الرؤية الوسطية.. وأثرها في الحياة
د.أسامة السيد الأزهرى
الناس كالمرايا, علي ثلاثة أقسام, فالقسم الأول منهم إنسان كالمرآة المقعرة, تصغر الأشياء, فتري ذلك الإنسان في فهمه وتصوراته وعقله وتحليله وإدراكه للأحداث والمواقف
يميل دائما إلي إدراكها وتصورها علي نحو أصغر وأقل مما هي عليه في الواقع, وتعمل قدراته الذهنية دائما علي استيعاب الحدث مصغرا, أو مبتورا, أو مبتسرا, فتأتي قراراته وردود أفعاله دائما دون مستوي الحدث, أو أبطأ منه, أو أقل بكثير مما ينبغي, أو تأتي تصرفاته موصوفة بالاستهانة والاستهتار, وعدم تقدير الأحداث بما يناسبها, فيكون مثله كمثل إنسان يريد أن يضع أردبا من القمح, في إناء لا يستوعب إلا ربع أردب, فإن ضيق الإناء يجعله لا يستوعب الأمر كاملا, ويجعل أكثر القمح يتبعثر ويتبدد هنا وهناك, والقسم الثاني منهم إنسان كالمرآة المحدبة, تكبر الأشياء عما هي عليه في الواقع, فتري ذلك الإنسان في فهمه وتحليله وإدراكه يميل دائما إلي تضخيم الأحداث وتهويلها, وتراه يعايش الحدث فيستقبله عقله مضخما, منفعلا, هائلا, فيصدر رد الفعل في المقابل أكبر بكثير مما يقتضيه الحدث, فتري حينئذ المبالغة والتهويل, وردود الأفعال الطائشة العشوائية, وهذان النوعان من البشر, القائمان علي التهوين أو التهويل, يخوض كل منهما في أحداث متخبطة, وتصورات مغلوطة, وردود أفعال غير معقولة ولا مناسبة, وهناك نوع ثالث من البشر, كالمرآة المركبة من المقعرة والمحدبة, فتجده في فهمه وعقله وكيفية تصوره لأحداث الدنيا من حوله, يميل إلي تصغير الكبير, وتكبير الصغير, فيتعامل مع الخطر ببرود, ومع الأمور المعتادة بهلع, ويمكنك أن تتصور مثلا أن رجلا يقود سيارته, ويتصور أن الأحجام والأبعاد التي يراها في مرآة سيارته حقيقية, وتكشف عن الواقع وتعبر عنه بالفعل, ويبني قراراته عليها, فإنه ينحني بسيارته إلي اليمين أو اليسار في الوقت الخطأ, فيقع الاصطدام بما يجاوره من سيارات, ويقع الموت, والدمار, والسبب هو أنه بني قراره علي معلومة مغلوطة, وعلي تقدير خاطئ للأحجام والأبعاد والمسافات, وأن مرآته قد ضللته, ولذا تري علي مرآة السيارة سطرا مكتوبا ينص علي أن ما تراه في مرآتك من مسافات وأبعاد غير دقيق, ويبقي القسم الأخير, وهو المرآة المستوية, وهم نمط من البشر, تكامل عقله, واعتدل مزاجه, فصار في فهمه وتصوراته وتعقله واستيعابه موزونا, يري البعيد بعيدا, والقريب قريبا, والحسن حسنا, والقبح قبحا, والكبير كبيرا, والصغير صغيرا, فتصدر ردود أفعاله علي قدر كل حدث, وتأتي مناسبة تماما لمقدار الحدث وحجمه وموضعه وتفاصيله, فيري الناس في قراراته ومشورته وكلامه الحكمة, ويأتي الواقع مصدقا لما يقول, ومهمة الأنبياء وورثتهم من العلماء والخبراء والأساتذة والعقلاء هي أن يوصلوا الإنسان الذي تكون مرآته محدبة أو مقعرة أو مغبشة أو مشوشة, إلي أن تكون مرآته مستوية, وذلك من خلال إضافة عدد من المقادير والخبرات والمعارف والقيم, والموازين الفكرية, وطرق الفهم, وطرق توثيق الأخبار وتحليلها وتوظيفها, والموازين النفسية العالية التي تحميه من العناد أو الطيش أو التسرع أو الصدمة, أو الكراهية, أو ظنون السوء, مع التدريب المستمر علي كيفية المقارنة والتحليل والاستنباط, مع سعة الصدر وقابلية الاستماع الجيد للآخرين, قبل التحفز لإثبات الوجهة أو الرد, بل الحرص التام علي استيعاب فكرة الآخر بتمامها, قبل الانتقال إلي الحكم عليها بقبول أو رد, إلي آخر تلك المنظومة من الخبرات, التي كانت تصل إلي عقولنا تارة علي لسان رجل عجوز في القرية, عركته الحياة وحنكته, فصار رجلا أريبا عارفا, خاض الحياة واستشف قوانينها وسنن الله فيها, فصار ينصحك في كل موقف بعبارات سهلة, تبدو سطحية وتلقائية, لكنها تحمل من ورائها خبرات الأجيال, ورائحة الحكمة, وتارة تصل إلينا من العباقرة والخبراء في علوم النفس وقوانين الاجتماع البشري, وتارة تصل إلينا علي لسان واحد من العلماء الربانيين الذين يتفرسون وينظرون بنور الله, لكنها كانت تسري إلي عقولنا علي كل حال, فتعتدل منا المرايا, وترجع إلي الأمانة والدقة في الاستيعاب والفهم وتقدير المواقف, فعليكم بالحكمة يرحمكم الله, فتشوا عنها, وتعلموها, وانتبهوا إلي أثر غيابها في تمزق المجتمع, وغياب الحقيقة, وشيوع تسطيح المعرفة, وصدق الله تعالي إذ يقول:( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب)(سورة البقرة, الآية269), اللهم ألهمنا الحكمة والبصيرة.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات