عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 173
فحكم السائح بان شهادة هذا النبي الامي على الوحدانية ليست شهادة شخصية وجزئية، بل هي شهادة عامة وكلية راسخة لاتتزعزع، ولن تستطيع أن تجابهها الشياطين كافة في أية جهة ولو اجتمعوا عليها.
وهكذا ذكرت إشارة مختصرة لما تلقاه ذلك السائح الذي جال بعقله في عصر السعادة جوانب الحياة من تلك المدرسة النورانية في المرتبة السادسة عشرة من المقام الاول كالآتي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الواحدُ الاحدُ الذي دلّ علـى وجوب وجوده في وحدته: فخرُ عالمٍ وشرف نوع بنـي آدم، بعظمة سلطنةِ قرآنه، وحشمةِ وسعةِ دينهِ، وكثرةِ كمالاته، وعلويّة اخلاقه، حتى بتصديق أعـدائهِ. وكذا شهد وبرهن بقوةِ مئـات المعجزات الظاهرات الباهرات المُصَّدقةِ، وبقوة آلاف حقائق دينه الساطعة القاطعة، باجماع آله ذوي الانوار، وباتفاق اصحابه ذوي الابصـار، وبتوافق مُحَقِقي أمتهِ ذوي البراهين والبصائر النّــــوارة].
* * *
ثم ان السائح الذي لا يناله تعب ولاشبع والذي علم ان غاية الحياة في هذه الدنيا بل حياة الحياة انما هو الايمان، حاور هذا السائح قلبه قائلاً:
ان كلام من نبحث عنه هو اشهر كلام في هذا الوجود واصدقه واحكمه، وقد تحدى في كل عصر من لا ينقاد اليه، ذلك القرآن الكريم ذو البيان المعجز.. فلنراجع اذاً هذا الكتاب الكريم، ولنفهم ماذا يقول.. ولكن لنقف لحظة قبل دخولنا هذا العالم الجميل لنبحث عما يجعلنا نستيقن أنه كتاب خالقنا نحن.. وهكذا باشر بالتدقيق والبحث.
وحيث ان هذا السائح من المعاصرين فقد نظر اولاً الى رسائل النور التي هي لمعات الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم، فرأى ان هذه الرسائل البالغة مائة وثلاثين رسالة هي بذاتها تفسير قيّم للآيات الفرقانية اذ إنها تكشف عن نكاتها الدقيقة وأنوارها الزاهية.
ورغم ان رسائل النور قد نشرت الحقائق القرآنية بجهاد متواصل الى الآفاق كافة، في هذا العصر العنيد الملحد، لم يستطع أحد أن يعارضها أو ينقدها، مما يثبت ان القرآن الكريم الذي هو رائدها ومنبعها ومرجعها وشمسها، انما هو سماوي من كلام
الشعاع السابع - ص: 174
الله رب العالمين، وليس بكلام بشر. حتى ان "الكلمة الخامسة والعشرين" وختام "المكتوب التاسع عشر" وهما حجة واحدة من بين مئات الحجج، تقيمها رسائل النور لبيان إعجاز القرآن، فتثبته بأربعين وجهاً، إثباتاً حيّر كل من نظر اليها، فقدّرها واعجب بها - ناهيك عن انهم لم ينقدوها ولم يعترضوا عليها قط - بل اثنوا عليها كثيراً.
هذا وقد أحال السائح اثبات وجه الاعجاز للقرآن الكريم، وانه كلام الله سبحانه حقاً الى "رسائل النور" الاّ انه انعم النظر في بضع نقاط تبين باشارة مختصرة عظمة القرآن الكريم:
النقطة الاولى: مثلما ان القرآن الكريم بكل معجزاته وحقائقه الدالة على أحقيته هو معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فان محمداً صلى الله عليه وسلم بكل معجزاته ودلائل نبوته وكمالاته العلمية معجزة ايضاً للقرآن الكريم وحجة قاطعة على ان القرآن الكريم كلام الله رب العالمين.
النقطة الثانية: ان القرآن الكريم قد بدل الحياة الاجتماعية تبديلاً هائلاً نوّر الآفاق وملأها بالسعادة والحقائق، وأحدث انقلاباً عظيماً سواء في نفوس البشر وقلوبهم، او في ارواحهم وعقولهم، او في حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية، وأدام هذا الانقلاب وأداره، بحيث إن آياته البالغة ستة آلاف وستمائة وستاً وستين آية تُتلى منذ أربعة عشر قرناً في كل آن بألسنة أكثر من مائة مليون شخص في الاقل بكل إجلال واحترام، فيربي الناس ويزكي نفوسهم، ويصفى قلوبهم، ويمنح الارواح إنكشافاً ورقياً، والعقول إستقامة ونوراً، والحياة حياةً وسعادة. فلا شك انه لا نظير لمثل هذا الكتاب ولاشبيه له ولامثيل. فهو خارق، وهو معجزة.
النقطة الثالثة: ان القرآن الكريم قد أظهر بلاغة أيما بلاغة، منذ ذلك العصر الى زماننا هذا، حتى انه حطّ من قيمة "المعلقات السبع" المشهورة وهي قصائد أبلغ الشعراء، كتبت بالذهب وعُلّقت على جدران الكعبة، حتى ان ابنة "لبيد" 1 أنزلت قصيدة أبيها من على جدار الكعبة قائلة:
_____________________
1
لبيد بن ربيعة العامري أحد الشعراء الفرسان الاشراف في الجاهلية، ادرك الاسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم ويعدّ من الصحابة ومن المؤلفة قلوبهم، وترك الشعر، وهو احد أصحاب المعلقات، وكان كريماً .. (الاعلام للزركلي5/240).- المترجم

الشعاع السابع - ص: 175
أما وقد جاءت الآيات فليس لمثلك هنا مقام".
وكذا عندما سمع أعرابيٌّ أديب الآية الكريمة: (فاصْدَع بما تُؤمَر) (الحجر: 94) خرّ ساجداً فقيل له:
- أأسلمتَ ؟
قال:
- لا، بل سجدت لبلاغة هذه الآية.
وكذا، فان آلافاً من أئمة البلاغة وفحول الأدب، امثال: عبد القاهر الجرجاني 1، والسكاكي 2، والزمخشري 3، قد اقرّوا بالاجماع والاتفاق:
"
ان بلاغة القرآن فوق طاقة البشر ولايمكن أن تُدرك".
وكذا، فان القرآن الكريم منذ نزوله - وما زال - يتحدى كل مغرور ومتعنت من الادباء والبلغاء، وينال من عتوهم وتعاليهم، تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله.. او ان يرضوا بالهلاك والذل في الدنيا والآخرة...
وبينما يعلن القرآن تحديه هذا، اذا ببلغاء ذلك العصر العنيدين قد تركوا السبيل القصيرة وهي المضاهاة والمعارضة والاتيان بسورة من مثله، سالكين السبيل الطويلة، سبيل الحرب التي تأتي بالويل والدمار على الارواح والاموال، مما يثبت اختيارهم هذا انه لا يمكن المسير في تلك السبيل القصيرة.
وكذا، ففي متناول الايدي ملايين الكتب العربية التي كتبها اولياء القرآن بشغف اقتباس اسلوبه وتقليده او كتبها أعداؤه لأجل معارضته ونقده، فكل ما كتب
_____________________

1
(ت 471هـ/ 1078م) امام في اللغة والبلاغة، له مصنفات. منها: كتاب المغني (30مجلد) المقتصد (3مجلدات) اعجاز القرآن، المفتاح، دلائل الاعجاز، اسرارالبلاغة.

2
ابو يعقوب يوسف بن ابي بكر (ت 626هـ/ 1228م) من اعلام البلاغة، مؤلف كتاب "المفتاح " الذي يعد أوسع ما كتب في البيان في زمانه وله شروح كثيرة. وضع علوم البلاغة في قالبها العلمي. مولده ووفاته بخوارزم .- المترجم.

3
هو ابو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى جارالله. ولد بزمخشر سنة 467 توفى بعد رجوعه من مكة المكرمة سنة 538هـ. إمام عصره فى اللغة والتفسير، له "الكشاف عن حقائق التنزيل " و "الفائق فى غريب الحديث " و "المفصل " فى النحو و "اساس البلاغة " وغيرها. - المترجم.

الشعاع السابع - ص: 176
ويكتب، مع التقدم والرقي في الاسلوب الناشئ من تلاحق الافكار - ومنذ ذلك الوقت والى الآن - لايمكن ان يضاهي او يدانى أيّ منها اسلوب القرآن، حتى لو استمع رجل عامي لما يتلى من القرآن الكريم لاضطر الى القول: ان هذا القرآن لايشبه أياً من هذه الكتب، ولن يستطيع انسان كائنا من كان، ولا كافر، ولا أحمق ان يقول: انها اسفل الجميع، فلابد اذاً ان مرتبة بلاغته فوق الجميع. حتى قد تلا أحدهم الآية الكريمة: (سَبَّحَ لله ما في الَّسمواتِ والارضِ )(الحديد:1) ثم قال:
- "اني لا أرى الوجه المعجز الذي ترونه في بلاغة هذه الآية الكريمة".
فقيل له:
- "عدْ بخيالك - كهذا السائح - الى ذلك العصر واستمع اليها هناك".
وبينما هو يتخيل نفسه هناك فيما قبل نزول القرآن الكريم، اذا به يرى ان موجودات العالم ملقاة في فضاء خالٍ شاسع دون حدود، في دنيا فانية زائلة، وهي في حالة يائسة مضطربة تتخبط في ظلمة قاتمة، وهي جامدة دون حياة وشعور، وعاطلة دون وظيفة ومهام. ولكن حالما أنصت الى هذه الآية الكريمة وتدبر فيها اذا به يرى ان هذه الآية قد كشفت حجاباً مسدلاً عن وجه الكون وعن وجه العالم كله حتى بان ذلك الوجه مشرقاً ساطعاً، فألقى هذا الكلام الازلي والامر السرمدي درساً على جميع ارباب المشاعر المصطفين حسب العصور كلها ومظهراً لهم:
ان هذا الكون بحكم مسجد كبير، وان جميع المخلوقات - ولاسيما السموات والارض - منهمكة في ذكر وتهليل وتسبيح ينبض بالحيوية. وقد تسنم الكل وظائفهم بكل شوق ونشوة، وهم ينجزونها بكل سعادة وإمتنان..
هكذا شاهد السائح سريان مفعول هذه الآية الكريمة في الكون، فتذوق مدى سمو بلاغتها، وقاس عليها سائر الآيات الكريمة، فأدرك السر في هيمنة بلاغة القرآن الفريدة لنصف الارض وخمس البشرية، وعلم حكمة واحدة من آلاف الحكم لديمومة جلال سلطان القرآن الكريم بكل توقير وتعظيم على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان دون إنقطاع.
الشعاع السابع - ص: 177
النقطة الرابعة: ان القرآن الكريم قد أظهر عذوبة وحلاوة ذات اصالة وحقيقة بحيث ان التكرار الكثير - المسبب للسآمة حتى من أطيب الاشياء - لايورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته. وهذا أمر مسلّم به عند الجميع منذ ذلك العصر، حتى غدا مضرب الامثال.
وكذا فقد أظهر القرآن الكريم من الطراوة والفتوة والنضارة والجدّة بحيث يحتفظ بها وكأنه قد نزل الآن، رغم مرور أربعة عشر قرناً من الزمان عليه، ورغم تيسر الحصول عليه للجميع. فكل عصر قد تلقاه شاباً نضراً وكأنه يخاطبه. وكل طائفة علمية مع انهم يجدونه في متناول ايديهم وينهلون منه كل حين ويقتفون أثر اسلوب بيانه، يرونه محافظاً دائماً على الجدة نفسها في اسلوبه والفتوة عينها في طُرز بيانه.
النقطة الخامسة: ان القرآن الكريم قد بسط احد جناحيه نحو الماضي والآخر نحو المستقبل، فالحقيقة التي اتفق عليها الانبياء السابقون هي جذر القرآن وأحد جناحيه، فهو يصدقهم ويؤيدهم، وهم بدورهم يؤيدونه ويصدقونه بلسان حال التوافق.
وكذلك فان الاولياء الصالحين والعلماء الاصفياء هم ثمار استمدت الحياة من شجرة القرآن الكريم، فتكاملهم الحيوي يدل ان شجرتهم المباركة هي ذات حياة وعطاء وذات فيض دائم وذات حقيقة واصالة. فالذين انضووا تحت حماية جناحه الثاني، وعاشوا في ظلاله من اصحاب جميع الطرق الحقة للولاية، وارباب جميع العلوم الحقة للاسلام يشهدون ان القرآن هو عين الحق ومجمع الحقائق، ولامثيل له في جامعيته وشموليته، فهو معجزة باهرة.
النقطة السادسة: ان الجهات الست للقرآن الكريم منورة مضيئة، مما يُبين صدقه وعدله.
نعم، فمن تحته أعمدة الحجج والبراهين، وعليه تتألق سكة الاعجاز، وبين يديه - هدفه - هدايا سعادة الدارين، ومن خلفه - أي نقطة استناده - حقائق الوحي السماوي، وعن يمينه تصديق ما لايحد من أدلة العقول المستقيمة، وعن يساره الاطمئنان الجاد والانجذاب الخالص والاستسلام التام للقلوب السليمة والضمائر الطاهرة.
الشعاع السابع - ص: 178
واذ تثبت - تلك الجهات الست - ان القرآن الكريم حصن حصين سماوي في الارض لايقوى على خرقه خارق ولاينفذ من جداره نافذ، هناك ايضاً ستة "مقامات" تؤكد انه الصدق بذاته والحق بعينه، وانه ليس بكلام بشر قط، وانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأول تلك المقامات تأييد مصرّف هذا الكون ومدبّره له، الذي اتخذ اظهار الجميل وحماية البر والصدق ومحق الخداعين وازالة المفترين، سنة جارية لفعاليته سبحانه، فأيَّد سبحانه وصدَّقَ هذا القرآن بما منحه من مقام إحترام وتعظيم وأولاه من مرتبة توفيق وفلاح هو اكثر قبولاً واعلى مرتبة واعظم هيمنة في العالم.
وكذا فان الاعتقاد الراسخ والتوقير اللائق من الذات المباركة صلى الله عليه وسلم نحو القرآن الكريم يفوق الجميع وهو منبع الاسلام وترجمان القرآن، وكونه بين اليقظة والنوم حينما يتنزل عليه الوحي فيتنزل عليه دون ارادته، وعدم بلوغ سائر كلامه شأوه، بل عدم مشابهته له رغم أنه أفصح الناس، وبيانه - بهذا القرآن - بياناً غيبياً لما مضى من الحوادث الكونية الواقعة ولما ستأتي منها مع أميته، من دون تردد وبكل إطمئنان. وعدم ظهور أية حيلة او خطأ او ما شابهها من الاوضاع منه مهما صغرت رغم انه بين أنظار أشد الناس انعاماً لتصرفاته.. فايمان هذا الترجمان الكريم والمبلغ العظيم صلى الله عليه وسلم وتصديقه بكل قوته لكل حكم من احكام القرآن الكريم، وعدم زعزعة اي شئ له مهما عظم يؤيد ويؤكد أن القرآن سماوي وكله صدق وعدل وكلام مبارك للرب الرحيم.
وكذا فان ارتباط خمس البشرية، بل الشطر الاعظم منهم بذلك القرآن الكريم المشاهد امامهم، إرتباط انجذاب وتدين، واستماعهم اليه بجد وشوق ولهفة، وتوافد الجن والملك والروحانيين اليه والتفافهم حوله عند تلاوته التفاف الفراشة العاشقة للنور بشهادة امارات ووقائع وكشفيات صادقة كثيرة.. كل ذلك تصديق بان هذا القرآن هو محل رضى الكون واعجابه، وان له فيه اسمى مقام واعلاه.
وكذا فان أخذ كل طبقة من طبقات البشر ابتداءً من الغبي الشديد الغباء والعامي، الى الذكي الحاد الذكاء والعالم نصيبها كاملة من الدروس التي يلقيها القرآن الكريم،
الشعاع السابع - ص: 179
وتفهمهم منه اعمق الحقائق، واستنباط جميع الطوائف من علماء مئات العلوم والفنون الاسلامية، وبخاصة مجتهدي الشريعة السمحة ومحققي اصول الدين وعباقرة علم الكلام وامثالهم، واستخراجهم الاجوبة الشافية لما يحتاجونه من المسائل التي تخص علومهم من القرآن الكريم، انما هو تصديق بأن القرآن الكريم هو منبع الحق ومعدن الحقيقة.
وكذا فان عدم معارضة ادباء العرب الذين هم في المقدمة في الادب ولاسيما الذين لم يدخلوا الاسلام - مع رغبتهم الملحة في المعارضة - وعجزهم عجزاً تاماً امام وجه واحد - وهو الوجه البلاغي - من بين وجوه اعجاز القرآن السبعة الكبرى، وعجزهم عن الاتيان بسورة واحدة فقط من سور القرآن الكريم، وصدودهم عن ذلك، وعدم معارضته ممن اتى من مشاهير البلغاء وعباقرة العلماء لحد الان لأي وجه من وجوه الاعجاز - مع رغبتهم في ذيوع صيتهم بالمعارضة - وسكوتهم عاجزين عن ذلك، لهو حجة قاطعة على ان القرآن الكريم معجزة وفوق طاقة البشر.
نعم ان قيمة الكلام وعلوه وبلاغته تتوضح في بيان: "مَن قاله ؟ ولمن قاله ؟ ولِمَ قاله ؟".
وبناء على هذا فان القرآن الكريم لم يأت ولن يأتي مثله ولن يدانيه شئ قط؛ ذلك لان القرآن الكريم انما هو خطاب من رب العوالم جميعاًً وكلام من خالقها، وهو مكالمة لايمكن تقليدها - باي جانب من الجوانب - وليس فيه امارة تومئ بالتصنع. ثم ان المخاطب هو مبعوث باسم البشرية قاطبة، بل باسم المخلوقات جميعاً، وهو اكرم من اصبح مخاطباًً وارفعهم ذكراً، وهو الذي ترشح الاسلام العظيم من قوة إيمانه وسعته، حتى عرج به الى قاب قوسين او ادنى فنزل مكللاً بالمخاطبة الصمدانية. ثم ان القرآن الكريم المعجز البيان قد بيّن سبيل سعادة الدارين، ووضح غايات خلق الكون، وما فيه من المقاصد الربانية موضحاً ما يحمله ذلك المخاطب الكريم من الايمان السامي الواسع الذي يضم الحقائق الاسلامية كلها عارضاً كل ناحية من نواحي هذا الكون الهائل ومقلباًً إياه كمن يقلب خارطة او ساعة امامه. معلّماً الانسان صانعه الخالق سبحانه من خلال أطوار الكون وتقلباته، فلاريب ولابد انه لايمكن الاتيان بمثل هذا القرآن ابداً، ولايمكن مطلقاً ان تنال درجة إعجازه.
الشعاع السابع - ص: 180
وكذا فان الآلاف من العلماء الافذاذ الذين قام كل منهم بكتابة تفسير للقرآن الكريم في مجلدات بلغ قسم منها ثلاثين او اربعين مجلداًً بل سبعين مجلداً، وبيانهم باسانيدهم ودلائلهم لما في القرآن الكريم مما لايحد من المزايا السامية والنكات البليغة والخواص الدقيقة والاسرار اللطيفة والمعاني الرفيعة والاخبارات الغيبية الكثيرة بانواعها المختلفة، واظهار كل هؤلاء لتلك المزايا واثباتهم لها دليل قاطع على أن القرآن الكريم معجزة إلهية خارقة وبخاصة اثبات كل كتاب من كتب رسائل النور البالغة مائة وثلاثين كتاباً لمزية من مزايا القرآن الكريم ولنكتة من نكاته البديعة إثباتاً قاطعاً بالبراهين الدامغة، ولاسيما رسالة "المعجزات القرآنية" و "المقام الثاني من الكلمة العشرين" الذي يستخرج كثيراً من خوارق الحضارة من القرآن الكريم امثال القطار والطائرة. و "الشعاع الاول" المسمى "بـالاشارات القرآنية" الذي يبين اشارات آيات الى رسائل النور والى الكهرباء، والرسائل الصغيرة الثمانية المسماة "بالرموز الثمانية" التي تبين مدى الانتظام الدقيق في حروف القرآن الكريم، وكم هي ذات اسرار ومعان غزيرة، والرسالة الصغيرة التي تبين خواتيم سورة الفتح وتثبت إعجازها بخمسة وجوه من حيث الاخبار الغيبي، وامثالها من الرسائل.. فان إظهار كل جزء من أجزاء رسائل النور لحقيقة من حقائق القرآن الكريم، ولنور من انواره كل ذلك تصديق وتأكيد بان القرآن الكريم ليس له مثيل، وانه معجزة وخارقة، وانه لسان الغيب في عالم الشهادة هذا، وانه كلام علام الغيوب.
وهكذا، لاجل هذه المزايا والخواص للقرآن الكريم التي اشير اليها في ست نقاط، وفي ست جهات، وفي ستة مقامات، دامت حاكميته النورانية الجليلة وسلطانه المقدس المعظم، بكمال الوقار والاحترام مضيئة وجوه العصور ومنورة وجه الارض ايضاً، طوال ألف وثلاثمائة سنة. ولاجل تلك الخواص ايضاً نال القرآن الكريم ميزات قدسية حيث ان لكل حرف من حروفه عشرة أثوبة وعشر حسنات في الاقل، وعشر ثمار خالدة، بل ان كل حرف من حروف قسم من الآيات والسور يثمر مائة او ألفاً او اكثر، من ثمار الآخرة، ويتصاعد نور كل حرف وثوابه وقيمته في الاوقات المباركة من عشرة الى المئات.. وامثالها من المزايا القدسية قد فهمها سائح العالم، فخاطب قلبه قائلاً:
الشعاع السابع - ص: 181
- حقاً أن هذا القرآن الكريم المعجز في كل ناحية من نواحيه قد شهد باجماع سوره وباتفاق آياته، وبتوافق أسراره وأنواره، وبتطابق ثماره وآثاره، شهادةً ثابتة بالدلائل على وجود واجب الوجود، وعلى وحدانيته سبحانه، وعلى صفاته الجليلة، وعلى اسمائه الحسنى، حتى ترشحت الشهادات غير المحدودة لجميع اهل الايمان من تلك الشهادة.
وهكذا، فقد ذكرت في المرتبة السابعة عشرة من المقام الاول اشارة قصيرة لما تلقاه السائح، من درس التوحيد والايمان من القرآن الكريم:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الواحد الاحد الذي دلّ على وجوب وجـوده في وحدتهِ: القرآن المعجز البيان، المقبول ُ المرغوبُ لأجناس المَلَك والانس والجان، المقروء كل آياته في كل دقيقة بكمال الاحترام، بألسنة مئات الملايين من نوع الانسان، الدائم سلطنته القدسية على اقطار الارض والاكوان، وعلـى وجوه الاعصار والزمان، والجاري حاكميته المعنوية النورانية على نصف الارض وخُمس البشر في اربعة عشـر عصراً بكمال الاحتشام.. وكذا شَهدَ وبرهن باجماع سـورهِ القدسية السماوية، وبـاتفاق آيـاته النورانية الإلهية، وبتوافق أسراره وأنواره وبتطابق حقائقه وثمراته وآثاره بالمشـاهدة والعيان].
* * *
ثم ان السائح والمسافر المذكور قد علم يقيناً ان الايمان الذي توصل اليه هو اعظم رأس مال الانسان؛ اذ لايملّكه - وهو الفقير - مزرعة فانية ومسكناً مؤقتاً، بل يملّكه الكون العظيم، ويجعله لائقاً ليظفر بملك واسع باقٍ اوسع من الدنيا، ويوجد له - وهو الانسان الفاني - لوازم حياة أبدية خالدة؛ فينقذه - وهو المسكين المنتظر لمشنقة الاجل - من النهاية المرعبة والاعدام الابدي، فاتحاً له خزائن السعادة السرمدية، لذا خاطب السائح نفسه قائلاً:
"
هيا تقدمي ! لنفز مرتبة اخرى من مراتب الايمان التي لايحصرها حد.. فلنطلع على مجموع الكون، ولننصت اليه لنرى ماذا يقول هو ايضاً، كي نضفي نوراً على تلك الدروس التي تلقيناها من أركان الكون واجزائه".

الشعاع السابع - ص: 182
فنظر السائح الى مجموع الكون بمنظار واسع محيط قد استعاره من القرآن الكريم، فرأى ان هذا الكون منظم تنظيماً بديعا، ومنطوٍ على معاني جمة وفيرة بحيث يبدو على صورة كتاب سبحاني مجسم، او قرآن رباني جسماني، او قصر مزين صمداني، او بلد منتظم رحماني؛ اذ ان جميع سور ذلك الكتاب وآياته وكلماته، بل حروفه وأبوابه وفصوله، وصحائفه وسطوره، وما يجري على الجميع من "المحو والاثبات" ذي المعنى اللطيف، ومن التحويل والتغيير ذي الحكمة والابداع.. كل ذلك بالاجماع يفيد بداهة وجود عليم بكل شئ، قدير على كل شئ. ويعبّر عن وجود بارئ ذي جلال، ومصور ذي كمال، يرى كل شئ في كل شئ، ويعلم علاقة كل شئ بكل شئ، فيراعيه.
وهكذا، فان جميع ما في الكون باركانه، وانواعه، واجزائه، وجزئياته، وساكنيه، ومشتملاته، ووارداته، ومصاريفه، وتبديلاته ذات المصلحة، وتجديداته ذات الحكمة، يفيد ويفهّم بالاتفاق وجود ووحدانية خالقٍ رفيع الدرجات، وصانع ليس كمثله شئ، يعمل بقدرة لاحد لها، وبحكمة لانهاية لها.
وتثبت شهادة الكون العظيمة هذه - على وجود الخالق ووحدانيته - حقيقتان عظيمتان واسعتان متناسبتان مع سعة الكون وعظمته، وهما:
الحقيقة الاولى: وهي حقيقة الحدوث والامكان التي رآها حكماء الاسلام والعلماء الدهاة لاصول الدين وعلم الكلام، واثبتوها ببراهين دامغة.
فقد قالوا: "لما كان في العالم، وفي كل شئ، تغيّر وتبدل، فانه فانٍ وحادث، ولايكون قديماً. ولانه حادث، فلابد له من صانع مُحدِث. ولما كان كل شئ على السواء ان لم يكن في ذاته سبب وجودي وعدمي فلن يكون واجباً ولا أزلياً..". وقد اثبت ايضاً ببراهين قاطعة انه لايمكن ايجاد الاشياء بعضها للبعض الآخر بالدور والتسلسل الذي هو باطل ومحال. فيلزم اذاً وجود واجب للوجود، يمتنع نظيره، ومحالٌ مثيله، كل ما عداه ممكن، وكل ما سواه مخلوق.
نعم ان حقيقة الحدوث قد استولت على الكون، فالعين ترى اكثرها، والعقل يرى القسم الآخر منها؛ ذلك لاننا نشاهد انه مع حلول الخريف في كل سنة يموت عالم
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس