الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #6
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب السادس

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

سلام الله ورحمته وبركاته عليكما وعلى اخوانكما ما دام الملوان(1) وتعاقب العصران وما دام القمران(2) واستقبل الفرقدان(3).

اخويّ الغيورين، زميلَيّ الشهمين، يا مبعثيّ سلواني في دار الغربة، الدنيا..

لما كان المولى الكريم سبحانه وتعالى قد جعلكما مشاركين لي في المعاني التي أنعمها على فكري، فمن حقكما اذاً مشاركتي في مشاعري وأحاسيسي.

سأحكى لكما بعضاً مما كنت اقاسيه من ألم الفراق في غربتي هذه، طاوياً ما هو اكثر ايلاماً منه لئلا اجعلكما تتألمان كثيراً.

لقد بقيت منذ شهرين او ثلاثة وحيداً فريداً، وربما يأتيني ضيف في كل عشرين يوماً او ما يقرب من ذلك، فأظل وحيداً في سائر الاوقات. ومنذ ما يقرب من عشرين يوماً ليس حولي احد من اهل الجبل، فلقد تفرقوا.

ففي هذه الجبال الموحية بالغربة، وعندما يرخى الليل سدوله، فلا صوت ولا صدى، الاّ حفيف الاشجار الحزين.. رأيتني وقد غمرتني خمسة ألوان من الغربة.

اولها: اني بقيت وحيداً غريباً عن جميع أقراني واحبابي واقاربي، بما اخذت الشيخوخة مني مأخذاً، فشعرت بغربة حزينة من جراء تركهم لى ورحيلهم الى عالم البرزخ.

ومن هذه الغربة انفتحت دائرة غربة اخرى، وهي انني شعرت بغربة مشوبة بألم الفراق حيث تركتني اكثر الموجودات التي اتعلق بها كالربيع الماضي.

ومن خلال هذه الغربة انفتحت دائرة غربة اخرى، وهي الغربة عن موطني واقاربي، فشعرت بغربة مفعمة بألم الفراق، اذ بقيت وحيداً بعيداً عنهم.

ومن خلال هذه الغربة ألقت عليّ اوضاع الليل البهيم والجبال الشاخصة امامي، غربة فيها من الحزن المشوب بالعطف ما اشعرني ان ميدان غربة اخرى انفتحت امام روحي المشرفة على الرحيل عن هذا المضيف الفاني متوجهة نحو أبد الأباد، فضمتنى غربة غير معتادة، واخذني التفكير، فقلت فجأة: سبحان الله! وفكرت كيف يمكن ان تقاوم كل هذه الظلمات المتراكبة وانواع الغربة المتداخلة!.

فاستغاث قلبي قائلاً:

يا رب! انا غريب وحيد، ضعيف غير قادر، عليل عاجز، شيخ لا خيار لي.

فأقول: الغوث الغوث. ارجو العفو، واستمد القوة من بابك يا إلهي!.

واذا بنور الايمان وفيض القرآن ولطف الرحمن يمدّنى من القوة ما يحول تلك الانواع الخمسة من الغربة المظلمة، الى خمس دوائر نورانية من دوائر الانس والسرور. فبدأ لساني يردد: } حسبنا الله ونعم الوكيل{ (آل عمران: 173) وتلا قلبي الآية الكريمة: } فان تولّوا فقل حَسبيَ الله لاّ إله الا هو عليه توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم{ (التوبة:129).

وخاطب عقلي كذلك نفسي القلقة المضطربة المستغيثة قائلاً:

دع الصُراخ يا مسكين، وتوكل على الله في بلواك.

انما الشكوى بلاء.

بل بلاء في بلاء، واثام في اثام في بلاء.

اذا وجدتَ مَن ابتلاك،

عاد البلاء عطاء في عطاء، وصفاء في صفاء، ووفاء في بلاء.

دع الشكوى، واغنم الشكر كالبلابل؛ فالازهار تبتسم من بهجة عاشقها البلبل.

فبغير الله دنياك آلام وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في بلاء.

فتعال، توكل عليه في بلواك!

ما لكَ تصرخ من بلية صغيرة، وانت مثقلٌ ببلايا تسع الدنيا.

تبسّم بالتوكل في وجه البلاء، ليبتسم البلاء.

فكلما تبسّم صغُر وتضاءل حتى يزول.

وقلت كما قال أحد اساتذتي مولانا جلال الدين الرومي(1) مخاطباً نفسه:

او كفت : ((ألستُ)) وتوكفتى: ((بلى))

شكر ((بلى)) جيست؟ كشيدن بلا

سرّ بلا جيست كة يعنى منم

حلقة زنِ دركهِ فقر و فنا(2)

((أتدري ما سر البلاء؟.. انه طرقُ باب الفقر والاستغناء عن الناس)).

وحينئذٍ قالت نفسي: أجل! أجل!. ان الظلمات لتتبدد وباب النور لينفتح بالعجز والتوكل والفقر والالتجاء . فالحمد لله على نور الايمان والاسلام.

وقد رأيت هذه الفقرة من ((الحكم العطائية)) المشهورة تنطوي على حقيقة جليلة وهي قوله:

ماذا وجَدَ من فقده وماذا فقد مَن وجده؟(3)

اي: ان الذي وجده فقد وجد كل شئ، ومن فقده لا يجد شيئاً سوى البلاء.

وفهمت سراً من اسرار الحديث الشريف ((... طوبى للغرباء...))(1) فشكرت الله.

فيا اخويّ!

ان ظلمات انواع الغربة هذه، وان تبددت بنور الايمان، الاّ انها تركت فيّ شيئاً من بصمات احكامها، واوحت بهذه الفكرة:

ما دمت غريباً واعيش في الغربة وراحلاً الى الغربة، فهل انتهت مهمتي في هذا المضيف، كي اوكلكم و((الكلمات)) عني. واقطع حبال العلاقات عن الدنيا قطعاً كلياً؟

وحيث أن هذه الفكرة وردت على البال بهذه الصورة، فكنت اسألكم:

هل ((الكلمات)) المؤلفة كافية؟ وهل فيها نقص؟ واعني بهذا السؤال: هل انتهت مهمتى كي أنسى الدنيا واُلقي بنفسي في احضان غربة نورانية لذيذة حقيقية باطمئنان قلب واقول كما قال مولانا جلال الدين:

دانى سماع جة بود؟ بى خود شدن ز هستى

أندر فناى مطلق ذوق بقا جشيدن (2)

ليت شعري هل لي أن ابحث عن غربة رفيعة سامية!.

ولأجل هذا كنت اجابهكم بتلك الأسئلة.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس