عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - زهرة


المثنوي العربي النوري - ص: 288
مثلك ايها الانسان، كمثل المركز العمومي للتلفون، فكما ان فيه لمخابرة كل موقع في الولاية مفتاح خاص، كذلك فيك لحسّ ذوق جميع انواع نِعَمه، ولذوق لذة مظهريتك لما لا يحد من اقسام تجلياته مفاتيح مخصوصة عُلّقت برأسك ولطائفك، فاستعملها كما يرضى به بارئُها، بالحركة بميزان شريعته.
ومن هذا السر يمكن التفاوت بلا نهاية بين مراتب لذائذ شخصين هما في عين جنةٍ وفي عين مكانٍ. وبشارة (المرء مع من أحب) 1 قد تجمع بين الادنى والاعلى.
اعلم! ان ما يرى عند اختلاط اشتات الاشياء وأوباشها من المشوشية المنافية للنظام والميزان، فليس مما لعب به التصادف، بل خرج من صورة النظام الى نقش الكتابة، لكن تلك الكتابة غير مقروءة بالسهولة للنظر الظاهري الامي الناظر الى معكوسها في مرآة الوهم!
ألا ترى أن تلك الاشتات لو كانت بذوراً، اذاً تنبتت، تكشفت عن نظام تام. فالجمع بينها كتابةٌ غريبة لقلم القدر.
اعلم! ان الحجة القاطعة على خاتمية النبوة الأحمدية، ايصالُها حدود الدين في كل قاعدةٍ منه الى حدٍ لا يتعقل أوسع ولا اكمل ولا اتمّ منه.
مثلاً، في مسألة التوحيد والربوبية، يقول:
(بيده ملكوت كل شئ) 2 (هو آخذ بناصية كل شئ) 3 (والسّمــوات مطويات بيمينه) 4 (هو الذي يصّوركم في الارحام كيف يشاء) 5 (هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئٍ عليم) 6 (وَمَا تَشَاؤون الاّ ان يشاء الله) 7 (وَنحْنُ اقرب اليه من حبل الوريد). 8
وكذا يحكم ذلك الدين بأن نهايات ما تنقسم اليه المادة وتنبسط وتصل اليه حدود الماديات من الجواهر الفردة والذرات واعظم ثمرات العالم من الشموس
_____________________
1 رواه البخارى في الادب 96 ومسلم برقم 2640 عن ابى موسى الاشعرى واخرجه احمد 4/392، 395، 398، 405 وابن حبان 557 .
يراجع في تفصيل هذه الفقرة " الكلمة الثامنة والعشرين" من مجموعة " الكلمات".
2 يس : 83
3 هود : 56
4 الزمر : 67
5 آل عمران : 6
6 الحديد : 3
7 الانسان : 30
8 ق : 16



المثنوي العربي النوري - ص: 289
والسيارات، متساوية الاقدام كتفاً بكتف في امتثال امر خالقها المنزّه عن صفاتها، المقدس عن حدودها ولوازماتها.
وفي مسألة الحشر والتوحيد، وصل الى مرتبة لا حد فوقها بالبداهة.
وهكذا في كل مسألة مسألة، فلا يمكن فيه الاكمالُ والاتمام بآخرِ. فحقه الابدية والدوام الى يوم القيام.
اعلم! ان قلبي قد يبكي في خلال انيناته العربية بكاءً تركياً، بتهييج المحيط الحزين التركي، فاكتب كما بكيت:
[لا اريد من كان زائلاً لا اريد
أنا فان، مَنْ كان فانياً لا اريد، أنا عاجز، من كان عاجزاً لا اريد
سلّمت روحي للرحمن، سواه لا اريد
بل اريد،
حبيباً باقياً اريد.
انا ذرة شمساً سرمداً اريد.
انا لا شئ ومن غير شئ، الموجودات كلها اريد.
* * *
لا تدعني الى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.
اذ لما حجبت الغفلة انوار الحق،
رأيت الاشياء والدنيا اعداءً ضارين.
ذقت اللذائذ، ولكن وجدت الألم في زوالها.
أما الوجود، فقد لبسته،
آه لا تسل كم عانيت من الالم في العدم.
ان قلت الحياة، فقد رأيتها عذاباً في عذاب.
نعم، لما استتر نور الحق عني،
اذا بالعقل يتحول عقاباً، ورأيت البقاء بلاء، والكمال هباء،
والعمر ذهب ادراج الرياح.


المثنوي العربي النوري - ص: 290
نعم! بدونه، انقلبت العلوم اوهاماً.
واصبحت الحكم اسقاماً، والانوار ظلمات، والاحياء أمواتاً،
والاشياء اعداء.
ولمست الضر في كل شئ.
والآمال انقلبت الآماً.
والوجود هو العدم بعينه. وصار الوصال زوالاً.
والالم يعصرنى مما لابقاء فيه.
نعم! ان لم تجد الله فالاشياء كلها تعاديك؛
اذى في اذى، بل هو عين الاذى.
وان وجدت الله،
فلن تجده الاّ في ترك الاشياء.
فرأيت بذلك النور: الجنة في الدنيا،
وبدت الاموات احياء.
ورأيت الاصوات اذكاراً وتسابيح.
والاشياء مؤنسة، واللذائذ في الآلام نفسها.
والحياة اصبحت مرآة تعكس انوار الحق.
والبقاء رأيته في الفناء.
والذرات تلهج بالذكر.
يقطُر من السنتها وتتفجر من عيونها؛
شهدُ شهادة الحق.]
وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد
اعلم! 1 يا من يتوهم اللذة والسعادة الدنيوية في الغفلة وفي عدم التقيد بالدين!
اني جربت نفسي مرةً فرأيتني على جسر امتد من رأس جبلٍ الى رأس جبل شاهقين، وتحتهما وادٍ عميق في غاية العمق، وقد أظلم علينا الدنيا بما فيها.
_____________________
1 تفصيل هذا المثال في الكلمة الثالثة والعشرين.




المثنوي العربي النوري - ص: 291
فنظرت في يميني الماضي، فما رأيت الاّ ظلمات عدمية مدهشة.
ثم في يساري المستقبلي، فما رأيت الاّ غياهب مهددة دهاشة.
ثم الى تحتي، فرأيت عمقاً الى اسفل السافلين.
ثم الى فوقي، فما رأيت الاّ غيماً بكماً صماً يمطر الغم واليتم واليأس والبأس..
ثم في امامي فرأيت في خلال الظلمات عفاريت وعقارب وليوثاً وذئاب كاشرة اسنانها للافتراس..
ثم في خلفي، فما رأيت مدداً ولا مغيثاً ولا معيناً.
فبينما انا مدهوش مأيوس نادم من تجربتي، ! إذ نبهتني الهداية الربانية، فرأيت وقد طلع على الانام قمر الاسلام واشرقت شمس القرآن، فرأيت جسر الحياة طريقاً تمر بين جنان النعم السبحانية وتنتهي الى جنة الرحمة الرحمانية..
ويميني الماضي بساتين مزهرة بالصلحاء، منورة مثمرة بالانبياء والاولياء تجري من تحتهم انهار الدهور وهم في البقاء خالدون.
ويساري فراديس تزهر فيها الآمال والأماني برحمة الحنان المنان..
وفوقنا سحائب الرحمة تفيض علينا ماء الحياة، وفي خلالها تبتسم الشمس بأنوار الهداية والسعادة الابدية.
وأما ما في أمامي من الكائنات، فاخواني واحبابي وانعام مؤنسات، صوّرتها ظلمةُ الضلالة وحوشاً موحشات، فقرأت علينا هذه الواقعة:
(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات). 1
يا نور النور بحق اسمك النور اخرجنا من الظلمات الى النور.. آمين..
اعلم! ايها السعيد المجنون المحزون !ان مثلك كمثل صبي أبله قعد على ساحل البحر يبكي دائما لزوال الحبابات المتشمسة. كلما زال واحد بكى عليه ظناً منه انطفاء الشُميسة المتبسمة في الحباب بزوال الحباب وتحوله، وقد يبكي لتكدر مافي الحباب وتشوهه باختلاط مواد كثيفة به، ولا يرفع رأسه حتى يتفطن لتنزّه الذات - التي هذه التماثيل جلوات انوارها المتجددة على وجه البحر وخدود الامواج وعيون
_____________________
1 البقرة : 257



المثنوي العربي النوري - ص: 292
القطرات - عن الزوال بزوال مرايا تجلياته، بل ليس في ما ترى زوال مؤلم ولا فراق أليم.
أما الجمال بمحاسنه وجلواته فثابت بكمال حشمته في تجدد شؤونه وتعدد مراياه.
وأما المرايا والمظاهر فتظهر لوظيفتها وهي راقصة، فاذا تمت الوظيفة استترت وهي ضاحكة.
كذلك أنت، قاعد على ساحل بحر الدنيا تتألم باكياً على افول ذوي الكمال والجمال والحسن، وعلى زوال ثمرات النعم عند انقضاء أوانها، تزعم بالغفلة ان الجمال ملكُ ذى الجمال والثمرات مال الشجرة، وتغتصبهما منهما عاصفات التصادفات فتلقيهما في ظلمات العدمات. أفلا تعقل ان من نوّر ماتحبه بنور الحسن هو الذي نوّر كل ازاهير بستان الكائنات وشوّق عليها قلوب البلابل العاشقين.
الى كم تبكي ايها المسكين على زوال ما في يدك من الثمرة! فانظر الى تواتر نِعَم فالق الحب والنوى في ابقاء شجرة تلك الثمرة.. ثم الى دائرة انعاماته في اقطار الارض من امثال تلك الشجرة ان عقمت.. ثم الى دائرة تجدد احساناته في تجدد الفصول والسنين ان صارت سنتك شهباء.. ثم الى دائرة ادامة احسانه حتى في عالم المثال والبرزخ بأمثال ما شاهدت في عالم الشهادة.. ثم الى دائرة انعاماته الواسعة الابدية في عالم الآخرة باشباه ما استأنست به في حديقة الارض، ثم.. و.. ثم.. وهكذا! فلا تنظر الى النعمة بالغفلة عن الإنعام حتى تحتاج الى التشفي بالبكاء، بل انظر من النعمة الى الانعام ودوامه، ومن الإنعام الى المنعم ووسعة فيضه وكمال رحمته، فاضحك شاكراً له، وبفضله فافرح.
وحتى متى تدمع عينُك ويجزع قلبُك على فراق جمال زال! فانظر الى كثرة ووسعة الدوائر المتداخلة المحيطة بما تحبه تنسيك ألم فراقه بإذاقة لذة تجدد أمثاله وترادف اشكاله. وتلك الدوائر المتفاوتة صغراً وكبراً الى اصغر من خاتمك واكبر من منطقة البروج، وزوالاً وبقاءً الى آنٍ ودقيقة والى دهر وأبدٍ؛ مظاهر ومرايا ومعاكس ومجاري لجلوات ظلال انوار جمال ذي الجلال والاكرام الازلي الابدي السرمدي القيوم الباقي المقدس عن الحدوث والزوال المنزّه عن التغير والتبدل. فلا تظنن ان مافي المرآة ملك للمرآة، كي لا تبكي على مافي المرآة بموتها وانكسارها، فارفع رأسك عن


المثنوي العربي النوري - ص: 293
الدنيا بخفضه الى منظار قلبك لترى شمس الجمال، فتعلم ان كل مارأيت واحببت انما هو من آياته نِعَمٌ.. ومن آيات جماله انْ زيّن السماء بمصابيحها والارض بازاهيرها.. ومن آيات حُسنه ان خلق الانسان في احسن تقويم.. وان كتب العالم في ابدع ترقيم.. ومن ايات بهائه ان اشرق ارواح الانبياء ونوّر اسرارالاولياء وزيّن قلوب العارفين بانوار جماله المجرد. جلّ جلاله.
اعلم! يا انا! اراك انك لا ترى تناسباً بينك - وانت عجز مطلق وفقر مطلق، قد تضايقت عليك الحدود والقيود حتى صرت كذرة غابت في رمال الجزئيات وكنملة تراكمت عليها جبال الحادثات، وكنحلة تفاقمت عليها العاصفات - وبين من لا نهاية لقدرته وغنائه، ولا حد ولا قيد لتجليات اسمائه وصفاته، وجميع الخلق في قبضة قدرته، والسموات مطويات بيمينه، لا تتحرك ذرة في الكون الاّ باذنه، لاشريك له في ملكه والوهيته، ولا منازع له في جبروته وربوبيته، ولا اله الاّ هو.
نعم! لو كانت وظيفتك في الدنيا الاشتراك مع فاطرك في ربوبيته سبحانه، لكانت المناسبة لازمة في المعاملة معه، لكن هيهات! اين يد البعوضة من نسج قميصات مطرزات قُدّت على مقدار قامات هذه العوالم، بل وظيفتك في فطرتك وغاية كمالك في استعداد ماهيّتك انما هي: العبودية التي على المحوية تنبتت، ومنها ابتدأت والى المحبوبية انتهت، واياها اثمرت. والعبودية ضد الربوبية والمالكية. فعدم المناسَبة هي المناسِبة. فبدرجة علمك ببعدك عن الربوبية والمالكية تصير عبداً محبوباً مرحوماً.
وان العبودية مرآة الربوبية بالضدية ككتابة الحروف النورية على صحيفة الظلمة، فكلما تقربت الى العدم تراءت منها اعالى مراتب جلوات الوجود للواجب الوجود جل جلاله ولا اله الاّ هو..
اعلم! 1 يا من يتوهم المبالغة في بعض ماورد في فضائل الاعمال!
مثلاً: قد يروى: من فعل هذا مثلاً كان له مثل ثواب الثقلين.. حتى قال بعض : ان المراد الترغيب فقط، وبعض: مطلق الكثرة. وقد انكشف لي في ما مضى؛ ان القضية في تلك المتشابهات مطلقة وقتية يكفي في صدقها وجود الحكم في بعض
_____________________
1 الغصن الثالث من الكلمة الرابعة والعشرين يوضح هذه المسألة.




المثنوي العربي النوري - ص: 294
الافراد، في بعض الاوقات، فليست تلك القضايا كلية؛ اذ لصحتها شرائط غير مذكورة معروفة. فان كانت كلية فهي قضية ممكنة، وكذا ليست دائمة لتقيدها بالاخلاص وبالقبول.
وقد انكشف لي الآن، ان الثواب فضل الله وفيضه، ونظر العبد لا يحيط بما يعطي من لا نهاية لتجليات فيضه لعبده الذي لا نهاية لاحتياجه في دار بقاء لا نهاية لدوامها.
فما من فيض اذا نظرت اليه من جانب الله، الاّ وفيه جهة من عدم التناهي لو وزن بجميع ما احاط به علم العبد لزاد عليه. مثلاً روي: من قرأ هذا اعطي له مثل ثواب موسى وهرون عليهما السلام.
المراد ان ما ترونه وتتصورونه بنظركم المتناهي في هذا العالم المتناهي من ثوابهما لايزيد على ثواب قراءة آية في نفس الأمر وبالنظر الى الله بشرط القبول والاخلاص.
وكذا ان التشبيه في الكمية دون الكيفية، فللقطرة المتشمسة ان تقول للبحر لا يزيد وجهك على عيني في أخذ فيض الشمس من ضيائها وألوانه.
نعم! ان الثواب ينظر الى عالم الاطلاق، وذرة من ذلك العالم تسع عالما من هذا العالم، كما تسع ذرة من زجاج عالم السماء بنجومها.
وكذا قد يتيسر لأحد فتح خزينة من رحمة بكلمة طيبة في حالةٍ قدسية، فيقيس الناس على نفسه فيعبر عن القضية الشخصية بالمطلقة الموهمة كليةً والعلم عند علام الغيوب ومقلب القلوب جل جلاله.



عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس