عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 153
ولمسات التجميل والتحسين رحمة مرادة، وهذه الحقيقة واضحة وضوحاً لايدع مجالاً قط لنسبتها الى المصادفة، مما يُظهر عياناً انها آثار الصانع الحكيم ونقوشه البديعة.
ثالثتها: حقيقة فتح صور المصنوعات غير المحدودة، بمئات الآلاف من الانماط المختلفة والاشكال المتنوعة فتحاً من حبوب معدودة متشابهة، ومن نوى محدودة متماثلة، واستنباتها في غاية الانتظام والميزان وبمنتهى الزينة والجمال، رغم انها بسيطة جامدة ومختلطة بعضها ببعض. ففتح صور كل فرد من أفراد تلك الأنواع المتباينة - التي تربو على مائتي ألف نوع - كل على إنفراد، بانتظام كامل، وبموازنة تامة، وبحيوية وحكمة، وبدون خطأ، لهو حقيقة ساطعة جلية أسطع من الشمس..
ففهم السائح ان هناك شهوداً ودلائل اثبات على تلك الحقيقة بعدد أزهار الربيع، وبعدد أثماره وبعدد أوراقه وموجوداته فعبّر عمّا جاش في قلبه من معان كريمة فقال: الحمد لله على نعمة الايمان.
ولبيان هذه الحقائق والشهادات ذكر في المرتبة السادسة من المقام الاول الآتي:
[ لا إاله إلاّ الله الواجـب الوجــــود الــــذي دلّ علــى وجـــوب وجـوده في وحـدته: اجمــاع جميع أنــواع الاشــجار والنباتات، المســبحات الناطقات: بكلمـات أوراقها المــوزونات الفصيحـات، وأزهـارهـا المزينـات الجـزيلات، واثمـــارهـــا المنتظمــات البــليغات، بشهادة عظمة إحــاطة حقيقة: الانعـــام، والاكــــرام، والاحســــان، بقصــدٍ ورحـــمةٍ. وحــقيقة: التمييـــــز، والتـــزييـــن، والتصــــويـــر، بارادةٍ وحكمةٍ، مع قطعية دلالة حقيقة فتح جميع صورها الموزونـات المزيّنات المتباينة المتنوعة غير المحدودة، من نَويات وحبّات متماثلة متشابهة محصورة معدودة].
* * *
وبينما كان السائح الشغوف - الذي ازداد بالسمو ذوقاً وشوقاً - عائداً من تلك السياحة الفكرية مبتهجاً بلذة وقوفه على الحقيقة وعثوره على جنات الايمان، راجعاً من بستان الربيع، حاملاً باقة كبيرة واسعة - من ازهار المعرفة والايمان - سعة الربيع نفسه، اذا بباب عالم الطيور والحيوانات ينفتح ازاء عقله التوّاق للحقيقة، وفكره
الشعاع السابع - ص: 154
المشتاق للمعرفة، تدعوه تلك الطيور والحيوانات بمئات الألوف من الاصوات المتباينة، والألسنة المختلفة، للدخول الى ذلك العالم الفسيح، وترحب بمقدمه الى عالمها.. فدخله، ورأى ان جميع الطيور، وجميع الحيوانات، بأنواعها وطوائفها وأممها كافة تذكر متفقة: "لا إله إلا هو" بلسان حالها ومقالها، حتى لكأن سطح الارض مجلس ذكر مهيب، ومجمع تهليل عظيم.. ورأى أن كلاً منها بحد ذاته بمثابة قصيدة ربانية تترنم بآلاء الربوبية.. وكلمة سبحانية ناطقة بالتقديس لبارئها.. وحرف رحماني ذي مغزى ينم عن الرحمة الإلهية؛ فالجميع يثنون على خالقهم، ويصفونه بالحمد والثناء، وكأن حواس تلك الطيور والحيوانات ومشاعرها واعضاءها، وآلاتها، واجهزتها، وقواها، كلمات موزونة منظومة، وكلام فصيح بليغ..
فشاهد السائح في ذلك ثلاث حقائق عظيمة محيطة، تدل دلالة صادقة على ان تلك الطيور والحيوانات تؤدي شكرها تجاه خلاّقها ورزاقها بتلك الكلمات، وتشهد على وحدانيته سبحانه بذلك الكلام:
اولاها: حقيقة الايجاد والصنع والابداع، أي حقيقة الإحياء ومنح الروح، التي لا يمكن نسبتها مطلقاً الى المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء؛ إذ هي ايجاد من عدم يقع بحكمة، وابداع مقرون باتقان، وخلق مصحوب بارادة، وانشاء مبني على علم. وهي تُظهر بجلاء تجلي "العلم والحكمة والارادة" بعشرين وجهاً، وهي برهان باهر على وجوب وجود "الحي القيوم" وشاهد حق على صفاته السبعة الجليلة وآية صدق على وحدانيته جل وعلا. أي أن حقيقة الاحياء تدفع الى الوجود شهود إثبات بعدد ذوي الأرواح كلها.
ثانيتها: حقيقة التمييز والتزيين والتصوير التي تتضح من خلال تلك المصنوعات غير المحدودة التي يختلف بعضها عن بعض بعلامات فارقة متميزة في الوجوه، وباشكال مزينة جميلة متباينة، وبمقادير موزونة دقيقة مختلفة، وبصور منتظمة منسقة. فهي حقيقة قوية عظمى بحيث لايمكن ان يمتلك هذا الفعل المحيط الذي يُبرز عياناً ألفاً من الحِكَمْ والخوارق سوى القادر على كل شئ، والعالم بكل شئ، وليس هناك إمكان أو احتمال آخر قط.
الشعاع السابع - ص: 155
ثالثتها: حقيقة فتح صور تلك الحيوانات غير المحدودة بمئات الآلاف من الأشكال والانماط، من بيوض وبويضات متماثلة معدودة، ومن قطرات محدودة، متشابهة أو مختلفة بفارق طفيف.. ففتح تلك الصور - التي هي بحد ذاتها معجزة الحكمة - بانتظام كامل، وموازنة تامة، دونما خطأ ولا زيادة او نقصان، انما هو حقيقة ساطعة باهرة تستقى نورها من دلائل وأسانيد بعدد الحيوانات جميعها.
وهكذا شاهد السائح عالم الطيور والحيوانات وتلّقى درساً كاملاً من دلالة هذه "الحقائق الثلاث" المتفقة، دلالة واضحة على ان جميع أنواع الحيوانات تشهد قائلة معاً: "لا إله إلا هو" حتى غدت الارض كأنها انسان ضخم جداً، تذكر "لا إله إلا هو" بنسبة كبرها وضخامتها فتملأ من شدتها وقوتها قبة السماء حتى يسمعها اهل السماوات.
وقد ذكر في المرتبة السابعة من المقام الاول لبيان هذه الحقائق ما يأتي:
[لا إله إلاّ الله الواجبُ الوجــــــــود الذي دلّ علــى وجــــوب وجوده في وحــدته: إتفاقُ جميع أنــواع الحيوانات، والطيور، الحامدات الشاهدات بكلمات حَواسِّها، وقواهــا، وحســياتها، ولطائفها، الموزونات المنتظمات الفصيحات، وبكلمات اجهزتها وجوارحها، واعضائها، والاتها المكملة البليغات، بشهادة عظمة إحاطة حقيقة الايــــجاد والصنع، والابــــداع، بالارادة، وحــقيقة: التمييز والتزيين، بالقصد. وحقيقة: التقدير والتصوير، بالحكمة مع قطعية دلالة حقيقة: فتح جميع صورها المنتظمة المتخالفة المتنوعة غير المحصورة من بيضاتٍ وقطراتٍ متماثلة متشابهة محصورة محدودة].
* * *
ثم اراد هذا السائح المتأمل ان يدخل عالم الانسان ودنيا البشر كي يمضي صعداً في مراتب غير محدودة للمعرفة الإلهية ويرقى درجة أعلى في أذواقها، ومنزلة أسمى في أنوارها غير المتناهية، وعندها دعته الى الدخول صفوة البشر أولاً وهم "الانبياء عليهم السلام" فدخل ومضى يسبر غور الازمان قبل كل شئ فرأى ان جميع الانبياء عليهم السلام وهم خيرة نوع البشر وأكملهم قاطبة، يذكرون بلسان واحد ويرددون
الشعاع السابع - ص: 156
معاً بالاجماع "لا إله إلاّ هو" وهم جميعاً يدعون الى التوحيد الخالص بقوة ما لايحد من معجزاتهم الباهرة المصدّقة لهم ولدعواهم، ورأى انهم جميعاً يدعون البشرية الى الايمان بالله لاخراجها من مرتبة الحيوانية، ورفعها الى درجة المَلَك؛ لذا فقد جثا السائح على ركبتيه بأدب جم وتوقير عظيم في أروقة تلك المدرسة النورانية، ورأى أن بين يدي كل من اولئك الائمة الهداة الاعلام للبشرية معجزات وخوارق هي علائم تصديق لهم من لدن رب العالمين سبحانه.. وانه قد تكونت طائفة عظيمة وأمة غفيرة مصدّقة من البشر دخلت حظيرة الايمان بتبليغ كل منهم.. لذا تمكن السائح من قياس مدى قوة التوحيد ورصانته، تلك الحقيقة التي اتفق عليها اولئك الصادقون الذين يربون على مائة ألف.. وفهم كذلك مدى الخطأ الجسيم والجناية الكبرى التي يرتكبها اهل الضلالة المنكرون لتلك الحقيقة الراسخة التي تملك هذه القوة والتي صدّقها وأيدها هذا العدد من المخبرين الصادقين وأثبتوها بمعجزاتهم التي لا تحد.. وادرك كذلك مدى ما يستحقونه من عذاب أليم خالد.. وعرف ايضاً مدى صواب وأحقية الذين صدقوهم وآمنوا بهم فدخلوا حظيرة الايمان. فبدت أمامه بذلك مرتبة عظمى هائلة لقدسية الايمان وسمو التوحيد.
نعم،ان المعجزات التي لاحصر لها تصديق فعلي من لدن الحق سبحانه وتعالى للأنبياء عليهم السلام، والصفعات السماوية التي نزلت بالمنكرين المعارضين لهم أظهرت أحقيتهم وتأييد الله لهم، وكمالاتهم الشخصية وارشاداتهم السديدة دالة على انهم على حق أبلج، وقوة ايمانهم وغاية جديتهم ونهاية تجردهم تشهد كلها على صدقهم وصواب دعوتهم، وما في ايديهم من الكتب والصحف المقدسة، وتلاميذهم غير المحدودين الذين بلغوا الحقيقة وارتقوا الى الكمال واهتدوا الى النور باتباعهم لهم، يشهدكلها على أحقية سبيلهم وصواب طريقهم. وعلاوة على كل هذا فان اجماع اولئك المبلّغين الصادقين في المسائل المثبتة لهو حجة قاطعة على صدق الايمان وقوة عظيمة تعزز حقيقته بحيث لا تستطيع قطعاً اية قوة في العالم ان تصارعها. فهي حقيقة دامغة تنحسر امامها كل شبهة او ريب.
فعلم السائح حكمة كون تصديق الرسل كافة ركناً من اركان الايمان، وكيف انه ينبوع دفاق ومصدر قوة عظيمة لايمانه، فســرعان ما انكب يغترف من هذا الينبوع الثر.
الشعاع السابع - ص: 157
وقد ذكر في المرتبة الثامنة من المقام الاول ما يفيد معنى الدرس المذكور لهذا السائح:
[لا إله إلاّ الله الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: إجماع جميع الانبياء، بـقوة معجزاتهم الباهرة، المُصّدقّةِ المُصَدّقَة].
* * *
وحينما كان السائح الطالب الذي تذوق مذاقات سامية من قوة الايمان وتنسم انسام الحياة صافية خالصة، يرجع من مجلس الانبياء عليهم السلام. دعاه اولئك الذين أثبتوا دعاوى الانبياء بعلم اليقين واقاموا الحجج الدامغة على صدقها، من العلماء المحققين والمجتهدين المتبحرين الذين يطلق عليهم جميعاً الاصفياء والصديقون.. دعاه اولئك الى مدارسهم فدخل ورأى مجمعاً حافلاً يضم:
ألوفاً من العباقرة الافذاذ، ومئات الالوف من المدققين من اهل العلم والتحقيق وهم يقيمون الدلائل وينصبون البراهين ويثبتون بتدقيقاتهم العميقة التي لا تدع أدنى شبهة المسائل الايمانية المثبتة، وفي مقدمتها وجوب وجود الخالق سبحانه ووحدانيته.
نعم ان اتفاق اولئك العلماء الفطاحل - مع تفاوت استعداداتهم وتباين مواهبهم الفطرية واختلاف مسالكهم - على اصول الايمان واركانه، مستنداً كل منهم على قوة براهينه ويقينها، لهو حجة قاطعة لايمكن لأحد معارضتها او دحضها او المماراة فيها الا اذا كان يملك ذكاءً أحدّ وارقى من ذكاء اولئك الفحول، وكان برهانه اقوى من براهين الجميع وحجته ابلغ من حجتهم جميعاً !! وهذا محال. لذا لايمكن مجابهتها الاّ بالجهل والتجاهل والانكار، فيما لايمكن اثباته من المسائل المنفية، او بالعناد وإغماض العين ازاء ذلك النور. والحال ان من يغمض عينيه فقد جعل نهاره ليلاً.
ففهم السائح أن الانوار التي نشرها هؤلاء الاساتذة المتبحرون لهذه المدرسة السامية الشاسعة قد أضاءت نصف الكرة الارضية خلال ألف من السنين. ووجد من هذا قوة معنوية هائلة تنصبّ في كيانه، وتملأ جوانحه بحيث لو اجتمع اهل الانكار وارباب العناد جميعاً لن يقدروا على زعزعتها ولو قيدَ شَعرةٍ. وهكذا ذكرت اشارة مختصرة في المرتبة التاسعة من المقام الاول لما اقتبسه السائح في هذه المدرسة من دروس وعبر كما يأتي:
الشعاع السابع - ص: 158
[لا إله إلاّ الله الذي دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته: اتفاقُ جميع الأصفياء، بقوة براهينهم الزاهرة المحققة المتفقة].
* * *
وحينما كان يؤوب ذلك المسافر المتأمل من مدرسة العلماء ألحف عليه شوق ملح الى زيادة الايمان وانكشافه واستولت عليه رغبة عنيفة الى رؤية الانوار والأذواق التي هي في طريق الارتقاء من درجة علم اليقين الى مرتبة عين اليقين. فدعاه ألوف وملايين "الاولياء الصالحين" المرشدين السامين الذين سعوا الى الحقيقة، وبلغوا الحق، ووصلوا مرتبة عين اليقين بسموهم وعروجهم تحت ظل المعراج الاحمدي وعلى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في الجادة المحمدية الكبرى، دعاه هؤلاء الى محل ذكر عظيم بهيج، ومقام إرشاد قويم كريم، يشع فيضاً ونوراً يملأ الارجاء كلها ويتدفق نابعاً من تلاحق ما لا يحد من تكاياهم وزواياهم ومرابطهم فدخل ورأى ان اهل الكشف والكرامات هؤلاء يرددون بالاتفاق والاجماع: "لاإله إلاّ هو" معلنين به وجوب وجود الرب سبحانه وتعالى، ووحدانيته، مستندين الى كشفياتهم وكراماتهم ومشاهداتهم.
نعم، كما يستدل على الشمس بألوان ضيائها السبعة؛ فان حقيقة التوحيد كذلك يصدقها هؤلاء الافذاذ العارفون والجهابذة المنورون بالاجماع والاتفاق، وهم يمثلون اهل الطرق المتنوعة الصادقة واصحاب المسالك المختلفة الصائبة وذوي المشارب العديدة الحقة الذين اصطبغوا بسبعين لوناً، بل بعدد اسماء الله الحسنى، من الالوان المنورة المتباينة، والانوار الملونة المختلفة المتجلية على القلوب والافاق من نور الابد والأزل.
وقد شاهد السائح تجلى تلك الحقيقة الباهرة؛ بعين اليقين. لذا رأى ان حقيقة يُجمع عليها الانبياء عليهم السلام، ويتفق على صدقها العلماء الاصفياء، ويتوافق معها الاولياء الصالحون لهي حقيقة أسطع من ضوء النهار الدال على الشمس.
وهكذا ذكرت في المرتبة العاشرة من المقام الاول اشارة مختصرة الى ما أخذه هذا المسافر من فيض في المرابط الصوفية وزواياهم:
الشعاع السابع - ص: 159
[لاإله إلاّ الله الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: إجماع الاوليـاء بكشفياتهم، وكراماتهم الظـاهرة المحـققة المصدّقة].
* * *
ثم ان ذلك السائح أراد بكل لطائفه وقواه أن يزداد رقيّاً وسمواً في قوة الايمان وانكشاف معرفته لله، لعلمه بأن محبة الله الناشئة من الايمان بالله، والمتفجرة من معرفته، هي أعظم كمال إنساني وأهمه وأوسعه، بل هي منبع جميع الكمالات واساسها؛ لذا رفع رأسه ناظراً في السماوات وخاطب عقله:
ما دامت الحياة هي اغلى شئ في الكون، والموجودات كلها مسخرة للحياة، وأن أثمن ذوي الحياة هم ذوو الروح، وأرقى ذوي الارواح هم ذوو الشعور.. وما دامت الكرة الارضية - لأجل هذه المنزلة الرفيعة - تخلى في كل عصر وفي كل سنة، وتملأ باستمرار، تكثيراً لذوي الحياة. فلابد - ولامحالة - ان تكون لهذه السماوات العُلى المزينة، سكنتها واهلوها المتلائمون معها من ذوي الحياة وذوي الارواح وذوي المشاعر. حتى نقلت روايات متواترة تؤكد رؤية "الملائكة" والتكلم معهم منذ القديم، كتمثل جبرائيل عليه السلام في صورة انسان وظهوره امام الصحابة في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال السائح: ليتني اصل الى شرف رؤية اهل السماوات، وليتني أقف على ما عندهم حول حقيقة الايمان والتوحيد. لأن أهم شهادة في حق خالق الكون هي شهادتهم.. ولم يكد يتم حديثه حتى سمع فجأة كأن هاتفاً سماوياً يقول:
"
ما دمت تريد أن تلتقي معنا، وتستمع الى درسنا، فاعلم: ان المسائل الايمانية التي أُنزلت بوساطتنا الى جميع الانبياء وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم، قد آمنا بها نحن اولاً. واعلم كذلك ان جميع الارواح الطيبة منا، والمتمثلة للانسان قد شهدت كلها بلا إستثناء وبالاتفاق على وجوب وجود خالق الكون، وعلى وحدانيته، وعلى صفاته القدسية. وان ما أخبرت به من اخبار كثيرة يوافق بعضه بعضاً، ويطابقه مطابقة تامة. فتوافق هذه الاخبار غير المحدودة، وتطابقها دليل لك كالشمس". فوعى السائح ما يقصدونه، وتألق نور ايمانه وسطع، حتى عرج صاعداً الى السماوات.

الشعاع السابع - ص: 160
وهكذا ذكرت اشارة قصيرة لما أخذه هذا السائح من درس الملائكة في المرتبة الحادية عشرة من المقام الاول:
[لاإله إلاّ الله الواجب الوجود الذي دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته: اتـفاق الملائــكة المتمثلين لأنظار الناس، والمتكلمين مع خواص البشر، باخبــارهـــــم المتطابقة المتوافقة].
* * *
ثم ان ذلك المسافر المتلهف المشتاق، بالدرس الذي تلقاه من ألسنة طوائف معينة ومن أحوالها، في عالم الشهادة والجانب الجسماني والمادي منه، اشتاق القيام بمزيد من السياحة والاسفار والتحري والبحث عن الحقيقة فتقدم الى مطالعة: ما في عالم الغيب وعالم البرزخ ايضاً. فانفتح امامه باب "العقول المستقيمة المنورة والقلوب السليمة النورانية" اللتان لاتخلو منهما طائفة من طوائف البشر، فالعقل والقلب هما بحكم نواة الانسان ولبّه وبفضلهما استطاع ان يصبح ثمرة الكون، ويملكان من القدرة على الانبساط والاتساع ما يمكنهما ان يطويا العالم كله رغم صغرهما، فرأى السائح:
ان القلوب والعقول برازخ انسانية بين عالمي الغيب والشهادة، فالعلاقات والعلامات بين ذينك العالمين - بالنسبة للانسان - تجري في تلك النقاط؛ لذا خاطب عقله وقلبه معاً قائلاً: "أقبلا، فان اقصر الطرق الموصلة الى الحقـــيقة هي من بابـكما فهيا لنستفد بمطالعتنا العقول والقلوب المتصفة بالايمان ودراستنا كيفياتهما وألوانهما، فهذا درس لا يؤخذ من الألسنة كما هو الحال في الطرق الاخرى". فباشر يقلب صفحات العقول وينشر صفحات القلوب ممعناً النظر مطيلاً الفكر، فرأى ان جميع العقول المستقيمة المنورة تتفق في العقيدة الراسخة الواضحة في الايمان والتوحيد، وتتطابق في اليقين الجازم والاقتناع المطمئن، رغم التباين الواسع في استعداداتها والبعد والمخالفة بين مذاهبها. أي أنها استندت وارتبطت بعقيدة لاتتبدل، ودخلت في حقيقة عريقة لا تنــفصــم؛ لذا فـان إجماع هذه العقول في الايمان،
الشعاع السابع - ص: 161
والوجوب، والتوحيد انما هو سلسلة نورانية لاتنقطع، ونافذة واسعة وضّاءة مطلة على الحقيقة.
ورأى كذلك ان جميع القلوب السليمة النورانية تتوافق فيما بينها في كشفياتها ومشاهداتها - التي هي ذات اتفاق واطمئنان وانجذاب - في اركان الايمان، وتتطابق في التوحيد، رغم تباعد مسالكها وتباين مشاربها. أي ان كل قلب من هذه القلوب النورانية عرش صغير جداً تستوي عليها المعرفة الربانية، وهي مرآة جامعة لأنوار التجليات الصمدانية، بما يقابل الحقيقة ويوصل اليها، ويتمثل بها، فهي اذاً نوافذ مفتوحة تجاه شمس الحقيقة. أي ان مجموع هذه القلوب يشكل معاً مرآة عظمى واسعة كالبحر أمام تلك الشمس.
وان اتفاق هذه القلوب والعقول واجماعها في وجوب وجوده سبحانه، وفي وحدانيته لهو دليل أكمل ومرشد اكبر لايتحير ولايحيّر؛ اذ ليس هناك إمكان قط ولا إحتمال قطعاً - في أية جهة كانت - ان يخدع وهمٌ لاحقيقة له، وفكرٌ لايمت الى الحقيقة بصلة، وصفةٌ لا اصل لها، جميع هذه العيون البصيرة النافذة الحادة لهذه الكثرة الكاثرة من ذوي القلوب الصافية والعقول الرزينة، وان يستمر هذا الخداع عبر قرون وبرسوخ تام ! او أن يوقعهم جميعاً في شباك التمويه والغفلة ! فهل هناك من يجد احتمالاً كهذا غير من يحمل عقلاً فاسداً عفناً ؟ بل حتى السوفسطائيون الحمقى الذين ينكرون الكون يردّونه ولا يرضون به !.
هكذا فهم السائح، فقال منسجماً مع عقله وقلبه: آمنت بالله
واشارة الى المعرفة الايمانية مما استفاد هذا السائح من العقول المستقيمة والقلوب المنوّرة ذكر في المرتبة الثالثة عشرة من المقام الاول ما يأتي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: اجماع العقول المستقيمة المنوّرة، باعتقاداتها المتوافقة وبقناعاتها، ويقيناتها المتطابقة، مع تخالف الاستعدادات والمذاهب، وكذا دلّ على وجوب وجوده في وحدته اتفاق القلوب السـليمة النورانية، بكشفياتها المتطابقة وبمشاهداتها المتوافقة، مع تباين المسالك والمشارب].
* * *
الشعاع السابع - ص: 162
ثم ان ذلك السائح الذي نظر الى عالم الغيب من قريب، وتجوّل في عالمي العقل والقلب، أخذ يطرق باب ذلك العالم بهذا النمط من التفكير: "يا ترى ماذا يقول عالم الغيب ؟". إذ مادمنا نرى في عالم الشهادة الجسماني هذا، ان المحتجب وراء ستار الغيب سبحانه يعرّف نفسه لنا بهذا القدر الهائل من مصنوعاته المزينة المتقنة ويسوقنا الى محبته بهذا القدر الذي لايحصى من نعمه اللذيذة الطيبة ويخبرنا عن كمالاته الخفية بهذا القدر الزاخر من آثاره الخارقة البديعة.. نعم ان الذي يعرّف نفسه ويحببها فعلاً وبلسان الحال الذي هو أبيَن من الكلام والتكلم؛ لابد انه سيتكلم قولاً وتكلماً مثلما يتكلم فعلاً وحالاً، معرّفاً نفسه ومحبباً ذاته.
لذا خاطب السائح نفسه قائلاً: علينا ان نعرفه سبحانه من مظاهر الوهيته وربوبيته في عالم الغيب. فغاص قلبه في الاعماق ورأى بعين عقله:
ان حقيقة "الوحي الإلهي" مهيمنة كل حين - بظواهر في غاية القوة والوضوح - على ارجاء عالم الغيب كافة. فتأتي الشهادة لوجوده وتوحيده سبحانه من لدن علاّم الغيوب. وهي شهادة الوحي والالهام وهي أقوى بكثير من شهادة الكائنات والمخلوقات؛ إذ لا يدع سبحانه تعريف ذاته ولا دلائل وجوده ووحدانيته، محصوراً في شهادة مخلوقاته وحدها، بل يتكلم كلاماً أزلياً يليق بذاته، فلا حدّ ولا نهاية لكلام مَن هو حاضر وناظر بقدرته وعلمه في كل مكان. ومثلما يعرّفه معنى كلامه، فان تكلمه ايضاً يعرّفه بصفته
نعم، ان تواتر مائة ألف من الانبياء عليهم السلام واتفاقهم في جميع إخباراتهم الصادرة من الوحي الإلهي، ودلائل ومعجزات الكتب المقدسة والصحف السماوية التي هي الوحي المشهود وثماره، والتي صدقتها الاكثرية المطلقة للبشرية واقتدت بها، واهتدت بهديها.. جعل السائح يفهم بداهة أن الوحي حقيقة ثابتة لامراء فيها.وفهم كذلك ان حقيقة الوحي تفيد خمس حقائق قدسية وتؤكدها وتنورها:
اولاها: ان التكلم وفق مفاهيم البشر وبمستوى عقليتهم هو الذي يطلق عليه "التنزلات الإلهية الى عقول البشر".. نعم، ان الذي أنطق جميع ذوي الارواح من مخلوقاته، ويعلم ما يتكلمونه، تقتضي ربوبيته ان يصب معاني كلامه الازلي في كلمات يتيسر للبشر ان يتلوها بين كلامهم.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس