الموضوع: اسمعي يا سورية
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-21-2008
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

الذي ترعرع على أرضك ، و تنبل في تربية ملكك الصالح نور الدين* و منه تولى قيادة الجيوش * و في أرضك دفن .
لقد أتى عليك يا سورية – و كنت تسمين يومئذ الشام – حين من الدهر * و أنت تحكمين أكبر قطعة من العالم المتمدن المعمور * و كانت مملكتك العظيمة لم تكن لتقطع مسافتها في أقل من خمسة أشهر على أسرع جمَـَل * و كان الخراج يـُجبى إليك من الهند في الشرق * و من الأندلس في الغرب ..
ولم يزل سلطانك يتقلّص * و دائرة نُفوذِك تضيق * و حدود مملكتك تقصر و تنـزوي حتى انطويت على نفسك * و اقتنعت بهذا القطر الذي يسمى " سورية " و تخليت عن القيادة العالمية * فما السر في ذلك يا سورية العزيزة * و ما سبيل الرجوع إلى ذلك المركز العظيم ؟
و لعلك تقولين : إن العراق هو الذي انتزع مني هذه الزعامة في القرن الثاني الهجري * وحلت بغداد محل دمشق فكانت مركز الخلافة ، وكانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية العظيمة ..
و لكني أوجه نفس هذا السؤال إلى العراق فقد كان مصيره في منتصف القرن السابع كمصيرك يا سورية في القرن الثاني * إن سبب هذه النكسة العظيمة التي واجهتها أنت وواجهها العراق بدوره أعمق مما ظننته .
و اسمحي لي أن أشرحه ..
إن سر عظمتك يا سورية وسيادتك على العالم كله سيادة دامت قرناً كاملاً * هو أنك تزعمت هذه الأمة التي بعثت بعثاً جديداً و كلفت تبليغ رسالة إنسانية عالمية ..
تقدمت أنت بشجاعتك و طموحك و همة خلفائك الذين كانوا يحكمون في دمشق * وتكفلت قيادة هذه الأمة * فكان قادتك العظماء يفتحون البلاد * و ينشرون الإسلام * وينشرون الدين و العلم ، و يعلمون الأخلاق و الفضيلة * و الإنسانية و الكرامة * كذلك فعل محمد بن القاسم في الهند* و طارق بن زياد في الأندلس * و موسى بن نصير في المغرب * فكان الفتح و الرسالة مترافقين ، وكان قادتك رسل الخير و الفضيلة * ومشاعل العلم و الإصلاح * وكانت جيوشك جيوش الإنقاذ * و كان رجالك رجال الإسعاف .. تخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده * ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام*
ومن ضيق الدنيا إلى سعتها * وتضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم * وكان الناس في حاجة إلى هذه الرسالة حاجة الأرض الجدبة إلى الأمطار * وكانوا في حاجة إلى الحكم العادل حاجة المسجون إلى الحرية ، فاستقبلوا رسله ورجاله ، وتفتحت لهم قلوبهم وبلادهم * وارتمى العالم السليب الحزين في أحضانك كما يرتمي الطفل الصغير المذعور في أحضان أمه وأبيه * وتكونت دولة من أعظم دول العالم * وكانت لك وصاية على الشعوب والأمم .
ولكنك بدأت – ولا مؤاخذة يا سورية الحبيبة – تعتمدين على قوتك وفتوحك أكثر مما تعتمدين على قوة هذه الرسالة * وتعنين بجمع الأموال * أكثر مما تعنين بأخلاق الرجال * وصلاح الأحوال * وبدأ رجال الحكم * وعمال البلاد * وجباة الأموال يتخلفون في أخلاقهم وصفاتهم * وأصبحوا كسائر الحكام والعمّال في سائر الدول والحكومات * حتىلم يمض قرن على مملكتك العظيمة ؛ حتى صار الناس يشعرون بذلك في نواحي المملكة * فقد حدَّث التاريخ أن رسل يزيد بن عبد الملك ذهبوا إلى رُخّج و سجستان لتحصيل الخراج و الأتاوة المفروضة عليها * فقال لهم ملك هذه البلاد و اسمه رتبيل :
( ما فعل قوم كانوا يأتون خماص البطون سود الوجوه من الصلاة ؟
قالوا : انقرضوا ! قال : أولئك أوفى منكم عهداً و أشد بأساً * و إن كنتم أحسن منهم وجوهاً ) ثم لم يعطِ أحداً من عمّال بني أمية و لا عمال أبي مسلم على سجستان من تلك الأتاوة شيئاً .
فقد خضع لك العالم يا سورية في القرن الأول * و قامت عليه وصايتك * لأنك كنت تمثلين ديناً جديداً قضى الله بظهوره و انتصاره * و تحملين الرسالة الكريمة التي تنقذ البشرية من الجهالة و الظلم واستعباد الإنسان للإنسان * و لا تعيشين لنفسك و لمصالحك وشهواتك * بل تعيشين للعالم و لصالحه ولخير الإنسانية جمعاء * فمشى العالم كله في ركابك و أحبتك الأمم المفتوحة - و متى أحبت الأمم المفتوحة فاتحها ؟ - فاختارت لغتك و ثقافتك و دينك و عقيدتك ، أما وقد اشتغلت بنفسك و تخليت عن رسالتك * فقد انقطعت صلةُ العالم بك * و أصبحت قطراً من الأقطار * و دولة من الدول .
ولكن شأنك غير هذا الشأن يا سورية العظيمة * إن موقعك الجغرافي * و أهميتك الحربية* و تاريخك الماضي * و شعبك السليم المؤمن * كلٌّ يشير إلى أنك خلقت لغير هذا و أنك تسيئين إلى نفسك وتظلمينها لو اقتنعتِ بالدون * و زهدت في الزعامة العالمية !
و لكن كيف السبيل إلى ذلك * و الزعامة ليست بالأمر الهين * و هنالك بلاد أوسع مساحة وأغنى في الوسائل و الإمكانيات * و أكثر عدداً و عدة؟!
إن السبيل الوحيد إلى ذلك يا سورية أن تحملي الرسالة التي حملتها في عهدك الأول*
عهدك الزاهر الذهبي * وأن تتبني تلك الدعوة التي تبنيتها في القرن الأول ، فتتملكك كما تملكتك في العهد الأول * وتخلصين لها اليوم كما أخلصت لها بالأمس * وأن تجعلي العالم يشعر بحاجته إليك * ويثق بإخلاصكِ و نفعكِ، واحملي إليه رسالة الدين السماويّ الذي أكرمك الله به منذ ثلاثة عشر قرناًَ * يوم كنتِ تعانين من ظلم الرومان وحيفهم * ما يعاني كثير من الشعوباليوم من الظلم والاستبداد * وشرور الاستعمار.
إن الأمم يا سورية * لا تسود باللغات والثقافات * ولا تسود بالمدنيات والقوميات *
إنما تسود بالرسالات و الدعوات والأهداف و الغايات * وكلما كانت هذه الرسالات أعمَّ للشعوب والأمم ، وأعود على الإنسانية بالخير و السعادة * وكلما كانت هذه الأهداف والغايات أسمى و أعلى ، وأبعد عن الأغراض الشخصية أو الحزبية أو الإقليمية * وأعرق في الإنسانية كانت سيادة هذه الأمم التي تحتضن هذه الرسالات * وتدين بهذه الغايات أعمقَ وأرسخَ وأوسعَ و أقوى * و لا تزالين تملكين هذه الرسالة * وهي الرسالة التي حملتها إلى العالم غزاة العرب ودعاتهم في العقد الثاني من القرن الأول * ولا تزالين تعرفين هذه الغاية السامية التي خرجوا لتحقيقها من جزيرة العرب .
دعي التردد يا سورية * فلا أضرَّ على الأمم من التردد ..
وخذي بالعزم * والأمر الجزم ..
واحملي راية الإيمان والدعوة في الخارج ..
وراية الإصلاح والتربية في الداخل ..
وحاربي فساد الأخلاق والتحلل * والميل الزائد إلى الملاهي * والرخاوة والترف * فلا بقاء لأمةٍ ، ولا قوةَ على عدوٍّ بانحلالِ الأخلاقِ * ورخاوةِ الأجسامِ ، والترف الفاحش ، واذكري أنّ من أسباب انتصار العرب تقشفَهم في الحياة * واحتمالهم للمشاقّ *
ومن أسباب انكسار الرومان تنعمهم في الحياة وغلوهم في المدنية * ولا تنسي أنك دائماً على الحدود فلا تضعي السلاح ، ولا تميلي إلى الدعة والراحة * ولا تمكّني الغواة والذين تجارتهم في الأخلاق والأعراض من إفساد شبابك وإضعاف العقيدة والقوة المعنوية .
لقد كانت لنا قومية نعتزُّ بها يوم جاء رسلك ودعاتك إلى بلادنا * وكانت لنا لغةٌ لا نعدل بها لغة * كانت لنا عصبيةٌ نقاتل في سبيلها * فتخلينا عن كل ذلك واندمجنا في الأمّة الإسلامية العظيمة * وعكفنا على دراسة اللغة العربية الكريمة * وتركنا العصبية القومية والحمية الجاهلية ..
فالله الله يا سورية الإسلامية ..
لا تتمسكي بما أبعدتِنا منه من النـزعاتِ الجاهلية والقومياتِ الضيقة ..
ولا تقعي في الحمأة التي أخرجتِنا منها.
لقد طار صقر قريش من أرضك * فأسس في الغرب دولة وحضارة بقيت مدرسة الغرب ثمانية قرون * ولا يزال الغرب يدين لها في معرفة مبادئ الحضارة ومبادئ العلم والحكمة * فأقبلي يا سورية مرة ثانية إلى الغرب برسالتك وأنت في مركزٍ تستطيعين فيه أن توجهي الغرب إلى حضارته وحياته ، وتكملي بإيمانك وروحك ما ينقصه من إيمان و روح *
لقد كان اللائق أن تكون الاستفادة بينك وبين الغرب متبادلة * وأن يكون التصدير بقدر التوريد * فإذا أخذتِ منه مما يفوقك فيه وسبقك إليه من مصنوعات وآلات ؛ فكان اللازم أن تصدّري إليه وتـَهبينه مما تفوقينه فيه من مبادئ وغايات ، ومما تفردتِ به من وحي ورسالات ..
وإن الحضارة المثلى التي فيها سعادة الإنسانية هي التي تجمع بين الغايات الفاضلة والدوافع الحسنة * وبين فرص العمل وقواه التي يتمكن بها الإنسان من تحقيق هذه الغايات والوصول إلى هذه الأهداف ..
ولا شك أن هذه الحضارة لا تظهر إلى الوجود في هذا العصر ما لم يتعاون الشرق والغرب بعضهما مع بعض ولم يسهما في تكوينها وإبرازها * ذلك بإيمانه وهذا بتنظيمه وعلومه * فاعرفي يا سورية ضخامة مسؤوليتك ، وعظم الدور الذي تستطيعين أن تمثليه .
أما بعد : فقد كان لك على بلادنا فضل * ولا يزال * وذلك عن طريق محمد بن القاسم الثقفي * الذي سار إلى الهند بجيوش المجاهدين ودعاة الإسلام المؤمنين * في عهد الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي * فأحبته الهند وخلدت ذكراه * وذاق كثير من أهلها طعم الإيمان * وكان دخوله فيها فاتحة عهد جديد .
وما دفعني إلى هذا الحديث إلا تقديرُ هذه اليد البيضاء والحقِّ القديم * ولعلي قمت بذلك ببعض الواجب * ووفيت شكر النعمة * والسلام عليكِ ورحمة الله وبركاته.
أبو الحسن الندوي 1956 م
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات

التعديل الأخير تم بواسطة عبدالقادر حمود ; 06-27-2010 الساعة 06:36 PM
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس