عرض مشاركة واحدة
قديم 07-09-2011
  #12
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

راسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص : ( الولي و الخليفة)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله وصحبه وسلم تسليما ، و بعد
برئ الشيخ الأكبر رضي الله عنه من الفلسفة ، وقد كانت كل كتبه التربوية تدل على الله بدقة و فهم عميق و ترتيب متناسق. والحققة أن أغلب مناوئيه لا يعتمدون إلا لنقد بعض المستشرقين و المستغربين معا ، و للإستحسان بعضهم لكلام الشيخ الأكبر بطريقة حداثية كما يتصورونها ، أصبح التصوف في عرف كثير من السلفية والعلماء بابا للإستعمار.
يخطئ مسبقا من قرأ لناقديه ومؤيديه بالبرهان العقلي فقط. فالعقل في نسبيته و أدواته المعرفية ليس تابعا إلا للقلب ، ففي الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد ألا وهي القلب.
كتب الشيخ قدس الله سره تبحث في المباحث التالية
أ.السيادة الآدمية.
ب.السيادة المحمدية.
ج.جقائق المعرفة.
د.مبحث الكمال.
ه.نقد ذاتي موضوعي لأهل النظر و أهل الله معا.
م.تجديد فهم القرآن بالغوص في معانيه و ترتيب خطابه للأنسان.
فأن تتبعت جميع كتبه و خصوصا كتاب الفتوحات المكية ، وجدت هذه المباحث حاضرة في جميع فصول كتبه ، وتدل هذه المباحث كلها على ترتيب دقيق و فهم شامل و إدراك قلبي و تلق نوراني للفهوم القرآنية التي تجدها في كتب الشيخ الأكبر.
يقول رضي الله عنه في م/2 من كتابه الفتوحات واعلم أن هذه الحقيقة التي جعلته يسمى إنسانا وهي في كل إنسان ولكن كانت في آدم أتم لأنه كان و لامثل له ، ثم بعد ذلك انتشأت منه الأمثال فخرجت على صورته ، كما انتشأ هو من العالم ومن الأسماء الألهية فخرج على صورة العالم وصورة الحق فوقع الإشتراك بين الناسي في أشياء و انفرد كل شخص بأمر يمتاز به عن غيره وهو العالم ، فبما ينفرد به الإنسان يسمى الإنسان المفرد ، وبما يشترك به يسمى الإنسان الكبير ، و لما كان آدم أبا البشر كانت منه رقيقة إلى كل إنسان و نسبة ، ولما كان هو العالم ومن الحق بمنزلة بنيه منه كانت فيه رقيقة ممن كل صورة في العام تمتد إليه لتحفظ عليه صورته و رقيقة من كل اسم إلهي تمتد إليه لتحفظ عليه مرتبته و خلافته ، فهو يتنوع في حالاته تنوع الأسماء الألهية ، ويتقلب في أكوانه تقلب العالم ، وهو صغير الحجم لطيف الجرم سريع الحركة ، فإذا تحرك حرك العالم بأسره ، استدعى بتلك الحركة توجه الأسماء الألهية عليه لترى ما أراد بتلك الحركة فتفضي في ذلك بحسب حقلئقها ن و لم يكن في الأفلاك أصغر من فلك سماء الدنيا فأسكنه الله فيها للمناسبة ، و لصغر هذا الفلك كان أسرع دورة فناسب سرعة الخواطر في الإنسان فأسكنه من حيث أنه إنسان مفرد خاصة لا من حيث غشتراكه ، ثم أن الله جعل له من بنيه في كل سماء شخصا وهو عيسى و يوسف و إدريس و هارون و يحيى وموسى و إبراهيم عليه السلام ، فهو ناظر إليهم في كل يوم بما هو أب لهم ، وهم ناظرون إليه من حيث ماهم في منازل معينة لا من حيث هم أبناء له ، وهذا الإنسان المفرد يقابل بذاته الحضرة الإلهية ، وقد خلقه من حيث شكله و أعضاؤه على جهات ست ظهرت فيه ، فهو في العالم كالنقطة من المحيط ، وهو من الحق كالباطن ، من العالم الظاهر ، ومن القصد كالأول ، ومن النشئ كالآخر ، فهو الأول بالقصد ، آخر بالنشئ و ظاهر بالصورة ، و باطن بالروح ، كما أنه خلقه الله من حيث طبيعته و صورة جسمه من أبرع ن فله التربيع من طبيعته إذ كان مجموع الأربعة الأركان ، و أنشأ جسده ذا أبعاد ثلاثة من طول و عرض و عمق فأشبه الحضرة الألهية ذاتا و صفات و أفعالا ، فهذه ثلاث مراتب : مرتبة شكله وهو عين جهاته ، و مرتبة طبيعته ن و مرتبة جسمه ن ثم إن الله جعل له مثلا و ضدا وما ثم سوى هذه الخمسة .......) ص 437، 438.
تستدعي هذه الفهوم النورانية نوعا من التركيز و الإنتباه ، وتمييز عموم اللفظ من خصوصه ، وفي نفس أن لا يسبح خيال القارئ الى ما لا يمكن تصوره من الوظائف و المقامات و تنوع الحضرات.
بمعنى آخر نسبة الإنسان إلى خالقه و خصوصيته ناتجة عن خلافته ، فلو لم تكن الخلافة الإنسانية في الأرض ، لم يكن الأنسان صغير الجرم في الظاهر ، كبير الإمتداد في الباطن يتحرك الكون بتحركه. فالتوبة و اليقظة و الإرادة و العزم عوالم في حد ذاتها ، و القبض و البسط أجرام سماوية روحانية قلبية في إنفعالها و انقباضها و انبساطها ، بهما تحلق الروح بجناحي الرغبة و الرهبة ، و أفلاك الحقيقة و الشريعة و الطريقة تستوى أقد امها فلا ثم إلا الله تعالى .
بمعنى حركي إنساني معاصر ، حركة الإنسان تتناسب مع مقتضيات الأسماء الألهية ، فيرفع من شأن الإنسان باسمه الرافع و يخفض باسمه الخافض ، والتاريخ في سيره البشري مجرد صورة لما في عالم الإنسان من الطموح و الرغبة في الرفعة و متطلبات السلطة و المنعة.
لا تتحرك إلا بتحرك الإنسان ، المتوجه إلى الله تعالى و الكون معه بمقتضى الإسم.
وفي علاقة العالم بالإنسان يقول ...فلما أراد الله كمال هذه النشأة الإنسانية جمع لهالا بين يديه و أعطاها جميع حقائق العالم و تجلى لها في الأسماء كلها ، فحازت الصورة الإلهية و الصورة الكونية معا ، و جعلها روحا للعلم ، و جعل أصناف العالم كله كالأعضاء من الجسم للروح المدبر له ، فلو فارق العالم هذا اإنسان مات العالم ، كما أنه إذا فارق منه ما فارق كان فراقه لذلك الصنف من العالم كالخذر لبعض الجوارح من الجسم فتتعطل تلك الجارحة لكون الروح الحساس النامي فارقها ، كما تتعطل الدنيا بمفارقة الإنسان ، فالدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه ، فلما كان له هذا الإسم الجامع قابل الحضرتين بذاته فصحت له الخلافة و تدبير العالم و تفصيله ، فإذا لم يحز الإنسان رتبة الكمال فهو حيوان تشبه صورته الظاهرة صورة الإنسان ، وكلامنا في الإنسان الكامل فإن الله ما خلق أولا من النوع هذا النوع إل الكامل وهو آدم عليه السلام ، ثم أبان الحق عن مرتبة الكمال لهذا النوع فمن حازها منه فهو الإنسان الذي أريده ، ومن نزل عن تلك الرتبة فعنده من الإنسانية ما تبقى له ، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه وما وسعه إلا بقبول الصورة ، فهو مجلى الحق و الحق مجلى حقائق العالم بروحه الذي هو الإنسان ، و أعطى المؤخر لأنه آخر نوع ظهر ، فأوليته حق و آخريته خلق ، فهو الأول من حيث الصورة الإلهية ، و الآخر من حيث الصورة الكونية ن و الظاهر بالصورتين و الباطن من الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية ، وقد ظهر حكم هذا في عدم علم الملائكة بمنزلته مع كون الله قد قال لهم : إنه " خليفة" البقرة آ 30، فكيف بهم لو لم يقل لهم ذالك ؟ .....) م/2 ص 458، 459 ، من كتاب الفتوحات المكية.
لم يكن الخطاب القرآني يوما ما غامضا ن فقد جاءنا بلسان عربي مبين. و خلافة الإنسان في الأرض في شانها العام عمارتها و العدل فيها و في شانها الخاص امتداد لولاية العبد لمولاه و قوفه مع اسمه الجامع بالخذمة و الإنصياع. لا شك أن القارئ لهذه الكلمات النورانية ، قد يستغرب لما للأنسان شان خاص في الكلام ا لإلهي. وتزداد حيرته إن وجد أن حرية الأنسان رهينة بما يعتقده و إلى ما يتوجه إليه ؟
حرصت الفلسفات و النظم الأنسانية و الأجتماعية و الفكرية أن تعلي من عقل الإنسان لا من آدميته وتظل في حيرتها تحتار عندما لا تجد ذلك التوازن بين الوحي و العقل ، والخطاب القرآني و التدبر الإنساني ، و بينه بينها تلك الحجب المانعة عن الفهم في أدبيات التعارض بين العلم و الوحي ، و الفهم و الممارسة ، و العلم بالعلم و الجهل بهما.
أ.الوحي غير الفلسفة :الوحي والفلسفة
لعل الحوار مع العسكري يكون إليه مسلك أهون وأقرب من المسلك إلى محاورة المتفلسف المُشبع بأفكار رَضَعها وتمثلها وسكنت في فكره وطبعه ونمط حياته ونظرته للكون وحكمه على الأشياء والناس بمنهجيته العقلانية الطاغية.
العسكري رجل التقنية والعلوم وأوامر تطبق. فمن الطبيعي أن يكون في سلوكه بعض تحجر وتصلب وتقييم للحياة وما فيها بمعيار مرتبية الرئيس والمرؤوس. لكن براءته من الفلسفة وما تصنعه الفلسفة بالعقول وما تسلخ من فطرة تجعله أقرب إلى مراجعة ما يكون معه من ميراث عقَدي. وذاك ما تشير إليه كلمة أنور السادات التي قرأناها في الفقرة السابقة.
تقول الملاحظـة الميدانية: إن طلبة كليات العلـوم والطب والهندسة يستجيبون للدعوة الإسلامية ويُكوِّنون صفوة جندها، بينما الطلبة الذين مروا بالشعب الأدبية والفلسفية -لا سيما في المدارس المقتفية نظامَ التعليم الفرنسي ومناهجه- ينغلقون عن الدعوة. ذلك لأنهم اكتسبوا "مَنَعَة" ضد الإيمان بما أودعتهم المناهج الفلسفية التي تعرضوا "لإشعاعها" المميت وعدوانها من الشك والتشكيك ومركزية الإنسان في الوجود وعقيدة أن الله -تعالى الله- فكرة تتطور مع العصور، وأن الإنسان خلق فكرة الله -جل الله- لا العكس.
فإنْ رَبَطَ أساتذة الفلسفة خريجو الطاحون الغربي منهجية الشك بنضاليةٍ لبراليةٍ تقدس الحرية، أو بنضالية تقدمية تنشدُ العدل،اجتمع على الطلبة عاملان يخربان أصول الفطرة،ويحفران جذورها،ويدوِّخان فروعها،ويطمسان رسومها: عامل فكري منهجي فلسفي، وعامل سياسي نضالي نفسي.
فإن كان الطالب طلع إلى الثانوية والكلية وما معه من سـلالة الفطرة وهداية الوحي ما يبصِّرهُ بضلال الأستاذ فقد تمددت الضحية أمام الجزار. إذا طلع الطالب ولم يسبِقْ إلى سمعه الفطري خبرُ الآخرة، ولا ألقَتْ إليه الأم ولا ألقى إليه الأب في نعومة أظفاره، ولا علمه معلم الابتدائية، أن الله تعالى هو الخالق العليم المحيي المميت باعث الرسل محيي العظام وهي رميم حسيب العباد ومجازيهم في الجنة أو النار فقد انفرد الأستاذ الفيلسوف بالمتلقي النموذجي.
ويقرِن الفلاسفة الملاحدة المنتشرون في الكليات والثانويـات المنَظَّمُونَ المُحزَّبون نقدَ الدين بنقد الرجعية السياسية المتلفعة بشعار الدين وشعار الدفاع عن العقيدة. وتعمل الكلمة المتوهجة بالغضب النضـالي، المشفوعةُ بالحجة الفلسفية، المعززةُ بِسلطان الأستاذية، المتحببةُ بطول العِشرة، المُمنهجةُ بتقنيات الاستقطاب، عملها في النفوس الغضة العزلاء.
يقدِّمُ الفلاسفة الملحدون الدين -كلَّ دين- على أنه كهانة سبقنا الغرب إلى حربها وتنحيتها من الساحة وطردِها من الوجود السياسي منذ قرون.
يعرِضُ الأساتذة الفلاسفة الملحدون المناضلون على النفوس الغضة الضحية مآثر العقول الجبارة من سقراط إلى دِكارط، ومن لوك إلى كانط، ومن هيجل إلى ماركس، ومن سارتر إلى هيدجر. ويغرقون العقول الساذجة في لفظيات الفلسفة وجُمَلِيَّات الإديولوجية فيتشربها العقل الناشئ على ظمإٍ إلى المعرفة، فإذا هو الغني الطارئ الغِنى يتبجح بمكاسبه الفكرية العالمية.
ما هي المنهجية الفلسفية، هذا السلاحُ الفتاكُ في يد القتالين؟
كانت الفلسفة التأملية السقراطية تلخص الوجود في أفكار، وتفصله في مقولات، وتترك للسؤال عن الموجِد هامشا للتأمل. وكان المذهب الأفلاطوني يقترح مُثُلا عليا تتراآى في نورها المزعوم حقائق الوجود "لساكن الكهف"، هذا الإنسان الغامض الغريب. وكان الاهتمام بالألوهية -بالمفارقة كما يعبر الفلاسفة- حضوراً مُلِحّاً يُتنافش فيه ويُسأل عنه.
وشَرِبَ من أبنـاء المسلمين في القـرون الأولى من جداول السقراطية والأرسطية المشائية والأفلاطونية كما شربوا من مستنقعات الفلسفة المشرقية الهندية والصابئية والزرادشتية. وهكذا يفسر "الشيخ الرئيس" ابن سينا الإسلام تفسيره الفلسفي، ينظر إليه من خلال مزيج الفلسفات الغازية، وتنتهي الرئاسة إلى ابن رشد الذي فصل الدين عن الفلسفة ليثبت للدين وجودا ومشروعية عقلانية كما يثبت مشروعية الفلسفة.
وكان جهاد علمائنا للفلسفة الحَرَّانية الأرسطية السينية الرشدية جهادا في التفاصيل لا في مبدإ وجود الله. علماؤنا الأولون ردوا على الفكر الفلسفي بما مُؤَداه أن العقل لا يناقض الوحي، وأن الوحي مرتبةُ التسليم ليس على العقل بعد أن يؤدي وظيفته إلا أن يجلس من الوحي مجلس التلميذ ليستمع.
وظيفة العقل كما يقول علماؤنا أن ينظر في ملكوت السماء والأرض وفي نظام العالم حتى يقتنع أنه لا بد للوجود من موجد.وعندئذ يستمع للنبوءة تأتيه بخبر الألوهية وخبر الآخرة.
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: "أنه (أي العالَم) افتقر إلى مُحدِث، وأن بعثة الرسل من أفعاله (أفعال المحدث) الجائزة، وأنه قـادر عليه وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات،وأن هذا الجائز (أي المعجزات) واقع.عند هذا ينقطع كلام المتكلم وينتهي تصرف العقل. بل العقل يدل على صدق النبي ثم يعزل نفسه، ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقَبول ما يقوله في الله وفي اليوم الآخـر مما لا يستقل العقل بِدَرْكِهِ ولا يقضي أيضا باستحالته".[1]
وكان لعلماء الكلام جولاتٌ مع الفـلاسفة يمنعونهم من حفر جذور الإيمان. لم يسْلَم المتكلمون بطول خوضهم مع الفلاسفة في الإلاهيـات من رشاش يصيبهم ونقد من جانب المحدثين أهل السنة يحط من قيمة الكلام. وقد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابا عنـوانه "بيان موافقـة صريح المعقول لصحيح المنقول" رد فيه على الفلاسفة بمنهجية غير منهجيتهم، وبمنطق غير المنطق الصوري الأرسطي الذي أُعجبَ به الغزالي فاستحق الملام.
قال شيخ الإسلام في كتابه هذا:[2] "وكان ابن العربي (المعافـري) يقول: شيخنا أبو حامد (الغزالي) دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر".
وينتقد ابن تيمية رحمه الله المتكلمـين ومنهجيتهم فيقول: "هذا القانون الذي وضعه هؤلاء، يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه (يعني قانون سبق العقل للنقل) هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته. ويجعلون ما جاءت به الأنبيـاء تَبَعا. فما وافق قانونَهم تبعوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعته النصارى".
ويشتد شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المنهجية التي تجعل تخمينات العقل أصلا وخبر الوحي فرعا. يقول: " فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء". وينحو هو مَنْحىً آخرَ في تدليله على مطـابقة "صريح المعقول لصحيح المنقول" فيجعل هداية الوحي أصلا يعرِضه على العقل فلا يجد العقل مغمَزا.
لا يجد عقل المومن ابن تيمية، أما العقول المُشْبَعَةُ بالمنهجيات الفلسفية المادية في عصرنا فالدين مرفوض عندها من أساسه. لم يعد الجدال في التطابق أو عدم التطابق بين العقل والنقل، بل الجدل في الأسلوب الذي ينبغي اتخاذه للقضاء على رواسب القرون الوسطى: الدين والرجعية، الرجعية والدين.
كان عقل الأولين يجيزُ معجزة النبي ويملأه الهم بالخـالق ما صفاتُه وما يجب له وما يستحيل عليه. أما في عصرنا، عصرِ "المعجزات" العلمية المذهلة والصخَب والجرَب،فالنبوءة عند الفلاسفة الملحدين شعوذة، والألوهية خرافة انطلت على الإنسان في زمان طفولته.
الفلسفة الحديثة منذ دكارط فلسفة تمرُّدٍ وتأَلُّهٍ وجبروت.يقول الفيلسوف: "أنا!"، وليس لديه أي استعداد للبحث عن أنِّيَّتِهِ خارج عقله. قال دكارط: "أنا أفكر فأنا موجود". واتخذ الفلاسفة من بعده هذه المسلمة المعتوهة أساسا منهجيا.
قال دكارط: "لستُ إلا شيئا يفكر... يفكر هذا الكَمَّ الذي يمكن أن أعُدَّ منه أجزاءً، وأن أنسُبَ إلى كل جزء أنواعا من المقـادير والصور والأوضاع والحركة". شيء يفكر، شيء من الأشياء هو الإنسان! معناه وغايته وأصله وفرعه منحصرة في وظيفته العقلانية.
كان الفيلسوف القديم يناصِبُ الوحيَ ويطاوله ويزعم أنه بوسائله قادر على معرفة سر الوجود ومعنى الموجود. أما الفيلسوف الحديث فقد ولَّى ظهره للهم "المفارق" وأقبل على الطبيعة هو منها وإليها، لا شيءَ هو غيرَ هذا الشيء الذي يفكر في المقادير والأجزاء والصور والأوضاع والحركة.
هدف الفيلسوف الحديث السيطرةُ على الطبيعة،ومنهجيته الشك،وسؤاله: كيف؟ لا يسأل أبدا: لماذا؟ قبِلَ العبثية تفسيرا للوجـود. عبثيةَ المعاناة عند سارتر، وعبثية التأله والتطاول عند نتشه. وقد تحرر كانط وحرر الفلسفة من بعده من رواسب الأرسطية وهموم "المفارقة"، فالمفارقة عندَه خيال. ثم انتهت الفلسفة وانختمت بالتجريد التصوري عند هيجل.
انختمت فلسفات التأمل في المفارقة، والتصور الحائم في "الفكرة"، لتُتَوَّج المقدمات الدكارطية والجدلية الهيجلية والمادية الفورباخية بالصراعية الماركسية، بالجدلية المادية الثورية، بفلسفة الفعل التاريخي التطوري.زهرةِ الفلسفة وثمرتِها.
إن نقدنا للفلسفات الفاعلة في عصرنا لا يصلح له إلا الفعل لا القول. ولئن كان من فروض الكفاية أن يتخصص بعضنا في "الكلام" مع الزنادقة والملحدين فإن على وازع السلطان الإسلامي أن يتحرك أسبَقَ شيء وأمَسَّهُ ضرورة لاستنقاذ النشء من مخالب الفلاسفة الملحدين. ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين. ).مقتبس من كتاب العدل : الإسلاميون و الحكم.

ثم يقول رضي الله عنه : ( نكتب هذا إلحاحا على أن المنهاج النبوي مسلك يعبر الدنيا بما فيها من قوى واصطدام واضطراب ونشاط ولا يتجنبها. وأن القرآن كلام الله، الله الذي يسير العالم ويحكم ما يريد. قدر الله يجري في العالم كما يشاء الله، ونحن مغلوبون منهوبون مقهورون بما كسبت أيدينا. هذا الكسب ومسؤوليتنا عن هزيمتنا هما شرع الله. ورجوعنا لشرع الله نعظمه ونقدسه ونعمل بمقتضاه يسدد خطانا على صراط الله المستقيم المؤدي للحسنيين. واتباع الرسول الذي يوحى إليه هو المنهاج. فهذا علاقة عنوان هذا الفصل بما يجري في العالم.
قال الله تعالى يخاطب حبيبه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾ [2]. روح من الله إلى رسول الله. نور محمول إلينا، باق بين ظهرانينا. به فقط يستنير لنا المنهاج، الصراط المستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات من غيب نؤمن به، وما في الأرض من حقائق محرقة تصطلي الأمة بنارها. والله ورسوله الملجأ. فأين نذهب؟ كل المذاهب الضالة جربت فينا ففتكت بنا. ونور الله بين أيدينا. يا للهلكة! هلكة من يتحدث عن محمد العبقري بطل القومية. قال تعالى يخاطب أمثال هؤلاء: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [3].
عبد يوحى إليه. والوحي والرسالة مناط الإيمان كله. لذلك يركز وَثنيو القومية وأساتذتهم من المستشرقين هجومهم على الوحي والرسالة ليتعتعوا المسلمين عن يقينهم بأن الرسول مبعوث مأمور من لدن خالق الأرض والسماء، خالق الإنسان ومصيره من الدنيا للآخرة. وبنعوت خبيثة كالعبقرية والبطولة يحاولون أن يمحوا وجه العبد الذي فزع لما باغته الوحي ورأى جبريل، ثم استأنس، ثم تلقى القرآن، ثم دعا قومه، ثم أوذي في الله فصبر، ثم ربى وجاهد، وهدى الله به العالم إلى يوم القيامة. عبد لا يشرع من عنده، وإن خطط فتطبيقا للوحي يصحبه التوفيق الإلهي. وإن حمل السلاح فاستجابة للأمر الإلهي. وإن قال فبالله، وإن تحرك فبإذنه، وإن غضب فله، وإن أحب ففيه. عبد رباني إلهي. عبد يوحى إليه.
كان القرآن ينزل طريا مواكبا للمسيرة التاريخية موجها لها. هو العلم، وهو المنهاج، وهو البرنامج، وهو النور الهادي إلى صراط الله. وكانت نظرة العبد الرسول صلى الله عليه وسلم ونظرة أصحابه مجتمعة لا تشتت فيها. لم يكن القرآن تراثا يحتل حيزا من الفكر ورفوفا من المكتبة، بل كان هو الفهم، وهو العلم، وهو الحياة. كان تناقض صارخ بين أحوال الجاهلية وبين ما يدعو إليه القرآن. فنهض أهل القرآن. خرقوا كل سياج يصد عن سبيل الله. حطموا المنكر وغيروا الواقع حتى يستقيم على ما يأمر به الله. كانت وحدة مشخصة في العبد الصادق الرسول، ممثلة في كلمة الله الموحى بها، ماثلة في جماعة هي جيل القرآن كما يقول سيد قطب رحمه الله.
لم تكن الحياة أشتاتا ونتفا في سلوك أهل القرآن. الحياة والموت، الدنيا والآخرة، العابد والمعبود، كانت جميعا يلفها في عقيدة التوحيد والرسالة والملائكة والبعث والقدر شرعة واحدة. يسير بها في صراط الله منهاج واحد. لم تكن العاطفة في واد والعقل تائها في التحليل الفلسفي. كان الإنسان جميعا. نحن أشتات اليوم. فمعنى اتباعنا المنهاج النبوي أن نجتمع عقلا وعاطفة، ماضيا وحاضرا ومصيرا، دينا ودنيا وآخرة، أفرادا على بينة من هويتهم وعبوديتهم لله ومسؤوليتهم أمامه، وجماعة على بينة من مصيرها التاريخي فيها استعداد وقدرة على الجهاد. بالقرآن انكشف لجيل القرآن ما في النفس البشرية والكيان البشري الكلي من أسرار كانت غامضة حتى علمهم إياها الوحي. وبه ارتفع عن أعينهم التناقض الظاهر العقلاني بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والجماعة، بين البشر والكون. بالقرآن ابتنيت نفوس مؤمنة، ومجتمع مؤمن، وحركة في العالم إيمانية. بالقرآن عرف أهل القرآن الله عز وجل، وبه استناروا في سلوكهم النفسي ومعراجهم الروحي في معارج الإيمان. وبالقرآن كانوا القوة التي حطمت باطل الشرك، وبه أقاموا العدل.) مقتبس من كتاب : القرآن و النبوة. لنفس المؤلف.

للوحي حضور خاص في حياة الإنسان و به كماله و رفعته.
نسأل الله أن يرحمنا آمين
عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس