الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #45
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة التي كشفتْ عن لغز الكون وطلسمه وحلّت سراً عظيماً من اسرار القرآن الحكيم

الكلمة الثلاثون

حرف من كتاب (أنا) الكبير

نقطة من بحر (الذرة) العظيم

هذه الكلمة عبارة عن مقصدين:

المقـصـد الاول: يبحث في ماهية (أنا) ونتائجها.

المقـصـد الثاني: يبحث في حركة (الذرة) ووظائفها.

المقصد الاول

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] إنّا عرضنا الامانةَ على السموات والأرض والجبال فأبَيْنَ أن يحملْنَهاوأشفَقنَ منها وَحَمَلها الانسانُ إنه كان ظلوماً جهولاً[ (الاحزاب:72)

من الخزينة العظمى لهذه الآية الجليلة، سنشير الى جوهرة واحدة من جواهرها، وهي: أن الأمانة التي أبَت السمواتُ والارضُ والجبالُ ان يحملنها، لها معانٍ عدة، ولها وجوه كثيرة. فمعنىً من تلك المعاني، ووجهٌ من تلك الوجوه، هو:(أنا).

نعم ! ان (انا) بذرةٌ، نشأت منها شجرة طوبى نورانية عظيمة، وشجرة زقوم رهيبة، تمدان اغصانَهما وتنشران فروعَهما في أرجاء عالم الانسان من لدن آدم عليه السلام الى الوقت الحاضر.

وقبل ان نخوض في هذه الحقيقة الواسعة نبين بين يديها (مقدمة) تيسّر فهمها. وهي:



المقدمة

ان (انا) مفتاح؛ يفتح الكنوز المخفية للاسماء الإلهية الحسنى، كما يفتح مغاليق الكون. فهو بحد ذاته طلسمٌ عجيب، ومعمىً غريب. ولكن بمعرفة ماهية (انا) ينحَلّ ذلك الطلسم العجيب وينكشف ذلك المعمى الغريب (أنا) وينفتح بدوره لغز الكون، وكنوز عالم الوجوب.

وقد ذكرنا ما يخص هذه المسألة في رسالة (شمة من نسيم هداية القرآن) كالأتي:

((اعلم! ان مفتاح العالم بيد الانسان، وفي نفسه، فالكائنات مع انها مفتحة الابواب ظاهراً إلاّ انها منغلقة حقيقةً فالحق سبحانه وتعالى أودع من جهة الأمانة في الانسان مفتاحاً يفتح كل ابواب العالم، وطلسماً يفتح به الكنوز المخفية لخلاّق الكون، والمفتاح هو ما فيك من (انا). إلاّ ان (انا) ايضاً معمىً مغلق وطلسم منغلق. فاذا فتحتَ (انا) بمعرفة ماهيته الموهومة وسر خلقته انفتح لك طلسم الكائنات كالآتي)).

ان الله جل جلاله وضع بيد الانسان امانةً هي: (انا) الذي ينطوي على إشارات ونماذج يستدل بها على حقائق اوصاف ربوبيته الجليلة وشؤونها المقدسة. اي يكون (انا) وحدة قياسية تُعرَف بها اوصاف الربوبية وشؤون الالوهية.

ومن المعلوم انه لا يلزم ان يكون للوحدة القياسية وجود حقيقي، بل يمكن ان تركَّب وحدة قياسية بالفرض والخيال، كالخطوط الافتراضية في علم الهندسة. أي لا يلزم لـ(أنا) ان يكون له وجود حقيقي بالعلم والتحقيق.

سؤال: لِمَ ارتبطت معرفة صفات الله جلّ جلاله واسمائه الحسنى (بأنانية)(1) الانسان؟

الجواب: ان الشئ المطلق والمحيط، لا يكون له حدود ولانهاية؛ فلا يُعطى له شكل ولا يُحكَم عليه بحكم، وذلك لعدم وجود وجه تعيّنٍ وصورةٍ له؛ لذا لاتُفهم حقيقة ماهيته.

فمثلاً: الضياء الدائم الذي لا يتخلله ظلام ، لا يُشعَر به ولا يُعرَف وجودُه الاّ اذا حُدّد بظلمة حقيقية أو موهومة.

وهكذا، فان صفات الله سبحانه وتعالى كالعلم والقدرة واسماءه الحسنى كالحكيم والرحيم لانها مطلقة لا حدود لها ومحيطة بكل شئ، لا شريك لها ولاندّ، لايمكن الاحاطة بها أو تقييدها بشئ، فلا تُعرف ماهيتها، ولا يُشعر بها؛ لذا لابد من وضع حدٍّ فرضي وخيالي لتلك الصفات والاسماء المطلقة، ليكون وسيلة لفهمها حيث لا حدود ولا نهاية حقيقية لها وهذا ما تفعله (الانانية) أي ما يقوم به (انا)؛ اذ يتصور في نفسه ربوبيةً موهومة، ومالكيةً مفترضة وقدرة وعلماً، فيحدّ حدوداً معينة، ويضع بها حداً موهوماً لصفاتٍ محيطة واسماء مطلقة فيقول مثلاً: من هنا الى هناك لي، ومن بعده يعود الى تلك الصفات. أي: يضع نوعاً من تقسيم الامور، ويستعد بهذا الى فهم ماهية تلك الصفات غير المحدودة شيئاً فشيئاً، وذلك بما لديه من موازين صغيرة ومقاييس بسيطة.

فمثلاً: يفهم بربوبيته الموهومة التي يتصورها في دائرة مُلكه، ربوبيةَ خالقه المطلقة سبحانه وتعالى في دائرة الممكنات.

ويدرك بمالكيته الظاهرية، مالكيةَ خالقه الحقيقية، فيقول: كما انني مالك لهذا البيت فالخالق سبحانه كذلك مالك لهذا الكون.

ويعلم بعلمه الجزئي، علمَ الله المطلق.

ويعرف بمهارته المكتسبة الجزئية، بدائعَ الصانع الجليل، فيقول مثلاً: كما انني شيدتُ هذه الدار ونظّمتها، كذلك لابد من منشئ لدار الدنيا ومنظّم لها.

وهكذا.. فقد اندرجت في (أنا) آلاف الاحوال والصفات والمشاعر المنطوية على آلاف الاسرار المغلقة التي تستطيع ان تدل وتبيّن ـ الى حدٍ ما ـ الصفات الإلهية وشؤونها الحكيمة كلها.

أي أن (أنا) لايحمل في ذاته معنىً، بل يدل على معنىً في غيره ؛ كالمرآة العاكسة، والوحدة القياسية، وآلة الانكشاف، والمعنى الحرفي فهو شعرةٌ حساسة من حبل وجود الانسان الجسيم وهو خيط رفيع من نسيج ثوب ماهية البشر.. وهو حرف (ألفٍ) في كتاب شخصية بنى آدم، بحيث ان ذلك الحرف له وجهان:

وجه متوجه الى الخير والوجود؛ فهو في هذا الوجه يتلقى الفيض ويقبله فحسب، أي يقبل الإفاضة عليه فقط؛ اذ هو عاجز عن ايجاد شئ في هذا الوجه، أي: ليس فاعلاً فيه، لأن يده قصيرة لا تملك قدرة الايجاد.

والوجه الآخر متوجه الى الشر، ويُفضي الى العدم؛ فهو في هذا الوجه فاعل، وصاحب فعل.

ثم ان ماهية (أنا) حرفية، أي يدل على معنىً في غيره، فربوبيته خيالية، ووجوده ضعيف وهزيل الى حدٍ لايطيق ان يحمل بذاته اي شئ كان، ولا يطيق ان يُحمَل عليه شئ، بل هو ميزان ليس إلاّ؛ يبين صفات الله تعالى التي هي مطلقة ومحيطة بكل شئ، بمثل ما يبيّن ميزانُ الحرارة وميزان الهواء والموازين الاخرى مقاديرَ الاشياء ودرجاتها.

فالذي يعرف ماهية (أنا) على هذا الوجه، ويذعن له، ثم يعمل وفق ذلك، وبمقتضاه، يدخل ضمن بشارة قوله تعالى ] قد أفلح مَن زكّيها[ (الشمس:9) ويكون قد أدى الأمانة حقها فيدرك بمنظار (أنا) حقيقة الكائنات والوظائف التي تؤديها. وعندما ترد المعلومات من الآفاق الخارجية الى النفس تجد في (أنا) ما يصدّقها، فتستقر تلك المعلومات علوماً نورانية وحكمة صائبة في النفس، ولا تنقلب الى ظلمات العبثية.

وحينما يؤدي (انا) وظيفته على هذه الصورة، يترك ربوبيته الموهومة ومالكيتَه المفترضة ـ التي هي وحدة قياس ليس إلاّ ـ ويفوّض المُلكَ لله وحده قائلاً: له الملك، وله الحمد، وله الحكم واليه ترجعون، فيلبس لباس عبوديته الحقّة، ويرتقي الى مقام أحسن تقويم.

ولكن اذا نسي (أنا) حكمة خلقه، ونظر الى نفسه بالمعنى الاسمي،تاركاً وظيفته الفطرية،معتقداً بنفسه أنه المالك، فقد خان الأمانة، ودخل ضمن النذير الإلهي:

] وقد خَابَ مَن دسّيها[ (الشمس: 10).

وهكذا فإن إشفاق السموات والارض والجبال من حمل الأمانة، ورهبتهن من شرك موهوم مفترض، انما هو من هذا الوجه من ( الانانية) التي تُولِّد جميع انواع الشرك والشرور والضلالات.

اجل! إن(انا) مع انه ألفٌ رقيق، خيطٌ دقيق، خطٌ مفترض، إلاّ انه ان لم تُعرف ماهيته ينمو في الخفاء ـ كنمو البذرة تحت التراب ـ ويكبر شيئاً فشيئاً، حتى ينتشر في جميع انحاء وجود الانسان، فيبتلعه ابتلاع الثعبان الضخم، فيكون ذلك الانسان بكامله وبجميع لطائفه ومشاعره عبارة عن (أنا). ثم تمده (أنانية) النوع نافخة فيه روح العصبية النوعية والقومية، فيستغلظ بالاستناد على هذه (الانانية) حتى يصيرَ كالشيطان الرجيم يتحدى أوامرالله ويعارضها. ثم يبدأ بقياس كل الناس، بل كل الاشياء على نفسه ووفق هواه، فيقسم مُلك الله سبحانه على تلك الاشياء، وعلى الاسباب فيتردى في شرك عظيم ، يتبيّن فيه معنى الآية الكريمة ] إن الشرك لظلم عظيم[ (لقمان:13). اذ كما ان الذي يسرق اربعين ديناراً من اموال الدولة لابد ان يرضي اصدقاءه الحاضرين معه بأخذ كل منهم درهماً منه كي تسوَّغ له السرقة، كذلك الذي يقول: انني مالك لنفسي، لابد من أن يقول ويعتقد: ان كل شئ مالك لنفسه!

وهكذا، فـ(أنا) في وضعه هذا، المتلبس بالخيانة للامانة، انما هو في جهل مطبق بل هو أجهل الجهلاء، يتخبط في درك جهالة مركبة حتى لو علِمَ آلاف العلوم والفنون، ذلك لأن ما تتلقفه حواسُه وافكارُه من انوار المعرفة المبثوثة في رحاب الكون لايجد في نفسه مادةً تصدّقه وتنوّره وتديمه، لذا تنطفئ كل تلك المعارف، وتغدو ظلاماً دامساً؛ اذ ينصبغ كل ما يرِد اليه بصبغة نفسه المظلمة القاتمة، حتى لو وردت حكمةٌ محضة باهرة فانها تلبس في نفسه لبوس العبث المطلق؛ لأن لون (انا) في هذه الحالة هو الشرك وتعطيل الخالق من صفاته الجليلة وانكار وجوده تعالى. بل لو امتلأ الكون كله بآيات ساطعات ومصابيح هدىً فان النقطة المظلمة الموجودة في (انا) تكسف جميع تلك الانوار القادمة، وتحجبها عن الظهور.

ولقد فصّلنا القول في (الكلمة الحادية عشرة) عن الماهية الانسانية و (الانانية) التي فيها من حيث المعنى الحرفي. واثبتنا هناك اثباتاً قاطعاً كيف انها ميزان حساس للكون، ومقياس صائب دقيق، وفهرس شامل محيط، وخريطة كاملة، ومرآة جامعة، وتقويم جامع. فمن شاء فليراجع تلك الرسالة.

الى هنا نختم المقدمة، مكتفين بما في تلك الرسالة من تفصيل.

فيا اخي القارئ، اذا استوعبت هذه المقدمة، فهيا لندخل معاً الى الحقيقة نفسها.

ان في تاريخ البشرية ـ منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام الى الوقت الحاضرـ تيارين عظيمين وسلسلتين للافكار، يجريان عبر الازمنة والعصور، كأنهما شجرتان ضخمتان أرسلتا اغصانَهما وفروعَهما في كل صوب، وفي كل طبقة من طبقات الانسانية.

احداهما: سلسلة النبوة والدين

والاخرى: سلسلة الفلسفة والحكمة

فمتى كانت هاتان السلسلتان متحدتين وممتزجتين، أي في أي وقت أو عصر إستجارت الفلسفة بالدين وانقادت اليه واصبحت في طاعته، انتعشت الانسانية بالسعادة وعاشت حياة اجتماعية هنيئة. ومتى ما انفرجت الشقة بينهما وافترقتا، احتشد النور والخير كله حول سلسلة النبوة والدين، وتجمعت الشرور والضلالات كلها حول سلسلة الفلسفة.

والآن لنجد منشأ كلٍ من تلكما السلسلتين وأساسهما:

فان سلسلة الفلسفة التي عصت الدين، اتخذت صورة شجرة زقوم خبيثة تنشر ظلمات الشرك وتنثر الضلالة حولها. حتى انها سلّمت الى يد عقول البشر، في غصن القوة العقلية، ثمرات الدهريين والماديين والطبيعيين .. وألقت على رأس البشرية، في غصن القوة الغضبية ، ثمرات النماريد والفراعنة والشدادين(1).. وربّت، في غصن القوة الشهوية البهيمية، ثمرات الآلهة والاصنام ومدّعي الالوهية.

وبجانب هذه الشجرة الخبيثة، شجرة زقوم، نشأت شجرةُ طوبى العبودية لله، تلك هي سلسلة النبوة، فاثمرت ثمرات يانعة طيبة في بستان الكرة الارضية، ومدّتها الى البشرية، فتدلـّت قطوفاً دانية من غصن القوة العقلية: انبياء ومرسلون وصديقون واولياء صالحون.. كما اثمرت في غصن القوة الدافعة: حكاماً عادلين وملوكاً طاهرين طهر الملائكة.. واثمرت في غصن القوة الجاذبة: كرماء واسخياء ذوي مروءة وشهامة في حسن سيرة وجمال صورة ذات عفة وبراءة.. حتى اظهرت تلك الشجرة المباركة:

ان الانسان هو حقاً اكرم ثمرة لشجرة الكون.

وهكذا فمنشأ هذه الشجرة المباركة، ومنشأ تلك الشجرة الخبيثة، هما جهتا (انا) ووجهاه، أي أن (انا) الذي أصبح بذرة أصلية لتلكما الشجرتين، صار وجهاه منشأ كلٍ منهما.

وسنبين ذلك بالآتي:

ان النبوة تمضي آخذة وجهاً لـ (انا).

والفلسفة تُقبل آخذةً الوجه الآخر لـ (انا).

فالوجه الأول الذي يتطلع الى حقائق النبوة:

هذا الوجه منشأ العبودية الخالصة لله. أي أن (انا):

يعرف أنه عبدٌ لله، ومطيع لمعبوده..

ويفهم ان ماهيته حرفية، أي دال على معنىً في غيره..

ويعتقد ان وجوده تَبَعي، أي قائم بوجود غيره وبايجاده..

ويعلم ان مالكيته للاشياء وهمية، أي: ان له مالكية موقتة ظاهرية باذن مالكه الحقيقي..

وحقيقته ظلية ـ ليست اصيلة ـ أي انه ممكنٌ مخلوق هزيل، وظلٌ ضعيف يعكس تجلياً لحقيقة واجبة حقة..

أما وظيفته فهي القيام بطاعة مولاه، طاعة ً شعوريةً كاملة، لكونه ميزاناً لمعرفة صفات خالقه، ومقياساً للتعرف على شؤونه سبحانه.

هكذا نظر الانبياء والمرسلون عليهم السلام، ومَن تبعهم من الاصفياء والاولياء، الى (انا) بهذا الوجه. وشاهدوه على حقيقته هكذا. فادركوا الحقيقة الصائبة، وفوّضوا المُلك كله الى مالك الملك ذي الجلال، واقرّوا جميعاًً، ان ذلك المالك جل وعلا لا شريك له ولا نظير، لا في ملكه ولا في ربوبيته ولافي الوهيته، وهو المتعال الذي لايحتاج الى شئ، فلا معين له ولا وزير، بيده مقاليد كل شئ وهو على كل شئ قدير. وما (الاسباب) إلاّ أستار وحُجب ظاهرية تدل على قدرته وعظمته.. وما (الطبيعة) إلاّ شريعته الفطرية، ومجموعة قوانينه الجارية في الكون، اظهاراً لقدرته وعظمته جل جلاله.

فهذا الوجه الوضئ المنور الجميل، قد أخذ حكم بذرة حية ذات مغزىً وحكمة. خلق الله جل وعلا منها شجرة طوبى العبودية، امتدت اغصانُها المباركة الى انحاء عالم البشرية كافة وزيّنته بثمراتٍ طيبةٍ ساطعة، بدّدت ظلمات الماضي كلها، واثبتت بحق ان ذلك الزمن الغابر المديد ليس كما تراه الفلسفة مقبرةً شاسعة موحشة، وميدان إعدامات مخيفة، بل هو روضة من رياض النور، للارواح التي ألقت عبئها الثقيل لتغادر الدنيا طليقة، وهو مدار أنوار ومعراج منّور متفاوتة الدرجات لتلك الارواح الآفلة لتتنقل الى الآخرة والى المستقبل الزاهر والسعادة الابدية.

أما الوجه الثاني: فقد اتخذته الفلسفة، وقد نظرت الى (انا) بالمعنى الاسمي. أي تقول: ان (انا) يدل على نفسه بنفسه..

وتقضي ان معناه في ذاته، ويعمل لأجل نفسه..

وتتلقى ان وجوده أصيل ذاتي ـ وليس ظلاً ـ أي له ذاتية خاصة به..

وتزعم ان له حقاً في الحياة، وانه مالك حقيقي في دائرة تصرفه، وتظن زعمها حقيقة ثابتة..

وتفهم ان وظيفته هي الرقي والتكامل الذاتي الناشئ من حب ذاته.

وهكذا أسندوا مسلكهم الى اسس فاسدة كثيرة وبنوها على تلك الاسس المنهارة الواهية. وقد اثبتنا بقطعية تامة مدى تفاهة تلك الاسس ومدى فسادها في رسائل كثيرة ولا سيما في (الكلمات) وبالاخص في (الكلمة الثانية عشرة) و(الخامسة والعشرين) الخاصة بالمعجزات القرآنية.

ولقد اعتقد عظماء الفلسفة وروادها ودهاتها، امثال افلاطون وارسطو وابن سينا والفارابي ـ بناء على تلك الاسس الفاسدة ـ بأن الغاية القصوى لكمال الانسانية هي (التشبّه بالواجب)! أي بالخالق جلّ وعلا، فاطلقوه حكماً فرعونياً طاغياً، ومهّدوا الطريق لكثير من الطوائف المتلبسة بأنواع من الشرك، امثال: عَبدة الاسباب وعَبدة الاصنام وعبدة الطبيعة وعبدة النجوم، وذلك بتهييجهم (الانانية) لتجري طليقة في اودية الشرك والضلالة، فسدّوا سبيل العبودية الى الله، وغلّقوا ابواب العجز والضعف والفقر والحاجة والقصور والنقص المندرجة في فطرة الانسان، فضلوا في أوحال الطبيعة ولا نجوا من حمأة الشرك كلياً ولا اهتدوا الى باب الشكر الواسع.

بينما الذين هم في مسار النبوة: فقد حكموا حكماً ملؤه العبودية الخالصة للّه وحده، وقضوا: ان الغاية القصوى للانسانية والوظيفة الاساسية للبشرية هي التخلق بالاخلاق الإلهية، اي التحلي بالسجايا السامية والخصال الحميدة ـ التي يأمر بها الله سبحانه ـ وان يعلم الانسانُ عجزَه فيلتجىء الى قدرته تعالى، ويرى ضعفَه فيحتمي بقوته تعالى، ويشاهد فقره فيلوذ برحمته تعالى، وينظر الى حاجته فيستمد من غناه تعالى، ويعرف قصوره فيستغفر ربه تعالى، ويلمس نقصه فيسبّح ويقدّس كماله تعالى.

وهكذا فلأن الفلسفة العاصية للدين قد ضلت ضلالاً بعيداً، صار (انا) ماسكاً بزمام نفسه، مسارعاً الى كل نوع من انواع الضلالة.

وهكذا نبتت شجرة زقوم على قمة هذا الوجه من (انا) غطت بضلالها نصف البشرية وحادت بهم عن سواء السبيل. أما الثمرات التي قدمتها تلك الشجرة الخبيثة، شجرة زقوم، الى انظار البشر فهي الاصنام والآلهة في غصن القوة البهيمية الشهوية؛ اذ الفلسفة تحبذ أصلاً القوة، وتتخذها اساساً وقاعدة مقررة لنهجها، حتى ان مبدأ (الحكم للغالب) دستور من دساتيرها، وتأخذ بمبدأ (الحق في القوة)(1) فاعجبتْ ضمناً بالظلم والعدوان، وحثت الطغاة والظلمة والجبابرة العتاة حتى ساقتهم الى دعوى الالوهية.

ثم انها ملّكت الجمال في المخلوقات، والحُسن في صورها، الى المخلوق نفسه، والى الصورة نفسها، متناسية نسبة ذلك الجمال الى تجلي الجمال المقدس للخالق الجميل والحُسن المنزّه للمصور البديع، فتقول: (ما أجملَ هذا!) بدلاً من أن تقول: (ما أجمل خلقَ هذا)! أي: جعلت ذلك الجمال في حكم صنم جدير بالعبادة!

ثم انها استحسنت مظاهر الشهرة، والحسن الظاهر للرياء والسمعة.. لذا حبّذت المرائين، ودفعتهم الى التمادي في غيّهم جاعلة من امثال الاصنام عابدةً لعبّادها(2).

وربّت في غصن القوة الغضبية على رؤوس البشر المساكين، الفراعنة والنماريد والطغاة صغاراً وكباراً.

أما في غصن القوة العقلية، فقد وضعت الدهريين والماديين والطبيعيين، وامثالهم من الثمرات الخبيثة في عقل الانسانية، فشتتت عقل الانسان أي تشتيت.

وبعد.. فلأجل توضيح هذه الحقيقة، نعقد مقارنة بين نتائج نشأت من الاسس الفاسدة لمسلك الفلسفة، ونتائج تولدت من الاسس الصائبة لمسار النبوة، وسنقصر الكلام في بضعة امثلة فقط من بين الاف المقارنات بينهما.

المثال الاول:

من القواعد المقررة للنبوة في حياة الانسان الشخصية، التخلق باخلاق الله. أي كونوا عباد الله المخلصين، متحلين باخلاق الله محتمين بحماه معترفين في قرارة انفسكم بعجزكم وفقركم وقصوركم.

فأين هذه القاعدة الجليلة من قول الفلسفة: (تشبهوا بالواجب)! التي تقررها غايةً قصوى للانسانية!

اين ماهية الانسان التي عجنت بالعجز والضعف والفقر والحاجة غير المحدودة من ماهية واجب الوجود، وهو الله القدير القوي الغني المتعال!!

المثال الثاني:

من القواعد الثابتة للنبوة في الحياة الاجتماعية، ان (التعاون) دستور مهيمن على الكون، ابتداءً من الشمس والقمر الى النباتات والحيوانات، فترى النباتات تمد الحيوانات، والحيوانات تمد الانسان، بل ذرات الطعام تمدّ خلايا الجسم وتعاونها.

فأين هذا الدستور القويم دستور التعاون وقانون الكرم وناموس الاكرام من دستور (الصراع) الذي تقول به الفلسفة من انه الحاكم على الحياة الاجتماعية، علماً ان (الصراع) ناشئ فقط لدى بعض الظلمة والوحوش الكاسرة من جراء سوء استعمال فطرتهم، بل أوغلت الفلسفة في ضلالها حتى اتخذت دستور (الصراع) هذا حاكماً مهيمناً على الموجودات كافة، فقررت ببلاهة متناهية:(ان الحياة جدال وصراع).

المثال الثالث:

من النتائج المثلى للنبوة ومن قواعدها السامية في التوحيد، أن (الواحد لا يصدر إلاّ عن الواحد)، أي ان كل مالَه وحدةٌ لا يصدر إلاّ عن الواحد؛ اذ ما دامت في كل شئ ، وفي الاشياء كلها، وحدة ظاهرة، فلابد انها من ايجاد ذاتٍ واحدة. بينما دستور الفلسفة القديمة وعقيدتها هو (ان الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد) أي لا يصدر عن ذات واحدة إلاّ شئ واحد، ثم الاشياء الاخرى تصدر بتوسط الوسائط. هذه القاعدة للفلسفة القديمة تعطي للاسباب القائمة والوسائط نوعاً من الشراكة في الربوبية، وتُظهر ان القدير على كل شئ والغني المطلق والمستغني عن كل شئ بحاجة الى وسائط عاجزة! بل ضلوا ضلالاً بعيداً فأطلقوا على الخالق جل وعلا اسم مخلوق وهو (العقل الاول)! وقسّموا سائر ملكه بين الوسائط، ففتحوا الطريق الى شرك عظيم.

فاين ذلك الدستور التوحيدي للنبوة من هذه القاعدة ــ للفلسفة القديمة السقيمة ــ الملوثة بالشرك والملطخة بالضلالة؟

فان كان الاشراقيون الذين هم أرقى الفلاسفة والحكماء فهماً يتفوهون بهذا السخف من الكلام، فكيف يكون يا ترى كلام مَن هم دونهم في الفلسفة والحكمة من ماديين وطبيعيين؟.

المثال الرابع:

انه من الدساتير الحكيمة للنبوة، ان لكل شئ حِكَماً كثيرة ومنافع شتى حتى ان للثمرة من الحِكَمِ ما يُعدّ بعدد ثمرات الشجرة، كما تُفهم من الآية الكريمة وان من شيءٍ إلاّ يسبّح بحمده فان كانت هناك نتيجة واحدة ـ لخلقِ ذي حياةٍ ـ متوجهة الى المخلوق نفسه، وحكمة واحدة من وجوده تعود اليه، فان آلافاً من النتائج تعود الى خالقه الحكيم وآلافاً من الحكم تتوجه الى فاطره الجليل.

أما دستور الفلسفة فهو (ان حكمة خلقِ كلِ كائن حي وفائدته متوجهة الى نفسه، أو تعود الى منافع الانسان ومصالحه)! هذه القاعدة تسلب من الموجودات حِكَماً كثيرة انيطت بها، وتعطي ثمرة جزئية كحبة من خردل الى شجرة ضخمة هائلة، فتحوّل الموجودات الى عبث لاطائل من ورائه.

فاين تلك الحكمة الصائبة من هذه القواعد الفاسدة للفلسفة ـ الفارغة من الحكمة ـ التي تصبغ الوجود كله بالعبث!.

ولقد قصرنا الكلام هنا على هذا القدر، حيث اننا قد بحثنا هذه الحقيقة في الحقيقة العاشرة من الكلمة العاشرة بشئ من التفصيل.

وبعد.. فيمكنك ان تقيس على منوال هذه الامثلة الاربعة آلافاً من النماذج والأمثلة وقد أشرنا الى قسمٍ منها في رسالة (اللوامع).

ونظراً لاستناد الفلسفة الى مثل هذه الاسس السقيمة ولنتائجها الوخيمة فان فلاسفة الاسلام الدهاة، الذين غرّهم مظهر الفلسفة البراق، فانساقوا الى طريقها كابن سينا والفارابي، لم ينالوا إلاّ أدنى درجة الايمان، درجة المؤمن العادي، بل لم يمنحهم حجة الاسلام الامام الغزالي حتى تلك الدرجة.

وكذا ائمة المعتزلة، وهم من علماء الكلام المتبحرين، فلأنهم افتتنوا بالفلسفة وزينتها واوثقوا صلتهم بها، وحكّموا العقل، لم يظفروا بسوى درجة المؤمن المبتدع الفاسق.

وكذا ابو العلاء المعري الذي هو من أعلام ادباء المسلمين والمعروف بتشاؤمه، وعمر الخيام الموصوف بنحيبه اليتمي، وامثالهما من الادباء الاعلام ممن استهوتهم الفلسفة، وانبهرت نفوسهم الامارة بها.. فهؤلاء .. قد تلقوا صفعة تأديب ولطمة تحقير وتكفير من قبل اهل الحقيقة والكمال، فزجروهم قائلين: (ايها السفهاء انتم تمارسون السفه وسوء الادب، وتسلكون سبيل الزندقة، وتربّون الزنادقة في احضان أدبكم!).

ثم ان من نتائج الاسس الفاسدة للفلسفة: ان (انا) الذي ليس له في ذاته إلاّ ماهية ضعيفة كأنه هواء أو بخار، لكن بشؤم نظر الفلسفة، ورؤيتها الاشياء بالمعنى الاسمي، يتميع. ثم بسبب الأُلفة والتوغل في الماديات والشهوات كأنه يتصلب، ثم تعتريه الغفلة والإنكار فتتجمد تلك (الانانية). ثم بالعصيان ـ لاوامر الله ـ يتكدر (أنا) ويفقد شفافيته ويصبح قاتماً. ثم يستغلظ شيئاً فشيئاً حتى يبتلع صاحبه. بل لا يقف (أنا) عند هذا الحد وانما ينتفخ ويتوسع بافكار الانسان ويبدأ بقياس الناس، وحتى الاسباب، على نفسه، فيمنحها فرعونية طاغية ـ رغم رفضها واستعاذتها منها ـ وعند ذلك يأخذ طور الخصم للاوامر الإلهية فيقول:

] من يحي العظام وهي رميم[ (يس:78) وكأنه يتحدى الله عزوجل، ويتهم القدير على كل شئ بالعجز، ثم يبلغ به الأمر ان يتدخل في اوصاف الله الجليلة، فينكر أو يحرّف أو يردّ كل ما لا يلائم هواه، أو لا تعجب فرعونيةَ نفسه. فمثلاً:

اطلقت طائفة من الفلاسفة على الله سبحانه وتعالى: اسم (الموجب بالذات) فنفوا الارادة والاختيار منه تعالى، مكذّبين شهادة جميع الكون على ارادته الطليقة.

فيا سبحان الله! ما اعجب هذا الانسان! ان الموجودات قاطبةً من الذرات الى الشموس لتدل دلالة واضحة على ارادة الخالق الحكيم؛ بتعيّناتها، وانتظامها، وحِكَمها، وموازينها، كيف لا تراها عينُ الفلسفة؟ أعمى الله أبصارهم!

وادّعت طائفة اخرى من الفلاسفة: (ان العلم الإلهي لا يتعلق بالجزئيات) نافين إحاطة علم الله سبحانه بكل شئ، رافضين شهادة الموجودات الصادقة على علمه المحيط بكل شئ.

ثم ان الفلسفة تمنح التأثير للأسباب، وتعطي بيد الطبيعة الايجاد والابداع، فلا ترى الآيات المتلألئة على كل موجود، الدالة على الخالق العظيم ـ كما اثبتناه في (الكلمة الثانية والعشرين) ـ فضلاً عن انها تسند خلق قسم من الموجودات ـ التي هي مكاتيب إلهية صمدانية ـ الى الطبيعة العاجزة الجامدة الفاقدة للشعور، والتي ليست في يديها إلاّ المصادفة العشواء والقوة العمياء، جاعلة لها ـ أي للطبيعة ــ مصدرية في خلق الاشياء، وفاعلية في التأثير! فحجبت آلاف الحِكم المندرجة في الموجودات.

ثم ان الفلسفة لم تهتد الى باب الآخرة الواسع، فانكرت الحشر وادّعت أزلية الارواح، علماً ان الله عز وجل بجميع اسمائه الحسنى، والكون بجميع حقائقه والانبياء والرسل الكرام عليهم السلام بجميع ما جاءوا من الحقائق، والكتب السماوية بجميع آياتها الكريمة.. تبيّن الحشر والآخرة، كما اثبتناه في الكلمة العاشرة (الحشر).

وهكذا يمكنك ان تقيس سائر مسائل الفلسفة على هذه الخرافات السخيفة.

أجل! لكأن الشياطين اختطفوا عقول الفلاسفة الملحدين بمنقار " أنا " ومخاليبه وألقوها في أودية الضلالة، ومزقوها شر ممزق.

فـ(أنا) في العالم الصغير ـ الانسان ـ كالطبيعة في العالم الكبير، كلاهما من الطواغيت:] فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم[ (البقرة : 256).

* * *

ولقد رأيت حادثة مثالية قبل الشروع بتأليف هذه الرسالة بثماني سنوات، عندما كنت في استانبول شهر رمضان المبارك، وكان آنئذٍ سعيد القديم ـ الذي انشغل بالفلسفة ـ على وشك ان ينقلب الى سعيد الجديد.. في هذه الفترة بالذات وحينما كنت أتأمل في المسالك الثلاثة المشارة اليها في ختام سورة الفاتحة بـ ] صراط الذين انعمت عليهم غير المغـضوب عليهم ولا الـضالين[ رأيت تلك الحادثة الخيالية وهي حادثة أشبه ما يكون بالرؤيا. سجلتها في حينها في كتابي (اللوامع) على صورة سياحة خيالية وبما يشبه النظم. وقد حان الآن وقت ذكر معناها وشرحها، حيث انها تسلط الاضواء على الحقيقة المذكورة.

كنت ارى نفسي وسط صحراء شاسعة عظيمة، وقد تلبدت السماء بسحب قاتمة مظلمة، الأنفاس تكاد تختنق على الارض كافة. فلا نسيم ولا ضياء ولا ماء. كل ذلك مفقود.

توهمت ان الارض ملأى بالوحوش والضوارى والحيوانات الضارة. فخطر على قلبي ان في الجهة الاخرى من الارض يوجد نسيم عليل وماء عذب وضياء جميل، فلا مناص اذاً من العبور الى هناك.. ثم وجدتنى وانا اُساق الى هناك دون ارادتي.. دخلت كهفاً تحت الارض، اشبه ما يكون بانفاق الجبال، سرتُ في جوف الارض خطوة خطوة وانا اشاهد أن كثيرين قد سبقوني في المضي من هذا الطريق تحت الارض، دون ان يكملوا السير اذ ظلوا في اماكنهم مختنقين، فكنت أرى آثار اقدامهم، واسمع ـ حيناً ـ اصوات عددٍ منهم .. ثم تنقطع الاصوات.

فيا صديقي الذي يرافقني بخياله في سياحتي الخيالية هذه!

ان تلك الارض هي (الطبيعة) و (الفلسفة الطبيعية). اماالنفق فهو المسلك الذي شقه اهل الفلسفة بافكارهم لبلوغ الحقيقة.أما آثار الاقدام التي رأيتها فهي لمشاهير الفلاسفة كافلاطون وارسطو(1). وما سمعته من اصوات هو أصوات الدهاة كابن سينا والفارابي.. نعم كنت أجد اقوالاً لإبن سينا وقوانين له في عدد من الاماكن، ولكن كانت الاصوات تنقطع كلياً، بمعنى انه لم يستطع ان يتقدم، أي انه اختنق.. وعلى كل حال فقد بينت لك بعض الحقائق الكامنة تحت الخيال لأخفف عنك تلهفك وتشوقك.. والآن اعود الى ذكر سياحتي:

استمر بي السير، واذا بشيئين يجعلان بيدي.

الاول: مصباح كهربائي، يبدد ظلمات كثيفة للطبيعة تحت الارض.

والآخر: آلة عظيمة، تفتت صخوراً ضخمة هائلة امثال الجبال.. فينفتح لي الطريق.

وهُمِس في اذني آنذاك: ان هذا المصباح والآلة، قد منحتا لك من خزينة القرآن الكريم.. وهكذا فقد سرت مدة على هذا المنوال، حتى رأيت نفسي قد وصلت الى الجهة الاخرى، فاذا الشمس مشرقة في سماء صافية جميلة لا سحاب فيها، واليوم يوم ربيع بهيج، والنسيم يهب كأن فيه الروح، والماء السلسبيل العذب يجري. فقد رأيت عالَماً عمّته البهجة ودبّ الفرح في كل مكان، فحمدتُ الله.

ثم نظرت الى نفسي، فرأيت اني لا املكها ولا استطيع السيطرة عليها، بل ان احدهم يختبرني، وعلى حين غرة رأيت نفسي مرة اخرى في تلك الصحراء الشاسعة، وقد اطبقت السحب القاتمة ايضاً فاظلمت السماء، والانفاس تكاد تختنق من الضيق.. واحسست سائقاً يسوقني الى طريق آخر، اذ رأيت أني أسير في هذه المرة على الارض وليس في جوفها في طريقي الى الجهة الاخرى..فرأيت في سيرى هذا اموراً عجيبة ومشاهد غريبة تكاد لا توصف؛ فالبحر غاضب عليّ، والعاصفة تهددني وكل شئ يلقي امامي العوائق والمصاعب. إلاّ ان تلك المشاكل تُذلّل بفضل ما وُهب لي من القرآن الكريم من وسيلة سياحية. فكنت اتغلب عليها بتلك الوسيلة.. وبدأت اقطع السير خطوة خطوة، شاهدت اشلاء السائحين وجنائزهم ملقاة على طرفي الطريق، هنا وهناك فلم يُنهِ إلاّ واحدٌ من ألفٍ هذه السياحة.. وعلى كل حال فقد نجوت من ظلمات تلك السحب الخانقة، ووصلت الى الجهة الاخرى من الارض، وقابلت الشمس الحقيقية الجميلة، وتنفستُ النسيم العليل، وبدأت اجول في ذلك العالم البهيج كالجنة، وانا اردد: الحمد للّه.

ثم رأيت انني لن اُترَك هنا، فهناك مَن كأنه يريد أن يرينى طريقاً آخر، فأرجعَني في الحال الى ما كنت عليه.. تلك الصحراء الشاسعة.. فنظرت فاذا اشياء نازلة من الاعلى كنزول المصاعد (الكهربائية) بأشكال متباينة وانماط مختلفة بعضها يشبه الطائرات وبعضها شبيه بالسيارات، واخرى كالسلال المتدلية.. وهكذا. فايّما انسان يمكن أن يتعلق بأحدى تلك الاشياء، حسب قابليته وقوته، فانه يُعرج به الى الاعلى.. فركبت احداها، واذا أنا في دقيقة واحدة فوق السحب وعلى جبال جميلة مخضوضرة، بل لا تبلغ السحب منتصف تلك الجبال الشاهقة.. ويُشاهد في كل مكان اجمل ضياء، وأعذب ماء وألطف نسيم.. وحينما سرحت نظري الى الجهات كلها رأيت أن تلك المنازل النورانية ـ الشبيهة بالمصاعد ـ منتشرة في كل مكان. ولقد كنت شاهدت مثلها في الجهة الاخرى من الارض في تلكما السياحتين السابقتين.. ولكن لم افهم منها شيئاً، بيد اني الآن افهم أن هذه المنازل انما هي تجليات لآيات القرآن الحكيم.

وهكذا فالطريق الاول: هو طريق الضالين المشـار اليـه بـ ] الـضالين[ وهو مسلك الذين زلّوا الى مفهوم (الطبيعة) وتبنّوا افكار الطبيعيين.. وقد شعرتم مدى صعوبة الوصول الى الحقيقة من خلال هذا السير الملئ بالمشكلات والعوائق.

والطريق الثاني: المشار اليه بـ ] المغـضوب عليهم[ فهو مسلك عَبَدة الاسباب والذين يحيلون الخلق والايجاد الى الوسائط، ويسندون اليها التأثير، ويريدون بلوغ حقيقة الحقائق، ومعرفة الله جل جلاله عن طريق العقل والفكر وحده، كالحكماء المشائيين.

أما الطريق الثالث: المشار اليه بـ ] الذين انعمت عليهم[ فهو الصراط المستقيم والجادة النورانية لأهل القرآن، وهو أقصر الطرق وأسلمه وايسره، ومفتوح امام الناس كافة ليسلكوه، وهو مسلك سماوي رحماني نوراني.





























المقصد الثاني

((يخص تحولات الذرات))

يشير الى ذرة من خزينة هذه الآية الكريمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

] وقال الذين كفروا لاتأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينّـكم عالِمِ الغيب لا يعزب عنه مثقالُ ذرّة في السموات ولا في الارض ولا اصغرُ من ذلك ولا اكبرُ إلا في كتابٍ مبين[ (سورة سبأ: 3).

[ يبين هذا المقصد مثقال ذرة من الخزينة العظمى لهذه الآية الكريمة، أي: يبين الجوهر الذي تنطوي عليه صنُيديقة الذرة، ويتناول جزءاً ضئيلاً جداً من حركة الذرة ووظيفتها؛ وذلك في نقاط ثلاث مع مقدمة ].



المقدمة

ان تحولات الذرات وجولانها عبارة عن اهتزازات الذرات وتنقلها اثناء كتابة قلم القدرة الإلهية للايات التكوينية في كتاب الكون. فهي ليست كما يتوهمه الماديون والطبيعيون من أنها ألعوبة المصادفة في حركة عشوائية لا معنى لها ولا مغزى؛ ذلك لأن كل ذرة، وكل الذرات تقول في مبدأ حركتها: (بسم الله) ـ كما تقوله جميع الموجودات ـ حيث أنها تحمل أثقالاً هائلة تفوق كثيراً طاقتها المتناهية، كحمل بذرة الصنوبر على اكتافها شجرتها الضخمة. ثم عند انتهاء وظيفتها تقول: (الحمد لله) حيث انها اظهرت أثراً بديعاً كأنه ينشد قصيدة رائعة في الثناء على الصانع الجليل، لما فيه من جمال الاتقان الحكيم، وروعة صورةٍ تنم عن مغزى عميق تتحير منه العقول.. فان شئت فانظر بانعام الى الرمان والذُرة.

نعم! ان تحولات الذرات وتنقلاتها، عبارة عن حركات واهتزازات ذات مغزى عميق، ناشئة من كتابة كلمات القدرة الإلهية ومحو تلك الكلمات في لوح (المحو والاثبات) الذي هو حقيقة الزمان السيال وصحيفته المثالية، استنساخاً من الكتاب المبين الذي هو عنوانٌ للقدرة الإلهية وارادتها، ومحور التصرف في ايجاد الاشياء وتشكيلها من عالم الشهادة والزمان الحاضر، وفقاً لدساتير الامام المبين الذي هو جماع مقومات الاشياء في اصولها وفروعها ـ أي أصل كل شئ مضى وكل نسلٍ آتٍ ـ التي طواها الغيب، مع مميزاتها، وعنوانٌ للعلم الإلهي وامره(1).



النقطة الاولى

وهي مبحثان

المبحث الاول

ان في حركة كل ذرة وفي سكونها، يتلمع نوران للتوحيد، كأنهما شمسان ساطعتان. ولقد اثبتنا بيقين اثباتاً مجملاً في الاشارة الاولى من (الكلمة العاشرة) وفصلناه في (الكلمة الثانية والعشرين) ان كل ذرة من الذرات! إن لم تكن مأمورة باوامر الله تعالى، وإن لم تتحرك بإذنه وفعله وان لم تتحول بعلمه وقدرته، فلابد ان يكون لكل ذرة علمٌ لا نهاية له، وقدرةٌ لا حدّ لها، وبصر يرى كل شئ، ووجهٌ يتوجه الى كل شئ، وأمرٌ نافذ في كل شئ.

لأن كل ذرة من ذرات العناصر، تعمل ـ أو يمكن ان تعمل ـ عملاً منتظماً في جسم كل كائن حي، علماً أن انظمة الاشياء وقوانين تراكيبها مخالف بعضها بعضاً، ولا يمكن عمل شئ مالم تُعلَم انظمته، وحتى لوقامت الذرة بعمل فلا يخلو من خطأ. والحال أن الاعمال تُنجز من دون خطأ. فاذاً: إما أن تلك الذرات العاملة تعمل وفق أوامر مَن يملِك علماً محيطاً بكل شئ، وباذنه، وبعلمه، وبارادته.. أو ينبغي ان يكون لها مثل ذلك العلم المحيط والقدرة المطلقة!

ثم ان كل ذرة من ذرات الهواء، تستطيع ان تدخل في جسم كل كائن حي، وفي ثمرة كل زهرة، وفي بناء كل ورقة، وتعمل في كل ٍمنها. علماً ان بناء كلٍ منها يخالف الآخر ونظامه يباين الآخر، فلو كان معمل ثمرة التين ـ مثلاً ـ شبيهاً بمعمل النسيج، لكان معمل ثمرة الرمان شبيهاً بمعمل السكر. فتصاميم كل منهما، وبناء كل منهما مخالف للآخر.

فهذه الذرات الهوائية تدخل في كلٍ منها ـ أو تستطيع الدخول ـ وتعمل بمهارة فائقة وبحكمة تامة، وتتخذ فيها أوضاعاً معينة، ثم حالما تنتهى وظيفتُها تتركها ماضية الى شأنها.

وهكذا فالذرة المتحركة في الهواء المتحرك؛ إما انها تعلم الصوَر التي اُلبستْ على الحيوانات والنباتات، وعلى ثمراتها وازاهيرها، وتعلم ايضاً مقادير كلٍ منها وانماط تصاميمها! أو أن تلك الذرة مأمورة بأمرِ مَن يعلم ذلك كله وعاملة بارادته.

وكذا كل ذرة ساكنة في التراب الساكن الهادئ، فهي متهيئة لتكون منبتاً لجميع بذور النباتات المزهرة والاشجار المثمرة؛ اذ لو اُلقيت في حفنة تراب ـ المتكونة من ذرات متماثلة كأنها ذرة واحدة ـ ولاقت ما فيها من الذرات؛ فإما انها تجد مصنعاً خاصاً بها، مع ما يحتاجه بناؤها من لوازم ومعدّات، أي ان تكون في تلك الحفنة من التراب معامل معنوية دقيقة عديدة، عدد انواع النباتات والاشجار والاثمار.! أو ان يكون هناك علم واسع وقدرة محيطة بكل شئ، تبدع كل شئ من العدم.. أو ان تلك الاعمال انما تتم بحول وقوة الله القدير على كل شئ والعليم بكل شئ.

لو سافر شخص الى اوروبا، وهو جاهل بوسائل الحضارة جهلاً مطبقاً، وعلاوة على ذلك فهو أعمى لا يبصر، ولو دخل هناك الى جميع المعامل والمصانع، وانجز أعمالاً بديعة في كل صنوف الصناعة وفي انواع الأبنية، بانتظام كامل وحكمة فائقة ومهارة بارعة تحيرت منها العقول.. فلا شك ان مَن له ذرة من الشعور يعرف يقيناً: ان ذلك الرجل لا يعمل ما يعمل من تلقاء نفسه، بل هناك استاذ عليم يلقّنه ويستخدمه.

وايضاً لو كان هناك عاجز، أعمى، مقعد، قابع في كوخه الصغير، لا يحرك ساكناً. اُدخل عليه قليل من حصو، وقطع من عظم، وشئ يسير من قطن، واذا بالكوخ الصغير تصدر منه اطنان من السكر، واطوال من النسيج، وآلاف من قطع الجواهر، مع ملابس في أبهى زينة وأفخر نوع، مع أطعمة طيبة في منتهى اللذة.. أفلا يقول مَن له ذرة من العقل: ان ذلك الاعمى المقعد ما هو إلاّ حارس ضعيف لمصنع معجِز، وخادم لدى صاحبه ذى المعجزات؟

كذلك الامر في حركات ذرات الهواء ووظائفها في النباتات والاشجار والازهار والاثمار، التي كل منها كتابة إلهية صمدانية، ورائعة من روائع الصنعة الربانية، ومعجزة من معجزات القدرة الإلهية، وخارقة من خوارق الحكمة الإلهية، فلا تتحرك تلك الذرات ولا تنتقل من مكان الى آخر إلاّ بأمر الصانع الحكيم ذي الجلال وبارادة الفاطر الكريم ذي الجمال.

وقس على هذا ذرات التراب الذي هو منبت لسنابل البذور والنوى، التي كل منها في حُكم ماكنة عجيبة تختلف عن الاخرى، ومطبعة مغايرة للاخرى، وخزينة متباينة عن الاخرى، ولوحة اعلان تُعلن اسماء الله الحسنى متميزة عن الاخرى، وقصيدة عصماء تثني على كمالاته جل وعلا ولا شك ان هذه البذور البديعة ما اصبحت منشأ ً لتلك الاشجار والنباتات إلاّ بأمر الله المالك لأمر (كن فيكون) وكل شئ مسخّر لأمره، ولا يعمل إلاّ باذنه وإرادته وقوته.. وهذا يقين وثابت قطعاً.. آمنا.



المبحث الثاني

هذا المبحث عبارة عن اشارة بسيطة الى ما في حركات الذرات من وظائف وحكَم.

ان الماديين الذين انحدرت عقولُهم الى عيونهم، فلا يرون إلاّ المادة، يرون بحكمتهم الخالية من الحكمة وبفلسفتهم المبنية على اساس العبث في الوجود:

ان تحولات الذرات مربوطة بالمصادفة. حتى اتخذوها قاعدة مقررة لدساتيرهم كلها، جاعلين منها مصدر ايجادٍ للمخلوقات الربانية!

فالذي يملك ذرة من الشعور يعلم يقيناً مدى بُعدهم عن منطق العقل، في اسنادهم هذه المخلوقات المزدانة بحِكَمٍ غزيرة، الى شئ مختلط عشوائي لا حكمة فيه ولا معنى.

أما المنظور القرآني وحكمته، فانه يرى ان تحولات الذرات لها حِكَمٌ كثيرة جداً وغايات لا تحصى ووظائف لاتحد، تشير اليها الآية الكريمة ] وإن من شيءٍ إلاّ يُسبّح بحَمده[ وامثالها من الآيات الكثيرة.

ونحن هنا نشير الى بضعٍ منها فقط، على سبيل المثال:

اولاها:

ان الله سبحانه وتعالى، لأجل تجديد تجليات الايجاد في الوجود، يحرّك الذرات ويسخّرها بقدرته، جاعلاً من كل روحٍ واحدة (نموذجاً)، يُلبسها جسداً جديداً من معجزات قدرته في كل سنة، ويستنسخ من كل كتاب فرد بحكمته التامة آلاف الكتب المتنوعة، ويُظهر حقيقةً واحدة في انماط مختلفة وصور شتى، ويفسح المجال ويعدّ المكان لورود أكوان جديدة وعوالم جديدة وموجودات جديدة، طائفة إثر طائفة.

ثانيتها:

ان مالك الملك ذا الجلال، قد خلق هذه الدنيا ـ ولا سيما وجه الارض ـ على هيئة مزرعة واسعة، أي مهّدها لتكون قابلة لنمو محاصيل الموجوادت ونشوئها ، وظهورها بجدّتها وطراوتها، أي ليزرع فيها معجزات قدرته غير المتناهية ويحصدها.

ففي مزرعته الشاسعة هذه التي هي بسعة سطح الارض، يبرز سبحانه من معجزات قدرته كائنات جديدة، في كل عصر، في كل فصل، في كل شهر، في كل يوم، بل في كل ساعة، فيعطي ساحةَ الارض محاصيل متنوعة جديدة، بتحريك الذرات بحكمة تامة وتوظيفها بنظام متقن. مُبيناً سبحانه وتعالى، بحركات الذرات هذه هدايا رحمته الصادرة من خزينته التي لا تنضب، ونماذج معجزات قدرته التي لا تنفد.

ثالثتها:

انه سبحانه وتعالى يحرّك الذرات بحكمة تامة ويسخرها في وظائف منظمة لأجل اظهار بدائع الموجودات كي تفيد الاسماء الحسنى عن معاني تجلياتها غير المتناهية. فيُخرج سبحانه في مكان محدود ما لايحد من بدائع الصور الدالة على تلك التجليات غير المحدودة ويكتب في صحيفة ضيقة آياتٍ تكوينية لاحدّ لها، تعبّر عن معانٍ سامية غير محدودة.

نعم! ان محاصيل السنة الماضية ونتائجها من الموجودات، ومحاصيل هذه السنة ونتائجها، من حيث الماهية، في حُكم واحد، إلاّ ان معانيها ومدلولاتها متباينة جداً، اذ بتبدل التعينات الاعتبارية تتبدل معانيها وتكثر وتزداد. ومع أن التعينات الاعتبارية والتشخصات الموقتة تبدَّلان، وهما فانيتان في الظاهر، إلاّ ان معانيها الجميلة تحافَظ عليها وتستمر وتبقى وتثبت.

فأوراق هذه الشجرة وازاهيرها وثمراتها التي كانت في الربيع الماضي ـ لأنها لا تحمل روحاً كالانسان ـ هي عين أمثالها في هذا الربيع، اذا نُظر اليها من زاوية الحقيقة، إلاّ ان الفرق هو في التشخصات الاعتبارية.

هذه التشخصات أتت الى هذا الربيع، لتحل محل تشخصات سابقتها، وذلك للافادة عن معاني شؤون الاسماء الإلهية التي تتجدد تجلياتُها باستمرار.

رابعتها:

ان الحكيم ذا الجلال يحرّك الذرات في مزرعة هذه الدنيا الضيقة وينسجها في مصنع الارض، جاعلاً الكائنات سيالةً والموجودات سيارةً، وذلك لأجل إعداد ما يناسب من لوازم أو تزيينات أو محاصيل لعوالم واسعة لاحدّ لها، كعالم المثال وعالم الملكوت الواسع جداً وسائر عوالم الآخرة غير المحدودة. فيهئ سبحانه في هذه الارض الصغيرة، محاصيل ونتائج معنوية كثيرة جداً، لتلك العوالم الكبيرة الواسعة جداً. ويُجري من الدنيا سيلاً لا نهاية له ينبع من خزينة قدرته المطلقة ويصبّه في عالم الغيب، وقسماً منه في عوالم الآخرة.

خامستها:

يحرّك سبحانه وتعالى الذرات بقدرته في حكمة تامة ويسخرّها في وظائف منتظمة اظهاراً لكمالات إلهية لا نهاية لها، وجلوات جمالية لاحدّ لها، وتجليات جلالية لامنتهى لها، وتسبيحات ربانية لاعدّ لها، في هذه الارض الضيقة المحدودة، وفي زمان قليل متناهٍ. فيجعل سبحانه وتعالى الموجودات تسبّح تسبيحات غير متناهية في زمانٍ متناهٍ وفي مكان محدود، مبيناً بذلك تجلياته الجمالية والكمالية والجلالية المطلقة موجداً كثيراً من الحقائق الغيبية، وكثيراً من الثمرات الاخروية، وكثيراً من البدائع المثالية ـ لصور الفانين وهوياتهم الباقية ـ وكثيراً من نسائج لوحية حكيمة. فالذي يحرك الذرات، ويبرز هذه المقاصد العظيمة، وهذه الحكم الجسيمة، انما هو الواحد الأحد، وإلاّ فيجب ان تكون لكل ذرة عقل بكبر الشمس!.

وهكذا فهناك أمثلة كثيرة جداً على تحولات الذرات التي تُحرَّك بحكمة بالغة، كهذه النماذج الخمسة، بل ربما تربو على خمسة آلاف مثال، إلاّ ان اولئك الفلاسفة الحمقى قد ظنوها خالية من الحكمة!

فلقد زعموا ـ في الحقيقة ـ ان الذرات في حركتيها التي تتحرك بهما في نشوة وجذب رباني، احدهما آفاقي والآخر أنفسي، والمستغرقة في ذكر وتسبيح إلهي كالمريد المولوي، انما تقوم بها من تلقاء نفسها، وترقص ذاهلة وتدور.

نخلص من هذا: ان علم اولئك الفلاسفة ليس علماً، بل جهل. وان حكمتهم سخافة وخالية من الحكمة!

(سنذكر في النقطة الثالثة حكمة اخرى مطولة هي السادسة).





النقطة الثانية

ان في كل ذرة شاهدين صادقين على وجود الله سبحانه، وعلى وحدانيته.

أجل! ان الذرة بقيامها بوظائف جسيمة جداً، وحملها لأعباء ثقيلة جداً تفوق طاقتها، في منتهى الشعور، رغم عجزها وجمودها، تشهد شهادة قاطعة على وجود الله سبحانه.

وانها تشهد شهادة صادقة ايضاً على وحدانية الله واحدية مالك الملك والملكوت؛ بتنسيق حركاتها وانسجامها مع النظام العام الجاري في الكون ومراعاتها النظام حيثما حلّت، وتوطّنها هناك كأنه موطنها. أي: لمن الذرة؟ فمواضع جولانها مُلكُه وتعود اليه، بمعنى ان من كانت الذرة له فان جميع الاماكن التي تسير فيها له ايضاً.

اي أن الذرة لكونها عاجزة، وعبئها ثقيلاً جداً، ووظائفها كثيرة لاتحد، تدل على انها قائمة ومتحركة باسم قدير مطلق القدرة وبأمره.

ثم ان توفيق حركتها وجعلها منسجمة مع الانظمة العامة الكلية في الكون، وكأنها على علمٍ بها، ودخولها الى كل مكان دون مانع يمنعها، يدل على انها تعمل ما تعمل بقدرة واحد عليم مطلق العلم وبحكمته الواسعة.

نعم! ان الجندي له علاقة وانتساب مع كلٍ من فصيله، وسريته، وفوجه، ولوائه، وفرقته. كما أن له في كلٍ منها وظيفة معينة على قدر تلك العلاقة. وان تنسيق الحركة والانسجام مع كل هذه العلاقات والارتباطات بمعرفتها ومعرفة وظائفها في كل دائرة، مع القيام بواجبات عسكرية من تدريب واخذ للتعليمات حسب انظمتها، كل ذلك انما يكون بالانقياد الى اوامر القائد الاعظم الذي يقود تلك الدوائر كلها واتباع قوانينه.

فكما ان الامر هكذا في الجندي الفرد، كذلك كل ذرة من الذرات الداخلة في المركبات المتداخل بعضها في بعض، لها اوضاع ملائمة في كلٍِ منها، ومواقع متناسبة تنبني عليها مصالح متنوعة، ووظائف منتظمة شتى، ونتائج متباينة ذات حكمة، فلابد ان توطين تلك الذرة بين تلك المركبات، توطيناً لا يخل بالنتائج والحكم الناشئة من تلك النسب والوظائف، مع الحفاظ على جميع النسب والوظائف، خاصٌ بمالك الملك الذي بيده مقاليد كل شئ.

فمثلاً: ان الذرة المستقرة في بؤبؤ عين (توفيق) لها علاقة مع اعصاب العين الحركية والحسية ، ومع الشرايين والاوردة التي فيها، ومع الوجه، والرأس، ثم مع الجسم، ومع الانسان ككل. فضلاً عن ان لها في كلٍ منها وظيفة وفائدة.

فوجود تلك النسب، في كلٍ منها، والعلاقات والفوائد، مع الحكمة الكاملة والاتقان التام يبين:

ان الذي خلق ذلك الجسد بجميع اعضائه، هو الذي يمكنه ان يمكّن تلك الذرة في ذلك المكان، ولا سيما الذرات الآتية للرزق. فتلك الذرات التي تسير مع قافلة الرزق وتسافر معها، انما تسير بانتظام وتسيح بحكمة تحير العقول. ثم تدخل في اطوار مختلفة وتجول في طبقات متنوعة بنظام دقيق، فتخطو خطوات ذات شعور، من دون ان تخطئ ، حتى تأتي تدريجياً الى الجسم الحي وتصفّى هناك في اربع مصافٍ فيه، الى أن تصل الى الاعضاء والحجيرات المحتاجة الى الرزق، فتمدها به، وتسعفها بقانون الكرم محمولةً على الكريات الحمراء في الدم.

يفهم من هذا بداهة ان الذي أمَرَّ هذه الذرات من خلال آلاف المنازل المختلفة والطبقات المتباينة، وساقها هكذا بحكمة، لابد وبلا ادنى شك هو رزّاق كريم، خلاق رحيم ، تتساوى امام قدرته النجومُ والذرات.

ثم ان كل ذرة من الذرات تقوم بعمل صورة بديعة ونقش رائع في المخلوق بحيث:

إما انها في موقع حاكم مسيطر على كل ذرة من الذرات وعلى مجموعها، ومحكومة في الوقت نفسه تحت أمر كل ذرة من الذرات وأمر مجموعها، وانها تعرف معرفة كاملة، بالصورة البديعة المحيرة للالباب والنقش الرائع الملئ بالحكمة، فتوجدها! وهذا محال بألف محال.. أو أنها نقطة مأمورة بالحركة نابعة من قلم قدرة الله سبحانه وقانون قَدَره.

فمثلاً: أن الاحجار الموجودة في قبة (ايا صوفيا) ان لم تكن مطيعة لأمر بنّائها، ينبغي ان يكون كل حجر منها ماهراً في صنعة البناء كالمعماري سنان(1) نفسه، ويكون حاكماً على الاحجار الاخرى ومحكوماً بأمرها في الوقت نفسه، اي يمكنه ان يحكم الاحجار الاخرى فيقول لها: (هيا ايتها الاحجار لنتحد حتى نحول دون سقوطنا)! وكذلك الامر في الذرات الموجودة في المخلوقات، التي هي اكثر ابداعاً، واكثر اتقاناً واكثر روعة واكثر اثارة للاعجاب، واكثر حكمة من قبة ايا صوفيا بالاف المرات، إن لم تكن هذه الذرات منقادة لأمر الخالق العظيم، خالق الكون، فينبغي اذاً ان تعطى لكلٍ منها اوصاف الكمال التي لا تليق إلاّ باللّه سبحانه.

فيا سبحان الله ! وياللعجب! ان الماديين الزنادقة الكفرة لما انكروا الله الواجب الوجود، اضـطروا حسب مذهبهم للاعتقاد بآلهة باطلة بعدد الذرات. ومن هذه الجهة ترى أن الكافر المنكر لوجود الله سبحانه وتعالى مهما كان فيلسوفاً وعالماً فهو في جهل عظيم، وهو جاهل جهلاً مطلقاً.



النقطة الثالثة

هذه النقطة اشارة الى الحكمة السادسة العظيمة التي وُعد بها في ختام النقطة الاولى، وهي:

لقد ذكر في حاشية السؤال الثاني من الكلمة الثامنة والعشرين:

ان حكمة اخرى من آلاف الحكم التي تتضمنها تحولات الذرات وحركاتها في اجسام ذوي الحياة، هي تنوير الذرات بالحياة وكسبها المعنى والمغزى، لتصبح ذرات لائقة في بناء العالم الاخروي.

نعم! ان الكائن الحيواني والانسان وحتى النبات في حكم مضيف لتلك الذرات ومعسكر تدريب لها، ومدرسة تربوية تتلقى فيها الارشادات؛ بحيث أن تلك الذرات الجامدة تدخل هناك فتتنور، وكأنها تنال التدريب وتتلقى الاوامر والتعليمات، فتتلطف، وتكسب باداء كلٍ منها لوظيفة لياقةً وجدارة، لتصبح ذرات لعالم البقاء والدار الآخرة الحية حياةً شاملة لجميع اجزائها.

سـؤال: بماذا يُعرف وجود هذه الحكمة في حركات الذرات؟

الجـواب:

اولاً: يُعرف وجودُها، بحكمة الله الحكيم سبحانه، تلك الحكمة الثابتة بالانظمة الجارية في الموجودات كافة وبالحكم التي تنطوي عليها؛ اذ الحكمة الالهية التي اناطت حِكماً كلية كثيرة جداً بأصغر شئٍ جزئي، لايمكن ان تترك حركات الذرات سدىً من دون حكمة! تلك الحركات الجارية في سيل الكائنات، والتي تبدي فعالية عظمى في الوجود، والتي هي سبب لإبراز البدائع الحكيمة.

ثم ان الحكمة الالهية وحاكميتها، التي لا تهمل اصغر مخلوق دون أجر، أو دون كمال، أو دون مقام، لما يقوم به من وظيفة، كيف تهمل مأموريها ومستخدميها الكثيرين جداً، الذرات.. دون نور، أو دون أجر.

ثانياً: ان الحكيم العليم يحرك العناصر ويستخدمها لاداء وظائف جليلة، فيرقيها الى درجة المعدنيات، اجراً لها في طريق الكمال.. ويحرك ذرات المعدنيات ويسخرها في وظائف ويعلّمها تسبيحاتها الخاصة بها فيمنحها المرتبة الحية للنباتات.. ويحرك ذرات النباتات ويوظفها، ويجعلها رزقاً للآخرين، فيُنعم عليها برفعها الى المرتبة اللطيفة للحيوانات.. ويستخدم ذرات الحيوانات ـ عن طريق الرزق ـ فيرفعها الى درجة الحياة الانسانية.. وبامرار ذرات جسم الانسان من خلال مصافٍ عدة مراتٍ ومرات، وتنقيتها وجعلها لطيفة، يرقيها الى ألطف مكان وأعز موقع في الجسم وهو الدماغ والقلب.

يفهم مما ذكر: ان حركات الذرات ليست سدىً وليست خالية من الحكمة، بل تُهرع الذرات وتساق الى نوع من الكمال اللائق بها.

ثالثاً: ان قسماً من ذرات الكائن الحي ـ كذرات البذور والنوى ـ ينال نوراً معنوياً، ولطافة ومزيّة، بحيث يكون بمثابة روح وسلطان على سائر الذرات، وعلى الشجرة الضخمة نفسها.

فاعتلاء هذه الذرات ـ من بين مجموع ذرات الشجرة العظيمة ـ هذه المرتبة، انما هو حصيلة ادائها وظائف دقيقة ومهمات جليلة اثناء مراحل نمو الشجرة، مما يدل على ان تلك الذرات حينما تؤدي وظيفتها الفطرية بأمر الخالق الحكيم، تنال لطافة معنوية ونوراً معنوياً ومقاماً رفيعاً وارشاداً سامياً، حسب انواع حركاتها ووفق ما يتجلى عليها من تجليات الاسماء الحسنى، وسمو تلك الاسماء.

الخلاصة:

C ان الخالق الحكيم قد عيّن لكل شئ نقطة كمال يناسب ذلك الشئ، وحدّد نورَ وجودٍ يليق به، فيسوق ذلك الشئ الى نقطة الكمال تلك، باستعداد يمنحه اياه.

فهذا القانون للربوبية مثلما هو جارٍ في جميع النباتات والحيوانات، جارٍ ايضاً في الجمادات، حتى يمنح سبحانه التراب العادي رقياً يبلغ به درجة الألماس ومرتبة الاحجار الكريمة.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون الربوبية).

C وان ذلك الخالق الكريم، اثناء تسخيره الحيوانات لإنفاذ قانون التناسل العظيم، يمنحها لذةً جزئية، أجرةً لأدائها الوظيفة. ويهب للحيوانات المستخدمة لإنفاذ اوامر ربانية ـ كالبلبل والنحل ـ اجرةَ كمالٍ راقية، مقاماً يبث الشوق والمتعة..

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو : (قانون الكرم).

C ثم ان حقيقة كل شئ تتوجه الى تجلي اسمٍ من الاسماء الالهية الحسنى، ومرتبطة بها، وهي كالمرآة العاكسة لأنواره. فذلك الشئ مهما اتخذت من اوضاع جميلة، فالجمال يعود الى شرف ذلك الاسم وسموه؛ اذ يقتضيه ذلك الاسم. فسواءٌ أعَلِم ذلك الشئ أم لم يعلم، فذلك الوضع الجميل مطلوب في نظر الحقيقة.

من هذه الحقيقة يظهر طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون التحسين والجمال).

C ثم ان ما اعطاه الفاطر الحكيم من مقام وكمال، الى شئ ما، بمقتضى دستور الكرم، لايستردّه منه عند انقضاء مدة ذلك الشئ وانتهاء عمره، بل يُبقي ثمراته، ونتائجه، وهويته المعنوية، ومعناه، وروحه ان كان ذا روح.

فمثلاً: يُبقي سبحانه وتعالى معاني الكمالات التي ينالها الانسان وثمراتها، حتى ان شكر المؤمن الشاكر وحمده على ما يأكله من فواكه زائلة، يعيده سبحانه اليه مرة اخرى على صورة فاكهة مجسمة طيبة من فواكه الجنة.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو : (قانون الرحمة).

C ثم ان الخالق الحكيم سبحانه لا يسرف في شئ قط، ولا يعمل عبثاً مطلقاً اذ يستعمل حتى الانقاض المادية للمخلوقات الميتة ـ التي انتهت مهماتُها ـ في الخريف، في بناء مخلوقات جديدة في الربيع.

لذا، فمن مقتضى الحكمة الالهية، ادراج هذه الذرات الارضية الجامدة، وغير الشاعرة، والتي انجزت وظائف جليلة في الارض في قسم من ابنية الآخرة التي هي حية وذات شعور بكل ما فيها، باحجارها واشجارها بدلالة الآية الكريمة ] يوم تبدل الارض غير الارض[ (ابراهيم:48) وباشارة الآية الكريمة ] وان الدار الاخرة لهي الحيوان[ (العنكبوت:64) ولأن ترك ذرات الدنيا المتهدمة في الدنيا نفسها، أو رميها الى العدم اسراف وعبث.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون الحكمة).

C ثم ان كثيراً جداًَ من آثار هذه الدنيا ومعنوياتها وثمراتها، ومنسوجات اعمال المكلفين ـ كالجن والانس ـ وصحائف افعالهم، وارواحهم، واجسادهم، تُرسل الى سوق الآخرة ومعرضها. فمن مقتضى العدل والحكمة ان تُرسل ايضاً الذرات الارضية التي رافقت تلك الثمرات والمعاني وخَدَمَتها مع انقاض هذه الدنيا التي ستدمّر الى العالم الاخروي وتستعمل في بنائه. وذلك بعد تكاملها تكاملاً يخصّها من حيث الوظيفة، اي بعد أن نالت نور الحياة كثيراً وخدمَتها، واصبحت وسيلة لتسبيحات حياتية.

من هذه الحقيقة ينكشف طرف من قانون عظيم هو : (قانون العدل).

C ثم ان الروح مثلما انها مهيمنة على الجسم، فالاوامر التكوينية للمواد الجامدة التي كتبها القدر الالهي، لها سلطان ايضاً على تلك المواد. فتتخذ تلك المواد مواقعها، وتسير بنظام معين وفق ما تمليه الكتابة المعنوية للقدر الالهي.

فمثلاً: في انواع البيض، واقسام النطف، واصناف النوى، واجناس البذور، تنال المواد انواراً مختلفة، مقامات متباينة، حسب تباين الاوامر التكوينية التي سطّرها القدر الالهي بانماط متنوعة واشكال متغايرة؛ اذ إن تلك المواد ـ من حيث هي مادة ـ في ماهية واحدة(1)، الاّ انها تصبح وسيلة لنشوء مالا يحد من الموجودات، فتكون صاحبة مقامات مختلفة وانوار متنوعة، فلابد اذاً لو وجدت ذرة في خدمات حياتية، ودخلت ضمن التسبيحات الربانية التي تسبح بها الحياة مرات ومرات، وادّت مهماتها هناك، فلاشك ان يُكتب في جبهتها المعنوية حِكَم تلك المعاني، ويسجلها قلمُ القدر الإلهي الذي لا يعزُب عنه شئ، وذلك بمقتضى العلم المحيط الإلهي.

من هذه الحقيقة ينكشف طرفٌ من قانون عظيم هو: (قانون العلم المحيط).

فبناء على ما سبق: فان الذرات اذاً ليست سائبة ولا منفلتة(1).

النتيجة:

ان القوانين السبعة السابقة، اي: قانون الربوبية، وقانون الكرم، وقانون الجمال، وقانون الرحمة، وقانون الحكمة وقانون العدل، وقانون العلم المحيط.. وأمثالها من القوانين العظمى، يلوّح كلٌ منها من طرفٍ ما ينكشف منه، اسمَ الله الاعظم، وتجلٍ أعظم لذلك الاسم الاعظم. ويفهم من ذلك التجلي: ان تحولات الذرات ايضاً في هذه الدنيا ـ كسائر الموجودات ـ تجول حسب ما خطه القدر الالهي من حدود ووفق ما تعطيه القدرة الالهية من اوامر تكوينية وعلى اساس ميزان علمي حساس، لأجل حِكَمٍ سامية، وكأنها تتهيأ للرحيل الى عالم آخر أسمى!(2)

ومن هنا عدت الاجسام الحية كأنها مدرسة تتعلم فيها الذرات السائحة، ومعسكر تدريب، ومضيف تربوي لها، ويصح ان نحكم بحدس صادق أنها كذلك.

الحاصل: مثلما ذكر في (الكلمة الاولى)، واثبت هناك: ان كل شئ يقول (بسم الله). فالذرة ايضاً كجميع الموجودات وكل طائفة منها وكل جماعة من جماعاتها تقول بلسان الحال: (بسم الله) وتتحرك وفقها.

نعم! ان كل ذرة ـ بدلالة النقاط الثلاث المذكورة ـ تقول بلسان حالها في مبدأ حركتها: (بسم الله الرحمن الرحيم) اي: أتحرك باسم الله وبقوته وبحوله وباذنه وفي سبيله، ثم تقول ـ وكل طائفة منها ـ بعد انهاء حركتها بمثل ما يقوله أي مخلوق كان بلسان حاله: الحمد لله رب العالمين.

فكل ذرة تبدي نفسها في حكم ريشةِ قلمٍ صغير للقدرة الالهية في تصوير كل مخلوق بديع الذي هو بمثابة قصيدة ثناء وحمداً لله تعالى.

بل كل ذرة تبين نفسها في صورة طرف ابرة لأذرع معنوية لاحد لها لحاكٍ رباني معظم، تدور الابرة على اسطوانات ـ وهي المصنوعات الربانية ـ فتنطقها بقصائد ثناء وحمد ربانية، وتنشدها اناشيد تسبيحات إلهية..

] دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين[

] سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[

] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب[

اللّهم صل على سيدنا محمد صلاة تكون لك رضاءً ولحقّه اداءً

وعلى آله وصحبه واخوانه وسلّم،

وسلّمنا وسلم ديننا

آمين يارب العالمين.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس