عرض مشاركة واحدة
قديم 11-01-2011
  #8
عمرأبوحسام
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرأبوحسام
 
تاريخ التسجيل: Oct 2011
المشاركات: 47
معدل تقييم المستوى: 0
عمرأبوحسام is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في القرآن والنبوة:

إحسان
إن هذه الجوهرة الثمينة التي أودعها الله سبحانه في الإنسان وسميت العقل كائن لا يخضع لمراقبة من خارج. يمكن إخماد أنفاسه بقهر الناس وإماتتهم، لكن مراقبته وتحديد حريته تفضي به إما إلى تمرد وثورة أو إلى سكون وذبول فموت. فما يبقى إلاَّ مُراوَدَتُهُ بالإقناع حتى يتجاوز العتبة التي في أسفلها يكون خادما للهوى المتجدد والنزعات المتلونة، ومن فوقها يتنفس نسيم الإيمان ويصبح عبداً للرحمان.
يقترن ذكر العقل في القرآن بذكر القلب. قال الله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [1]. فنفهم أن من الناس من يعقل بالهوى، ومنهم من يعقل بالقلب.
القلب المومن هو الذي يعقل عن الله. العقل المُعتبر شرعا هو وظيفة قلبية تابعة للإيمان. وفي هذا يكون خلاص العقل من رِبْقة الهوى. معنى هذا بلغة العصر أن العقل بلا غاية تتجاوز الإنسان، وبالتالي تتجاوز العقل الإنساني المعاشي والمصلحة المباشرة والكون المنظور، يبقى فراشة تحترق حول ينابيع المعارف الكونية محجوبا عن مصدر الكون ومعارفه. وهو الله الخالق جل جلاله.
تجد العقلانية تفرض في الفيلسوف المُخرِّص والعالم الباحث صرامة المنهجية، وحياد العقل، وتحري النتائج المنطقية حسب المنطق المختار. وتفرض خاصة عزل العقل عن العاطفة. ومن تلك الصرامة وهذا العزل تولدت الحضارة المتحجرة اللا إنسانية التي يُسيطر بأسها على العالم اليوم. العقل غاية لنفسه، يتأمل ذاته بإعجاب وغرور في استدلالات الفيلسوف ومخترعات الباحث. ولا يبقى وقت ولا مكان ليسأل العقل نفسه من أنا ومن أين جئت وفيم كل هذا؟ ما خرج العقل العقلاني من تأمل الكون بدرس الذين يعقلون العقل المطلوب. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [2].
الكون آيات وعلامات، والعقل آلة زائغة فاشلة إن اشتغلت بالأثر عن المؤثر، ووقفت عند مظاهر الخلق، تقبل ببلادة التفسير العقلاني الذي يقول إن كل هذا لا معنى له. فمن يزعزع العقل المتحجر على ماديته من هذه المواقع المحصنة؟
الجواب أن دعوة الرسل وخطاب الله عز وجل عباده في القرآن يعتمدان على إثارة كوامن الإنسان التي خلقها سبحانه قبل العقل ومن وراء العقل وفوق العقل في طيات الكائن البشري حتى يميل المعنى الإنساني المسمى قلبا إلى "سماع" الحق. وكلمة "سمع" في القرآن أساسية. فهي في القرآن مفتاح القلب ومدخل الإيمان. وهي في القرآن كثير. قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ [3]. على العقل أن يجالس القرآن والداعيَ ويتلمذ له و"يسمع". فالسماع بهذا المعنى القرآني هو مصدر العلم. ثم يتسرب الإيمان للقلب، ويتسع القلب ليكون وعاء صالحا لاستيعاب القرآن ورسالة القرآن.
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: "أوتينا الإيمان قبل القرآن"، يخاطب جيلا لم ينزل القرآن فيهم وإنما نزلوا هم بعد نزول القرآن. فيقول: "وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان، فأنتم تنثرونه نثر الدقل". أخرجه وصححه الحاكم رحمه الله. والدقل رديء التمر.
العقل الفطري الذي تفتح فسمع بسماع القلب، وآمن بإيمانه، يَسْبِقُ إليه تعظيم المتكلم بالقرآن، وتصديق المبلغ للقرآن، فيهتدي. أما الذي استعرض صفحات المصحف، أو سمع سماع المتكئ، أو "قرأ" قراءة الفيلسوف المؤرخ، فالقرآن عنده بضاعة كسائر البضائع الكلامية. يستهين به كما عبر الصحابي الجليل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" . أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي رحمهم الله. وأثنى الله سبحانه على المحسنين في كتابه فوصفهم بأنه يحبهم، وأن رحمته قريب منهم، وأن لهم عنده الجزاء والأجر، وأنه سبحانه لا يضيع أجرهم، وأن كتاب الله الحكيم هدى ورحمة لهم كما قرأنا أول العنوان من سورة لقمان.
الإحسان درجة فوق الإيمان، والاهتداء بالقرآن والاسترحام به والاستدلال بآياته الحكيمة وآيات الله في الكون لا يحق لنا منه نصيب إلا بمقدار ما معنا من إحسان. أي من تعلق بالله جل جلاله واستماع لكلامه مستحضرين من يخاطبنا وما يريد منا وما يريد بنا وإلى أي مصير يصيرنا. وبهذا يكون محور حياتنا هذا الموقف الإحساني، وتكون قبلتَنا الله جلت عظمته، ويسارع العقل لإسعاف كياننا العام في عبوديته لله وحده لا شريك له. وبالإقناع الدعَويِّ فقط يمكن للعقل أن ينتقل هذه النقلة لا بالإكراه والمراقبة. الإقناع الدعوي يبدأ بصحبة في الله.
ثم إن القرآن خاطب المومنين عامة -والمومنون على درجات من الإحسان متفاوتة- بالتكاليف الشرعية. فإذا كان من يقرأ القرآن أو يزعم أنه يحكم بالقرآن وقلبه خاو من الإيمان فلا يعدو زَعْمُه وقراءته أن يكونا ثوبَيْ زور ملفقين على دخائل النفاق والاستهزاء بكتاب الله.
يعني هذا أن ركائز دولة القرآن لا يمكن أن تكون ضرورة سياسية، ولا احتراما للتراث، ولا اقتناعا بجدوى المذهب الاقتصادي السياسي الاجتماعي للقرآن، ولا قهرا على رقاب الأمة باسم القرآن. إنما عماد دولة القرآن الإحسان، أي موقف جماعة المسلمين من ربهم موقف العبيد المطيعين. شمولية العبودية التي لا تبعض فتشرك بالله وأمر الله جزئية في الحاكمية، أو التشريع، أو الأخلاق، أو الفكر، أو الاقتصاد، أو السياسة، أو النظام الاجتماعي. عبودية لله شاملة، لا شمولية إديولوجية تستعبد الإنسان.
لا يمكن هنا أن نتخطى سؤالا يطرحه العصر على المسلمين. وهو: كيف تتصورون شموليةً لا تصب مجتمعكم الإسلامي باسم الإسلام وشمول شريعته في مسار الظلم واحتكار السلطة واستعلاء الحاكم على المحكوم واستعباد الإنسان في الداخل والعدوان عليه في العالم؟ كيف تتجنبون شمولية ظلم الحكم الشيوعي الذي يحتكر فيه الحزب كل ما تقوم به حياة الناس باسم شمولية المذهب؟ عن هذا السؤال وأمثاله يجيب هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
[1] الحج: 46
[2] البقرة: 164
[3] الأنعام: 36
عمرأبوحسام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس