عرض مشاركة واحدة
قديم 07-09-2011
  #11
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

دراسات في التصوف،في الشأن العام و الخاص :(الولي و الخليفة)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد
يعلمنا أهل الله في مذكراتهم التربوية معنى الإرادة و المريد و المراد.وتتباين إشاراتهم بحسب مقامهم و قربهم من الله.فالله نور السموات و الأرض ، والإنسان في حركيته و تفاعله مع الكون و المكون يمد ما يحيطه من الذوات و الأرواح و الجماد ، بوجوده الخاص النوراني ، فلا يمر على أرض إلا و تشهد له بذكره لله تعالى ، و لايراه أحد من الخلق إلا و يذكره بالله ، ومامن أرواح ملائكية علوية إلا و يباهيها الله و يحف إليها كل عبد مطيع مطاع فاعل في الأرض مستخلف قائم بالقسط و العدل.
ب.الإنسان الخليفة :
لا شك أن ابن عربي قدس الله سره أورد في جل كتبه حقائقا حول الإنسان ، فالإنسان بالنسبة للشيخ الأكبر برزخ جامع بين الوجوب و الإمكان و المرآة الجامعة بين صفات القدم و أحكامه و بين صفات الحدثان وهو الواسطة بين الحق و الخلق به ومن مرتبته يصل فيض الحق و المدد الذي هو سبب بقائه ما سوى الحق إلى العالم كله علوا و سفلا ولولاه من حيث برزخيته التي تغاير الطرفين لم يقبل من العالم المدد الإلهي الوحداني لعدم المناسبة و الإرتباط.
ويعتبر الجامي رضي الله عنه من فحول أهل التصوف ممن أحسنوا تأويل كلام الشيخ الأكبر ....أعلم أن النشاة الدنيوية الحسية بمنزلة خزان اختزن الحق سبحانه وتعالى فيها الحقائق الإمكانية و المظهرية و الحقائق الأسمائية الإلهية الظاهرة بها و لاشك أن كل واحدة من تلك الحقائق الإمكانية عبارة عن أحدية جمع حقائق بسيطة متباينة متمايزة مقتضية بذاتها الإفتراق ، فالأمتياز كما كانت في الرتب العلمية متحدة بالوجود الواحد الذي يقتضيه بذاته الوحدة وزوال الكثرة ، وباعتبار هذا الوجود الواحد ظهر بعضا متبوعا و بعضها تابعا ، وبعد اتحادها بالوجود الواحد صارت حقيقة مظهرية تظهر فيها السماء الإلهية بحسب قابليتها و استعدادها و جمعيتها ، ولما كان الكون الجامع و الإنسان الكامل أحدية جمع جميع الحقائق الإمكانية المظهرية ، وكان المقصود الأصلي و الغاية القصوى من إيجادها وجوده العنصري ، الذي هو مظهر أحدية جميع الحقائق الإلهية كان وصول الإمداد الإلهي و التجلي الوجودي إلى الحقائق المظهرية كلها قبل وجوده العنصري بواسطته ومن مرتبته ، و بعد وجوده العنصري فوض ذلك الإمداد إليه بأن وقع التجلي الأحدي الوجودي الجمعي أولا على حقيقته الأحدية الجمعية و برقيقة المناسبة التي بينه و بين حقيقة سرى إليها ثانيا ، فمادام كان ذلك الكامل مقصودا إيجاده أو بقاؤه في النشآت الدنيوية ووصل قبض التجلي من مرتبته أو وجوده إليها بقيت تلك الحقائق محفوظة من الخلل الذي تقتضيه التفرقة والمباينة التي كانت عنها قبل إيجادها بالوجود الواحد و الوحدة الذاتية لذلك التجلي وكان الختم عليها لئلا يفتحها تسلط تلك التفرقة و المباينة عليها و اقتضى التجلي التقلص و الا نسلاخ عنها ) شرح الجامي لفصوص الحكم ص ، 60.61.
النص مليئ بكلمات غامضة ،تزعج القارئ من أول وهلة ، أحدية وجوع ، تفرقة ومباينة تقلص و انسلاخ ، إمكان ومظهرية ، وهي كلمات في حد ذاتها لا تشير إلا لمعان دقيقة الأحدية نسبة للأحد ، فهل الإنسان حقيقة أحدية ؟ وما وجه الشبه أليس هذا حلولا ؟ ومالتفرقة و الجمع ؟ و ماهي الحقائق المظهرية.
مما لايحبه الباحثون ، هي كثرة الصياغات و التكلف و الأساليب المعقدة في التعبير عن مكنون حقيقة عالمية و كونية وهي معنى السير إلى الله و استعداد الإنسان لهذا السير ، اختيارا أو كرها. غير أن الروح في بوحها عن حقائق الوجود تحار في وضع كلمات مناسبة لأنوار طارئة تسمى بحسب أهل الله تعالى معرفة.
يقول ابن عربي قدس الله سره في الفص الآدمي : (لما شاء الحق سبحانه وتعالى من حيث أسمائه الحسنى التي لايبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها و إن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله .لكونه متصفا بالوجود ، و يظهر به سره إليه.فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة ، فأنه تظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور إليه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل و لا تجليه له.
وقد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه ، فكان كمرآة غير مجلوة ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا و لابد أن يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه ، وما هو إلا حصول استعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل و لايزال.
وما بقي ثمة قابل ، والقابل لا يكون إلا من فيضه القدس.
فالأمر كله منه ابتداؤه و انتهاؤه : ( وإليه يرجع الأمر كله ) هود 123، كما ابتدأ منه.
فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم ، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة و روح تلك الصورة.
وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة تلك العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم ب " الإنسان الكبير".
فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية و الحسية التي هي النشأة الإنسانية.
وكل قوة محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها.
وأن فيها فيما تزعم ، الأهلية لكل منصب عال ومرتبة رفيعة عند الله لما عندها من الجمعية الإلهية.) شرج الجامي لفصوص الحكم ص 49.50.51.52.53.54.
ينهل القوم من القرآن ، وتتسع دائرة فهومهم باتساع دائرة المشاهدة ثم المكاشفة ، والثانية أكثر عمقا من الأولى. غير أن القوم في سيرهم إلى الله تعالى يرون في القرآن العلم كل العلم .
و يخشون في لطائفهم الرقية أن تفتضح اسرار الربوبية. منها ما قد يسميها البعض الوحدة. ومنهم من يرى فيها الفلسفة الأفلاطونية ، والغريب في الأ مر أن ابن عربي قدس الله سره لايرى في أهل النظر و علومهم مجرد قصور علمي في معرفة الحقيقة الإلهية و الذات المحمدية.يقول رضي الله عنه في م/2 من كتاب الفتوحات المكية ....وأما أهل الإعتبار فيكون منهخم أصحاب أذواقو يعتبرون عن ذوق لا عن فكر ، و قد يكون الإعتبار عن فكر فيلتبس على الأجنبي بالصورة فيقول في كل واحد إنه معتبر ومن أهل الإعتبار ، وما يعلم أن الإعتبار قد يكون عن فكر وعن ذوق ، والإعتبار في أهل الأذواق هو الأصل و في أهل الأفكار فرع !!!!!!!!و صاحب الفكر ليس من أهل الإرادة إلا في الموضع الذي يجوز له الفكر فيه إن كان ثم مما لا يمكن أن يحصل الأمر المفكر فيه إلا به بفتح الكاف فحينئذ يأخذه من بابه ، وهل ثم أمر بهذه المثابة لا يمكن أن ينال من طرق الكشف و الوجود أم ؟.
فنحن نقول ما ثم نمنع من الفكرجملة واحدة لأنه يورث صاحبه التلبيس و عدم الصدق!، وماثم شيء إلا و يجوز العلم به من طريق الكشف و الوجود و الإشتغال بالفكر حجاب و غيرنا يمنع هذا ، و لكن لا يمنعه أحد من أهل طريق الله بل مانعه أنما هو من أهل النظر و الاستدلال من علماء الرسوم الذين لاذوق لهم في الأحوال ، فإن كان لهم ذوق في الأحوال كالأفلاطون الألهي من الحكماء فذلك نادر في القوم و تجد نفسه يخرج مخرج أهل الكشف والوجود ، وما كرهه من كرهه من أهل الإسلام إلا لنسبته إلى الفلسفة لجهلهم بمدلول هذه اللفظة و الحكماء هم على الحقيقة العلماء بالله و بكل شيء ومنزلة ذلك الشيء المعلوم " أنه هو الحكيم العليم" الذاريات آ 30، " ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" البقرة آ 229 ، و الحكمة هي علم النبوة كما قال في داوود عليه السلام و أنه ممن آتاه الله الملك و الحكمة قال :" وءاتاه الله الملك و الحكمة و علمه مما يشاء" البقرة آ 251، والفيلسوف معناه محب الحكمة لأن سوفيا باللسان اليوناني هي الحكمة و قيل هي المحبة ، فالفلسفة معناه حب الحكمة و كل عاقل يحب الحكمة ، غير أن أهل الفكر خطؤهم في الإلهيات أكثر من إصابتهم سواءا كان فيلسوفا أو معتزليا أو أشعريا أو ماكان من أصناف أهل النظر ، فماذمت الفلاسفة لمجرد هذا الاسم و إنما ذموا لما أخطأوا فيه من العلم الإلهي مما يعارض ما جائت به الرسل عليهم السلام بحكمهم في نظرهم بما أعطاهم الفكر الفاسد في أصل النبوة و الرسالة ولماذا تستند فتشوش عليهم الأمر ن فلو طلبوا الحكمة حين أحبوها من الله لا من طريق الفكر أصابوا في كل شيء ، و أما عدا الفلاسفة من أهل النظر من المسلمين كالمعتزلة و الأشاعرة فأن حكم الإسلام سبق لهم و حكم عليهم ثم شرعوا في أن يذبوا عنه بحسب ما فهموا منه فهم مصيبون بالأصالة مخطئون في بعض الفروع بما يتأولونه مما يعطيهم الفكر و الدليل العقلي من أنهم إن حملوا بعض ألفاظ الشارع على ظاهرها في حق الله مما أحالته أدلة العقول كان كفرا عندهم فيؤولونه...) ص 512 م/2 الفتوحات.
ومن هنا نجد الشيخ الأكبر رضي الله عنه يتأدب مع مناوئيه و لم يكفر المعتزلة و الأشاعرة بقدر ما أشار الى خطئهم في بعض الفروع ، و اشار إلى أن الفيلسوف أحيانا يكون له ذوق في الأحوال، لكن هذا الذوق ليس بمانع و حاجز من المعرفة بقدر ما هو مانع عن المعرفة الحقيقة عن طريق التربية و الكشف .لذلك قبل ان نشرع في تفصيل فكرة الإنسان الكامل الخليفة ، تكون تهمة الفلسفة أو التصوف الفلسفي قد سقطت عن الشيخ الأكبر قدس الله سره .
في تكريم الله تعالى الأنسان و ابتلائه، يقول الشيخ عبد السلام ياسين في كتابه تنوير المؤمنات ........ألقى الله سبحانه على العقل الإنساني مسؤولية الاختيار بين الكفر والإيمان، بين الضلالة والهدى. أخبرنا بذلك في مثل قوله: )فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. ومن ضل فإِنما يضل عليها(.(سورة يونس، الآية: 108) وأخبرنا سبحانه أنه لايظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون. وجعل سبحانه من شرائط الإيمان الإيمانَ بالقدر خيره وشره. وأخبرنا في قرآنه على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام أن الله خلقنا وخلق أعمالنا.
يجد العقل نفسه أمام امتحان عسير ليجمع بين ما يبدو من متناقضات في العقيدة، لأن المسؤولية تقتضي حرية. ويسأل العقل في امتحانه وبلائه: إذا كان عملي مخلوقا من لدنه مقدرا فما مكان مسؤوليتي؟
خلق سبحانه في الكون ما هو ملائم للفطرة الإنسانية ومنطق العقل الإنساني مثل الخصب والصحة والرخاء والأمن والعافية. وخلق ما يصدم منطق العقل وما يثير اعتراضه وحيرته مثل الجدْب، وقلة الأرزاق، ومرض الطفل، وبؤس البائسين إلى جانب ترف المترفين، والحروب بين البشر، والكوارث والصواعق. يحار العقل بين الإيمان الذي يجد دليله البدهي مغروزا في فطرته، وهو حاجة هذا الكون المنظم إلى صانع، وبين متناقضات الكون.
مما يجده العقل في بدهياته، وتجده الفطرة مغروزا في أعماقها موازين الخير والشر. يضع العقل أحداث الكون المتناقضة في ميزان ما يُقَبِّحه هو وما يستحسنه فيجد أن في العالم ظلما وألما وشرا، ويسمع من الرسُل عليهم السلام خبرا غيبيا أن هنالك شياطين من الجن يلعبون بالإنس.
لم كل هذا الشر؟
ليس في متناول العقل الإنساني مفتاح ألغاز الكون والتاريخ ما دام منغلقا عن الوحي، وما دام أفق تأمله لا يتجاوز الدنيا وشهادة ما يرى وما يسمع وما يدرك بالمنطق والتجربة، وما تصل الحواس إليه مباشرة أو بواسطة المجهر والتلسكوب. فإذا انفتح العقل على الوحي وسمِع خبر الآخرة وصدق وأيقن، عندئذ تجتمع أمام باصرته معطيات الخلق، وتكتمل لميزانه الصنوج الضرورية لوزن المتناقضات، ووضع المسؤولية والحرية مكانهما. ومن وراء كل ذلك حكمة الله التي استأثر سبحانه بعلمها وتدبيرها.
العقل الإنساني في امتحان ما بين خروجه إلى الدنيا وانصرافه عنها. بل ما بين إخراج الله إياه إليها وأخذه إياه منها. من تفرعُن العقل الغافل أن ينسب لنفسه ما هو مُكْره عليه.
العقل الإنساني الفرد في امتحان وابتلاء وفتنة. الإنسان في هذه الدنيا ما بيْنَ ملائم يعده خيرا وما بين صادم كريه يعده شرا. والخير خير الآخرة لمن نجح في الامتحان، وسبقت له من الله سابقة الحسنى.
والأمم في مجموعها في امتحان وبلاء، يداول الله الأيام بين الناس، وتضطرب أقطار الأرض بتدافع الأمم وتقاتلها. سعادتها وشقاؤها رهن بنجاحها في الامتحان.
قانون ابتلاء الأمم وناموسُه وسنته نقرأها في قوله تعالى: )ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا. ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون. فلما نَسُوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون. فقطع دابر القوم الذين ظلموا. والحمد لله رب العالمين(.(سورة الأنعام، الآيات: 43-46)
ويقص الحق سبحانه علينا خبر الأمم التي عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبها هنا في الدنيا حسابا عسيرا وعذبها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها. وكان عاقبة أمرها خسرا.
تُعلَن نتيجة امتحان الأمم هنا في الدنيا فتنال جزاءها، وتعذب على قدر انحرافها عن دين الله وعتوها وإفسادها: )ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعـون(.(سورة الروم، الآية: 40)
أما امتحان الأفراد، فإن كانت أسئلته توضع على المرأة والرجل كل يوم، فإن النتائج لا تظهر إلا في الآخرة. فشقي في النار وشقية، وسعيد في الجنة وسعيدة.
أهلك الله سبحانه قوم نوح وعذبهم في الدنيا بالطوفان لما كفروا وأعرضوا. وفتح على عاد قَومِ هود أبواب الرخاء فبنوا وشيدوا، واتخذوا مصانع لعلهم يخلدون، وبطشوا بمن حولهم من الأمم. حتى إذا فرحوا بما أوتوا وَفقا لقانون الله وسنته في بلاء الأمم أرسل عليهم سبحانه ريحا صرصرا في يوم نَحس مستمر.
وفتح سبحانه على ثَمودَ قومِ صالح جنات وعيونا وزروعا ومقاما كريما ومساكن فارهة منحوتة في الجبل لا يزال المسافر من الأردن إلى الجزيرة العربية يمر عليها ليعتبر المعتبر. وفتنهم الله مع ما فتح عليهم من خيرات ملائمة محببة للنفس بدعوة صالح عليه السلام وناقة الله وسقياها، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم، فأرسل عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر.
وهكذا فعل سبحانه ويفعل بالقرى الظالمِ أهلها وبالحضارات المتمردة عليه المكذبة لرسله.
كنا في الفقرة السابقة نتحدث عن العقل المتفرعن التائه بمنجزاته وعلومه وقوته. تلك كانت نظرة من جانب واحد. نكمل تلك النظرة الكاشفة عن الظواهر بنظرة الاعتبار التي تعطي للتاريخ وما يجري في الكون معنى، كما تعطي للإنسان وعقله ومسؤوليته وحريته مكانها في الامتحان المستمر.
هذه الحضارة الغربية في قاعة الامتحان كما كانت عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع. ما فتح الله عليها من حذق العقل الصانع العلومي، وما أغدق عليها من ملائم تحسبه خيرا، وما أتاح لها من قوة، وما كدس عليها من أشياء تفرح بها، وتلهو بها، ما هي إلا أسئلة مجسمة للبلاء.
وما تعانيه الأمة الإسلامية من تخلف وقهر وفقر وشتات ما هو إلا فساد ظهر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. نسأله سبحانه العفو واللطف.
في القرآن الكريم عبارتان عن الفتح: "فتح على" يذيق الله به الجاحدين من أهل القرى الظالمة رخاء الدنيا وقوتها قبل أن يعذبها. و"فتح لِ" خصصه الله سبحانه لأحبائه الصالحين من عباده. وهو الذي خاطب به سبحانه محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: )إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويُتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا(.(سورة الفتح، الآيات: 1-3)
إن لا تستقم الأمة على الدين فهي غثاء يجرفها سيل الحضارة المادية. نقطة التقاطع بين "الفتح على" و"الفتح لِ" هي العقل الإنساني ما يوجهه؟ مسار الجاهلية المعاصرة يوجهها الهوى، والغريزة، والدوابية، وتأله النفس الهلوع، والفلسفة العقلانية التي تقول للإنسان: اعبد نفسك فأنت أنت. غرور العقل الصانع بأشيائه وعلومه وقوته فتح من الله عليه في عالميه المادي والنفسي. حريته ذهبت من حيث لا يشعر، فالتكنولوجيا تسوقه حيث لا يريد وحيث لا يستطيع فكاكا. أغرقته أشياؤه في التفاهة وقَمَّطته إفرازات ذكائه ومهارته في نسيج متين من خيوط عنكبوتية هي فولاذه وصناعته الثقيلة ورأسماليته العملاقة. عنكبوتية في ميزان الآخرة، لكنها هنا بأس شديد علينا وعلى المستضعَفين.
للإنسان الجاهلي دعوى عريضة بما يرى من تنامي قوته. يغفُل، بل يتغافل عن تدهور الإنسان الغربي أخلاقيا ونفسيا، فينصب نفسه مدافعا عن حقوق الإنسان في العالم، ويحشُد الجيوش لقمع الأمم. فقد بلغ ظلمه مداه وآن أن تنطبق سنة الله عليه. آن. ولا يعلم الغيب إلا الله، ومن سنته تعالى في الأمم أن يُمْلي لها ويُنظِرَها ويَمْكُر بها. لكن سنته لا تتخلف.
نقطة التقاطع والتباين بين "الفتح على" الذي يبتلي به الله العتاة في الأرض، وبين "الفتح لِ" الذي خص الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ووعد أمته بالنصر العزيز إن استقامت على هديه، هي التعرض لكرامة الله.
كرم الله بني آدم كرامة استعداد. من بني آدم من استقام مع الرسل عليهم السلام فنُصروا في الدنيا أمما، وأفلحوا في الآخرة أفرادا. ومنهم من انحرف وكفر وجحد فأخذهم الله نكالا في الدنيا أمما، وعذبهم أفرادا في الآخرة لكفرهم.
كرامة الله لبني آدم تتمثل في هذه الموهبَة العظيمة: العقل. من بني آدم من تولَّى ولم تبلغه دعوة الرسل فهو كالبهيمة ذو عقل معاشي يأكل ويشرب ويتمتع كما تتمتع الأنعام. في ميزان الآخرة تستوي الأمم البدائية والأمم المصنعة الماهرة، ويستوي الأفراد الذين أكلوا في الدنيا والذين جاعوا. بهيمة في الدنيا وفي الآخرة كل من احتجب عن الهدى بمعاشه وآلة معاشه.
ومن بني آدم من استجاب لداعي الله ففتح الله لعقله وقلبه أبواب الهداية وسبل السعادة. فهو على طريق آدم عليه السلام الذي سواه الله ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض، وأسجد له الملائكة. وكذلك سوانا من نطفة وخلقنا في أحسن تقويم. تلك كرامة النشأة الترابية هذه، تسكن الروح قفصها زمنا تكسِب فيه معاشها ضرورةَ حياة، وتكسب فيه فلاحها الأخروي، وتبني فيه وبه معادها هداية من الله وإتمام نعمة وكرامة.
الدوابيون المعرضون عن الله يبحثون عن حقيقة الإنسان بين عقل فاحص وجسم لا تنتهي عجائبه، وإتقان تركيبه، ودقة صنعه، ووظائف جوارحه، ونُورُنات دماغه، وشبكة أعصابه، ومكونات دمه، وتوازنه العجيب الذي يمكنه من القيام على قدمين، والبطش بيدين، والسمع بأذنين، والإبصار بعينين. وهكذا.
حوار أصمُّ أعمى مغلق الآفاق بين عقل لا يسمع من الوحي وجسم هو في حد ذاته لغز مُعَمّىً على من كفر، وآية باهرة على وجود الخالق سبحانه لمن آمن وسمع الرسل وصدق.
بعد هذه النشأة الأولى المركبة من عقل وجسم وغرائز ونفس وروح، ينشئنا الله عز وجل النشأة الآخرة بعد الموت والبعث. أكرمنا الله سبحانه هنا في الدنيا بعطايا ومزايا ونِعم يبتلينا بها أَنَشكر ونومن، أم نجحد ونكفر. وإنْ كل هذه العطايا إلاَّ جَهازٌ ومتاع وآلة لنكسب بها الفلاح الأخروي الأبدي. بعد هذه النشأة المركبة العجيبة في جسمانيتها وعقلانيتها ونفسانيتها وروحانيتها نشأة الأبد والخلود. خلود في الجنة والنظر إلى وجه الله، أو خلود في النار نعوذ بالله. )ثم الله ينشئ النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير(.(سورة العنكبوت، الآية: 19) .

نسال الله أن يرحمنا آمين
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس