت على هذا النحو حوالي 300 سنة ثم تم تمريرها إلى الطريقة الشاذلية وبقائها تحت رعايتها إلى اليوم. يقيم الشيخ عبد الكريم الأفغاني، شيخ الزاوية، في القدس ويقضي معظم أوقاته في الأقصى. إنهم يعقدون حلقات ذكر في الزاوية ويقرأون كتبًا عن القيم الروحانية. وقد شرفت بقضاء جزء من الزيارة مع الشيخ وأشكر الله على هذه الفرصة. كان رجلاً هادئًا ذو شخصية لا تشوبها شائبة وتظهر عليه إمارات التواضع التي تضفيها عليه بشكل جلي هالته الروحانية. إن قضاء بضع ساعات معه يشعرك وكأنك عدت إلى الأقصى أيام قرونه السالفة. حيث يتناسى الفرد منا في صحبة الشيخ الأوضاع السياسية للأقصى والمشكلات التي يواجهها. كانت نصيحته لي عند مفارقته أن يكون الله نصب عيني أينما كنت، لأنه يقينًا يراني وأن إحسانه ورحمته لا حدود لهما.

إن العديد من المسلمين لا يدركون منزلة الحرم الشريف. وأنا كذلك، كنت مثلهم إلى أن زرت القدس وعشت بشكل مباشر التاريخ العظيم الذي يحيا في هذا المكان المبارك. وجزء من السبب لمن لا يعلم، هو افتقارنا لوجود مادة علمية تمت دراستها جيدًا وتوثيقها بعناية حول تاريخ الأقصى من منظور يشبع نهم المتطلعين إلى المعرفة. هناك الكثير من المواد العربية المعاصرة التي تؤكد نظريات المؤامرة وتأزم الوضع السياسي (بمعنى، استمرار بيع كتاب بروتوكولات حكماء صهيون) لكن لا تكاد تعثر على شيء لشخص يسعى لإدراك حقيقة مركزية الله في الأقصى، خاصة لقراء اللغة الإنجليزية. عثرت على كتاب مفيد للغاية وهو فضائل القدس والذي ألفه العلامة الحنبلي الجليل أبو الفرج بن الجوزي. كما يُعد كتاب تاريخ القدس “history of Jerusalem” لمؤلفته كارين أرمسترونج مفيدًا لقراء اللغة الإنجليزية الراغبين في التعرف على تاريخ القدس من منظور الديانات الإبراهيمية لكن لم تقع يدي على شيء في كتابات باللغة الإنجليزية تعرض تفاصيل حول الأماكن المقدسة في القدس.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس