عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - زهرة


المثنوي العربي النوري - ص: 278
اعلم! يامن يعتمد على نفسه وعلى الاسباب وعلى الدنيا! انك حينئذٍ تصير كالذباب ذي النُجيم يترك النهار بشمسه، ويعتمد على نُجيم نفسه وتلمّعه في الليل.. ومثلك كمثل نفر عسكر يتصور أن سلطانه يعمّ احسانه وانفاقه، حتى ادنى نفر وحيوان؛ ثم يقول في نفسه اين انا؟ واين نظرهُ الخاص وعنايته الخصوصية من بين مالايتناهى من المنعَم عليهم، مع ان قلبي محتاج لحبيب وشفيق خاص يعينني على حسياتي ويصاحبني. فالاولى ان اتخذ من دونه ولياً ومرجعاً، ثم يتحرى في خارج نظام العسكر روابط ومعاملات حتى يصير عاصياً، فيُطرد ويُحبس "كالفاسق المحروم". ويقال له: ألم تعلم ايها المسكين ان خزينة الملكِ تكفي لكل حاجتك وحاجات سائر الافراد المرتزقين؟. واما ما في يدك ويد اربابك فلا يكفي لأدنى حاجتك، اذ انت بين اعداء لاتُعد وآمال لاتُحد. وان قانون الملك لتجرده عن الماديات لايُشغل - ذلك القانون - نفرٌ عن نفر، بل يتوجه بتمامه لأي فردٍ كان. ولو كنتَ وحدكَ في السلك العسكري لما تفاوتَت المعاملة. فكأن السلطان ينظر اليك خاصةً دائماً في منظار قانونه، ويراك بأبصار ملتزمي قانونه، لاسيما اذا لم يكن السلطان مادياً كقانونه المجرد، فلا يغفل عنك حينئذٍ ولو طرفة عين. ففي عموم احسانه نظرٌ خصوصي اليك، بدليل انطباق الاحسان على الحوائج التي تخصك بذاتها، او تخصك بكيفياتها. ومفتاح هذا السر هو: ان الاحدية تتلمع في خلال وُسعة الواحدية، كتلمع عين الشمس في خلال الضياء المحيط حتى في كل ما مسه الضياء من الذرات الشفافة وكتلمع النظام التام في خلال المشوشية الظاهرية الناشئة من اشتباك اشتات الاشياء.
والحاصل: ان فاطرك ومالكك ارحمُ واكرمُ وألطفُ وأرأفُ بك من كل قريبٍ وحبيبٍ ورفيقٍ وشفيقٍ وهو العليمُ بك وباسرارك، وهو القديرُ على اعظمِ مطالبك وعلى اخفاها. فاترك الكلَّ وتوكل عليه..
اعلم! 1 ان كتاب الكائنات الذي هو "كتابُ القُدرة" مكتوبٌ على مِسطرِ "الكتاب المبين" الذي هو "كتاب العلم" بشهادة ان هذا النظام والميزان المشهودَين المحيطين بابان بعينهما من هذين الكتابين، ورابطة اتصالهما، وبرزخٌ بينهما، وعنوانان
_____________________
1 في المكتوب العاشر وفي حاشية المقصد الثاني من الكلمة الثلاثين يميّز الاستاذ النورسى بين الكتاب المبين والامام المبين.



المثنوي العربي النوري - ص: 279
لقبضتي الرحمن: ولا رَطبٍ ولايابسٍ الاّ وهما داخلانِ من باب هذين البابين في الكتاب المبين. ولأجل انه لاخارج في الكون والوجود من البابين بالمشاهدة، فكل شئ داخل في ذلك الكتاب.
واما القرآن المبين الذي هو كتاب "صفة الكلام" فهو ترجمان الكتابين الغيبيّ والشهودي، القُدرتي والعلمي. وفهرستةُ البابين وفذلكة القبضتين.
ومن دساتير هذه الكتب الثلاثة الآتية من الصفات الثلاث التي هي "العلم والقدرة والكلام"؛ أنّ كلَّ حي بل كلَّ شئٍ كعسكرٍ موظفٍ وكعبدٍ مأمورٍ، انما يعمل بحساب الملِكِ المالكِ له، لابحساب نفسه ومالكيتها، ولا لِذاته وللذته، بل انما لذّته في ذات وظيفته. ومن زَعمَ انه مالكٌ فهو هالكٌ ومَن تملّك تهتّك.
اعلم! ان السموات مصنوعة من غير فطور ترونها. فصانعها اعزُّ واجلُّ واكبرُ واعظمُ من ان يتعسَّر عليه ايجادُ كل جزئيات كلِّ ما في جوفها، ومن ان يخرُج من ملكه شئٌ ما من الاشياء.. فلأجل الاشتباك التام بين جزئيات الانواع لابد ان يكون خالقُ نوعٍ واحد كالسمك والذباب مثلا، خالقُ كل الانواعِ. فله المُلكُ وله الحمد وله الخلقُ وله الامرُ وله الحُكمُ لا إله الاّ هو..
اعلم! 1 ان النبي صلى الله عليه وسلم ونبوتَه فذلكةُ الكمال والخير، وان مسلكه والدين فهرستة السعادة والحُسن المجرد. وقد نرى في العالم كمالاً فائقاً وحقاً ناطقاً، وخيراً شاهقاً وحُسناً شارقاً، فبالضرورة يكون الحقُ والحقيقة في جانب النبي، والضلالةُ والوهم والعدم في خلافه. فإن شئت فانظر من الوف الوف محاسن العبودية التي جاء بها النبيُّ الى هذا الواحد: وهو توحيد قلوب الموحدين وجمعُ ألسنتهم في امثال صلاة العيد والجمعة والجماعة، بحيث يقابل هذا الانسانُ عظمة خطاب المعبود الازلي بجميع اصوات القلوب وادعيتها واذكارها، بتظاهرٍ وتظافرٍ في اتفاقٍ وتساندٍ وتجاوب في وسعةٍ كأن هذه الارض تنطقُ هي بنفسها، وتصلي باقطارها وتمتثل باطرافها أمر: "اقيموا الصلاة" النازل بالعزّة والعظمة من فوق السموات السبع، حتى صار هذا الانسان المخلوق الضعيف - مع صغره وكونه كذرة بين هذه العوالم - عبداً محبوباً لخالق الارض والسموات وخليفة الارض، ورئيس الحيوانات،
_____________________
1 تراجع المذكرة التاسعة.



المثنوي العربي النوري - ص: 280
وغاية خِلقةِ الكائنات. الا ترى ان لو اجتمع في الشهادة كما في الغيب اصواتُ المكبرين البالغين مئات الملايين في آن واحد بـ"الله اكبر" في صلاة العيد وادبار الصلوات تساوي تكبير كرة الارض لو كبّرت، فكأن الارض في العيد تتزلزل زلزالها فتكبّر الله باقطارها واوتادها، وتتكلم من صميم قلب قِبلَتِها، بفم مكَّتِها بـ"الله اكبر" فتتموج كلمتُها متمثلةً في هواء كهوف افواه المؤمنين المنتشرين في اطرافها، بل - وكذا - في اطراف البرزخ والسموات جل جلالُ مَن خَلَقها ومَهَّدها وجعلها مسجداً لعباده سبحانه..
اعلم! 1 يامن يحب ان ينظر ويصل الى نور معرفة الحق سبحانه من مسامات الدلائل والبراهين ومن مرايا الآيات والشواهد، لاتتجسّس باصابع التنقيد ماجرى عليك، ولاتنقد بيد التردد ماهبّ اليك، ولاتمدنّ يدَك لأخذ نورٍ اضاء لك. بل تجرّد وتعرّض وتوجّه.. فاني قد شاهدت من انواع الشواهد والبراهين ثلاثة:
قسم منها كالماء يُرى ويُحسّ، ولكن لايُستمسك بالاصابع، فتجرد عن خيالاتك وانغمس فيه بكليتك، ولاتتجسسّ باصبع التنقيد، فأنه يسيل ولايرضى بالاصبع محلا.
وقسم منها كالهواء يُحسّ ولكن لايُرى ولايُتخذ.. فتعرّض بوجهك وفمك وروحك لنفحات رياح الرحمة، ولاتقابلها بيد الاخذ والتنقيد والتردد بدل تنفسِ الفم وتروّح الروح، فانه يزول، وهو منطلقٌ ولايرضى باليد منزلاً.
وقسم منها كالنور يُرى ولكن لايُحس ولايُؤخذ؛ فتوجّه ببصرِ بصيرتك مقابلاً له بقلبك، فان النور لايؤخذ ولايُصاد الا بالنور، ولاتمدّ يداً ماديةً حريصة، ولاتزنه بميزان الماديات فانه يختفى، وان لم ينطفى. ولايرضى بالماديّ حَبساً وقيداً وبالكثيف مالكاً وسيداً..
اعلم! 2 وانظر الى درجة رحمة القرآن وشفقته على جمهور العوام ومراعاته لبساطة افكارهم كيف يكرر ويُكثر الآيات الواضحة المسطورة في جباه السموات والارض فيُقرؤهم الحروفات الكبيرة الظاهرة التي تُقرأ بكمال السهولة بلا شبهة
_____________________
1 تراجع المذكرة العاشرة.
2 تراجع المذكرة الحادية عشرة.




المثنوي العربي النوري - ص: 281
كخلق السموات والارض، وانزال الماء من السماء، واحياء الارض وامثالها. ولا يوجّه الانظار الى الحروف الدقيقة المكتوبة في الحروف الكبيرة الاّ نادراً. ثم انظر الى جزالة بيان القرآن كيف يتلو على الانسان ما كتبَتْه القدرةُ في صحائف الكائنات ، حتى كأن القرآن قراءة للكائنات ونظاماتها وتلاوة لشؤون مكونها وافاعيله. فان شئت فاستمع بقلب شهيد امثال سورة "عمَّ" وآية (قُل اللّهُمَّ مالِكَ المُلك) 1 وامثالهما..
اعلم! 2 اني قد اكتب تضرع قلبي الى ربي - مع ان من شأنه ان يُستَرَ ولايُسطر - رجاءً من رحمته تعالى ان يقبل نطق كتابي، بدلا عني اذا اسكت الموت لساني "ومنه هذه المناجاة":
ياربي الرحيم ويا الهي الكريم!.
قد ضاع بسوء اختياري عمري وشبابي وما بقي من ثمراتهما الاّ آثام مؤلمة مذلة، وآلام مضرة مضلة، ووساوس مزعجة معجزة. وانا بهذا الحمل الثقيل والقلب العليل والوجه الخجيل متقرب بالمشاهدة بكمال السرعة بلا انحراف وبلا اختيار كآبائي واحبابي واقاربي واقراني الى باب القبر، بيت الوحدة والانفراد في طريق ابد الآباد للفراق الابدي من هذه الدار الفانية الهالكة باليقين، والآفلة الراحلة بالمشاهدة، ولاسيما الغدارة المكارة لمثلي ذي النفس الامارة.
فياربي الرحيم، وياربي الكريم!.
اراني عن قريب قد لبست كفني وركبت تابوتي وودعت احبابي وتوجهت الى باب قبري، فانادي في باب رحمتك:
الامان الامان ياحنان يامنان نجني من خجالة العصيان.
آه كفني على عنقي، وانا قائم عند رأس قبري، ارفع رأسي الى باب رحمتك انادي:
الامان الامان يارحمن ياحنان خلصني من ثقل حمل العصيان.
_____________________
1 آل عمران : 26
2 تراجع المذكرة الثانية عشرة.




المثنوي العربي النوري - ص: 282
آه انا ملتف بكفني وساكن في قبري وتركني المشيعون، وانا منتظر لعفوك ورحمتك.. ومشاهد بان لاملجأ ولامنجأ الا اليك وانادي:
الامان الامان من ضيق المكان ومن وحشة العصيان ومن قبح وجه الآثام، يا رحمــن يا حنان يامنان يا ديان نجني من رفاقة الذنوب والعصيان..
الـــهي !.. رحمتك ملجئي ووسيلتي، واليك ارفع بثي وحزني وشكايتي..
ياخالقي الكريم، وياربي الرحيم، وياسيدي، يامولاي!
مخلوقك ومصنوعك وعبدك العاصي العاجز الغافل الجاهل العليل الذليل المسيئ المسن الشقي الآبق قد عاد بعد اربعين سنة الى بابك ملتجأ الى رحمتك، معترفاً بالذنوب والخطيئات، مبتلى بالاوهام والاسقام، متضرعاً اليك. فان تقبل وتغفر وترحم فانت لذاك اهل وانت ارحم الراحمين . والا فأي باب يقصد غير بابك، وانت الرب المقصود والحق المعبود. ولا اله الا انت وحدك لاشريك لك..
آخر الكلام:
اشهد ان لاَ إله الاّ الله واشهد ان محمّداً رسول الله


المثنوي العربي النوري - ص: 283
ذيل الزهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمته بانزال القران، وعلى رحمته بارسال سيد الانام، عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
اعلم! ان الفاطر الحكيم جل جلاله جعل النباتات والحيوانات - لا سيما صغارهما - من اوسع ميادين تصرفات قدرته، ومن اكثر مظاهر تجليات صفاته، ومن اغلب مرايا جلوات اسمائه؛ لأسرارٍ غالية وحكمٍ عالية: منها: ان النبات كالنواتات للارض، وان الحيوان ثمرةُ العالم. والنواة انموذج مصغّر للشجرة، والثمرة مثال مصغر لها. فكل ما يتجلى عليها يتجلى عليهما ايضاً.
فما دام ان غايات الخلقة والحياة هي المظهرية لتجليات اسماء ذي الجلال والجمال والكمال المطلق، تكون العناية بتكثير جزئيات النبات والحيوان، لاسيما دقائقهما هي الأوفق للحكمة الأزلية.


المثنوي العربي النوري - ص: 284
روي ان موسى عليه السلام اشتكى الى الله من كثرة البعوضات الهاجمة عليه، وسأل: "ما الحكمة في تكثيرها؟ فأوحى اليه: ان البعوض يسأل: لِمَ خلقت هذا الانسان بهذه الجسامة، وهو يغفل عنك؟ ولو خلقت رأسه بعوضاتٍ لبلغت مائة الف مسبحين بحمدك في عالمهم، وذاكرين لك بين اخوانهم، مظهرين لجلوات اسمائك ونقوش صنعتك بلسان قالهم وحالهم".
نعم! ان القرآن المعنوي المكتوب بمداد النجوم على صحائف طبقات السموات، إذا قرأ على الانظار آيات العظمة والجبروت التكوينية، يقرأ معه - رأساً برأس - القرآنُ المكتوب بمداد الجواهر الفردة على جزء لا بتجزأ في حجيرة عينك: آيات العلم والحكمة.
فاذا سمعت من ذاك: سبحانه ما أعظم شأنه! سمعت من هذا ايضاً: سبحانه ما ادق حكمته وما ألطف صنعته! فاذ تساوى القرآنان، واقتضت الحكمة تكثير نسخ احدهما - وتكثير نسخ الكبير لا يفيد الناظرين - فلا بد من تكثير نسخ الصغير للمطالعين المتفكرين الغير المحدودين، من المَلَك والجن والانس وغيرهم. وفي تكثير النسخ لايبقى الكتاب كتاباً واحداً، بل تتنوع الكتب وتتفاوت الفوائد وتتعدد المفاهيم، فتتلاحق الامثالُ فيتزايد الحُسن والجزالة. ولولا ادراج كثير من سور الكتاب الصغير ونُسَخه في بعض حروفات القرآن الكبير لفاق الصغير على الكبير بدرجة صغره!. ومنها ايضاً: ان اتم التجليات؛ تجلي الاحدية. واكمل الصنعة؛ ادراج الاكبر بتمام نقوشه في الأصغر. وان الثمرة والنواة بالنسبة الى النبات، وان النبات والحيوان بالنسبة الى الارض، وان الانسان والنبي بالنسبة الى العالم. وان القلب والسر بالنسبة الى الانسان.. انموذج مختصٌر جامع مظهر لجميع الاسماء المتجلية على الاصل والكل والمحيط.
وان الثمرة - مثلاً - كما انها "جزء" من الشجرة وهي "كلّها"، فتشير من هذه الجهة الى الواحدية.. كذلك "كالجزئي" لها تشتمل على تمام الشجرة وهي "كلّيها" فترمز بهذه الجهة الى الأحدية.. فالواحدية شاهدة الوحدة عند تجلي الاحدية في مرايا الكثرة والجزئيات.


المثنوي العربي النوري - ص: 285
مثلا (ولله المثل الاعلى) ان الضياء المحيط في النهار مثال الواحدية، وتمثال الشمس في كل ذرة شفافة وقطرةٍ وحوضٍ وبحرٍ ونجوم سيارة مثال لتجلي الاحدية.
فاذا رأيت الشمس في مرآتك بلون مرآتك، وبما تقتضيه وضعيتّها، ثم رأيتها في مرايا اخرى،فتنظر الى الضياء، فيشهد لك بالوحدة، وان لا كثرة في المتجلي، كما تتوهم. وتنشد الكثرة والمرايا:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكلٌ الى ذاك الجمال يشير
فيُتحدس من هذه الاسرار، ان الفاطر الحكيم جلّت حكمته، ودقّت صنعته متوجهٌ بألطف قدرته وأتمّ عنايته وأكمل رحمته وأدق حكمته من العالم الى الارض، ومنها الى ذوى الحياة، ومنهم الى الانسان، ومن فرد الانسان الى قلبه، ومن نوع الانسان الى ما هو قلبُ النوع وقلبُ العالم ونواتُه التي خُلق العالمُ عليها، وثمرتُه المنوّرة التي انتهى اليها مخلوقاً لأجلها، وتمثال محبة فاطر العالم، ومثال رحمته.. وما ذلك القلب العالي الغالي المطهّر المنزّه الاّ سيدنا وسيد الأنام محمد عليه صلوات وتسليمات بعدد ثمرات شجرة العالم.
اعلم! يا من يتوهم الاسراف والعبثية في بعض الموجودات! ان كمال النظام والميزان في انشاء كل موجودٍ يطرد هذا الوهم إذ النظامُ خيط نُظم فيه الغايات المترتبة على الاجزاء الجزئية والتفاصيل الفرعية. ومن المحال ان يراعي احدٌ كلّ غايات تفاصيل قصرٍ - بدلالة انتظام بنائه - ويترك غاية المجموع، التي بها تصير الغايات الجزئية غاياتٍ.
فان شئت التحقيق فاستمع يا من له قلب شهيد وسمع حديد!: ان لكل شئ غايات دقيقة كثيرة تعود منها الى الحي القيوم المالك بمقدار مالكيته وتصرفه بمظهرية الشئ لانواع تجليات اسمائه، وما تعود الى الحي الاّ بدرجة تلبّسه الجزئي.
وان كل شئ من الاشياء يصير هدفاً مشتركاً بين ذوي العقول، فلا يصير عبثاً اصلا؛ اذ إذا لم يطالعه هذا هنا الآن، طالعه هؤلاء، ومع ان وجوه استفادة كل أحدٍ من كل شئ في غاية الكثرة، وان جنود الله لا تحصى
(وَمَا يعلمُ جنودَ رَبّك إلاّ هو) 1. فلا شئ في الكون الاّ ويتزاحمُ عليه - بلا مزاحمةٍ - انظارُ مَن لا يحصى
_____________________
1 المدثر : 31



المثنوي العربي النوري - ص: 286
من الملائكة المسبّحين المقدّسين باجناسهم وانواعهم المالئين للكون، ومن الجان المتحيرين المتفكرين باقسامهم واصنافهم، ومن الارواح المكبّرين المهللين بطوائفهم، وقبائلهم وغيرهم ممن لا يمنعهم كثيفات الاشياء عن رؤية ما في اجوافها، ولا يشغلهم شهودُ شئ عن شئ، وفوق الكل رؤية صانع الكل لصنعته.. وكذا كثير من الناس المؤمنين المتنبهين، بل وكذا الحيوانات المتحسسات المتأثرات بحواسهم.
فان قلت: أية آيات كتاب الكائنات تدل على وجود معتبرين و متحيرين و متفكّرين ومسبحّين من غير الانسان؟ واي سطرٍ من ذلك الكتاب يشير اليه؟.
قيل لك: آية النظام في سطر الميزان من صحيفة الحكمة.
الا ترى انك اذا ذهبت الى دار تمثيل - مثلا - فرأيت في تلك الدار انواعاً كثيرة من الغرائب التي تتحير فيها الانظارُ، واصنافاً من الملاهى التي تستحسنها الاسماعُ، واقساماً متنوعة من السحر والشعبذة التي تتلذذ بها العقول والخيال. وهكذا من كل ما يتلذذ به مالا يحد من لطائف الإنسان وحواسه وحسياته، ثم نظرت في ساحة محل التمثيل، فما رأيت الاّ صبياناً صماً عمياً مفلوجي الحواس والحسيات الاّ قليل منهم. فبالضرورة العرفية تتفطن وتتيقن بأن خلف هذه الحُجُب والاستار المرسلة على وجوه الجدار عقلاء مختلفون في الاذواق والمشارب لهم حواسُ سليمة جاءوا للتنزّه، يشتاقون لكل ما ابدع وشهر في ذلك المجلس، ويرونك والتمثيل من حيث لا ترونهم.
فاذ تفطنت لسر التمثيل، فانظر من دار الدنيا الى هذه المصنوعات. فمنها كزرابي مبثوثة، وفُرُشٍ مرفوعة، وحلل ملبوسة، وحلية منثورة، وصحائف منشورة.. ومنها ازاهير وثمرات اصطفت؛ تدعو بألوانها وطعومها وروائحها ذوى الحياة واصحاب الحاجات وتدعو بنقوشها وزينتها وصنعتها اولى الالباب وذوى الاعتبار.. ومنها نباتات شمّرت عن ساقاتها لوظيفة خلْقَتها، وحيوانات قامت على ارجلها لوظيفة عبوديتها، واكثرها لا تشعر بما أودع في أنفسها من المحاسن الرائقة واللطائف الفائقة..
فليست تلك اللطائفُ والمحاسن لِحَمَلَتَها البُهْمُ العُجْمُ، بل ما هي الاّ لغيرها السميع البصير.. ومنها الى مالا يحد ولا يعد. فمع كل هذه الحشمة الجلابة والزينة الجذابة، وانواع التلطيفات والتوددات، وانواع التحببات والتعرفات، واقسام التعهدات والتعمدات واصناف التزينات والتبسمات واشكال الاشارات والجلوات،


المثنوي العربي النوري - ص: 287
وغير ذلك من ألسنة الحال التي كادت ان تنطق بالقال مع انه لا نرى ظاهراً في ساحة الدنيا من ذوي الاعتبار والابتصار الاّ هؤلاء الثقلين اللذين صيرت الغفلة اكثرهم كصبيانٍ صمٍ عميٍ فلج في ظلمات طاغوت الطبيعة يعمهون.
فبالحدس الصادق وبالضرورة القطعية وبالبداهة العقلية، لابد ان يكون الكون مشحوناً من ذوي الارواح المعتبرين المسّبحين مما عدا الثقلين. كما قال من قوله القول:
(تسبّح له السمــوات السّبع والارض ومن فيهن، وان من شئ الاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) 1.
اعلم! ان بمقدار توسع تصرف القدرة في الجزئيات وتزييد الامثال تتقوى العناية بالفرد. فلا تقل: انا قطرة في بحر، فيُنسينى البحرُ. كلا! بل البحر شاهدٌ على انك بنسبة محاطيتك به محفوظ ابداً بنظام قوي نافذ بقوته في جميع امثالك؛ إذ بدرجة الصغر والخفاء والمحُاطية يتزايد الاهتمام به، والمصونية من الاهمال، والمحفوظية من مداخلة الغير، ومن لعب التصادف، ويزيد ظهورُ المخلوقية والمجعولية.
الا ترى أن المركز أصون من تسلط الغير والمهاجمات، وان النواة أحصن من لعب التصادفات وتعجيز العاصفات، وان الاهتمام بالنواة أشد؟
ايها الانسان! انت نواة الارض والارض بيضة العالم. ومن هذا السر يُكثر القرآن ذكر خلق السمــوات والارض ويجعله عنواناً لخلق كل شئ.
اعلم! وانظر الى كمال النعمة في كمال الحكمة، وكمال الحكمة في كمال النظام، وكمال النظام في كمال الميزان، في صنعة الحواس الخمسة الانسانية؛ اذ فطَرها فاطرها بوضعيةٍ وجهزّها صانعها بجهازاتٍ، يحس الانسانُ بها ويَذُوّق صاحَبَها خصوصيات جميع انواع الثمرات والازهار والاصوات والروائح وغيره، حتى ان في حاسة الذائقة حسيات رقيقة دقيقة منتظمة بعدد طعوم جميع اجناس الثمرات وانواعها واصنافها.. وهكذا حاسة السمع لخصوصيات مالا يحد من الاصوات. وقس سائر الحواس الظاهرة، ولاسيما الباطنة التي هي اكثرُ غناءً وجهازاً.
ومن هذا السر بلغت جامعيةُ فطرة الانسان الى درجة صيّرَت هذا الانسان: مظهراً لما لا يحد من انواع تجليات اسماء فاطره جلّ شأنه، وذائقاً لما لا يعدّ من الوان نِعمه، عمّ نواله.
_____________________
1 الاسراء : 44



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس