عرض مشاركة واحدة
قديم 02-24-2009
  #1
أبو يوسف
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 518
معدل تقييم المستوى: 16
أبو يوسف is on a distinguished road
لماذا الشناقطة يحفظون ؟

لماذا الشناقطة يحفظون ؟


محمود بن محمد المختار الشنقيطي


كثيرون أولئك الذين يَبْتدرونني بهذا السؤال حين يَضُمني وإياهم مجلسٌ ،
فيدور الحديث حول مسألة الحفظ باعتبارها من أهم قضايا طلب العلم الشرعي ،
فيسألونني عن أسباب ظاهرة قوة الحفظ عند قومي ، ولماذا كانت أهمّ سمةٍ في
علماء الشناقطة الذين رحلوا إلى المشرق واتصلوا بالأوساط العلمية القوة الفذة
والقدرة الفائقة على استحضار النصوص ؟ ويسألونني عن أعجب ما بلغني من
أخبار عن نوادر الحفاظ في الشناقطة .
وكنت أجيب بما يناسب مقام كل مجلس ويفيد منه الحاضرون ، دون تقص أو
تعمد بحثٍ عن الإجابة على هذه القضية ، وحين كتب الله لي أول زيارةٍ العام
المنصرم لبلاد الآباء والأجداد (شنقيط) ، ووقفت على بعض المحاظر الحية القائمة
على أطلال ورسوم المحاظر [1] العتيقة ، وحظيت بلقاء أجلة فضلاء من علماء
الشناقطة [2] ، أدركوا أواخر نهضة علمية ، كان من أبرز سماتها اعتمادها على
حفظ الصدور لما وجد في السطور ، وأن العلم هو ما حصل في الصدر ووعته
الذاكرة متناً ومعنى ، حتى غدا من أمثالهم التي تعبر عن هذا المعنى : (القراية في
الرّاسْ ماهُ في فاس ولا مكناس) أي العلم المعتبر هو ما في حفظك ، وليس في كثرة
الذهاب إلى المدن الحضارية ومؤسسات التعليم فيها . حين كتب الله لي تلك الزيارة
كان مما يدور في خلدي الجواب عن السؤال المتقدم من واقع تجربة طلاب العلم في
تلك المحاظر ، فتجمعت عندي طرق كانت وراء تيسير الله للشناقطة ملكة حفظ
نادرة ، وطاقة ذهنية عالية جعلتهم يفخرون في ثقة واعتزاز بقدراتهم على استذكار
عشرات الكتب ، وجعلت العلامة سيدي محمد ابن العلاّمة سيدي عبد الله ابن الحاج
إبراهيم العلوي رحمه الله (ت 1250ه) يقول : (إن علوم المذاهب الأربعة لو رمي
بجميع مراجعها في البحر لتمكنت أنا وتلميذي ألْفَغّ الديماني من إعادتها دون زيدٍ أو
نقصان ، هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح) [3] .
وجعلت العلاّمة محمد محمود التّرْكُزي رحمه الله ت عام (1322ه) يزهو
بحافظته متحدياً الأزهريين بأنه أحق بإمامة اللغة والاجتهاد فيها منهم ؛ لأنه يحفظ
القاموس كحفظه الفاتحة ، فاستبعدوا ذلك وعقدوا له مجلساً بالأزهر ، فكان كما قال ،
فأقرّوا له وصاروا يصححون نسخهم من نسخة التركزي رحمه الله المحفوظة في
صدره [4] .
وقبل أن أتحفك أخي القارئ بشيء من طرقهم وأساليبهم في الحفظ تتضمن
الإجابة عن السؤال المتقدم ، أتحفك بأخبار القوم ونوادرهم في الحفظ ، مما وجدته
مسطوراً في كتب التراجم ، أو محكياً على ألسنة الرواة ، وسيتملكك العجب ،
وتعتريك الدهشة لسماعه ، وتجزم معي بأن ما حباهم الله به من ذاكرة فذة ، وقدرة
على استحضار النصوص ربما لا توجد إلا في ذاكرة الحاسب الآلي ، حتى صارت
حكاياتهم في الحفظ غريبة تشبه الأساطير وما يجري مجرى خوارق العادات .
فمن ذلك ما ذُكر في ترجمة العلاّمة عبد الله بن عتيق اليعقوبي رحمه الله ،
(ت عام 1339هـ) ، أنه كان يحفظ لسان العرب لابن منظور [5] .
وكان الغلام في قبيلة مُدْلِشْ يحفظ (المدوّنة) في فقه الإمام مالك قبل بلوغه ،
وكانت توجد في قبيلة (جكانت) ثلاثمائة جارية تحفظ الموطأ فضلاً عن غيره من
المتون ، وفضلاً عن الرجال ، ولهذا قيل : العلم جكني [6] .
وروي عن الشيخ سيد المختار ابن الشيخ سيدي محمد ابن الشيخ أحمد بن
سليمان (ت 1397م) حِفظ كثير من كتب المراجع مثل : فتح الباري ، والإتقان
للسيوطي ، غير المتون والكتب التي تُدرّس في المحظرة [7] .
ومن العجيب ما تجده من محفوظات فقهائهم غير متون الفقه والأصول وما
يتعلق بالتخصص ، فهذا قاضي (ولاته) وإمامها سيدي أحمد الولي بن أبي بكر
المحجوب كان يحفظ مقامات الحريري ، وليست من فنون القضاء ولا الفقه ،
وسمعتها عن الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب الأضواء رحمة الله
عليه [8] .
وأما المتخصص في الأدب والشعر فلا يحفظ أقلّ من ألف بيت في كل بحر
من بحور الشعر العملية ؛ حتى تتهيأ له ملكة أدبية لينظم أو ينثر ما يريد .
فهذا العلامة الأديب محمد محمود بن أحمذيه [9] الحسني رحمه الله ، كان
يحفظ في الأدب وحده مقامات الحريري ، والمستطرف ، وكامل المبرد ، والوسيط
في أدباء شنقيط ، وديوان المتنبي ، وديوان أبي تمام ، وديوان البحتري ؛ هذا في
الأدب وحده دون غيره من فنون ومتون المنهاج الدراسي المحظري [10] .
ومن نوادر نساء الشناقطة في قوة الحفظ ما حدّث به العلاّمة محمد سالم بن
عبد الودود أن أمه مريم بنت اللاّعمة كانت تحفظ القاموس ، وقد استوعبته بطريقة
غريبة ، حيث كان والدها يرسلها من حين لآخر إلى خيمة أحد علماء الحي تنظر له
معنى كلمة في القاموس وكان هذا العالم ضاناً بنسخته لا يعيرها فكانت البنت تحفظ
معنى الكلمة وتعود بها إلى والدها وهكذا حتى حفظت مادة القاموس كلها . وإن
تعجب أخي القارئ من المتقدمين فلعل ممن أدركنا من المعاصرين الأحياء من
يماثلهم في الحفظ ؛ فمن ذلك ما حدثني به والدي حفظه الله قال لي يا بني : لقد كنا
أيام طلبنا للفقه عند شيخنا الفقيه عبد الرحمن ولد الداهي ، نتسابق في ختم
المختصر ليالي الجمع فيستفتح من (يقول الفقير المضطر) بداية الكتاب فلا يطلع
الفجر إلا وقد ختمناه لا نشكك إلا في مواطن قليلة في أقفاف [11] السفر نكرر ذكر
ذلك مرات ، وممن أدركناه من الأحياء العلامة الشيخ أحمدّو بن العلامة الشيخ محمد
حامد بن آلاّ الحسني نزيل المدينة النبوية متع الله ببقائه .
ولا أبالغ إن قلت : إن ما في صدره من العلم لو جلس يمليه عاماً كاملاً لما
كرر ولا أعاد منه شيئاً ؛ فمن محفوظاته في النحو والصرف طرة [12] ، ابن بونة
على الاحمرار [13] يحفظها بنصها ، وطرة الحسن بن زين على احمراره للامية
الأفعال لابن مالك أيضاً ، والمقصور والممدود لابن مالك مع شواهده وهي تقرب
من ألفي بيت ، وضوابط وشواهد على مسائل ألفية ابن مالك بعضها له وبعضها
لوالده ولبعض العلماء الشناقطة تبلغ نحواً من ثلاثة آلاف بيت ، إضافة إلى بعضٍ
من ألفية السيوطي في النحو .
وفي غريب اللغة نظم ابن المرَحّلْ ، ونظم أبو بكر الشنقيطي كثيراً من مواد
القاموس ، وجل شواهد الغريب من تفسير القرطبي ، ومثلث ابن مالك وهو يبلغ
ثلاثة آلاف بيت مع شواهده . إلخ من العلوم والفنون ...
ومن المعاصرين الحفاظ أيضاً صاحب المحضرة العامرة العلامة محمد الحسن
بن الخديم وقد حدثني بعض تلامذته أنه يحفظ النص من مرتين فقط ، وأنه لا يكاد
يوجد فن إلا ويحفظ فيه ألفيةً ؛ حتى في الطب والعقيدة والقواعد الفقهية والقضاء ،
وأنه يحفظ كثيراً من كتاب سيبويه وتمنى لو جاءه في الصغر [14] .
ومن النساء المعاصرات : العالمة المفتية الفقيهة مريم بنت حين الجكنية والدة
الشيخ عبد الله بن الإمام ، حدثني بعض تلامذة ابنها أنها كانت تشرح له في ألفية
ابن مالك إذا لم يكن ابنها في البيت ، ورويت عن قريبات لي أنها تحفظ كثيراً من
المتون الفقهية وتفتي النساء في الحج والحيض ، ولها ألفية في السيرة ولها
منظومات فقهية لبعض المسائل والنوازل . وهذه نتف مما وقفت عليه لعل فيها ما
يذكي الحماس لدى طلاب العلم المعاصرين .

________________________

(1) المحظرة : وأقرب تعريف لها : (أنها مؤسسة تعليمية بدوية متنقلة ، تكون متخصصة في فن
معين ، وأحياناً شاملة جامعة لشتى العلوم الشرعية ، تضم جماعة من الطلاب مختلفة أعمارهم تحيا
حياة اجتماعية بسيطة ، هدفها التفقه في الدين ، وتحصيل التقوى والخلق الكريم ، يديرها معلم في
فن أو فنون يسهر على التدريس فيها ، ورعاية هدفها حسبة ، وربما ضم إلى مهام التدريس إمامة
وقضاء القرية أو البلدة ويُلقب (بالمرابط) ؛ ولعلها جاءت من رباط المرابطين الذين كان رباطهم
النواة الأولى للمحاظر وقد يلقب : (طالبنا) ولعلها من طالب العلم ، وأصل الكلمة : (محضرة) وردت
في لسان العرب ، وفي كتب الأندلسيين والمغاربة ، منها كتاب المعيار المعرب ، ورحلة ابن جبير ،
وفي أبيات ابن حزم المشهورة : (مناي من الدنيا علوم أبثها) وهي تفارق من وجوه مصطلح الكُتّاب
أو الخلوات أو الزاوية في بعض البلدان الإسلامية اهـ ، بتصرف من (دور المحاظر في موريتانيا)
بحث تخرج مقدم للمعهد العالي الإسلامي بنواكشوط عام 1405هـ إعداد محمد المصطفى بن الندى ،
ومن (بلاد شنقيط المنارة والرباط) بحث موسع مقدم للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عن
المحاظر في موريتانيا للأستاذ الخليل النحوي ، طبع بتونس عام 1987م ، و (السلفية وأعلامها في
موريتانيا) للطيب بن عمر الحسين ، ص87 ، ط الأولى عام 1416هـ وأبيات ابن حزم التي ذكر فيها
المحاظر هي : مناي من الدنيا علوم أبثها وأنشرها في كل بادٍ وحاضرِ
دعاء إلى القرآن والسنن التي تناسى رجال ذكرها في المحاضر
ديوان ابن حزم الظاهري ، 95 ، بتحقيق د رشاد ، ط الأولى .
(2) ممن تشرفت بلقائهم العلامة الفقيه الأديب ، الشاعر الأريب ، الموسوعي معالي الشيخ محمد بن
سالم بن عبد الودود ، من بيت علم عريق تقلد مناصب وزارية ، وعضوية بعض المجامع الفقهية في
مصر والمغرب والسعودية ، ومن أبرز مؤلفاته نظم كتاب مختصر خليل في أكثر من عشر آلاف بيت
قدم له بمقدمة ضمنها عقيدة أهل السنة والجماعة على خلاف السائد هناك من العقائد الأشعرية
والماتريدية .
(3) بتصرف : من بلاد (شنقيط المنارة والرباط) الخليل النحوي ، ص 231 ، ط الأولى ، تونس
1987م .
(4) العلامة اللغوي والشاعر الفذ الأبي محمد محمود بن التلاميد (بالدالة المهملة) ، انفرد في المشرق
باللغة والأنساب ، اتصل بالأوساط العلمية في الحجاز ومصر ، ممن ترجم له الزركلي في الأعلام ،
ولمعاصره وخصمه أحمد الأمين رحمه الله في الوسيط ترجمة له فيها تحامل عليه .
(5) معجم المؤلفين في القطر الشنقيطي) ، 68 ، تأليف سيدي محمد بن محمد عبد الله ولد بزيد ،
ط الأولى ، تونس ، 1996م .
(6) (موسوعة حياة موريتانيا) للمختار بن حامد رحمه الله ، ص 5 ، الجزء الثاني ، طبعة الدار
العربية للكتاب 1990م .
(7) بلاد شنقيط ، للخليل النحوي ، ص 233 .
(8) الغالب على علماء الشناقطة في القرآن وعلومه والفقه رواية الشعر وتذوقه وإنشاده فلو راجعت
كتاب (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) وكتاب : (الشعر والشعراء في موريتانيا) ، للدكتور محمد
المختار ولد أباه ؛ لوجدت معظم من تُرجم لهم من الشعراء هم علماء فقهاء .
(9) عالم وشاعر من بيت علم وأدب ، أخد عن بُلاّ الشقروي ، له مؤلفات منها طُرة على ألفية ابن
مالك ، ت1323م .
(10) بلاد شنقيط المنارة والرباط ، ص 231 .
(11) سيأتي الحديث عن تقسيم المحظر إلى أقفاف جمع قِف وهو اللوح والجزء من المتن بلغة
المحاظر والسفر والباب من أسماء أجزاء مختصر خليل .
(12) اشتهر بالطّرة وهو شرح نثري للعلامة اللغوي ابن بونة على ألفيته المتممة لألفية ابن مالك ؛
فصار الجميع 2080 ألفين وثمانين بيتاً ، وشرح الجميع بهذا الشرح النثري ويعرف بطرة ابن بونة
وبالجامع ، انظر للتعريف بالنحو الشنقيطي ومدارسه وكتبه ورجاله ما كتبه الأستاذ محمذن ولد أحمد
المحبوب في مجلة المنهل الأدبية السعودية العددان 547 ، 548 ، عام 1418هـ .
(13) ما يزيده المحشّي أو المعلق على المتن الأصلِ يكتبونه باللون الأحمر تمييزاً له عن المتن
فيسمونه الاحمرار .
(14) العلامة محمد الحسن بن أحمد الخديم اليعقوبي الجوادي الشنقيطي ، له محظرة عريقة خرّجت
كثيراً من القضاة والأدباء المعاصرين ، ولا زال يدرس بها ، ترجم له بعض تلامذته ترجمة موسعة في
مقدمة كتابه (مرام المجتدي من شرح كفاف المبتدي) وهو شرح لنظم الكفاف في فقه المالكية لجده
العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله .
__________________
خَليليَّ وَلّى العمرُ مِنّا وَلَم نَتُب = وَنَنوي فعالَ الصالِحات وَلَكِنّا
أبو يوسف غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس