عرض مشاركة واحدة
قديم 01-20-2022
  #5
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: كتاب حقائق عن التصوف

الختام




وبعد،

فلعلك أيها القارىء - وقد عرفتَ التصوف الحق، واطلعت على كلام الأئمة الأعلام، وما ذكروه عنه، وعرفت صحة نسبته وتسلسله إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن تتخذ التصوف لك منهجاً، وتُحلِّق في أجوائه الصافية، وتتعبد في محاريبه، وتسبح في أنواره وتعرج في معارجه، فتكون صورة مثالية عن هؤلاء الصوفية، الذين ورثوا الوراثة الكاملة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. إِذ هم العلماء بالله تعالى، الداعون إِلى الله على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إِمامهم في جميع حالاتهم، والعلم بالله تعالى صفتهم، والعبادة حليتهم، والتقوى شعارهم، وحقائق الحقيقة أسرارهم. لهم من الساعات من إِمداد فضل الله مزيد، ولهيب شوقهم يتأجج ويقول: هل من مزيد؟!

لقد تفانى الصوفية في حب مولاهم، وعاشوا في ذكره ومناجاته، فعلَّمهم وطهرهم، وزكاهم وأدبهم، واصطفاهم واجتباهم، وأحبهم ورضي عنهم، ففتح لقلوبهم ملكوت السموات، وأراهم عجائب كونه وبدائع قدرته وأسرار خليقته، وأفاض عليهم هداياه وعطاياه علوماً وأذواقاً.



فما أجدر الباحثين والمفكرين ورواد الحقيقة بالبحث عن ذلك التراث الإِسلامي العظيم الذي تركه لهم أسلافهم من قبلُ وديعة في أيديهم، وأمانة في أعناقهم، فيأخذوه عن أهله، ويَقدروه حقَّ قدره، ثم بعد ذلك يخلصوه من كل شائبة تعكر صفوه، أو تهبط به إِلى المكان الذي لا يليق به.

فهل فكَّرَ المنصفون من أُولي الرأي والفكر والقلم، أن يشحذوا هممهم فيسيروا في قافلة أهله، حتى ينهلوا من منهله العذب، فينفوا عن التصوف تُرَّهاتِه ودخيله، كما نفى أهل الحديث عن الحديث أكاذيبه، وأهل التفسير عن التفسير إِسرائيلياته، حتى يتسنى لناشد الحقيقة أن يجدها سليمة صحيحة، ويميزها عما سواها؟

هذا ما وفقنا الله لإِثباته في هذا الكتاب، وهو الموفق للهداية والمرشد إِلى الصواب. جعله الله خالصاً لوجهه الكريم، ونفع به مَنْ قرأه وهداه إِلى الصراط المستقيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.





الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد، الذي جعل الأولياء نبراساً يقتدى بهم؛ {أولئكَ الذينَ هدى اللـهُ فبِهُداهُمُ اقتَدِهْ} [الأنعام:90] والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



أما بعد:

لمحة موجزة عن حياة المؤلف رحمه الله تعالى



هو سيدي الشيخ عبد القادر بن عبد الله بن قاسم بن محمد بن عيسى عزيزي الحلبي الشاذلي، يصل نسبه بالشيخ عمر البعاج إلى سبط رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الحسين بن علي رضي الله عنهما.

ولد في مدينة حلب الشهباء سنة 1338 من الهجرة النبوية الشريفة، والمصادف 1920 من ميلاد السيد المسيح عليه السلام، من أبوين أميّين من عوام المسلمين، وعاش في كنفهما عيشة رغد ورخاء، حيث كان والده يعمل في الجمارك.



حُبب إليه رحمه الله تعالى في مقتبل عمره النشاط والرياضة والكشافية؛ فكان يلبس أحسن الثياب، ويتزين في أفخم صالونات حلب للحلاقة، ويتطيب بأفخر أنواع الطيب.

ثم جذبتْه يدُ العناية الإلهية من الدنيا وزينتها، فأعرض عما كان فيه من اللهو واللعب والزينة والطيب، وحلق شعره، ولبس الثياب المرقعة، وصحب الصالحين من أهل الجذب، في الفترة من سنة 1939 حتى 1942، مدة أربع سنوات تقريباً، كان خلالها يميل إلى الجذب مع بقيةٍ من الصحو حفظتْه من حال أهل الجذب.

وكان رحمه الله تعالى قبل ذلك لا يثبت على عمل من الأعمال الدنيوية رغم محاولاته الكثيرة، فقد عمل نجاراً وخياطاً، واشتغل بالتجارة فترة قصيرة، ولكنه لم يثبت على ذلك، صرفاً من الله تعالى عن ذلك، إلى أن أقنعه والده بالعمل معه في الجمارك، ولكن جذبته يد العناية الإلهية من الدنيا وأسبابها، فأقبل على الله تعالى.

ثم حُبِّب إليه طلب العلم، فصحب العلماء، منهم الشيخ محمد زمّار والشيخ أحمد معودّ، ثم صحب الشيخ حسن حساني شيخ الطريقة القادرية، فسلك الطريق على يديه، وأذن له الشيخ حسن بالختم القادري، وخلال صحبته للشيخ حسن حساني انتسب إلى المدرسة الشعبانية في 24/12/1949 ودرس فيها مدة ست سنوات كاملات، كان خلالها إماماً لمسجد ساحة حَمَد، وكان مسجداً لا تُقام فيه الجمعة، وكان مهملاً، وكاد أن يُخرب، فعمل الشيخ على ترميمه وإصلاحه، وأحدث فيه منبراً للخطابة، وذلك في 21/1/1957.

اجتمع في الشيخ رحمه الله تعالى خلال دراسته في المدرسة الشعبانية من الصفات الطيبة المباركة، والأخلاق العلية، والهمة العالية، ما ينبىء عن خير واعدٍ، فسلك على يديه عدد من زملائه في المدرسة وهو لا يزال طالباً فيها، فكان شيخاً من جهة وتلميذاً طالباً من جهة أخرى.

ومما يدل على علو همته، وصدق إقباله على الله عز وجل؛ أنه لم تغرَّه المشيخة، ولم يقنع بما وصل إليه من الحال والجاه، فراح يبحث عن المرشد الكامل الذي يعرّفه على الله عز وجل، ويعبر عن ذلك فيقول رحمه الله تعالى:

“كنت أقرأ في كتاب (إيقاظ الهمم في شرح الحكم) لابن عجيبة، فأرى فيه أشياء لم أكن متحققاً بها - رغم كوني شيخاً - فعرفت أنه لا بد لي من صحبة مرشدٍ كامل”.

ولم يجد بغيته في حلب فسافر إلى دمشق، والتقى بكثير من مشاهير علمائها، ممن اجتمع عليهم خلق كثير لعلمهم وفصاحتهم وبلاغتهم، ولكنه لم يجد في واحد منهم مبتغاه، فتردد إلى زيارة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى، فأُلهم بصحبة الشيخ محمد الهاشمي شيخ الطريقة الشاذلية، فبحث عنه فوجده في الجامع الأموي الكبير بدمشق يُقرر بعض مباحث علم التوحيد، وحوله ثلة قليلة من إخوانه يعظهم ويعلمهم، فأقبل على مجلس الشيخ وحضره ثم تعرف إلى الشيخ محمد الهاشمي رحمه الله تعالى، فقال له الشيخ محمد الهاشمي: “جئتَ آخرَ الناس، وتكونُ أولَهم بإذن الله، فأنا أنتظرك منذ زمنٍ طويل.” فتَّم للشيخ رحمه الله تعالى مبتغاه من صحبة المرشد الكامل، فصحب الشيخ الهاشمي رحمه الله تعالى سنة 1952م إلى أن توفاه الله تعالى.

ولما رأى الشيخُ محمد الهاشمي رحمه الله تعالى في شيخنا أهليته للإرشاد، أذن له بالورد العام والخاص في الطريقة الشاذلية، كما أذن له بالتربية والإرشاد كما هو مبين في الإجازة الموجود نصها على صفحات آخر هذا الكتاب، وذلك في سنة 1337 هـ - 1958 م.

استمر الشيخ رحمه الله تعالى إماماً وخطيباً في مسجد ساحة حَمَد، إلى أن توفي الشيخ محمد الرزّاز إمام وخطيب جامع العادلية، حيث انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إليه، فأقام فيه مجلساً للذكر بعد صلاة العشاء من يوم الخميس من كل جمعة، وكان ذلك في 21/12/1963م.

كان جامع العادلية مهملاً، حيث كانت ساحته مرعى للمواشي، وكان يشكو إلى الله تعالى قلة المصلين، فراح الشيخ يعمل على إصلاحه وصيانته، حتى غدا الجامع مقصداً لطلاب العلم، وأهل الطريق، وعمر الجامع بمجالس العلم ومجالس الذكر، وطارت شهرة الشيخ في الآفاق، فأقبل الناس عليه بمختلف فئاتهم من عوام ومثقفين وطلاب علم، فغدا جامع العادلية مدرسة تشع بالعلم والنور، وانتشر طريق التصوف بعد أن نقَّاه الشيخ من كثير من المخالفات الشرعية والشطحات وغيرها مما كان الناس ينفرون منه - كما تجد ذلك على صفحات هذا الكتاب - وعشق الناس التصوف، وانتشرت طريقة الشيخ في كل أنحاء القطر العربي السوري، فلا تكاد تجد مدينة أو قرية إلا وللشيخ فيها إخوان ومريدون، بل جاوز ذلك إلى البلاد المجاورة؛ كالأردن وتركيا ولبنان والعراق، ثم جاوزت شهرة الشيخ ذلك كله، فلا تكاد تجد بلداً في الدنيا إلا وللشيخ فيه إخوان ومريدون، فوصلت طريقته إلى الكويت والسعودية والمغرب، وجنوب إفريقيا والهند وباكستان، وإنكلترا وبلجيكا وفرنسا، وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول العالم، مما يدل على باع الشيخ الطويل في المعرفة والتربية والإرشاد.

يعد الشيخ رحمه الله تعالى في طليعة المجددين للطرق الصوفية عامة والطريقة الشاذلية خاصة، يشهد لذلك كتابه هذا الذي طبع مرات متعددة وترجم إلى اللغة الإنكليزية واللغة التركية، وطارت شهرته في الآفاق، كما يشهد لعلو مقام الشيخ كثرةُ إخوانه على اختلاف فئاتهم من جميع طبقات الناس في كل بقاع الأرض، الذين يعتبرون بحق كتباً ناطقة عن الشيخ الذي لم يخلف من الثروة العلمية إلا هذا الكتاب، وذلك بسبب واجبات الدعوة الإصلاحية التي حملها على كاهله في نشر الطريق الصحيح القائم على الكتاب والسنة المطهرة، كما تلمح ذلك على صفحات هذا الكتاب.

إن خلاصة منهاجه وما أراد أن ينقله للناس قد أودعه وبيَّنه في كتابه “حقائق عن التصوف” الذي كان بحق فتحاً في علم الشريعة والطريقة والحقيقة، فتلقاه الناس بالقبول والانتفاع على مختلف طبقاتهم، واستفاد منه خلق كثير.

كان للشيخ كرامات كثيرة وكشوفات واضحة، ولكنه كان يعرض عن كل ذلك ويُحَذِّر إخوانه من الركون إلى الكرامات والكشوفات، ويقرر أن أعظم الكرامات الاستقامة على شرع الله عز وجل، وكان يعرف الطريقة فيقول رحمه الله تعالى: الطريقة هي العمل بالشريعة.

“دعي مرة إلى وليمة طعام لأحد التجار، فلما أكل بعض اللقيمات استأذن من صاحب البيت ليغسل فاه، فقام الشيخ رحمه الله تعالى فتقايأ وأخرج كل ما أكله، وقال لصاحب الدعوة: أنت تأخذ بعض الأموال من البنوك بالربا، والله حارب المرابي، إذا أردت أن آتي لعندك ثانية فلا تطعمني من طعامك، فتاب الرجل من فورها، ولم يمض عليه سنة حتى صحح معاملته من الربا وأصبح من الصالحين المشهود لهم بالصلاح بعد ذلك”.

ويعرف الشيخ رحمه الله تعالى التصوف فيقول: “التصوف كله أخلاق، فمن زاد عليك بالأخلاق زاد عليك بالتصوف”.

“سعى مرة في الإصلاح بين زوجين، وخلال ذلك اطلع على ظلم الرجل وتسلطه، فنصحه، ولكن الرجل حمل الحقد والضغينة، عوضاً من أن يستجيب للنصح، وبعد مدة من الزمن، استغفل الرجلُ الشيخَ في ممر معتم قرب جامع ساحة حَمَد، فتهجم عليه وطعنه بأداة حادة على وجهه قرب فمه، فسال الدم من الشيخ، فهرب الرجل، ونُقل الشيخ إلى المستشفى، وترك علامة على وجه الشيخ لم تمحها الأيام حتى توفاه الله، ولكن أخلاق النبوة التي كان متحلياً بها الشيخ دعته إلى العفو والمسامحة والصفح، فتوفي الرجل بعد أشهر، فكان أولَ المصلين عليه صلاة الجنازة الشيخُ رحمه الله تعالى”.

أُكْرِمَ رحمه الله تعالى بمجاورة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة قرابة خمس سنوات، ثم أقام بالأردن بعمان يدعو إلى الله تعالى، كما هو شأن الصادقين المتحققين حيثما حلوا ونزلوا، فاستفاد منه خلق كثير من علمه وحاله ودعوته.

وفي سنة 1991 سافر إلى تركيا لزيارة بعض إخوانه، فاشتد عليه المرض هناك، فأدخل المشفى في مدينة مرعش، ثم نُقل بعد ذلك إلى استانبول ودخل أحد مشافيها.

تعجب القائمون على معالجته من أطباء ومختصين، كيف لا يتوجع أو يظهر ألماً، وهو ساكت لا يتكلم، مستغرق بقلبه وببصره وبكله إلى الله تعالى.

فأراد أحد أولاده أن يطمئن عن شعوره وإحساسه وإدراكه، وعن غيبته التي طالت، وعن عقله وهو لا يكلم أحداً، وكان بينه وبين والده - رحمه الله تعالى - ملاطفة ومدارسة فسأله عن بيت من الشعر كان قد سمعه منه رحمه الله تعالى ليثبت للموجودين آنذاك بأن الله تعالى هو يتولى الصالحين، وأنه كامل الوعي والإحساس والعقل، ولكنه منجذب بمحبة الله تعالى ومستغرق به سبحانه وتعالى، فذكّره بهذا البيت من الشعر:

يا سائلي عن رسول الله كيف سها والسهو...

ثم سكت وقال له: يا سيدي من فضلك أكمل لي هذا البيت وكان يمازحه، فالتفت إليه وقال متمماً:

................... والسهو عن كل قلبٍ غافلٍ لاهي

سها عن كل شيء سرُّه فسها عمَّا سوى الله فالتعظيم لله



وأعاد شطر البيت مراراً: والسهو عن كل قلبٍ غافلٍ لاهيٍ.

ثم دمعت عيناه رحمه الله تعالى وبكى ولم يكلم أحداً بعدها.

كان انتقاله رحمه الله تعالى إلى جوار ربه، عشية يوم السبت الساعة السادسة، في الثامن عشر من ربيع الآخر سنة اثنتي عشر وأربع مائة وألف من الهجرة النبوية الشريفة، الموافق للسادس والعشرين من تشرين الأول سنة إحدى وتسعين وتسع مائة وألف للميلاد ( 18 ربيع الآخر 1412 هـ 26 تشرين الأول 1991م) وكان مثواه الأخير بجوار الصحابي الجليل سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في استانبول، فخسر المسلمون بموته علماً عاملاً ومرشداً كاملاً من أعلام الطريق والدعوة إلى الله تعالى، تغمده الله برحمته وأعلى مقامه، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وقد نُقِشَ على قبره قول الله عز وجل

{ومَنْ يُهاجِرْ في سبيل اللهِ يجِدْ في الأرضِ مُراغَماً كثيراً وَسَعَةً ومّنْ يَخرُجْ مِنْ بيتِهِ مهاجراً إلى اللهِ ورسولِه ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموتُ فقد وقعَ أجرهُ على اللهِ وكانَ اللهُ غفوراً رحيماً} [النساء: 100].

{ربِّ أوزِعني أنْ أشكُرَ نعمَتَكَ التي أنْعَمْتَ عليَّ وعلى والِدَيَّ وأنْ أعملَ صالحاً ترضاهُ وأدخِلْني برحمتِكَ في عبادك الصالحينَ}[النمل: 19].

اللهم احشرنا معه تحت لواء سيد المرسلين سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم،وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

23 شوال 1421

18/1/2001



ورثة المؤلف
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس