الموضوع: صيقل الإسلام
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-02-2011
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: صقيل الإسلام


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 80
وحسب دستور علم المنطق: "يكفي للحكم تصور وجهٍ ما بين الموضوع والمحمول" ولكن يمكن ان يقبلها القرآن. اي ان تلك التفصيلات هي من الاحكام النظرية محوّلة الى دلائل اخرى، فهي مظنة الاجتهاد، وفيها مجال للتأويل. والدليل على نظريتها (ظنيتها): اختلاف العلماء.
ولكن ياللأسف، فانه بتخيل لزوم مطابقة الجواب لتمام السؤال، ومن دون اهتمام بخلل السؤال، أخذوا الاحكام الضرورية والنظرية للجواب باجمعها من مصدر السائل ومنبت السؤال واصبحوا مفسرين له، لابل مؤّولين لما يجوز ان يدل عليه الجواب، لا بل اظهروا افراد المعنى معنىً له، لا بل أوّلوا مايجوز ان يصدُق عليه مع شئ من الامكان مدلولاً مفهوماً له. فتلقاه الظاهريون بالقبول، والعلماء بالاصغاء دون تنقيد لعدم اهميته كالحكايات كما وضح في "المقدمة الثالثة" ولكن لو قبل بتلك التفصيلات كما ورد في التوراة والانجيل المحرّفين فانها تخالف عصمة الانبياء التي يعتقد بها أهل السنة والجماعة، الشاهد على هذا قصة لوط وداود عليهما السلام.
ولكن لما كان في الكيفية مجال للاجتهاد والتأويل، فأنا اقول وبالله التوفيق:
الاعتقاد الجازم بما اراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم واجب مطلقاً. لانه من ضروريات الدين. اما المراد ما هو؟ فاختلف في تعيينه.
فذو القرنين - لا أقول اسكندر لأن الاسم لايسمح بذلك - قال بعض المفسرين في حقه انه: مَلَك، وقيل ملِك، وقيل: نبي، وقيل: ولي.. الى آخر ماقيل. 1
وعلى كل فهو مؤيد من عند الله ومرشد لبناء سد الصين.
اما السد فقال بعضهم انه: سد الصين، وقيل: غيره تحول جبلاً، وقيل: سد مخفي لا يطلع عليه، سترته انقلابات احوال العالم.. وقيل.. وقيل..
وعلى كل فهو ردم عظيم وجدار جسيم بني لدفع شر المفسدين.
أما يأجوج ومأجوج، فقيل: قبيلتان من ولد "يافث" وقيل: "المغول والمانجور" وقيل: اقوام شرقية شمالية، وقيل: طائفة من جماعة عظيمة من بني آدم يشيعون الفتنة والفوضى في الدنيا والمدنية.وقيل: مخلوقات لله تعالى آدميون او غيرهم
_____________________
1 فصلت »اللمعة السادسة عشرة« هذه المسألة. المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 81
في ظهر الأرض او في بطنها، يسببون فساد العالم عند قيام الساعة. اما جهة الاتفاق والامر القاطع: فهما طائفتان من مخلوقات الله كانتا اهل غارة وفساد على الحضارة والمدنية كأجل القضاء عليها.
اما خراب السد؛ فقيل: عند القيامة، وقيل: قريب منها، وقيل: يخرب بحيث يعدّ أمارتها وان كان بعيداً، وقيل: وقع الخراب ولكن لم يدكّ. وقيل وقيل...
وعلى كلٍ؛ فانهدامه علامة على كهولة الارض وشيب البشر.
فان وازنت بين ما ذكر آنفاً وقارنته يمكنك ان تجوّز ان السدّ المذكور في القرآن هو سدّ الصين، الطويل بفراسخ، ومن عجائب الدنيا السبعة المشهورة قد بني بارشاد مؤيدٍ من عند الله لصدّ شرور اهل البداوة عن اهل المدنية في ذلك الزمان.
نعم! فمن اولئك الهمج قبيلة "الهون" الذين دمّروا اوروبا. و"المغول" الذين خربوا آسيا.
ثم ان خراب السد من علامات الساعة، ولاسيما دكه غير خرابه. واذا ما قال النبي صلى الله عليه وسلم انه من اشراط الساعة: "انا والساعة كهاتين"كيف يستغرب كون خراب السد من علامات القيامة بعد خير القرون؟ ثم ان انهدام السد بالنسبة لعمر الارض هو انقباض وجه الارض لشيبها، بل كنسبة وقت الاصفرار الى تمام النهار، حتى لو كانت القيامة بعيدة بألوف من السنين.
كذلك فان الفوضى والاضطراب الذي يولّده يأجوج وماجوج هو في حكم حمىً تصيب البشرية لهرمها.
وبعد هذا ينفتح لك باب لتأويل آخر من فاتحة "المقدمة الثانية عشرة" وهو: ان القرآن يقص القصص لأخذ العبر منها، وينتقي منها النقاط التي هي كالعقد الحياتية التي تناسب مقصداً من مقاصد القرآن ويربطها به.. فهما - أي القصة والعبرة - تتعانقان في الذهن والاسلوب وان لم تتراء ناراهما او نوراهما معاً ولم يحصلا في الخارج سوية. ولما كانت القصة للعبرة فلا يلزمك تفصيلاتها ولا عليك كيف كانت. خذ حظك منها وامض الى شأنك.. واستظهر من "المقدمة العاشرة" ترى ان المجاز يفتح باباً للمجاز فـ
(تغرب في عين حمئة) (الكهف: 86) تنعي على الظاهريين وتطردهم.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 82
واعلم! ان مفتاح حجة الله المتجلية في اساليب العرب هو؛ البلاغة التي هي أصل الاعجاز والمؤسسة على الاستعارة والمجاز، لا ما يلتقط من خرزٍ - بالحدس الكاذب - من المشهورات وتختبئ في أصداف الآيات دون رضاها. فاستنشق خاتمة "المقدمة العاشرة" فانها مسك وذقها ففيها عسل.
ويجوز ان يكون السد وهو مجهول الكيفية في موضع آخر مجهول مستور عنا كسائر علامات الساعة. ويبقى الى القيامة، مجهولاً ببعض انقلاباته، وسينهدم في القيامة.
اشارة: معلوم ان المسكن يدوم أزيد من ساكنيه، وعمر القلعة اطول من عمرالمتحصنين بها. فالسكنى والتحصن علّة وجودها لا علة بقائها ودوامها. وحتى ان كانا كذلك فلا يقتضيان استمرارها ولاعدم خلوها. فليس من ضروريات دوام الشئ دوام الغرض المترتب عليه.. فكم من بناء يبنى للسكنى او للتحصن وهو خاوٍ وخالٍ.
ومن عدم فهم هذا السر فتح الطريق للأوهام.
تنبيه:
ان القصد من هذا التفصيل : فتح طريقٍ لتمييز وفرز: التفسير عن التأويل.. والقطعي عن الظني.. والوجود عن الكيفية.. والحكم عن التفصيلات الجانبية.. والمعنى عن افراد المعنى.. والوقوع عن الامكان.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 83
المسألة الخامسة

ان ما اشتهر من "ان جهنم تحت الارض"، فنحن معاشر اهل السنة والجماعة لا نعين موضعها على القطع واليقين، ولكن "التحتية" هي الظاهرة. 1
وبناءً على هذا اقول وبالله التوفيق:
اولاً: ان كرتنا الارضية ثمرة من ثمرات شجرة العالم العظيمة، عظمة شجرة طوبى، كما اثمرت سائر نجومها. فما تحت الثمرة يشمل تحت جميع اغصان تلك الشجرة. وبناء على هذا فـ "جهنم" تحت الارض بين تلك الاغصان، فمُلك الله تعالى واسع، وشجرة الخليقة منتشرة، اينما كانت جهنم فلها موضع بينها ولا تقتضي مسافة التحتية طولاً ولا اتصالاً بالارض.
وفي نظر الحكمة الجديدة: ان النار مستولية على اكثر ما في الكون، وهذا يشفّ عن: ان اصل هذه النار واساسها جهنم، ترافق الانسان الى الخلود وفي طريقه الى الابد، وستمزق يوماً ما الستار، وتبرز الى الميدان قائلة: تهيأوا!
وأود ان الفت نظركم الى هذه النقطة:
ثانياً: ان تحت الكرة واسفلها هو مركزها وجوفها، فعلى هذا فان الارض حبلى ببذرة شجرة زقوم جهنم، ستلدها يوماً ما. بل الارض الطائرة في الفضاء ستبيض شيئاً كهذا،حتى ان لم تكن جهنم بتمامها في تلك البيضة فان رأسها او اي عضو منها مطوية فيها بحيث تتحد مع الدركات وسائر الاعضاء منها يوم القيامة وتبرز على اهل العصيان جهنم مهولاً عجيباً.
فيا هذا! الحساب والهندسة يمكنهما ان يأخذاك الى موضع جهنم وان لم تذهب أنت اليها. وذلك:
ان درجة الحرارة تتزايد درجة واحدة تقريباً في الارض بكل ثلاثة وثلاثين متراً في باطن الارض، بمعنى ان درجة الحرارة تكون في المركز ما يقرب من مئتي الف درجة
_____________________
1 هذه المسألة فصّلها السؤال الثالث من المكتوب الاول ص9 - 12 . المترجم.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 84
- في الاغلب - فنسبة هذه النار المركزية الى درجة حرارتنا البالغة الف درجة هي مئتا مرة. وهذه تثبت نفس ماورد في الحديث المشهور 1 - ما معناه - من ان نار جهنم أشد من نارنا بمئتي مرة.
ثم ان قسماً من جهنم "زمهرير"، والزمهرير يحرق ببرودته. اذ قد ثبت في العلم الطبيعي؛ ان الحرارة تصل الى درجة تجعل الماء ثلجاً، وتحرق بالبرودة، حيث تمص الحرارة مصاً. اي ان النار التي تشمل جميع المراتب، قسم منها "زمهرير".
تنبيه:
ان العالم الاخروي الابدي لايقاس بمقياس هذه الدنيا الفانية، ولا بسعتها، فاستعد سيتجلى لك شئٌ من الاخرة في ختام "المقالة الثالثة".
اشارة: من السعادة الاخروية، من تلك الجنة الوارفة الظلال، تنفتح امام نظر العقل ثمانية ابواب ونافذتان وذلك:
بشهادة الانتظام في جميع العلوم.. وبارشاد الاستقراء التام للحكمة.. وبرمز جوهر الانسانية.. وبايماء عدم تناهي ميول البشر.. وبتلميح القيامة النوعية المكررة في كثير من الانواع، كالليل والنهار.. وبدلالة عدم العبثية.. وبتلويح الحكمة الازلية.. وبارشاد الرحمة الالهية المطلقة.. وبلسان النبي الصادق الفصيح.. وبهداية القرآن المعجز البيان.
_____________________
1 عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتكت النار الى ربها، فقالت: "يارب! أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين. نفسٌ في الشتاء ونفس في الصيف. فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها" رواه البخاري - كتاب الايمان، ابن ماجه 4319 والترمذي 2592 .
وعن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم". رواه احمد 24 / 164 (الفتح الرباني) واورده الهيثمي في المجمع 1 / 387 وقال: رواه احمد ورجاله رجال الصحيح.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 85
المسألة السادسة

ان الخاصية المميزة للتنزيل، الاعجاز، والاعجاز يتولد من ذروة البلاغة، والبلاغة مؤسسة على مزايا وخصائص، لاسيما الاستعارة والمجاز. فمن لم ينظر بمنظارهما لا يفوز بمزاياها.. فكم في التنزيل من "تنزلات الهية الى عقول البشر" تسيّل ينابيع العلوم في اساليب العرب تأنيساً للأذهان. والتي تعبّر عن مراعاة الافهام واحترام الحسيات ومماشاة الاذهان.
ولما كان الامر هكذا.. فلا بد لاهل التفسير الاّ يبخسوا حق القرآن بتأويله بما لم تشهد به البلاغة.
ولقد تحقق اجلى من أية حقيقة كانت، ان معاني القرآن الكريم حق، كما ان صور افادته للمعاني، بليغة ورفيعة. فمن لا يُرجع الجزئيات الى ذلك المعدن ولا يلحقها بذلك النبع يكن من المبخسين حقه. وسنبين مثالاً يلفت النظر.
(والجبال أوتاداً) (النبأ: 7) يلوّح بمجاز بديع - الله أعلم بمراده - اذ يجوز ان يكون المجاز المشار اليه يومئ الى تصوّر كهذا:
اولاً: ان الكرة الارضية الشبيهة بالسفينة والغواصة العائمة في بحر الفضاء الواسع قد حافظت على توازنها، وارسيت اثناء اشتباكها بالهواء في جوف المحيط الهوائي، بجبالها الشبيهة بالاعمدة والاوتاد بمعنى ان الجبال في حكم الاعمدة والسارية لتلك السفينة.
ثانياً: ان الاهتزازات الناجمة من انقلابات الارض الداخلية تهدأ وتسكن بالجبال؛ اذ هي كالمسامات للارض، فمتى ماحصل فوران وغضب في الجوف تتنفس الارض بمنافذ جبالها. فتسكن غضبها وتهدأ حدّتها. اي ان استقرار الارض وهدوءها بجبالها.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 86
ثالثاً: ان عمود عمارة الارض، الانسان وحياة الانسان متوقفة على محافظة منابعها من ماء وتراب وهواء، مع ضمان الاستفادة منها. والجبال هي التي تحقق ذلك. بتضمنها لمخازن الماء وتصفيتها الهواء وتلطيفها الحرارة والبرودة وهي سبب في تنقية الهواء ومنبع تراكم الغازات المضرة الداخلة فيه. وفي الوقت نفسه تترحم على التراب فتحفظه من التوحل والتعفن وتقيه من استيلاء البحر.
رابعاً: ان وجه المشابهة والمناسبة من حيث البلاغة هو:
لو فرضنا شخصاً ركب منطاد الخيال، فصعد الى السماء بعيداً عن الارض. فاذا نظر الى سلسلة الجبال من هناك وتخيل الطبقة الترابية خيام البدو المفروشة على الاوتاد، والجبال المنفردة خيمة منصوبة على عماد.. أتراه قد خالف طبيعة الخيال؟ ولو تصورت وصوّرت لبدويّ تلك السلاسل الجبلية - مع المستقلة بذاتها - يام قبائل الاعراب ضربت في صحراء الارض مع تخللها خياماً مفردة، لم تبعد عن اساليب العرب الخيالية.. او لو تصورت انك قد تجردت من هذا العالم المشيد، وبدأت تتامل في الارض التي هي مهد البشرية بمنظارالحكمة وفي السماء التي هي السقف المرفوع وتخيلت بعد ذلك ان السماء المحددة بدائرة الافق المماسة معها، كالفسطاط المضروب على الارض، المرتبط باوتاد الجبال. فانك لا تتهم في خيالك هذا .
سيرد مثال اومثالان لهذا الامر في ختام المسألة الثامنة.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 87
المسألة السابعة

ان (دحيها) و(سطحت) و(فرشناها) و(تغرب في عين حمئة) وما شابهها من الآيات المذكورة في القرآن الكريم، يتشبث بها اهل الظاهر ارباكاً للاذهان، ونحن لسنا بحاجة الى الدفاع، لان المفسرين العظام قد كشفوا سرائر ما في ضمائر هذه الآيات، ما فيه الكفاية، فلم تبق لنا حاجة. وقد اعطوا درساً للعبرة، وسطروا السطر الاساس لنحذو حذوهم.
ولكن بكوا قبلي فهيّجوا لي البكاء وهيهات ذو رحم يرق لبكائي
ان اعلام المعلوم، لاسيما ان كان مشاهداً عبث، كما هو معلوم. اي لابد من وجود نقطة غرابة تخرجه من العبثية.
فلو قيل: انظروا الى الارض كيف جعلناها مسطحة ومهداً مع كرويتها، وقد نجت من تسلط البحار..
او اذا قيل: انظروا كيف تجري الشمس لتنظيم معيشتكم مع استقرارها.
أو مثل: انظروا كيف تغرب الشمس في عين حمئة وهي بعيدة عنا الوف السنين..
عند ذلك تخرج معاني الآيات من الكناية الى الصراحة.
نعم! ان نقاط الغرابة هذه هي نكات بلاغية.


صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 88
المسألة الثامنة

ان مما ورط الظاهربين، بل السبب الاول الذي دفعهم الى القلق والتردد، هو:
التباس الامكانات بالوقوعات 1، والخلط بينهما. فيقولون مثلاً: اذا كان الشئ هكذا، فهو ممكن في القدرة الالهية، وهو ادلّ على عظمته تعالى في عقولنا، فهو اذاً واقع!... هيهات! ايها المسكين! اين عقولكم من ان تكون مهندسة الكون؟ فانتم عاجزون عن ان تحيطوا بالحسن الكلي بعقلكم الجزئي هذا! لوكان انف بطول ذراع من ذهب ربما يستحسنه من حصر فيه النظر!!
ثم ان الذي حيّرهم، هو توهمهم منافاة الامكان الذاتي لليقين العلمي، فيتقربون الى مذهب "اللاأدرية" 2 بترددهم وتشككهم في العلوم العادية اليقينية. بل لايخجلون، اذ يلزم مسلكهم هذا ان يتشكك الانسان في امور بديهية كوجود بحيرة "وان" وجبل "سبحان" لان هذا ممكن في مسلكهم، اي ان تنقلب بحيرة "وان" الى دبس، وينقلب جبل "سبحان" الى عسل مغطى بالسكر!! او انهما يذهبان الى بحرالعدم - كقسم من اصدقائنا الذين لم يرضوا بكروية الارض فسافروا فزلت اقدامهم - بمعنى: يلزم عدم التصديق بالحال السابقة للبحيرة والجبل!!
ايها المحرومون من المنطق! اين انتم؟ تأملوا! فقد تقرر في علم المنطق: ان الوهميات التي في المحسوسات، من البديهيات 3 فان انكرتم هذه البداهة، فليس لي
_____________________
1 الوقوعات: حصول الشئ ووجوده بعد ان كان معدوماً ، ولا يلزم من امكان وجود الشئ وجوده فعلاً، فشمس ثانية يمكن وجودها ولكنها غيرموجودة.
2 هو فرقة من السوفسطائيين يقولون: ان حقائق الاشياء لا تدري هل انها موجودة او معدومة، ونحن لا ندري هل ندري او لا ندري.
3 يعني بهذا ان من البديهي ان لا يحصل الوهم في المحسوسات لان ما يُدرك بها يسمى علماً لا وهماً، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة أما السوفسطائيون فانهم يجوّزون الوهم في المحسوسات ويقولون: إن حبة العنب اذا وضعت في ماءٍ داخل قارورة زجاجية فانها تُرى كبيرة اكبر منها اذا كانت خارجها، فهذا وهمٌ حصل بالمبصرات. فيجابون بان الحبة لم تتغير انما عرض عليها الماء داخل القارورة فاصبحت تُرى هكذا، وإلاّ فهي لم تتغير. د. عبدالملك



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 89
الاّ ان اقدم لكم التعازي بدل النصائح ، بموت العلوم العادية بينما السفسطة قد بعثت لديكم.
البلاء الرابع: الذي شوّش اهل الظاهر هو: التباس الامكان الوهمي بالامكان العقلي 1. علماً ان الامكان الوهمي متولد من عرق التقليد، لا من اساس. وهو الذي يولد السفسطة، وحيث لادليل له، يفتح في البديهيات طريقاً الى الشك والاحتمال والظن، هذا الامكان الوهمي غالباً ما ينتج من عدم المحاكمة العقلية، ومن ضعف عصبى قلبي، ومن مرض عصبي عقلي، ومن عدم تصور الموضوع والمحمول. بينما الامكان العقلي هو تردد في امر لا يظفر بدليل قطعي على وجوده وعدمه ما لم يكن واجباً ولا ممتنعاً. فان كان الامكان ناشئاً عن دليل فهو مقبول والاّ فلا اعتبار له.
ومن احكام الامكان الوهمي هذا: ان قسماً من المتشككين يقولون ربما لا يكون الامر على ما اظهره البرهان، لان العقل لايستطيع ان يدرك كل شئ. وعقلنا يعطي لنا هذا الاحتمال. نعم... لا.. بل الذي يعطيكم هذا الاحتمال هو شككم ووهمكم. لان العقل من شأنه المضي على برهان.
صحيح ان العقل لا يتمكن ان يدرك ويوازن كل شئ ، ولكن مثل هذه الماديات ولاسيما ما لا يفلت من البصر مهما كان صغيراً فانه يزنه ويدركه. ولو لم نتمكن من دركه نكون في تلك المسألة غير مكلفين، كالاطفال..
تنبيه: ان مخاطبي الفكري الذي اخاطبه بالظاهري وذي النظر السطحي والذي افضحه واعنفه واوبّخه هو في غالب الاحوال عدو الدين ممن يبخس حقه ولا يرى جمال الاسلام وينظر اليه من بعيد بنظر سطحي عابر.. ولكن احياناً هو من اهل الافراط والغلو ممن يفسد الدين من حيث يريد الاصلاح، وهم اصدقاء الدين الجاهلون.
البلاء الخامس: هو تحري الحقيقة في كل موضع من كل مجاز مما اخذ بيد اهل التفريط والافراط الى الظلمات.. نعم لابد من وجود حبة من حقيقة لينمو وينشأ منها المجاز ويتسنبل. أو ان الحقيقة هي الفتيلة التي تعطي الضوء. أما المجاز فهو

_____________________
1 الفرق بينهما هو ان الإمكان الوهمي قد يوجد وقد لا يوجد، بينما الإمكان العقلي لا يتخلف. د.عبدالملك.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 90
زجاجها الذي يزيد ضياءه. نعم، المحبة في القلب... والعقل في الدماغ وطلبهما في اليد والرجل عبث.
البلاء السادس: هو قصر النظر على الظاهر، مما طمس على النظر، وستر البلاغة فلا يتجاوزون الى المجاز، مادامت الحقيقة ممكنة في العقل. وحتى لو صاروا الى المجاز يمسكون عن معناه. وبناء على هذا فان تفسير او ترجمة الايات والاحاديث لايبينان حسن بلاغتهما. وكأن لديهم ان قرينة المجاز امتناع الحقيقة عقلاً.. بينما القرينة المانعة كما يمكن ان تكون عقلاً يمكن ان تكون حساً وعادةً ومقاماً وباشياء اخرى.
فان شئت فادخل من الباب الواحد والعشرين بعد المئتين من "دلائل الاعجاز" تلك الجنة الفردوس، تر ان ذلك الداهية عبدالقاهر الجرجاني قد اخذ الى جانبه امثال هؤلا المتعسفين يوبخهم ويعنفهم.
البلاء السابع: هو حصرهم العَرَضَ 1 كالحركة على الذاتي 2، والأينية 3 مما نكر المعرّف ولزم انكار الوصف الجاري على غير مَن هو له. وبهذا حادت شمس الحقيقة عن جريانها. اما نظر هؤلاء الى اساليب العرب، كيف يقولون: صادفتنا الجبال، ثم فارقتنا.. تراءت لنا وبعُدَت عنا.. والبحر ايضاً ابتلع الشمس ... الخ. وكم يقلبون الخيال لاسرار بيانية كما في المفتاح للسكاكي، وهذا لطافة بيانية مؤسسة على مغالطة وهمية، بسرّ الدوران 4.
وسأبين هنا مثالين مهمين لينسج على منوالهما:
(وينزل من السماء من جبال فيها من بََرَد) (النور: 43) (والشمس تجري لمستقر لها) (يس: 38).
هاتان الآيتان الكريمتان جديرتان بالملاحظة والتدبر. لان الجمود على الظاهر جحود بحق البلاغة، اذ الاستعارة البديعة في الآية الاولى تتوقد بحيث تذيب الجمود المتجمد، وتشق كالبرق ستار سحب الظاهر. اما البلاغة في الآية الثانية فهي مستقرة وقوية ولامعة بحيث تقف الشمس لمشاهدتها.
_____________________
1 العرض: هو الذي لا يبقى زمانين او ما له تحيّز تابع لمحل، كالحركة والسكون والحمرة والصفرة في وجه الانسان مثلاً.
2 الذاتي: يراد به هنا ما له تحيّز مستقل بنفسه، أي يأخذ قدراً من الفراغ بنفسه.
3 الاينية: يراد بها المكان والمحل، لانه يسأل عنه بـ "أين".
4 لعله الدوران عند علماء الاصول، وهو : يوقف المعلول على علته وجوداً وعدماً، أي كلما وجدت العلة وجد المعلول وكلما انعدمت انعدم والله اعلم. د. عبد الملك.



صيقل الإسلام/محاكمات - ص: 91
فالآية الاولى نظيرتها: (قوارير من فضة) (الانسان: 16) التي تضمنت استعارة بديعة مثلها، وذلك: كما ان اواني الجنة ليست زجاجاً فهي ليست فضة كذلك، بل مباينة الزجاج للفضة قرينة الاستعارة البديعة. اي ان الزجاج بشفافيته والفضة ببياضها ولمعانها كأنهما نموذجان لتصوير اقداح الجنة، ارسلهما الرحمن الى هذا العالم ليهيجا الرغبة لدى المشتاقين الى الجنة ممن يبذلون انفسهم واموالهم في طلبها. ومثل هذا تماماً، تتقطر استعارة بديعة من الآية الكريمة: (من جبال فيها من برد)
ان موضع هذه الاستعارة مبني على تصور التسابق والمحاكاة بين الارض والسماء بحكم الخيال وهي كالاتي:
كما ان الارض تتزين بجبالها المتزملة بحلل الثلج والبرد او تتعمم بها، وتتبرج ببساتينها، فالسماء كذلك تقابلها وتحاكيها فتتجمل متبرقعةً بالسحاب المتقطع جبالاً واطواداً واودية وتتلون بالوان مختلفة مصورة لبساتين الارض.
فلا خطأ اذاً في التشبيه إن قيل ان تلك السحب المتقطعة شبيهة بالجبال او بالسفن او بقافلة الابل او بالبساتين والوديان، اذ يخيل - في نظر البلاغة - ان قطعات السحاب سيارة وسبّاحة في الجو كأن الرعد راعيها وحاديها، كلما هزّ عصا برقه على رؤوسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتجت وتراءت جبالاً كالعهن المنفوش. وكأن السماء تدعو ذرات بخار الماء بالرعد لتسلم السلاح والجندية ثم بأمر الاستراحة يذهب كلٌ الى مكانه ويختفي.
وكثيراً ما لبس السحاب زي الجبال ويتشكل بهيكله ويتلون ببياض البرد والثلج ويتكيف بالرطوبة والبرودة. ولهذا فبين الجبال والسحب مجاورة وصداقة، فاستحق - في نظر البلاغة - ان يتبادلا ويستعيرا لوازمهما، فيعبّر عن السحاب بالجبل مع تناسي التشبيه.
وفي مواضع من القران تظهر هذه الاخوة والتبادل اذ قد يظهر هذا في زي ذاك وذاك في زي ذلك وفي بريقه.. ومن منازل التنزيل مصافحة الجبال والسحب مثلما هناك معانقة ومصافحة مشهودة على صحيفة كتاب العالم. اذ نرى السحاب موضوعاً على جبل وكأن الجبل مرسى لسفن السحاب.

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس