عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي الشعاعات - الشعاع الثالث


الشعاع الثالث - ص: 47

الشعاع الثالث

المقدمة
اِنّ هذه الحجّة الإيـمانية الثامنة 1؛ اذ تَشهدُ على وُجوبِ وجُودِهِ سُبحانه، وعلى وَحدانيته، فهي تَشهدُ على إحاطةِ ربوبيته، وعظمَة قُدرَته بِدلائل قاطعة، وتثبِتُ أيضاً إحَاطة حاكميته، وتدلُ على شُمُولِ رحْمته، كما تثبتُ إحاطة حِكمَته، وشُمول علمه جميع أجزاءِ الكون.
والخلاصة: إنَّ لكُلّ مقدمةٍ من هذهِ الحُجَّةِ الإيـمانية الثامنة ثماني نتائج، وهي تُثبِتُ في كُلّ مُقدّمةٍ من المقدّماتِ الثمانية، النتائج الثمانية بدلائلها؛ لذا أصبحت لهذه الحُجّةِ الإيمانية الثامنة مزايا راقية وخصائص سامية.
"ان رسالة "المناجاة" تثبِت وجوب الوجود، والوحدة والأحديّة، وجلال الربوبية، وعظمة القُدرة، وسِعَة الرَّحمة، وعموميَّةَ الحاكميَّة، وإحاطة العلم، وشُمُول الحكمة.. وأمثالها من الأُسُسِ الإيمانية، تُثبِتُها باسلوب مُوجز خارقٍ وبقطعيَّةٍ فوق العادة وبخالصيةٍ ويقينيّةٍ.. وإنَّ إشَاراتِها الى الحشر قويَّةٌ جداً وبخاصَّة التى في ختامها".
سعيد النورسي

_____________________
1 حيث ان هذه الرسالة هى الحجة الثامنة من مجموعة "طعصا موسى". ـ المترجم

الشعاع الثالث - ص: 48
المناجاة

بسم الله الرحمن الرحيم
(إنّ في خَلْقِ السّمــواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتي تَجْرِي فِي البَحْرِ بما يَنْفَعُ النّاسَ وَمَا أنْزَلَ الله مِنْ السّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأحْيا بِهِ الأرضَ بَعْدَ مَوتِهَا وَبَثّ فيْها مِنْ كُلّ دَابّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّياحِ وَالسّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السّماءِ وَالأرضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقلونَ) (البقرة: 164)
هذه الرسالة "المناجاة" التي هي الشعاع الثالث نوعٌ من تفسير للآية الكريمة المذكورة أعلاه.
يا إلهي ويا ربّي!
إنّي أرَى ببصيرة الإيمان وبتعليم القرآن ونوره وبدرس الرَّسُول الأكرم صلى الله عليه وسلم وبما يريه إسم الله "الحكيم" أنه:
ليس في السَمواتِ من دورانٍ وحركةٍ إلاَّ ويُشير الى وجودك ويدلُ عليه؛ بانتظامه البديع هذا..
وما من جِرم من الأجرام السَّماوية إلاّ ويشهد شهادة على ربوبيَّتِكَ ويشير اشارة الى وحدتِكَ ؛ بسكونها في أداءِ وظيفتها بلا ضوضاءٍ وببقائِها بلا عمدٍ..
وما من نجم إلاَّ ويشهد على عظمة اُلوهيّتِكَ ويشير الى وحدانيَّتِكَ؛ بخلقته الموزونة وبوضعهِ المُنتظم وبتبسُّمِه النُّورانيّ وبِمُمَاثلتهِ ومشابهته للنجُوم كافة..
وما من كوكبٍ سيَّار من الكواكب الإثنى عشر إلاَّ ويشهد على وُجُوبِ وُجُودِكَ ويُشيرُ الى سلطنة اُلوهيتِك؛ بحركته الحكيمة وتذلله المُطيع ووظيفته المُنتظمة وتوابعه المُهمة
الشعاع الثالث - ص: 49
نعم، مثلما تشهد السَّمواتُ مع ساكنيها، وكلُّ سماءٍ بحدِّ ذاتِها، فإنَّ جَميعها معاً تشهد بالبداهة شهادةً ظاهرةً جليَّةً على وُجُوبِ وُجودِك يا خالق السَّمواتِ والأرضِ َ وتشهَدُ شهادةً قويّةً صادقةً على وحدتك وفرديّتِكَ يامن تدير وتدبِر الذرات بمركباتها المُنظمة ويا من تُجري الكواكب السيارة مع توابعها المنظمة وتسخّرُها لطاعتك.. شهادة ظاهرةً قويةً تُصدّقها براهين نورانيَّة، ودلائل باهِرة، عدد النجوم التي في وجه السماء..
فهذه السّموات الصَّافية الطاهرة الجميلة تدل دلالة ظاهرة على هيبة ربوبيَّتِكَ وعظمة قدرتك المُبدعة.. وتُشيرُ إشارةً قويَّةً الى سعة حاكميَّتِكَ المحيطة بالسَّمواتِ الشاسعة، والى رحمتك الواسعة المحتضنة لكلِّ ذي حياةٍ.. وتشهدُ - بلا ريب - على شُمُولِ حكمتك لكلِّ فعلٍ وعلى إحاطة علمك بكُلِّ شئ، المنظمان في قبضتهما جميع شؤون وكيفيات جميع المخلوقات السّماوية؛ بأجرامِها التي هي في غاية الضخامة وفي غاية السُرعة، وبإظهارها اوضاع جيش مُنظّمٍ ومهرجانٍ مهيبٍ مُزيّن بمصابيح وضَّاءةٍ.. فتلكما الشَّهادة والدلالة ظاهرتان جليتان كأن النُجوم كلمات شهادة للسَّمواتِ الشَّاهدة ودلائلها الـمتجسّمة النُّورانية.. اما النُجوم السابحة في بحر السَّمواتِ وفي فضائها، فانها تُظهر شعشعة سلطان ألوهيَّتِك؛ بأوضاعها المُماثلة لجنود منصاعين وسفن منتظمةٍ وطائراتٍ خارقةٍ ومصابيح عجيبةٍ. ورفيقات شمسنا التى هى نجمة من ذلك الجيش ترنو الى عوالم الآخرة، وليست مُعطلة، بدلالة وظائف الشمس في سياراتها وفي أرضنا، ولربما هي شموس عوالم باقية.
يَا واجب الوُجُود! يَا واحدُ، يَا أحدُ!
إنَّ هذه النُجُوم الخارقة وهذه الشمُوس الضَّخمة والأقمار العجيبَة.. قد سُخِّرَت ونُظّمت ووُظِّفت في مُلكِكَ أنتَ، وفي سمواتِكَ أنت، بأمركَ أنت، وبقُوتِكَ وبقُدرتكَ أنت، وبإدارتكَ وتدبيركَ أنت.. فجميعُ تلك الأجرام العُلويّة تسبّحُ وتُكبّرُ للخالقِ الواحد الذي خلقها، ويجريها، ويديرها، وتقول بلسَان الحال: سُبحَان الله.. الله اكبر.. وأنا معها أُقدّسُك بجَميع تَسبِيحاتها.
الشعاع الثالث - ص: 50
يَامن اختفى بشدَّة الظُهُور! يَامن احتجبَ بعَظمة الكِبرياء!
يَا قدِيرُ ياذا الجلال! يَا قادر القُدرة المُطلقة!
لقد أدركتُ بِدَرس قُرآنك الحكيم وبتعليم الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وسلم أنه:
مثلما تَشهدُ السَّمواتُ والنجُوم على وجُودكَ وعلى وحدَتكَ، يَشهدُ جَو السَّماءُ كذلك على وجوب وُجُودك ووحدتك بسحابه وبروقه ورعوده ورياحه وأمطاره.
نعم، إن إرسال السَّحاب الجامد بلاشعور، المطَر الباعث للحياة، إغاثةً للمضطرّين من الأحياء، ليس إلاَّ برحمتك وحكمتك أنت، فلادخل فيه للمصادفة العشواء قط.
وكذا البرقُ الذي هوطاقة كهربائية عظمى، يشوِّقُ بسَنَاه الى فوائده النورانية، وينوِّر قدرتك الفاعلة في الفضاء على افضل وجه.
وكذا الرعد المبشر بقُدوم المطر، والذي يُنطِق الفضاء الواسع بتسبيحاته، فيُدوي في أرجاء السّمواتِ، يُسبّحُك ويقدّسُكَ ويشهد بلسَان المقال على رُبوبيَتكَ.
وكذا الرّياح المسَخَّرة بوظائف عدّة: كحمل أكثر الأرزاق ضرورة لمعيشة الأحياء وأسْهَلِها تناولاً وفائدة، ومنح الأنفاس وترويح الأنفس وغيرها كثير، تُشير الى فعالية قدرتك أنت، وتشهد شهادة على وُجُودِكَ؛ بتبديلها الجو - لحكمة - كأنه "لوح المحو والإثبات" فتكتب مايفيد وتمحو ما أفاد. كما انَّ "الرحمة" المستدرة برحمتك من السَّحاب والمرسلة الى الأحياء تشهد هي أيضا على سعة رحمتك، ووُسعةِ رأفتك؛ بكلمات قطراتها العذبة اللطيفة الموزونة المنتظمة.
يَا مصرّف يَا فعَّال! يَا فيَّاضُ يَا مُتعَال!.
مثلما شهد السَّحَابُ والبرقُ والرَّعدُ والرّيحُ والمطر - كلٌّ على حِدة - على وُجُوب وُجُودِكَ، فإنَّ جميعها معاً تُشير إشَارة قويَّة جداً الى وحدتك، والى فرديَّتِكَ؛ بخاصية الإتّفاق والمعيَّة والتداخُل وشَدِّ بعضها أزر البعض، رغم البُعدِ في النوعيَّة والإختلاف في الماهيَّة..
ومثلما تشهد تلك العناصر الجوية على جلال ربُوبيتك الجاعلة من الفضاء الفسيح محشراً للعجائب؛ بملئه وإفراغه مرَّاتٍ عدَّة وربَّما في اليوم الواحد، فإنَّها تشهد على
الشعاع الثالث - ص: 51
عظمة قدرتك المصرِّفة وشمولها كلَّ شئ، والتي تكتب ذلك الجوَّ الواسع وتبدِله كأنهُ "لوحة كتابة" وتعصر المعصرات لتسقي روضة الأرض ماءً غدقاً.. فضلاً عن دلالتها على السِعة المطلقة لرحمتك ولحاكميَّتِكَ ونفوذهما في كُلِّ شئ، وتدويرهما كرة الارض كافة والمخلوقات كافة تحت غطاء الجو.
وكذا الهواء المنبث في الفضاء يستخدم في وظائف عدّةٍ إستخداماً حكيماً.. والغيوم والأمطار تستعملان في فوائد جمّة إستعمالاً عليماً.. بحيث لولا علم محيط بكلِّ شئ وحكمة شاملة كُلَّ شئ، لما أمكن أن يكون ذلك الإستعمال ولا ذلك الإستخدام.
يَا فعَّالُ لما يُريدُ!
إنَّ إظهار نموذج الحشر والقيامة كُلَّ وقتٍ بفعاليَّتِكَ في جوِّ الفضاء، وتبديل الصيف الى شتاء والشتاء الى صيف خلال سَاعة، وإتيان عالم وارسال آخر الى الغيب وأمثالها من شُؤونِ قُدرتك المتجلّية.. تشِير الى تبديلها الدنيا الى آخرة، وستظهر شؤوناً سرمديَّة في الآخرة.
يَا قدير يَاذا الجلال!
إنَّ الهواء والرِيح والسحاب والمطر والبرق والرَّعد في جوِّ السَّماء لمسخَّرة كلها وموظّفة في ملكك أنت، وبأمرك وحولك أنت، وبقوَّتِكَ وقدرتك أنت.. فمخلوقاتُ هذا الفضاء رغم البعد في ماهيَّاتها تُسبّحُ بحمد آمرها وتُثني على حاكمها الذي يُخضعها لأوامر آنيَّة - في مُنتهى السُّرعة - ولآمرين مُسرعين فوريين.

يَا خالق الأرض والسَّموات! ياذا الجَلال!
لقد آمنت وعلمتُ بتعليم قرآنك الحكيم وبدرس الرَّسُولِ الأكرم صلى الله عليه وسلم أنه:
مثلما السَّمواتُ بنجومِها، وَجوُّ الفضاء بما فيه، تشهد على وُجُوبِ وُجُودِكَ ووحدانيَّتك.. كذلك الأرض بجميع مخلوقاتها، وبأحوالها، تَشهد شَهادات وتشير إشارات، عدد موجوداتها، على وُجُودِكَ وعلى وحدتك.
الشعاع الثالث - ص: 52
نعم، فما من تحوُّل في الأرض، ولامن تبدُل فيها - كتبديل الأشجار والحيوانات ملابسها سنوياً - كلّياً كان أم جزئياً، إلاَّ ويشير بانتظامه وتناسُقه، الى وُجُودِكَ ووَحدَتِكَ.
ومامن حيوان إلاَّ ويشهد شهادة على وُجُودكَ ووَحدَتك؛ بالرّزق الذي يساقُ إليه برحمة، وبأجهزته الضرورية لحياته والمودعة فيه بحكمة، كلٌّ حسب ضعفه وإحتياجهَ.
ومامن نباتٍ أو حيوان يتم إيجاده أمام ناظرينا في كُلِّ ربيع، إلاَّ ويعرّفك؛ بصنعته العجيبة وبزينته اللطيفة وبتميزه التام وبانتظامه وبموزونيته.. فخلق مايملأ وجه الأرض من معجزات قدرتك المسماة بالنباتات والحيوانات، من بيوض وبويضات وقطرات ونُطف وحبوب وحبيبات، رغم أن مادتها محدودة وواحدة ومتشابهة، خلقاً كاملاً سوياً ومزيناً بزينةٍ، ومتميّزاً بعلاماتٍ فارقة.. شَهادة أقوى من شهادة الضياء على الشَّمسِ واسطع منها على وُجُود صانعها الحكيم، وعلى وحدته وحكمته وقدرته المطلقة.
ومامن عنصر كالهواء والماء والنُور والنار والتُراب إلاَّ ويملك شَهادة على وحدتكَ وعلى وجودِك؛ بأدائها لوظائف مكملة بشعور بالغ، رغم خلوّها من الشعور، وبجلبها لأثمار ومحاصيل متنوِعة في غاية الإنتظام من خزينة الغيب، رغم بساطتها وتجاوز بعضها للبعض الآخر وعدم إنتظامها وتشتُّتِها في كُلِّ مكان.
يَا فاطرُ يَا قديرُ! يا فتاح يَا علاَّم! يا فعّالُ يا خلاَّقُ!..
كما أنَّ الأرض تشهد بجميع ساكنيها على كون خالقها واجباً للوجود، فهي تشهد كذلك على وحدتك وعلى احديتك، يَا واحدُ يَا أحدُ يَا حنَانُ يَا منَانُ يَا وهابُ يَا رزَّاقُ! بسكتها التي على وجهها، وبالسكك التي على وُجُوه ساكنيها، وبجهة الوحدة والإتفاق والتداخل والتعاون فيما بينها، ووحدة اسماء الربوبية وافعالها الناظرة اليها جميعاً.. فتشهد شهادات - بدرجة البداهة بل بعدد الموجودات - على وَحدَتِكَ وعلى أحديَّتِكَ.
الشعاع الثالث - ص: 53
وكذا فكما تدل الأرض؛ بوضعها المشابه لمعسكر ومعرض وميدان تدريب، وبمنح أجهزة مخَتلفة متنوّعة بانتظام الى أَربعمائة ألف من الأمم المختلفة التي تضمُها فرقة النباتات والحيوانات، على جلال ربوبيتك، وعلى نفاذ قُدرتك في كُلِّ شئ.. كذلك الأرزاق المتنوّعة لأحياء غير محدودة والنَّاشئة من تراب يابس بسيط، وإرسالها بكلِّ كرم ورحمة الى كلِّ حيّ فرداً فرداً في أوانها وانقياد تلك الأفراد غير المحدودة وإطاعتها إطاعة تامة للأوامر الربانية ودينونتِها التامة لها، تظهر شمول رحمتك كلّ شئ وإحاطة حاكميتك بكلّ شئ.
وكذا فإنَّ إدارة قوافل المخلوقات المعرضة دوماً للتغير والتبدل في الأرض، وسوقها ومناوبتها بالموت والحياة.. وإدارة وتدبير الحيوانات والنباتات التى لا يمكن أن تتم إلاَّ بعلم يتعلَّق بكلّ شئ، وبحكمة غير متناهية تتحكم في كُلّ شئ.. تدلُ على إحاطة علمك وحكمتك..
وكذا فإنَّ هذه الأهمية العظمى، وهذا البذل والصرف غير المحدود، وهذه التجلّيات الربانية المطلقة، وهذه الخطابات السُبحانية غير المحدودة، وهذه الإحسانات الإلهية غير المتناهية لهذا الإنسان الذي يتصرف في موجُودات الأرض وهو المكلف بوظائف غير محدودة في فترة قصيرة والمزود باستعدادات وأجهزة معنوية تهيؤه لمعيشة مديدة في زمن غير محدود.. لامحالة أنها لاتنحصر في مدرسة الدنيا هذه، وفي ثكنة الأرض المؤقتة هذه، وفي معرض العالم المؤقت هذا، ولاتنحصر في هذا العمر القصير الحزين المكدر، ولا في هذه الحياة العكرة المنغّصة، ولافي هذا العالم الفاني الملئ بالبلايا والنوائب. بل كل ذلك يشير بلا شك الى عمر آخر أبدي وسعادة باقية خالدة ويشير الى إحسانات أُخروية في عالم البقاء، بل يشهَد علىها .
فيَا خالق كلّ شئ!
إنَّ جميع مخلوقات الأرض تدار مسخّرة في ملكك أنت، وفي أرضك أنت وبحولك وقوتك أنت، وبقدرتك وارادتك أنت، وبعلمك وحكمتك أنت.
وإن ربوبية تشاهد فعاليتها على وجه الارض لتبدي إحاطة وشمولاً، لإنَّ إدارتها وتدبيرها وتربيتها هي من الحساسيّة في غاية الكمال.. وإن إجراءاتها المنتشرة في كل
الشعاع الثالث - ص: 54
جهة هي في وحدة ومعية ومشابهة.. بحيث تُعلم انها ربوبيةٌ وتصرفٌ كليٌّ لاتقبل تجزئة قط. وهي في حكم كلي لايمكن انقسامه قط. فتسبّح الأرض بجميع ساكنيها وتقدس خالقها بألسنة غير محدودة فصيحة أبينَ من لسان المقال، فتحمد رزاقها الجليل وتثني عليه بألسنة أحوال بعدد نعمه التي لا تعد ولا تُحصى.
سُبحَانَكَ يَا مَن اخْتفى بِشدة الظّهور.. سُبحانكَ يامن احتجب بعظمة الكبرياء..
إني اقدِّسُكَ وأُسبّحُكَ بِجميع تقديسات الأرض وتسبيحاتها من القصور والعجز والشريك، وإني أحمدك وأُثني عليك بجميع تحميدات الأرض واثنيتها.

يَا رَبَّ البَرِ والبحر..!
لقد تعلمت بدرس القرآن وبتعليم الرَسُولِ الأكرم صلى الله عليه وسلم أنه:
مثلما السَّمواتُ والفضاء والأرض تشهد على وحدانيتك وعلى وجودك، فالبحار والأنهار والجداول والعيون أيضاً تشهد شهادة - بدرجة البداهة - على وُجُوب وُجُودِك وعلى وحدتك.
نعم، فما من موجود، بل مامن قطرة ماء في بحار دنيانا هذه وهي منبع العجائب - كأنها مراجل بخار - إلاَّ وتُعرّف خالقها؛ بوجودها وبانتظامها وبمنافعها وبحالها.
وما من مخلوق من المخلوقات الغريبة التي ترسل اليها أرزاقها إرسالاً كاملاً في رملٍ بسيطٍ وماءٍ بسيطٍ.. ولاحيوان من الحيوانات البحرية التي هي في غاية كمال الخلقة وبخاصة الأسماك التى تجمل البحار بما تقذف إحداها مليوناً من البويضات.. إلاَّ ويشير الى خالقه، ويشهد على رزاقه؛ بخلقته وبوظائفه وبإدارته وباعاشته وبتدبير أموره وبتربيته.
وكذا ليس في البحر من جوهرة من تلك الجواهر القيّمة واللآلئ المزينة الثمينة ذات الخواص النفيسة لاتعرفك ولاتُعرّفك؛ بخلقتها الجميلة وبفطرتها الجذابة وبخاصيتها النافعة.
الشعاع الثالث - ص: 55
نعم، فكما تشهد كُلُّ جوهرة فردة، فإنَّ تلك الجواهر بمجموعها معاً تشهد بوحدتك كذلك؛ بما فيها من الإتفاق والتداخل والإختلاط َووحدة سكة الخِلقة وغاية السُهولة في الأيجاد وغاية الكثرة في الأفراد..
وإنَّ جعل البحار المحيطة بالأرض معلقة في السماء مع برّها الشاسع، وهي سابحة حول الشمس دون أن تنسكب إنسكاباً، ودون أن تتشتت فائضة، ودون أن تستولي على اليابسة.. وخلق حيواناتها المنتظمة المتنوعة وجواهرها من رملها البسيط ومائها البسيط.. وإدارة أرزاق تلك المخلوقات وسائر أمورها إدارة كلية تامة.. والقيام بتدبيرها وتطهير سطحها من جنائز غير محدودة لابد منها.. تشهد بإشارات بعدد موجوداتها على انك موجود وواجب الوجود..
وكما أنها تدلُ دلالة ظاهرة جلية على جلال سلطنة ربوبيتك، وعلى عظمة قدرتك المحيطة بكلّ شئ، فهي تدلُ كذلك على السّعة المطلقة لرحمتك ولحاكميتك اللّتين تهيمنان على كُلِ شئ، وتسعفان كل شئ، إبتداءً من النجوم الضخمة والمنتظمة في أعالي السَّموات الى الأسماك الصَّغيرة المنتظمة الإعاشة في أعماق البحَار، وتشير الى علمك المحيط بكلّ شئ والى حكمتك الشاملة لكل شئ؛ بانتظامها وبفوائدها وبحِكمها وبميزانها وبموزونيتها.
وإنَّ إيجاد حياض رحمة كهذه للإنسان القادم ضيفاً الى مضيف الدُنيا هذه، وتسخيرها لسيره وسياحته ولسفينتهِ ولمنافعهِ.. يشير الى أن الذي يُكرم ضيوفه في ليلة واحدةٍ، في دارِ إستراحةٍ شيدها َلهم على طريق سفرهم، بهذا الكَرَم العظيم من هدايا البحار وعطاياها.. لابد أنه قد أحضر في مقر سلطنته الأبدية بحار رحمة أبدية واسعة بحيث أن المشهودة منها هنا ليست إلاَّ نماذج فانية وصغيرة أمام تلك الأبدية..
وهكذا فإن وجُود البحار بهذا الطّراز الخارق وبوضعها العجِيب في أَطراف الأرض وإدارة مخلوقاتها والقيام بتربيتها في غاية الإنتظَام، يُظهر بداهة أن جميعها مسخرة في ملكك أنت، وبأمرك وبقوتك وبقدرتك وباَدارتك وبتدبيرك وحدك، فهي تقدّس خالقها بألسنة حالها هاتفة:
الله أكبر!!
الشعاع الثالث - ص: 56
يَا قَادر ياذا الجَلالِ!
يَامن جعل الجبال أوتاداً ذات خزائن لسفينة الأرض!
لقد علمت بتعليم الرَسُولِ الأَكرَم صلى الله عليه وسلم وبدرس قرآنك الحكيم أنه:
مثلما البحارُ تعرفك وتُعرّفك بعجائبها وغرائبها،كذلك الجبالِ تعرفك وتعرّفك؛ بخدماتها وبحكمها؛ بتأمين سكون الأرض من تأثير الزلازل ودمارها، وبتهدئةِ الأرض من غوائل الإنقلابات الجارية في جوفهَا، وبإنقاذ الأرض من فيضاِن البحار وطغيان عوارمها، وبتصفية الهواء من الغازات المضرة، وبمحافظتها المياه وضمان إدّخارها، وبخزنها المعادن المستلزمة لحاجات الأحياء.
نعم، فما من نوع من أنواع الصُّخُورِ التي في الجبال، ولا ِ قسم من اقسام المواد التي هي علاجات لمختلفِ الأمراض والعاهات، ولاجنس من أجناس المعادن الْـمتنوِّعة جداً والتي تلزم الأحياء ولاسيما الإنسان، ولاصنف من أصناف النباتات المزينة بأزهارها الجبال وبأثمارها القفار.. إلاَّ وتشهد بداهة على وُجُوبِ وجود صانع ذي قدرة غير متناهية، وحكمة غير متناهية ورحمة غير متناهية وكرم غير متناه؛ بما فيها من الحكم والإنتظام وحُسن الخلقة والفوائد، مما لايمكن نسبتها الى المصادفة.. وبما فيها من الإختلاف الشديد في المذاقات، رغم التشابه الظاهري - وبخاصة في المعدنيات كالملح وملح الليمون والسُلفات والشب - ولاسيما النباتات، بأنواعها المتباينة العديدة الناشئة من تُراب بسيط وبأزهارها وأثمارها المتنوّعة. فضلاً عن أنها تشهد على وحدة الصانع وعلى أحديته؛ بما في هيئتها العامة من وحدة الإدارة ووحدة التدبير ووحدة المنشأ والمسكن والخلق، والتساوي في الإتقان، مع الرخص واليسر والوفرة والسرعة في الخلقة.
وكذا فإنَّ خلق كُلّ نوع من أنواع المصنوعات الموجودة على سطح الجبال وفي جوفها، المنتشرة في كُلّ جهة من جهات الأرض، وإيجادها في آن واحد وبنمط واحد بلا خطأ وبلا اختلاط، رغم التداخل ضمن سائر الانواع، في غاية الكمال والسُرعة ومن دون أن يُشغلك فعلٌ عن فعلٍ.. يدلُ على هيبة ربوبيتك وعلى عظمة قدرتك التي لا يعجزها شئ.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس