الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #3
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب الثالث

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍ اِلاّ يـُسَبـِّحُ بـِحَمْدِه{

(قسم من الرسالة التي بعثها الى طالبه المعروف)

خامساً: كنتَ قد كتبتَ في احدى رسائلك، رغبتك في أن تشاركني ما تجيش به مشاعري واحاسيسي هنا. فاستمع اذاً الى واحدةٍ من الفٍ منها، وهو:

في احدى الليالي، كنت على ارتفاع عظيم، في وكر منصوب على قمة شجرة ((القطران)) المرتفعة على قمة من قمم جبل ((ضام)). نظرت مِن هناك الى وجه السماء الأنيس الجميل المظيـّن بمصابيح النجوم، فرأيت أن في القَسم الوارد في الآية الكريمة: } فلا اُقسِمُ بالخنـّسِ ` الجَوار الكـُنـّسِ{ (التكوير:15-16) نوراً سامياً من انوار الاعجاز، وشاهدت فيه سراً بليغاً لامعاً من اسرار البلاغة.

نعم! ان هذه الآية الكريمة تشير الى النجوم السيارة والى استتارتها وانتشارها. فتعرض الآية أمام نظر المشاهد نقشاً بديعاً متقن الصنع في وجه السماء، وترسم لوحة رائعة تلقن العبرة والدرس.

نعم! هذه السيارات ما ان تخرج من دائرة قائدها الشمس وتدخل في دائرة النجوم الثابتة الاّ وتعرض في وجه السماء روائع النقش المتجدد، وبدائع الاتقان تتجدد حيناً بعد حين.. فقد تتكاتف احداها مع مثيلتها، وتـُظهران معاً آية باهرة في الجمال.. وقد تدخل احداها بين صغيرات النجوم فتقودها قيادة الكبيرة للصغيرات.. ولا سيما نجم الزُهـَرة اللامعة في الأفق، بعد الغروب في هذا الموسم خاصة ومثيلتها تسطع قبل الفجر.. فياله من جمال زاهر يضفيانه على الافق!.

ثم بعد انها كل نجم وظيفته، واشرافه على الاُخريات، وايفاء خدماته كالمكوك في نسج نقوش الصنعة البديعة، يرجع الى دائرة سلطانه المهيبة، الشمس، فيتسربل بالنور، ويتستر، ويختفي عن الانظار.

فهذه السيارات التي عبـّر عنها القرآن الكريم بـ((الخنـّس)) ((الكنـّس)) يجريها سبحانه وتعالى مع ارضنا هذه جريان سفينة تمخر عباب الكون، ويسيـّرها طيران الطير في فضاء العالم، ويسيح بها سياحة طويلة، في انتظام كامل.دالاً بها على عظمة ربوبيته وابـّهة الوهيته جل جلاله، كالشمس في وضع النهار.

فيا لأبـّهة مليك مقتدر، من بين سفائنه وطائراته ما هو اكبر جسامة من الارض ألف مرة، وتقطع مسافة ثماني ساعات في ثانية واحدة! قس بنفسك مدى السعادة السامية، ومدى الشرف العظيم في العبودية لهذا المليك الجليل، والانتساب اليه بالايمان، والضيافة على مائدة اكرامه وافضاله.

ثم نظرت الى القمر، ورأيت أن الآية الكريمة } والقمرَ قدّرناهُ منازلَ حتى عادَ كالعـُرجون القديم{ (يس:39) تعبـّر عن نور مشرق من الاعجاز.

نعم! ان تقدير القمر تقديراً دقيقاً جداً، وتدويره حول الارض وتدبيره وتنويره، واعطاءه اوضاعاً ازاء الارض والشمس، محسوبة بحساب في منتهى الدقة والعناية، تتحير منه العقول، يرشد كل ذي شعور يشاهد هذه الدقة في التقدير ان يقول: ان القدير الذي ينظم هذه الامور على هذه الشاكلة الخارقة ويقـدّرها تقديراً دقيقاً، لا يصعب عليه شيء، مما يوحى: ان الذي يفعل هذا قادر على كل شيء.

ثم ان القمر يعقب الشمس، هذا التعقيب مقدر حسابه، لا يخطىء حتى في ثانية واحدة، ولا يتباطأ عن عمله قيد انملة، مما يدفع كل متأمل فيه الى القول: سبحان من تحيـّر في صنعه العقول. اذ يأخذ القمر شكل هلال رقيق ولاسيما نهاية شهر آيار – مثلما يحدث في احيان اخرى – ويتخذ شكل عرجون قديم اثناء دخوله منزل الثريا. حتى لكأن الثريا عنقود يتدلى بهذا العرجون القديم، من وراء ستار الخضراء(1) القاتمة مما يوحى للخيال وجود شجرة عظيمة نورانية وكأن غصناً دقيقاً من تلك الشجرة قد خرق ذلك الستار واخرج نهايته مع عنقود هناك، وصار الثريا والهلال.

هذا اللوحة الرائعة تلقي الى الخيال: ان النجوم الاخرى ثمرات تلك الشجرة الغيبية. فشاهد لطافة الآية الكريمة } كالعـُرجون القديم{ وذق حلاوة بلاغتها.

ثم خطرت بالبال الآية الكريمة } هـُوَ الـَّذي جـَعَلَ لكْم الارضَ ذَلولاً فامْشوا في مـَناكِبها { (الملك:15) التي تشير الى ان الارض سفينة مسخـّرة ودابة مأمورة: من هذه الاشَارة رأيت نفسي في موقع رفيع من تلك السفينة العظيمة السائرة سريعاً في فضاء الكون، فقرأت: } سبحان الـَّذي سَخـّر لنا هذا وما كـُنـّا له مـُقْرنين{ (الزخرف:13) التي تـُسنّ قراءتها حين ركوب الدابة من فرس وسفينة وغيرهما(2).

وكذا رأيت أن الكرة الارضية، قد أخذت بهذه الحركة طور ماكينة السينما التي تبين المشاهد وتعرضها، فحرّكتْ ما في السموات من نجوم، وبدأت تسوقها سوقالجيش، عارضة مناظر جذابة ومشاهد لطيفة توقع أهل الفكر والعقل في حيرة واعجاب، وتجعلهم في نشوة من مشاهدتها. فقلت: سبحان الله… ما أقل هذه التكاليف التي تؤدي بها هذه الاعمال العظام العجيبة الغريبة والراقية الرفيعة؟

ومن هذه النقطة خطرت بالبال نكتتان ايمانيتان:

اولاها: قبل بضعة ايام سألني أحد ضيوفي سؤالاً، اساس سؤاله المنطوي على شبهة هو: ان الجنة وجهنم بعيدتان جداً، هب ان اهل الجنة يمرون ويطيرون كالبرق والبراق من المحشر ويدخلون الجنة بلطف إلهي. ولكن كيف يذهب اهل جهنم الى جهنم وهم يزرحون تحت اثقال اجساهدهم واحمال ذنوبهم الجسيمة؟ وبأية وساطة يذهبون اليها؟

والذي ورد بالبال هو: لو دُعيت الامم جميعاً الى مؤتمر عام يعقد في امريكا مثلاً. فان كل امة تركب سفينتها الكبيرة وتذهب الى هناك. وكذلك سفينة الارض التي اعتادت السياحة الطويلة في بحر محيط الكون، والتي تقطع في سنة واحدة مسافة تبلغ خمساً وعشرين الف سنة، هذه الارض تأخذ أهليها وتحملهم الى ميدان الحشر وتفرغهم هناك. وكذا تفرغ نار جهنم الصغرى الموجودة في جوفها، والتي تبلغ درجة حرارتها مائتي الف درجة – الموافقة لما جاء في الحديث الشريف – بدلالة تزايد الحرارة كل ثلاث وثلاثين متراً، درجة واحدة. والتي تؤدي بعض وظائف جهنم الكبرى في الدنيا والبرزخ - حسب رواية الحديث - وتفرغها في ميدان الحشر. ثم تتبدل الارض بأمر الله الى ارض باقية جميلة غيرها، وتصبح منزلاً من منازل عالم الآخرة.

النكتة الثانية التي وردت بالبال:

ان الصانع القدير، الفاطر الحكيم، الواحد الأحد، قد سنّ سنة، واجرى عادة وهي اداء اعمال كثيرة جداً بشئ قليل جداً، وانجاز وظائف جليلة جداً بشئ يسيرجداً، اظهاراً لكمال قدرته وجمال حكمته ودليلاً على وحدانيته جل جلاله.

ولقد ذكرت في بعض ((الكلمات)) أنه:

اذا اُسندت الاشياء كلها الى واحد أحد، تحصل سهولة ويسر بدرجة الوجوب، وإن اُسندت الى اسباب عدة وصنّاع كثيرين تظهر مشاكل وعوائق وصعوبات بدرجة الامتناع. لأن شخصاً واحداً، وليكن ضابطاً أو بنّاءً، يحصل على النتيجة التي يريدها، ويعطى الوضع المطلوب، لكثرة من الجنود، او كثرة من الاحجار ولوازم البناء، بحركة واحدة وبسهولة تامة، بحيث لو احيل ذلك الأمر الى افراد الجيش أو الى احجار البناء لتعسّر استحصال تلك النتائج بل لا يمكن قطعاً الاّ بصعوبة عظيمة.

فما يشاهد في هذه الكائنات من افعال السير والجولان والانجذاب والدوران ومن المناظر اللطيفة والمشاهد المعبّرة عن التسبيح، ولا سيما في الفصول الاربعة وفي اختلاف الليل والنهار.. اقول لو اسندت هذه الافعال الى الوحدانية فان واحداً أحداً بأمر واحد منه الى كرة واحدة بالحركة يستحصل على اوضاع رفيعة ونتائج ثمينة كاظهار عجائب الصنعة في تبدل المواسم وغرائب الحكمة في اختلاف الليل والنهار، ولوحات راقية في حركة النجوم والشمس والقمرالظاهرية وامثالها من الافعال، تحصل كلها لأن الموجودات كلها جنوده، فيعين جندياً بسيطاً كالارض حسب ارادته ويجعله قائداً على النجوم، ويجعل الشمس الضخمة سراجاً لإعطاء اهل الارض الحرارة والنور، ويجعل الفصول الاربعة - التي هي الواح نقوش القدرة الإلهية - مكوكاً، والليل والنهار اللذين هما صحيفة كتابة الحكمة الربانية نابضاً، ويقدّر القمر منازل لمعرفة المواقيت، ويجعل النجوم على هيئة مصابيح مضيئة لطيفة متلألئة بايدي الملائكة المنجذبين بنشوة السرور والفرح.. هكذا يُظهر حِكَماً كثيرة تخص الارض بمثل هذه الاوضاع الجميلة.

فهذه الاوضاع ان لم تطلب من ذاتٍ جليلة ينفذ حكمه في الموجودات كلها ويتوجه اليها كلها بنظامه وقانونه وتدبيره، يلزم اذاً ان تقطع الشموس والنجوم كلها مسافات لاحدّ لها في كل يوم بحركة حقيقية، وبسرعة لا حدّ لها!.

وهكذا ففي الوحدانية سهولة بلا نهاية كما ان في الكثرة صعوبة بلا نهاية. ولأجل هذا يعطي ذوو المهن والتجارة وحدةً للكثرة، اي يشكلون شركات فيما بينهم تسهيلاً للامور وتيسيراً لها.

حاصل الكلام: ان في طريق الضلال مشكلات لا نهاية لها، وفي طريق الوحدانية والهداية سهولة لا نهاية لها.





الباقي هو الباقي



سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس