عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع السابع


الشعاع السابع - ص: 183
عظيم جداً، فتموت معه أفراد غير محدودة لمائة ألف نوع من النباتات والحيوانات الصغيرة، كل نوع منه بحكم كون ذي حياة. ولكن ذلك الموت يجري في غاية الانتظام، بحيث تُودع تلك الافراد بذورها ونواها وبويضاتها - التي تصبح مداراً لحشرها ونشورها، والتي هي بذاتها معجزات الرحمة والحكمة وخوارق القدرة والعلم - تُودعها امانة لدى حكمة الحفيظ ذي الجلال، وتحت رعايته وحمايته، مسلمةً الى ايديها صحف اعمالها، وبرامج ما قدمت من وظائف، وبعد ذلك تموت.. وبحلول موسم الربيع تبعث باعيانها تلك التي توفيت من الاشجار والاصول والحيوانات الصغيرة. وتُحيا وتخلق امثال ومشابهات قسم اخر منها في أماكنها. فتمثل بذلك مائة ألف مثال ونموذج للحشر الاعظم ومائة ألف دليل عليه. فموجودات الربيع الماضي بنشرها لصحائف ما قامت به من اعمال، وما ادت من وظائف، واعلانها تلك الصحائف في هذا الربيع، تظهر بوضوح مثالاً للآية الكريمة:
(واِذا الصُحُفُ نُشِرَت) (التكوير: 10).
وكذا من جانب الكون ككل؛ ففي كل خريف وفي كل ربيع يموت عالم كبير، ويأتي الى الوجود عالم جديد، وما فيهما من الوفيات والمواليد لأنواع لاتحصى من الاحياء تجري في غاية الانتظام والميزان، حتى كأن الدنيا محط ومنزل، يستضاف فيه الكائنات الحية، فتأتيها عوالم سيّاحة ودنىً سيارة تؤدي فيها وظائفها، ثم ترحل عنها وتغادرها.
وهكذا فان إحداث عوالم ذات حياة، وايجاد كائنات موظفة في هذه الدنيا، إحداثاً وايجاداً بكل علم وحكمة، وميزان وموازنة، وانتظام ونظام، واستعمالها بقدرة، واستخدامها برحمة في المقاصد الربانية، وفي الغايات الإلهية، وفي الخدمات الرحمانية، تدل بالبداهة على وجوب وجود ذاتٍ مقدسة جليلة لاحدّ لقدرتها، ولانهاية لحكمتها، ويظهرها للعقول واضحة كالشمس.
نغلق باب مسائل الحدوث ونحيلها الى رسائل النور وكتب علماء الكلام.
اما جهة "الامكان" فهو الآخر قد استولى على الكون واحاط به، اذ نشاهد ان كل شئ سواء أكان كلياً ام جزئياً كبيراً ام صغيراً، وكل موجود من العرش الى الفرش،
الشعاع السابع - ص: 184
ومن الذرات الى السيارات، إنما يُرسل الى الدنيا، بذاتية خاصة، وبصورة معينة، وبشخصية متميزة، وبصفات خاصة، وبكيفيات حكيمة، وبأجهزة ذات مصالح وفوائد. والحال ان اعطاء تلك الخصوصية، لتلك الذات الخاصة ولتلك الماهية، من بين إمكانات غير محدودة.. وكذا إكساء تلك الصورة المعينة ذات النقوش والعلامات الفارقة المتناسبة، من بين امكانات واحتمالات عديدة بعدد الصور.. وكذا تخصيص تلك الشخصية اللائقة بانتقاء متميز لذلك الموجود المضطرب بين امكانات بقدر اشخاص بني جنسه.. وكذا تمكين صفات خاصة ملائمة ذات مصالح في ذلك المصنوع الذي ليس له شكل والمتردد ضمن امكانات واحتمالات بعدد أنواع الصفات ومراتبها.. وكذا تجهيز ذلك المخلوق بتلك الكيفيات ذات الحكمة، وتقليده بتلك الاجهزة ذات العناية التي من الممكن ان تكون في طرق شتى وطرز غير محدودة، وهو المتحير السائب بلا هدف ضمن ما لايحد من الامكانات والاحتمالات.. ان جميع هذه الاشارات والدلالات والشهادات، الصادرة من حقيقة "الامكان" تشكل بلاشك أحد جناحي هذه الشهادة العظمى للكون؛ لانه بعدد جميع الممكنات الكلية والجزئية، وبعدد امكانات كل ممكن - مما ذكر - من ماهية وهوية، وما له من هيئة وصورة، وما يتميز به من صفة ووضعية، هناك اشارات ودلالات وشهادات على وجود واجب الوجود سبحانه، الذي يخصّص ويُرجّح ويعيّن ويحدِث، ولاحد لقدرته، ولانهاية لحكمته، ولا يخفى عليه شئ ولاشأن، ولا يعجزه شئ، ولا يعزب عنه شئ، فاكبر شئ عنده يسير كاصغره. وهو القادر على ايجاد ربيع بيسر إيجاد شجرة، وعلى ايجاد شجرة بسهولة إيجاد بذرة.
ولما كانت أجزاء رسائل النور (وبخاصة الكلمة الثانية والعشرين، والثانية والثلاثين، والمكتوب العشرين والثالث والثلاثين) قد أثبتت إثباتاً كاملاً، وأوضحت إيضاحاً تاماً شهادة الكون بكلا جناحيها، وبكلتا حقيقتيها، لذا نختم هذه المسألة الطويلة جداً باحالتها الى تلك الرسائل.
اما الجناح الثاني للشهادة الكبرى الكلية الصادرة من مجموع الكون فهو:
الشعاع السابع - ص: 185
الحقيقة الثانية: حقيقة التعاون
ان حقيقة التعاون تشاهد فيما هو خارج عن طوق المخلوقات الساعية لحفظ وجودها ومهامها، وصيانة حياتها - ان كانت ذات حياة - وايفاء وظيفتها ضمن هذه الانقلابات المضطربة المستمرة والتحولات المتلاطمة الدائمةً. فمثلاً: ان سعي العناصر لامداد الاحياء، وبخاصة مدّ السحاب للنباتات، ومساعدة النباتات بدورها للحيوانات، ومعاونة الحيوانات للانسان، واللبن السائغ في الأثداء والمتدفق لاطعام الصغار، وتسليم حاجات الاحياء وارزاقها الكثيرة جداً والخارجة عن طاقتها وطوقها الى أيديها من حيث لاتحتسب، وجري الذرات الغذائية لبناء خلايا البدن.. وما شابهها من الامثلة الغزيرة لحقيقة التعاون الجارية بالتسخير الرباني وبالاستخدام الرحماني، تُظهر بجلاء ربوبية رب العالمين العامة المحيطة ورحيميته الواسعة الشاملة والذي يدير الكون الواسع برمته بسهولة ادارة قصر بسيط.
نعم ان اظهار الاشياء المتعاونة - وهي جامدة وبلا شعور ولا شفقة - اوضاعاً تنم عن الشفقة وتتسم بالشعور فيما بينها دليل وأيّ دليل على أنها تُدفع دفعاً للامداد والمعاونة فتجري بقوة رب ذي جلال، وبرحمة رحيم مطلق الرحمة، وبأمر حكيم مطلق الحكمة. وهكذا فان (التعاون) العام الجاري في الكون و(الموازنة) العامة السارية بكمال الانتظام و (المحافظة) الشاملة، ابتداء من المجرات والسيارات الى اجهزة الكائن الحي وأعضائه الدقيقة بل الى ذرات جسمه و (التزيين) الجاري قلمه من وجه السموات المتلألئ الى وجه الارض البهيج، بل الى وجه الازهار الجميلة و(التنظيم) الحاكم ابتداء من درب التبانة الى المنظومة الشمسية والى ثمار الذُرة والرمان وأمثالهما و (التوظيف) القائم ابتداءً من الشمس والقمر والعناصر والسحب الى النحل والنمل.. وامثالها من الحقائق العظيمة جداً، والشاهدة شهادة متناسبة مع عظمتها، تشكل الجناح الثاني لشهادة الكون على وجوده سبحانه ووحدانيته وتثبتها.
فما دامت رسائل النور قد اثبتت هذه الشهادة العظمى وبيّنتها، لذا نكتفي هنا بهذه الاشارة القصيرة جداً.
الشعاع السابع - ص: 186
وهكذا ذكرت في المرتبة الثامنة عشرة من المقام الاول اشارة قصيرة لما تلقاه سائح الدنيا من درس الايمان من الكون:
[لاإله إلاّ الله الواجب الوجود، الممتنع نظيره، الممكن كل ما سـواه، الواحد الاحد، الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: هذه الكائنات، الكتاب الكبير المجسم والقرآن الجسماني المعظّم والقصر المزين المنظم، والبلد المحتشم المنتظم، باجماع سـورهِ وآياته وكلماتهِ وحروفهِ وابوابهِ وفصولهِ وصحفهِ وسطورهِ، واتفاق ِ اركانه وانواعهِ واجزائهِ وجزئياتهِ وسكنتهِ ومشتملاتهِ ووارداتهِ ومصارفهِ، بشهادة عظمةِ إحاطةِ حقيقة الحدوث والتغير والامكان، باجماع جميع عُلماء علم الكلام، وبشهادة حقيقة تبديل صـورتـهِ ومشـتملاته بالحكمة والانتظام، وتجديدِ حروفهِ وكلماتهِ بالنظام والميزان، وبشهادة عظمة إحــاطةِ حقيقة: التعاون، والتجاوب، والتســاند، والتداخل، والموازنــة، والمحافظة، في موجوداته بالمشـاهدة والعيـان].
* * *
ثم ان السائح الذي أتى الى الدنيا وبحث عن خالقها وصعد في ثماني عشرة مرتبة وبلغ عرش الحقيقة بمعراج إيماني، ارتقى من مقام المعرفة الغيابية الى مقام الحضور والمخاطبة. فخاطب هذا الولوع المشتاق روحه قائلاً:
ان الحمد والثناء الغيابيين من بدء سورة الفاتحة الى كلمة "إياك" يورثان طمأنينة تصعد بالانسان وترقيه الى مرتبة المخاطبة بـ"إيَّاكَ" فعلينا إذاً ان نسأل من نبحث عنه، منه مباشرة، ونَدَع البحث الغيابي عنه، إذ ينبغي السؤال عن الشمس - التي تنور كل شئ - من الشمس نفسها. لان الذي يُظهرُ كل شئ ويوضحه لاشك انه يظهر نفسه اكثر من كل شئ؛ لذا فكما يمكننا أن نرى الشمس ونتعرف عليها من أشعتها وضيائها، يمكننا ايضاً أن نسعى - حسب قابليتنا - في التعرف على خالقنا سبحانه وتعالى من تجليات اسمائه الحسنى ومن أنوار صفاته الجليلة.
وسنبين في هذه الرسالة بياناً مجملاً ومختصراً حقيقتين فقط من بين الحقائق الغزيرة والتفصيلات المسهبة لمرتبتين من المراتب غير المتناهية لطريقين من الطرق الكثيرة لهذا المقصد:
الشعاع السابع - ص: 187
الحقيقة الاولى: حقيقة الفعالية المستولية. تلك الفعالية المهيمنة على الكون، والمشاهدة امام اعيننا. وهي التي تدير، وتبدل، وتجدد، جميع الموجودات المحيطة والدائمة والمنتظمة والهائلة والسماوية والارضية. والتي تفضي الى الشعور بحقيقة تظاهر الربوبية - بداهة - ضمن حقيقة تلك الفعالية الحكيمة بجميع جهاتها. وهذا الشعور يسوق الى ادراك تبارز الالوهية بالضرورة ضمن حقيقة تظاهر الربوبية المشعة بالرحمة بجميع جهاتها.
اي يُستشعر - كأنه يُرى - افعال فاعل قدير وعليم، من هذه الفعالية الحكيمة المهيمنة الدائمة ومن وراء ستارها. ويُعلم بداهة - الى درجة الاحساس - الاسماء الإلهية الحسنى المتجلية في كل شئ، من هذه الافعال الربانية ذات التدبير والتربية ومن وراء ستارها، ويُعرف بعلم اليقين، بل بعين اليقين، بل بحق اليقين وجود الصفات السبعة القدسية وتحققها من هذه الاسماء الحسنى المتجلية بالجلال والجمال ومن وراء ستارها. ويُعلم كذلك بعلم قاطع وبالبداهة والضرورة وبعلم اليقين وبشهادة جميع المصنوعات، من التجليات غير المتناهية لهذه الصفات السبعة القدسية، ذات الحيوية والقدرة والعلم والسمع والبصر والارادة والكلام، وجود موصوف واجب الوجود، ومسمىً واحد أحد، وفاعل فرد صمد. فيكون وجوده سبحانه للبصيرة أظهر من الشمس للبصر واسطع منها، فتدركه حتى كأنها تراه؛ ذلك لأن الكتاب الجميل ذا المعنى اللطيف، والبناء المنتظم المتقن، يستدعيان بداهة فعلي الكتابة والبناء، وفعلي الكتابة الجميلة والبناء المنتظم يستدعيان ايضاً بداهة إسمَي الكاتب والبنّاء، وإسمي الكاتب والبنّاء يستدعيان ايضاً بداهة صنعة الكتابة والبناء وصفتيهما، وهذه الصنعة والصفات تستلزمان بداهة ذاتاً تكون موصوفة وصانعة، ومسمىً، وفاعلة، اذ كما لايمكن ان يكون هناك فعل دون فاعل، ولا اسم دون مسمى، كذلك لايمكن ان تكون صفة دون موصوف، ولا صنعة دون صانع.
وهكذا يتقرر بناء على هذه الحقيقة والقاعدة ان هذا الكون - بموجوداته كافة - قد كُتب بقلم القدر، وبُني بمطرقة القدرة. فكُتب فيه ما لايحد مما هو بحكم الكتب والرسائل ذات المعاني اللطيفة. وبني فيه ما لا ينتهي مما هو بمثابة بنايات وقصور. فيشير كل واحدة منها اشارات لاحدّ لها بآلاف الأوجه، وتشهد معاً بوجوه غير
الشعاع السابع - ص: 188
محدودة شهادات لا نهاية لها على وجوب وجود ووحدانية ذاتٍ جليلة أزلية أبدية، هي موصوف تلك الصفات السبعة المحيطة القدسية ومعدنها؛ بالافعال الربانية والرحمانية غير المتناهية، وبجلوات غير محدودة لألف اسم واسم من الاسماء الحسنى التي هي منشأ تلك الافعال، وبالتجليات غير المتناهية للصفات السبعة السبحانية التي هي منبع تلك الاسماء الحسنى.. وكذا فان ما في تلك الموجودات كلها من جميع اوجه الحسن والجمال وانماط النفاسة والكمال، ومن جمال قدسي يليق بتلك الافعال الربانية والاسماء الإلهية والصفات الصمدانية والشؤون السبحانية ويوافقها، كل منه - بحد ذاته - يشهد وبمجموعه يشهد بداهة على الجمال المقدس والكمال المقدس لذاته سبحانه وتعالى.
وهكذا فان حقيقة الربوبية المتظاهرة ضمن حقيقة الفعالية المستولية تعرّف نفسها وتبيّنها بشؤونها وتصرفها في الخلق والايجاد والصنع والابداع التي تتم بالعلم والحكمة، وتظهرها في التقدير والتصوير والتدبير والادارة التي تتسم بالنظام والميزان، وتبرز في التحويل والتبديل والتنزيل والتكميل التي تنجز بالقصد والارادة، وتوضحها في الاطعام والانعام والاكرام والاحسان التي تُعطى بالشفقة والرحمة.
وان حقيقة تبارز الالوهية ايضاً التي تُحسّ وتوجد بداهة ضمن حقيقة تظاهر الربوبية تعرّف نفسها وتفهمها ايضاً بتجليات الاسماء الحسنى ذات الرحمة والكرم، وبالتجليات الجلالية والجمالية للصفات الثبوتية السبعة التي هي: "الحياة" و "العلم" و "القدرة" و "الارادة" و "السمع" و "البصر" و "الكلام".
نعم فكما ان صفة "الكلام" تعرّف الذات الاقدس سبحانه وتعالى بالوحي والالهامات، فان صفة "القدرة" كذلك تعرّف ذاته جل وعلا بآثارها البديعة التي هي بمثابة كلماتها المجسّمة التي تصف قديراً ذا جلال، وتعرّفه باظهارها الكون من اقصاه الى اقصاه بماهية فرقان جسماني.
وان صفة "العلم" ايضاً تعرّف ذات الواحد الاحد الموصوف، بقدر جميع المصنوعات الحكيمة المنتظمة الموزونة، وبعدد جميع المخلوقات التي تدار وتدبّر وتزيّن وتمّيز بالعلم.
الشعاع السابع - ص: 189
اما صفة "الحياة" فان جميع الآثار الدالة على "القدرة" والصور والاحوال ذات الانتظام والحكمة والميزان والزينة، التي تنبئ عن وجود "العلم" وجميع الدلائل التي تخبر عن بقية الصفات الجليلة، مع دلائل صفات "الحياة" نفسها تدل على تحقق صفة "الحياة". والحياة نفسها كذلك مع جميع ادلتها تلك، تبرز جميع ذوي الحياة التي هي بحكم مراياها، وتحوّل الكون برمته الى صورة مرآة كبيرة جداً متكونة من مرايا غير محدودة متبدلة دائماً ومتجددة باستمرار لاجل إظهار التجليات البديعة والنقوش الرائعة المتنوعة جديدة فتية في كل حين.
وقياساً على هذا فان صفات (البصر) و (السمع) و (الارادة) و (الكلام) كل منها تعرّف الذات الاقدس تعريفاً واسعاً جداً بسعة الكون وتفهمّها. وان تلك الصفات مثلما انها تدل على وجود ذاته جل وعلا، فهي تدل كذلك بداهة على وجود الحياة وتحققها، وعلى انه سبحانه وتعالى "حي"؛ ذلك لان العلم علامة الحياة، والسمع أمارة الحيوية، والبصر يخصّ الاحياء، والارادة تكون مع الحياة، والقدرة الاختيارية توجد في ذوي الحياة، أما التكلم فهو شأن الاحياء المدركين.
وهكذا يفهم من هذه النقاط: ان لصفة "الحياة" أدلة وبراهين تبلغ سبعة أضعاف سعة الكون، تعرّف وجودها ووجود موصوفها "الحي" حتى اصبحت "الحياة" اساس جميع الصفات ومنبعها، ومصدر الاسم الاعظم ومداره..
وحيث ان رسائل النور قد أوضحت شيئاً من هذه الحقيقة الاولى واثبتتها ببراهين دامغة، نكتفي حالياً بهذه القطرة المذكورة من هذا البحر.
الحقيقة الثانية: هي التكلم الإلهي القادم من صفة الكلام.
إن الكلام الإلهي سبحانه لانهاية له، وذلك بسر الآية الكريمة: (قل لو كان البحرُ مِداداً لكلماتِ ربي) (الكهف: 109)
فالكلام أظهر دليل على معرفة وجود المتكلم، اي أن هذه الحقيقة (التكلم الإلهي) تشهد شهادات غير متناهية على وجود المتكلم الازلي سبحانه وعلى وحدانيته. ولقد جاءت شهادتان قويتان لهذه الحقيقة بما بُيّن في المرتبتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من هذه الرسالة من حيث الوحي والالهام، وجاءت شهادة اخرى
الشعاع السابع - ص: 190
واسعة في المرتبة العاشرة منها حيث أشير الى الكتب المقدسة السماوية، وهناك شهادة اخرى ساطعة وباهرة وجامعة هي في المرتبة السابعة عشرة حيث القرآن الكريم المعجز. فنحيل بيان هذه الحقيقة وشهادتها الى تلك المراتب.
وهكذا فقد كانت أنوار واسرار الآية الكريمة:(شَهد الله أنه لاإله إلاّ هو والملئكةُ وأولوا العلم قائماً بالقسطِ لا إله إلاّ هو العزيزُ الحكيم) (آل عمران: 18) التي اعلنت هذه الحقيقة إعلاناً معجزاً، وافادت شهادتها مع شهادة بقية الحقائق، كانت كافية ووافية لصاحبنا السائح حتى انه لم يستطع ان يتجاوزها.
فذكرت في المرتبة التاسعة عشرة من المقام الاول إشارة لمعانٍ مختصرة لما تلقاه هذا المسافر من درس في هذا المقام القدسي:
[لا إله إلاّ الله الواجب الوجود الواحد الاحد، له الاسماء الحسنى، وله الصفات العليا، وله المثل الاعلى، الذي دلّ على وجوب وجوده في وحدته: الذاتُ الواجـب الوجـود، باجماع جميع صفاتِهِ القدسيّةِ المحيطة، وجميع اسمائه الحسـنى المتجلية، وبـاتفاق جميع شؤوناته وافعاله المتصرفةِ، بشهادة عظمةِ حقيقةِ تبارزِ الالوهية في تظاهر الربوبية، في دوام الفعالية المستولية، بفعل الايجاد والخلق والصنع والابداع بارادةٍ وقدرةٍ، وبفعل ِالتقدير والتدبير والتدوير باختيار وحكمةٍ، وبفعل التصريف والتنظيم والمحافظة والادارة والاعاشة بقصدٍ ورحمةٍ، وبكمال الانتظام والموازنةِ. وبشهادةِ عظمةِ إحاطةِ حقيقةِ اسرار:
(شَهِدَ الله أنه لا إله إلاّ هو والملئكةُ وأولوا العلمِ قائماً بالقسط لاإله إلاّ هو العزيزُ الحكيم)].
* * *
الشعاع السابع - ص: 191
تنبيه
إن كل حقيقة من الحقائق الشاهدة لتسع عشرة مرتبة من مراتب الباب الاول للمقام الثاني المذكور آنفاً، كما تدل على وجوب الوجود بتحققها ووجودها، كذلك تدل باحاطتها على الوحدة والاحدية. الاّ انها عدّت "دلائل وجوب الوجود" حيث أثبتت صراحة الوجود مقدماً.
أما الباب الثاني للمقام الثانى فلقيامه باثبات التوحيد صراحة أولاً، واثبات الوجود ضمنه، فقد اطلق عليه "براهين التوحيد". وإلاّ فكلاهما - أي الباب الاول والثاني - يثبتان الوجود والتوحيد معاً، ولكن لأجل التمييز بينهما يكرر في الباب الاول فقرة "بشهادة عظمة احاطة حقيقة"، وفي الباب الثاني فقرة "بمشاهدة عظمة احاطة حقيقة"، إشارة للوحدانية الظاهرة الجلية، وكأنها مشاهدة.
ولقد عزمت على توضيح مراتب الباب الثاني القابل، كما هو في الباب الاول، ولكن موانع بعض الاحوال اضطرتنى الى الاختصار والاجمال؛ لذا نحيل الى رسائل النور لاستيفاء حقه من البيان والوضوح.
الشعاع السابع - ص: 192
الباب الثاني
براهين التوحيد
ان ذلك المسافر الذي أُرسل الى الدنيا لأجل الايمان، والذي قـام بسـياحة فكرية في عالم الكائنات للاسـتفسـار عن خالقه من كل شئ، والتعرف على ربِّه في كل مكان، وترسخ ايمانه بـدرجة حق اليقين، بوجوب وجود إلهه الذي يبحث عنه خاطب هذا السائح عقله قائلاً:
هلّم لنخرج معاً في سياحة اخرى جديدة لنَرى من خلالها براهيـن تقودنا الى وحدانية خالقنا الجليل سبحانه وتعالى. وطفقا يبحثان معاً بشوق غامر عن (براهين التوحيد) هذه، فوجدا في أولى المنازل أن هناك أربع حقائق قدسية تستحوذ على الكائنات، وتستلزم التوحيد بدرجة البداهة.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس