الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #9
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب التاسع

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{



((جزء من رسالة بعثها الى تلميذه المعهود، ذلك التلميذ الخالص))

........

ثانياً:

ان توفيقكم ونجاحكم في نشر الأنوار القرآنية ونشاطكم وشوقكم في هذا السبيل، انما هو اكرام إلهي، بل هو كرامة قرآنية وعناية ربانية.اهنئكم يا اخي. ولمناسبة ذكر الكرامة والإكرام والعناية ساذكر فرقاً بين الكرامة والاكرام وهو الآتي:

ان اظهار الكرامة فيه ضرر ان لم يكن هناك ضرورة، بينما اظهار الاكرام تحديث بالنعمة. فالشخص المتشرف بالكرامة اذا ما صدر عنه أمرخارق للعادة وهو يعلم، فلربما يكون صدور ذلك الامر الخارق استدراجاً ان كانت نفسه الأمارة باقية من حيث اعجابه بنفسه والاعتماد على كشفه واحتمال وقوعه في الغرور.

ولكن ان صدر عنه أمر خارق دون علمه وشعوره، كمن يأتيه من يحمل سؤالاً في قلبه، فيجيب عنه جواباً شافياً من نوع الانطاق بالحق فانه لا يعتمد على نفسه بعد ادراكه الامر، بل تزداد ثقته بالله واطمئنانه اليه، قائلاً: ان لي حفيظاً رقيباً يتولاني بالتربية اكثر مني. فيزيد توكله على الله.

هذا القسم، كرامة لا خطورة فيها، وصاحبها غيرمكلف باخفائها. ولكن عليه الاّ يسعى قصد اظهارها للفخر، لأنه ربما ينسب ذلك الامر الخارق الى نفسه، اذ فيه شئ من كسب الانسان في الظاهر.

أما الاكرام فهو أسلم من القسم الثاني السليم من تلك الكرامة وهو في نظري أعلى منه وأسمى. فاظهاره تحدث بالنعمة، لأن ليس فيه نصيب من كسب الانسان. فالنفس لا تستطيع ان تسنده اليها.

وهكذا يا أخي! ان ما رأيتُه وكتبته سابقاً من احسانات إلهية، فيما يخصك ويخصني ولا سيما في خدمتنا للقرآن، انما هو اكرام إلهي، اظهاره تحدث بالنعمة. ولهذا اكتب اليكم عن التوفيق الإلهي في خدمتنا من قبيل التحدث بالنعمة. وانا على علم انه يحرك فيكم عرق الشكر لا الفخر.

ثالثاً:

أرى أن أسعد انسان في هذه الحياة الدنيا هو ذلك الذي يتلقى الدنيا مضيف جندية ويذعن انها هكذا، ويعمل وفق ذلك. فهو بهذا التلقي يتمكن أن ينال أعظم مرتبة ويحظى بها بسرعة، تلك هي مرتبة رضى الله سبحانه، اذ لا يمنح قيمة الالماس الثمينة الباقية لقطع زجاجية تافهة، بل يجعل حياته تمضي بهناء واستقامة.

نعم! ان الأمور التي تعود الى الدنيا هي بمثابة قطع زجاجية قابلة للكسر بينما الأمور الباقية التي تخص الآخرة هي بقيمة الألماس المتين الثمين.

فما في فطرة الانسان من رغبة ملحة ومحبة جياشة وحرص رهيب وسؤال شديد وأحاسيس اخرى من أمثال هذه، وهي أحاسيس شديدة وعريقة، انما وهبت له ليغنم بها أموراً اخروية. لذا فان توجيه تلك الأحاسيس وبذلها بشدة نحو أمور دنيوية فانية انما يعني اعطاء قيمة الالماس لقطع زجاجية تافهة.

ولقد وردت هذه النقطة على خاطري لمناسبة هذه المسألة فسأذكرها لكم، وهي:

ان العشق محبة قوية شديدة، فحينما يتوجه الى محبوبات فانية، فان ذلك العشق اما يجعل صاحبه في عذاب أليم مقيم، أو يدفعه ليتحرى عن محبوب حقيقي حيث لا يستحق ذلك المحبوب المجازي تلك المحبة الشديدة. وعندها يتحول العشق المجازي الى عشق حقيقي.

وهكذا ففي الانسان ألوف من أمثال هذه الأحاسيس، كل منها لها مرتبتان - كالعشق - احداهما مجازية، والاخرى حقيقية.

فمثلاً: القلق على المستقبل. هذا الاحساس موجود في كل انسان، فعندما يقلق قلقاً شديداً على المستقبل يرى أنه لا يملك عهداً للوصول الى ذلك المستقبل الذي

يقلق عليه، فضلاً عن أن ذلك المستقبل القصير الأمد مكفول من حيث الرزق - من قبل الرزاق - فاذاً لا يستحق كل هذا القلق الشديد. وعندها يصرف وجهه عنه، متوجهاً الى مستقبل حقيقي مديد، وهو ما وراء القبر والذي لم يُكفَل للغافلين.

ثم ان الانسان يبدي حرصاً شديداً نحو المال والجاه، ولكنه يرى أن ذلك المال الفاني الذي هو امانة بيده مؤقتاً، وذلك الجاه الذي هو مدار شهرة ذات بلاء، ومصدر رياء مهلك، لا يستحقان ذلك الحرص الشديد. وعند ذلك يتوجه الى الجاه الحقيقي الذي هو المراتب المعنوية ودرجات القرب الإلهي وزاد الآخرة، ويتوجه الى المال الحقيقي الذي هو الاعمال الاخروية. فينقلب الحرص المجازي الذي هو اخلاق ذميمة الى حرص حقيقي الذي هو اخلاق حميدة سامية.

ومثلاً: يعاند الانسان ويثبت ويصر على أمور تافهة زائلة فانية ثم يشعر أنه يصر على شئ سنة واحدة، بينما هو لا يستحق اصرار دقيقة واحدة. فليس الا الاصرار والعناد يجعله يثبت على أمور ربما هي مهلكة ومضرة به. ولكن ما ان يشعر أن هذا الحس الشديد لم يوهب له ليبذل في مثل هذه الامور التافهة، وان صرفه في هذا المجال مناف للحقيقة والحكمة، تراه يوجه ثباته واصراره وعناده الشديد في تلك الامورالتافهة الى أمور باقية وسامية ورفيعة تلك هي الحقائق الايمانية والاسس الاسلامية والاعمال الاخروية. وعندها ينقلب الحس الشديد للعناد المجازي الذي هو خصلة مرذولة الى خصلة سامية وسجية طيبة وهي العناد الحقيقي، وهو الثبات الشديد على الحق.

وهكذا على غرار هذه الامثلة الثلاثة فان الاجهزة المعنوية الممنوحة للانسان اذا ما استعملها في سبيل النفس والدنيا، غافلاً وكأنه مخلد فيها؛ تصبح تلك الاجهزة المعنوية منابع اخلاق دنيئة ومصادر اسرافات في الامور ومنشأ عبثية لا طائل وراءها. ولكن اذا ما وجه احاسيسه تلك، الخفيفة منها الى الدنيا والشديدة منها الى العقبى وأعمال الآخرة والافعال المعنوية، فانها تكون منشأ للاخلاق الفاضلة وسبيلاً ممهداً الى سعادة الدارين ومنسجماً انسجاماً تاماً مع الحكمة والحقيقة.

ومن هنا فاني أخال ان سبباً من أسباب عدم تأثير نصيحة الناصحين في هذا الزمان هو: انهم يقولون لسيئي الخلق: لا تحسدوا. لا تحرصوا. لا تعادوا. لا تعاندوا. لا تحبوا الدنيا. بمعنى انهم يقولون لهم غيّروا فطرتكم. وهو تكليف لا يطيقونه في الظاهر. ولكن لو يقولون لهم: اصرفوا وجوه هذه الصفات الى أمور الخير، غيّروا مجراها، فعندئذ تجدي النصيحة وتؤثر في النفوس، وتكون ضمن نطاق ارادة الانسان واختياره.

رابعاً:

لقد دار بين علماء الاسلام كثيراً بحثٌ حول الفروق بين الايمان والاسلام. فقال قسم: كلاهما واحد. وآخرون قالوا: انهما ليسا واحداً بل لا ينفك احدهما عن الآخر. واوردوا آراء كثيرة مختلفة مشابهة لهذا. وقد فهمت فرقاً بينهما كهذا:

ان الاسلام التزام، والايمان اذعان. أو بتعبير آخر: الاسلام هو الولاء للحق والتسليم والانقياد له. أما الايمان فهو قبول الحق وتصديقه.

ولقد رأيت - فيما مضى - بعضاً ممن لا دين لهم يظهرون ولاءً شديداً لأحكام القرآن، بمعنى ان ذلك الملحد قد نال اسلاماً بجهة التزامه الحق، فيقال له: مسلم بلا دين. ثم رأيت بعض المؤمنين لا يظهرون ولاءً لأحكام القرآن ولا يلتزمون بها، اي أنهم ينالون عبارة: مؤمن غير مسلم.

تُرى أيمكن ان يكون ايمان بلا إسلام سبب النجاة يوم القيامة؟

الجواب: كما ان الاسلام بلا إيمان لا يكون سبب النجاة، كذلك الايمان بلا إسلام لا يكون سبب النجاة.

فـلله الحمد والمنة، ان موازين رسائل النور قد بينت ثمرات الدين الاسلامي وحقائق القرآن ونتائجهما بياناً شافياً وافياً - بفيض الاعجاز المعنوي للقرآن الكريم - بحيث لو فهمها حتى من لا دين له لا يمكن ان يكون غير موالٍ لها.

وقد اظهرت هذه الرسائل دلائل الايمان والاسلام وبراهينهما كذلك قوية راسخة بحيث لو فهمها غير المسلم يصدّق بها لا محالة، ويؤمن بها رغم بقائه على غير الاسلام.

نعم، ان ((الكلمات)) قد وضّحت ثمار الايمان والاسلام توضيحاً جميلاً حلواً، كجمال ثمار طوبى الجنة ولذتها، واوضحت نتائجهما اليانعة الطيبة كأطايب سعادة الدارين، حتى انها تمنح كل من رآها واطلع عليها وعرفها شعور الولاء والانحياز التام والتسليم الكامل. بل اظهرت براهين الايمان والاسلام قوية راسخة رسوخ الموجودات كلها، وكثيرة كثرة الذرات، فيعطي من الاذعان والرسوخ ما لا منتهى لهما في الايمان. حتى انني حينما أقرأ - احياناً - كلمة الشهادة في اوراد الشاه النقشبند، واقول: ((على ذلك نحيا وعليه نموت وعليه نبعث غداً)) اشعر بمنتهى الالتزام، بحيث لا اضحى بحقيقة ايمانية واحدة لو اعطيتُ الدنيا بأسرها. لأن افتراض ما يخالف حقيقة واحدة لدقيقة واحدة أليم عليّ ألماً لا يطاق. بل ترضخ نفسي لتعطي الدنيا بأسرها - لو كانت لي - مقابل حقيقة ايمانية. وحينما اقول: ((وآمنا بما ارسلتَ من رسول، وآمنا بما انزلتَ من كتاب، وصدّقنا)) أشعر بقوة ايمانية عظيمة لا منتهى لها، واعد ما يخالف اية حقيقة من حقائق الايمان محالاً عقلياً، وارى اهل الضلال في منتهى البلاهة والجنون.

بلّغ سلامي الى والديك مع وافر الاحترام وارجُ منهما الدعاء لي، ولكونك اخي فهما في حكم والديّ ايضاً. بلغ سلامي الى اهل قريتكم جميعاً. ولا سيما من يستمع لـ ((الكلمات)) منك.



الباقي هو الباقي



سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس