عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الرابع


الشعاع الرابع - ص: 78
وكذا اعطى "معرفته" و "محبته" ضمن ذلك الايمان التحقيقي، فاحسن اليّ مرتبة تمكن نعمة الوجود تلك من أن تمدّ ايديها بالحمد والثناء الى دوائر كثيرة جداً ابتداءً من دائرة الممكنات الى عالم الوجوب ودائرة الاسماء الحسنى، لتستفيد منها.
وكذا تفضّل عليّ - بصفة خاصة - بعلم قرآني وحكمة ايمانية؛ فاولاني باحسانه هذا تفوقاً على كثير من مخلوقاته.
وهكذا فقد منح سبحانه الانسان جامعية من جهات كثيرة جداً، كالمذكورة سابقاً، ووهب له من الاستعداد ما يجعله مرآةً كاملة لأحديته وصمدانيته، ويمكّنه من ان يلبي بعبودية كلية واسعة، ربوبية ً كلية مقدسة.
ولقد علمت علماً يقيناً وآمنت ايماناً كاملاً أنه سبحانه يشتري مني امانته المودعة فيّ وهديته المهداة اليّ وعطيته الكريمة لي، تلك هي وجودي وحياتي ونفسي، يشتريها، كما نص عليه القرآن الكريم، واجمع عليه ما انزله من الكتب والصحف المقدسة على الانبياء، واتفق عليه جميع الأنبياء والاولياء والاصفياء، يشتريها مني لئلا تضيع عندي، ولأجل الحفاظ عليها واعادتها اليّ، مقابل سعادة ابدية وجنة خالدة قد وعد بها وعداً قاطعاً وتعهّد لها عهداً صادقاً.
ولقد استلهمت من هذه الآية الكريمة (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) ان لي رباً عظيماً ذا الجلال والاكرام يفتح صور مئات الالوف من انواع الحيوانات وأصناف النباتات باسمه "الفتّاح" يفتحها من قطرات متشابهة محددة، ومن نوى متماثلة محدودة العدد، يفتحها في منتهى السهولة واليسر وفي غاية السرعة والاتقان، وقد أولى سبحانه وتعالى هذا الانسان اهمية عظيمة تحير العقول - كما ذكرناه آنفاً - حتى جعله مداراً لشؤون ربوبيته الجليلة، وانه سيوجد الحشر ايجاده للربيع المقبل في سهولة ويسر وبقطعية مجيئه وتحققه، وسينعم علينا بالجنة والسعادة الابدية.
نعم! هذا ما تعلمته من هذه الآية الكريمة (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل)، فلو كنت استطيع لتلوتها فعلاً بألسنة جميع المخلوقات، ولكن تلوتها بالنية وبالتصور وبالخيال حيث لااستطيع ذلك فعلاً، بل ارغب في أن اكررها دوماً الى أبد الآبدين.
الشعاع الرابع - ص: 79
المرتبة النورية الحسبية الرابعة
حينما وافقت العوارض المزلزلة لكياني أمثال الشيب والغربة والمرض وكوني مغلوباً على أمري، فترة غفلتي، وكأن وجودي الذي أتعلق به بشدة يذهب الى العدم، بل وجود المخلوقات كلها يفنى وينتهي الى الزوال.. ولّد عندي ذهاب الجميع الى العدم قلقاً شديداً واضطراباً أليماً فراجعت الآية الكريمة ايضاً (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فقالت لي: "تدبّر في معانيّ، وانظر اليها بمنظار الايمان". وانا بدوري نظرت الى معانيها بعين الايمان فرأيت: ان وجودي الذي هو ذرة صغيرة جداً، مرآة ٌ لوجود غير محدود، ووسيلة للظفر بانواع من وجود غير محدود بإنبساط غير متناهٍ.. وهو بمثابة كلمة حكيمة تثمر من انواع الوجود الكثيرة الباقية ما هو اكثر قيمة من وجودي وأعلى منه نفاسة حتى أن لحظة عيش له من حيث انتسابه الايماني ثمين جداً، وله قيمة عالية كقيمة وجودٍ أبدي دائم، فعلمت كل ذلك بعلم اليقين؛ لأنه ادركت بالشعور الايماني ان وجودي هذا أثرٌ من آثار واجب الوجود وصنعةٌ من صنعته وجلوة من جلواته. فنجوت من ظلمات لا حدّ لها تورثها أوهام موحشة، وتخلصت من آلام لاحدّ لها نابعة من افتراقات وفراقات غير متناهية، ودفعتني لأمدّ روابط اخوة وثيقة الى جميع الموجودات ولاسيما الى ذوي الحياة، روابط بعدد الافعال والاسماء الإلهية المتعلقة بالموجودات. وعلمت أن هناك وصالاً دائماً مع جميع ما أحبه من الموجودات من خلال فراق مؤقت.
ومن المعلوم أن الذين تربطهم رابطة القرية الواحدة او المدينة الواحدة او البلد الواحد او الفرقة العسكرية الواحدة او القائد الواحد او الاستاذ المرشد الواحد وأمثالها من الروابط الواحدة يشعرون بأخوة لطيفة وصداقة قوية تربط فيما بينهم، بينما المحرومون من مثل هذه الروابط الواحدة يقاسون دائماً عذاباً مريراً من ظلمات أليمة.
وكذا لو كانت لثمرات شجرة شعور لشعرتْ كلٌ منها أنها اخت الاخرى وبديلتها وصاحبتها وناظرتها، ولكن لو لم تكن شجرة، او اقتطفت تلك الثمرات منها لشعرت كل ثمرة بآلام فراقٍ بعدد الثمرات.
وهكذا ظفر وجودي ايضاً - كأي مؤمن آخر - بالايمان وبالانتساب الذي فيه بأنوار لافراق فيها تشع من انواع من وجود غير متناه، فلو رحل وجودي فإن بقاء تلك الانواع من الوجود عقبه يجعل وجودي راضياً مطمئناً كأنه قد بقي بنفسه كاملاً.
الشعاع الرابع - ص: 80
زد على ذلك ان وجود كل ذي حياة ولاسيما من ذوي الارواح، هو بمثابة كلمة تُقال وتُكتب، ثم تغيب، بعد ان تترك بدلها انواعاً من وجودٍ - تعدّ تالية لوجودها - هي معناها، وهويتها المثالية، وصورتها، ونتائجها، وثوابها - ان كانت كلمة طيبة - وحقيقتها.. وامثالها من انواع الوجود الكثيرة التي تتركها ثم تغيب وتختفي، وقد اثبتنا ذلك تفصيلاً في "المكتوب الرابع والعشرين".
فوجودي ايضاً مثل تلك الكلمة تماماً، وكذا وجود كل ذي حياة. اذا ما رحل عن الوجود الظاهري، فانه يترك روحه - ان كان من ذوي الارواح - ويترك معناه، وحقيقته، ومثاله، ونتائجه الدنيوية لماهيته الشخصية وثمراتها الاخروية، وهويته، وصورته، يترك كل ذلك في القوى الحافظة لذاكرة الناس، وفي الالواح المحفوظة، وفي شرائط افلام المناظر السرمدية، وفي مشاهد العلم الازلي، مودعاً في دفتر اعماله تسبيحاته الفطرية التي تمثله وتمنحه البقاء وتلبيته الفطرية لتجليات الاسماء الإلهية ومقتضياتها، وقيامه بوظيفة المرآة الظاهرة، فعلمت علم اليقين أن الموجود يترك بدلاً من وجوده الظاهري انواعاً كثيرة من وجود معنوي - امثال ما ذكر - هي اسمى وارقى منه ثم يرحل.
وهكذا يمكن ان يكون الانسان مالكاً لهذه الانواع المذكورة من وجود معنوي باقٍ خالد، بالايمان وبما فيه من شعور وانتساب. وانه لولا الايمان لضاع في العبث وذهب الى العدم، فضلاً عن حرمانه من تلك الانواع من الوجود.
كنت أتأسف كثيراً - في وقت ما - على زوال ازاهير الربيع وفنائها بسرعة، حتى كنت أتألم لحال تلك اللطيفات، ولكن الحقيقة الايمانية التي وضحت هنا قد بيّنت ان تلك الازاهير -كما ذكر- هي بذور ونوى في عالم المعنى تثمر كالشجرة والسنبل جميع انواع ذلك الوجود -عدا الروح- كما ذكر؛ فما تغنمه اذن تلك الازاهير من حيث نور الوجود هي مائة ضعف وضعف لما تفقده من وجود، اذ وجودها الظاهري لا يُمحى بل يختفي.. فضلاً عن ان تلك الازاهير هي صور متجددة لحقيقتها النوعية الباقية؛ اذ موجودات الربيع الماضي من اوراق وازاهير وثمرات وامثالها هي امثال ما في هذا الربيع. والفرق هو اعتباري فحسب، ففهمت أن هذا الفرق الاعتباري ايضاً انما هو لإضفاء معاني متعددة ومختلفة على كلمات الحكمة هذه، وعبارات الرحمة
الشعاع الرابع - ص: 81
وحروف القدرة الإلهية هذه. وهذا الفهم دفعني الى ان أردد: ما شاء الله.. بارك الله.. بدلاً من ان تذهب نفسي حسراتٍ على زوال تلك الازاهير.
ولقد شعرت من بعيد بشعور الايمان ببديع السموات والارض وبرابطة الانتساب اليه كم يكون الانسان - لو كان ذا شعور - فخوراً ومكرّماً ، بأنه اثرٌ من آثار ذلك الخالق القدير وانه مصنوع مَن زيّن السموات بمصابيح النجوم وجمّل الارض بالأزاهير وببدائع المخلوقات واظهر مئات المعجزات في كل ما أبدعته قدرته. وكم يكون الانسان مناط قيمة عظيمة وكرامة فائقة بالايمان به والانتساب اليه والشعور به لاسيما اذا ما كتب - ذلك الصانع المعجز المطلق - كتاب السموات والارض، ذلك الكتاب الضخم في نسخة مصغرة وهي الانسان، واذا ما جعل هذا الانسان منتخباً وخلاصة كاملة لذلك الكتاب فانه سيملك ذلك الشرف والكمال والقيمة العالية بالايمان وبالشعور والانتساب.
ولما كنت قد تعلمت هذا الدرس من الآية الكريمة (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فقد تلوتها وانا احمل نية وتصوراً انني اتلوها بلسان الموجودات كلها.

المرتبة النورية الحسبية الخامسة
لقد تصدّعت حياتي حيناً تحت اعباء ثقيلة جداً، حتى لفتت نظري الى العمر، والى الحياة فرأيت أن عمري يجري حثيثاً الى الآخرة.. وان حياتي التي قربت الى الانتهاء قد توجهت نحو الانطفاء تحت المضايقات العديدة، ولكن الوظائف المهمة للحياة ومزاياها الراقية وفوائدها الثمينة المذكورة في الرسالة التي تبحث عن اسم "الحي" لاتليق بهذا الانطفاء السريع، بل تليق بحياة طويلة، مديدة، ففكرت في هذا بكل ألم وأسى، وراجعت استاذي الآية الكريمة (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) فقالت لي: انظر الى الحياة كما يريدها "الحي القيوم" الذي وهب لك الحياة فنظرت اليها بهذا المنظار وشاهدت أنه ان كان للحياة وجه واحد متوجه اليّ انا فان لها مائة وجه متوجه الى "الحي المحيي" وان كانت لها نتيجة واحدة تعود اليّ انا، فان لها الفاً من النتائج تعود الى خالقي؛ لذا فان لحظة واحدة من الحياة، او آناً من الوقت ضمن هذه الجهة كافٍ جداً، فلا حاجة الى زمان طويل.
الشعاع الرابع - ص: 82
ولما كانت هذه الحقيقة قد وضحت بالبراهين في اجزاء رسائل النور، نبيّن خلاصة مختصرة لها في اربع مسائل.
المسألة الاولى:
نظرت الى الحياة من حيث توجّه ماهيتها وحقيقتها الى "الحي القيوم" فرأيت وعلمت:
ان ماهية حياتي هي مخزن مفاتيح كنوز الاسماء الإلهية.. وخريطة مصغرة لنقوشها البديعة.. وفهرس تجلياتها.. ومقياس دقيق وميزان حساس لوزن حقائق الكون الكبرى.. وكلمة حكيمة مكتوبة تَعرف وتُعّرف وتَفهم وتُفهّم الاسماء الجليلة القيمة للحي القيوم. فحقيقة الحياة بهذا النمط تكسب الوفاً من مراتب القيمة والمكانة، بل يجد دوامها ساعة من الزمان اهمية عمر مديد. لذا لاينظر الى طولها وقصرها من حيث علاقتها بالذات الجليلة المنزّهة عن الزمان.
المسألة الثانية:
نظرت الى حقوق الحياة الحقيقية فرأيت:
ان حياتي رسالة ربانية تستقرئ نفسها لأخوتي المخلوقات من ذوات الشعور، وهي موضع مطالعة يعّّرف الخالق الكريم. وهي لوحة اعلان تعلن كمالات خالقي.. وفهمت أن من حقوقها التزّين بشعور تام بما أنعم عليها خالق الحياة - بالحياة - من هدايا قيّمة وخِلعاً نفيسة لعرضها امام نظر السلطان الجليل في العرض اليومي المكرر عرضاً مكللاً بالايمان والشعور والشكر والامتنان.
وكذا من حقوقها ادراك تحيات ذوي الحياة غير المحدودين الذين يصفون بها خالقهم، وفهم هدايا تسبيحاتهم التي يقدّمونها شكراً وحمداً لله، ومشاهدتها والاعلان عنها بالشهادة عليها.
وكذا من حقوقها اظهار محاسن ربوبية "الحي القيوم" بلسان الحال والمقال والعبودية له.. وهكذا فلا تتطلب امثال هذه الحقوق الرفيعة للحياة مدة مديدة، فضلاً عن انها ترفع من قيمة الحياة ودرجتها ألف مرة وهي أعلى وأسمى وافضل بمائة مرة من حقوق دنيوية للحياة.
الشعاع الرابع - ص: 83
واذ علمت هذا علم اليقين قلت: سبحان الله، ما اعظم الايمان! وما اكثره حيوية، ما دخل في شئ الاّ نفخ فيه الحياة، بل ان شعلة منه تحول مثل هذه الحياة الفانية الى حياة باقية دائمة وتزيل ختم الفناء المضروب عليها.
المسألة الثالثة:
نظرت الى الفوائد المعنوية والوظائف الفطرية لحياتي المتوجهة الى خالقي الكريم. فرأيت: أن حياتي تؤدي وظيفة المرآة لخالق الحياة بثلاثة وجوه:
الوجه الاول: ان حياتي بضعفها وعجزها وفقرها واحتياجها، تؤدي مهمة مرآة عاكسة لقدرة خالق الحياة وقوته وغناه ورحمته. اذ كما تُعلم درجات لذة الطعام بمقدار الجوع، وتُعلم مراتب الضوء بمراتب الظلام، وتُعلم درجات الحرارة بمقياس البرودة. كذلك عرفتُ بالعجز والفقر غير المحدودين الكامنين في حياتي القدرة المطلقة لخالقي ورحمته الواسعة من حيث ازالة حاجاتي التي لاتنتهي ودفع اعدائي الذين لايعدون،. فعلمت وظيفة العبودية وتزودت بالسؤال والدعاء والالتجاء والتذلل.
الوجه الثاني: هو قيام معاني العلم والارادة والسمع والبصر وامثالها من الاوصاف الجزئية في حياتي، قيامها بوظيفة مرآة عاكسة لصفات كلية محيطة وشؤون جليلة لخالقي الكريم.
نعم ! لقد علمت بجزئيات صفات كالعلم والسمع والبصر والكلام والارادة التي تتصف بها حياتي الخاصة وافعالي التي اؤديها بشعور، علمت بها - بنسبة صغري الى عظم الكون - الصفات الكلية المحيطة لخالقي مِن علم وارادة وسمع وبصر وحياة وقدرة وفهمت بها كذلك شؤونه الجليلة امثال المحبة والغضب والرأفة والشفقة فآمنت بتلك الصفات والشؤون الجليلة وصدّقت بها وشهدت عليها ووجدت منها طريقاً آخر الى معرفة الله.
الوجه الثالث: هو قيام حياتي بوظيفة المرآة للاسماء الإلهية التي تتجلى عليها نقوشها.
نعم! كلما نظرت الى حياتي والى جسمي لمست مئات الانماط من آثار المعجزات والنقوش والابداع فضلاً عن مشاهدتي بأني أُربّى تربية في منتهى الشفقة والرحمة
الشعاع الرابع - ص: 84
فعرفت بنور الايمان ان الذي خلقني ويديم حياتي هو في منتهى السخاء والرحمة واللطف وفي غاية القدرة والابداع. وعرفت ماذا يعني التسبيح والتقديس والحمد والشكر والتكبير والتعظيم والتوحيد والتهليل وامثالها من وظائف الفطرة وغاية الخلقة ونتائج الحياة.
فعلمت بعلم اليقين سبب كون الحياة ارقى مخلوق في الكون، وسرّ كون كل شئ مسخراً للحياة، وحكمة وجود شوق فطري لدى الجميع نحو الحياة، وأن روح الحياة انما هو الايمان.
المسألة الرابعة:
ترى ما اللذة الحقيقية لحياتي الدنيوية هذه، وماسعادتها؟ راجعت الآية الكريمة ايضاً (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) لأجد الجواب؛ فرأيت وفهمت منها:
ان اصفى لذة وانقى سعادة لحياتي هذه، انما هو في الايمان. اي: الايمان الجازم بأني مخلوق من خلقني ورباني، فأنا مصنوعه وعبده وتحت رعايته وعنايته ومحتاج اليه كل حين، وهو ربي وإلهي وهو الرحيم والرؤوف بي.
فايماني هذا لذة مابعدها لذة، لذةٌ كافية وافية دائمة وسعادة خالصة نقية لايعكرها ألم.ففهمت من تلك الآية الكريمةكم يكون اذن عبارة "الحمد لله على نعمة الايمان" عبارة جديرة ولائقة.
وهكذا وضحت هذه المسائل الاربع التي تخص حقيقة الحياة وحقوقها ووظائفها ولذتها المعنوية :
ان الحياة كلما توجهت الى "الحي القيوم الباقي" وكان الايمان حياةً وروحاً ممّداً لها، اكتسبت البقاء، بل اعطت ثماراً باقية، بل رقت وعلت الى درجة الحظوة بتجلي السرمدية. وعندها لايُنظر الى قصر العمر وطوله.
نعم هكذا فهمت من الآية الكريمة، وتلقيت درسي منها وتلوت (حَسبُنا الله ونِعمَ الوَكيل) نية وتصوراً وخيالاً باسم جميع انواع الحياة وذوي الحياة.
الشعاع الرابع - ص: 85
المرتبة النورية الحسبية السادسة
من خلال الشيب الذي يذكّر بفراقي الخاص، ومن خلال تلك الفراقات العامة الشاملة التي تنبئ عن حوادث قيام الساعة ودمار الدنيا، ومن خلال الانكشاف الواسع فوق العادة في اوآخر عمري لأحاسيس الجمال والعشق له والافتتان بالكمالات المغروزة في فطرتي.. من خلال كل هذا:
رأيت ان الزوال والفناء اللذين يدمران دائماً، وان الموت والعدم اللذين يفرّقان باستمرار، رأيتهما يفسدان بشكل مرعب ومخيف، جمال هذه الدنيا الرائعة الجمال ويشوهانه بتحطيمهما لها، ويُتلفان لطافة هذه المخلوقات.. فتألمّت من اعماقي بالغ التألم لما رأيت. ففار ما في فطرتي من عشق مجازي فوراناً شديداً وبدأ يتاجج بالرفض والعصيان امام هذه الحالة المفجعة، فلم يك لي منها بد الاّ مراجعة الآية الكريمة ايضاً لأجد المتنفس والسلوان، فقالت: "إقرأني جيداً، أنعم النظر في معانيَّ" وأنا بدوري دخلت الى مركز الارصاد لسورة النور لآية (الله نور السموات والارض....) فنظرت من هناك "بمنظار" الايمان الى أبعد طبقات الآية الحسبية، وفي الوقت نفسه نظرت "بمجهر" الشعور الايماني الى أدق اسرارها... فرأيت انه مثلما تُظهر المرايا والزجاج والمواد الشفافة وحتى زبد البحر وحبابه الجمال المخفي المتنوع لضوء الشمس، ومختلف جمال الألوان السبعة لضوئها، وبتجددها وبتحركها وقابليتها المختلفة وانكساراتها المتنوعة تجدد الجمال المتستر للشمس ولضوئها ولألوانها السبعة، فكذلك الامر في هذه المصنوعات الجميلة وهذه المخلوقات اللطيفة والموجودات الجميلة لاتلبث أن تذهب دون توقف لتقوم مقام مرايا عاكسة للجميل ذي الجلال الذي هو "نور الأزل والابد" مجدّدة بذلك تجليات جماله المقدس وتجليات الجمال السرمدي لأسمائه الحسنى جل وعلا. فالجمال الظاهر في هذه المخلوقات والحسن البارز فيها اذن ليس هو ملك ذاتها، وانما هو اشارات الى ذلك الجمال المقدس السرمدي الذي يريد الظهور، وعلامات ولمعات لذلك الحسن المجرد الدائم التجلي والجمال المنزّه الذي يريد المشاهدة والاشهاد. وقد وضحّت هذا مفصلاً في "رسائل النور" بدلائله القاطعة وببراهينه الدامغة لذا سنشير هنا الى ثلاثة براهين منها فقط اشارة قصيرة.
الشعاع الرابع - ص: 86
البرهان الاول:
ان جمال اثر مصنوع يدل دلالة قاطعة على جمال صُنعه، وان جمال الصنع واتقانه هذا يدل على جمال عنوان صانعه الناشئ من تلك الصنعة، وان جمال عنوان الصانع المتقن يدل على جمال صفة ذلك الصانع التي تعود الى تلك الصنعة، وان جمال صفته هذه يدل على جمال قابليته واستعداده، وان جمال قابليته يدل على جمال ذاته وجمال حقيقته.
فكما ان هذه الدلالات قاطعة وبدهية، كذلك الحسن والجمال الظاهر في المخلوقات الجميلة، في هذا العالم كله، والصنع البديع المشاهد في المصنوعات الجميلة كلها يشهد شهادة قاطعة على حسن أفعال الصانع الجليل وجمالها. وان الحسن في افعاله - تعالى - وجمالها يدل بلا ريب على حسن العناوين المشرفة على تلك الافعال وجمالها، اي على حسن الاسماء وجمالها. وان حسن الاسماء وجمالها يشهد شهادة قاطعة على حسن الصفات المقدسة وجمالها، التي هي منشأ تلك الاسماء. وان حسن الصفات وجمالها يشهد شهادة قاطعة على حسن الشؤون الذاتية وجمالها، التي هي مبدأ تلك الصفات. وان حسن الشؤون الذاتية وجمالها يدل بالبداهة ويشهد شهادة قاطعة على حسن "الذات" وجماله، الذي هو الفاعل والمسمّى والموصوف، ويدل على الكمال المقدس لماهيته والجمال المنزّه لحقيقته. بمعنى ان للصانع الجميل جمالاً وحُسناً لاحدّ له يليق بذاته المقدسة، بحيث أن ظلاً من ظلاله قد جمّل هذه الموجودات كلها. وأن له سبحانه جمالاً منزّهاً مقدساً بحيث أن جلوة من جلواته قد أضفت الجمال على الكون كله، ونورت دائرة الممكنات كلها بلمعات حسن وجمال وزينتها بأبهى زينة.
نعم، ان الاثر المصنوع كما لايمكن أن يكون بلا فعل، فالفعل كذلك لايمكن أن يكون بلا فاعل، وكما أنه محال أن تكون اسماء بلا مسميات كذلك محال أن تكون الصفات بلا موصوف.
فما دام وجود مصنوع ٍ واثر ٍ يدل بالبداهة على فعلِ فاعل ذلك الاثر، وان وجود ذلك الفعل يدل على وجود فاعله وعلى عنوانه وعلى صفاته التي انتجت ذلك الاثر
الشعاع الرابع - ص: 87
وعلى اسمه، فلاشك ان كمال اثرٍ ما وجماله ايضاً، يدل على كمال الفعل وجماله الخاصّين به، وهذا يدل على جمال الاسم الذي يليق به، وهذا يدل على كمال الذات والحقيقة وجمالها بما يليق ويوافق الذات والحقيقة دلالة قاطعة بعلم اليقين وبالبداهة.
وكذلك الامر في الفعالية الدائمة التي تستشف من خلال حجب هذه الآثار البديعة،فكما انها محال أن تكون بلا فاعل،كذلك جلوات الاسماء التي تشاهد نقوشها على هذه المصنوعات محال أن تكون بلا مسمّى، وكذا القدرة والارادة وأمثالها من الصفات الجليلة التي تُحس احساساً قاطعاً كانك تراها محال أن تكون بلا موصوف.
لذا فان جميع الاثار والمخلوقات والمصنوعات في هذا الكون كله تدل بوجودها غير المحدود دلالة قاطعة على وجود افعال خالقها وصانعها وفاعلها وعلى وجود اسمائه وعلى وجود اوصافه وعلى وجود شؤونه الذاتية وعلى وجوب وجود ذاته المقدسة جل جلاله.
كذلك فان مايشاهد على جميع المصنوعات من انواع الكمال المتنوعة واضراب الجمال المختلفة والوان الحسن المتغايرة يدل دلالة في غاية القطعية ويشهد شهادة في منتهى الصراحة على كمالات لاحد لها ومحاسن لانهاية لها في افعال الصانع الجليل وفي أسمائه وفي صفاته وفي شؤونه وفي ذاته المقدسة، بما يلائم ويوافق قدسيته ووجوبه وتعاليه ويدل كذلك على جمال متنوع عال سام هو أرفع من الكون طراً.

البرهان الثاني: فيه خمس نقط:
النقطة الاولى:
ان أئمة اهل الحقيقة كلهم - مع الاختلاف في مشاربهم والبعد في مسالكهم - يعتقدون مستندين الى الذوق والكشف ويقررون بالاجماع والاتفاق: ان الحسن والجمال الموجود في الموجودات كلها انما هو ظل جمالٍ مقدس لواجب الوجود وحسنه المنزّه، وانما هو لمعاته وجلواته من وراء حجب واستار.
الشعاع الرابع - ص: 88
النقطة الثانية:
ان جميع المخلوقات الجميلة تأتي الى هذا العالم قافلة اثر اخرى ثم تغادره وتغيب في افق الفناء، ولكن الجمال السامي المنزّه عن التبدل، والذي يظهر نفسه بتجليه على تلك المرايا يبقى ويدوم، مما يدل دلالة قاطعة على أن ذلك الجمال ليس ملك تلك الجميلات ولاجمال تلك المرايا، بل هو أشعة جمال سرمدي، كما يدل دوام جمال اشعة الشمس على حباب الماء الجاري على جمالها الدائم.
النقطة الثالثة:
ان مجئ النور من النوراني، والوجود من الموجود، والاحسان من الغنى، والسخاء من الثروة، والتعليم من العلم امور بدهية، كذلك من البدهي ان منح الحسن ايضاً هو من الحسن واضفاء الجمال لايكون الاّ من الجميل.
فبناء على هذه الحقيقة نعتقد ونقول:
ان جميع انواع الجمال المشاهدة على الكائنات كلها، تأتي من جميل لامنتهى لجماله بحيث أن هذه الكائنات المتبدلة دوماً والمتجددة باستمرار تصف جمال ذلك الجميل وتعرّفه، بجميع موجوداتها وبألسنة ادائها لوظيفة مرآة عاكسة لذلك ـ.
النقطة الرابعة:
كما أن الجسد يستند الى الروح ويقوم بها وتُبعث فيه الحياة بها، واللفظ يتنور على وفق المعنى، والصورة تستند الى حقيقة وتتزود منها قيمتها. كذلك هذا العالم، عالم الشهادة المادي الجسماني انما هو جسد، ولفظ، وصورة، يستند الى الاسماء الإلهية المحتجبة وراء ستار عالم الغيب، فهو يحيا بتلك الاسماء التي تبعث فيه الحيوية، ويتوجه اليها، فيزداد جمالاً وبهاءً.
فجميع انواع الجمال المادي نابع من جمال معنوي لمعانيها، ومن حسن معنوي لحقائقها. أما حقائقها فتستفيض من الاسماء الإلهية، وهي نوع من ظلال تلك الاسماء.
هذه الحقيقة اثبتت في رسائل النور اثباتاً قاطعاً.
الشعاع الرابع - ص: 89
بمعنى أن جميع انواع الجمال الموجود في هذا الكون وجميع انماطه وألوانه، انما هو تجليات واشارات وامارات جمال مقدس عن القصور ومجرّد عن المادة تتجلى من وراء عالم الغيب بوساطة اسماء . ولكن كما ان الذات الإلهية المقدسة لاتشبه ابداً اية ذات اخرى، وان صفاته تعالى جليلة منزّهة كلياً عن صفات الممكنات.كذلك جماله المقدس ايضاً لايشبه جمال الممكنات وليس كحسن المخلوقات قطعاً. بل هو جمال سام عال رفيع منزّه مقدس مطلق.
نعم! ان كانت الجنة الباهرة، الرائعة مع جميع مظاهر حسنها وروعتها هي تجلٍ من تجليات جماله سبحانه وان رؤية اهل الجنة جماله تعالى لساعة من زمان يُنسيهم حتى تلك الجنة الجميلة، فلاشك ان هذا الجمال السرمدي لانهاية له، ولاشبيه له، ولانظير له، ولامثيل له قطعاً.
ومن المعلوم أن حُسن كل شئ يلائمه ويكون على وفقه، وانه يوجد بالوف الانماط من الجمال والالوان فيختلف بعضها عن بعض، كاختلاف الانواع في المخلوقات.
فمثلاً: الجمال الذي يحسّ بالعين لايشبه حتماً حسناً تحسه الاذن، وان حسناً عقلياً يدرك بالعقل لايشبه حسن الطعام الذي يحس بالفم ويتذوقه، كذلك الجمال الذي يستحسنه ويشعر به القلب والروح وسائر الحواس الظاهرة والباطنة، هذا الجمال مختلف كذلك كأختلاف تلك اللطائف والحواس.
ومثلاً: جمال الايمان وجمال الحقيقة وحُسن النور وحُسن الزهرة، وجمال الروح وجمال الصورة وجمال الشفقة وجمال العدالة وحسن الرحمة وحسن الحكمة.. كل نوع من انواع هذا الجمال مختلف عن الآخر. كذلك جمال الاسماء الحسنى لجميل ذي جلال، هذا الجمال الذي هو جمال مطلق يختلف بعضه عن بعض، لذلك اختلفت انواع الحسن والجمال في الموجودات لأجله.
فان شئت ان تشاهد جلوة من انواع حسن اسماء الجميل ذي الجلال المتجلية على مرايا الموجودات، فانظر بعين خيالية واسعة الى سطح الارض لتراه كحديقة صغيرة امامك واعلم ان الرحمانية والرحيمية والحكيمية والعادلية وامثالها من التعابير، انما هي اشارات الى اسماء الله تعالى والى افعاله والى صفاته والى شؤونه الجليلة.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس