عرض مشاركة واحدة
قديم 02-24-2009
  #2
أبو يوسف
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 518
معدل تقييم المستوى: 16
أبو يوسف is on a distinguished road
افتراضي رد: لماذا الشناقطة يحفظون ؟

طرق الحفظ لدى الشناقطة :
ولهم في الحفظ وسائل وطرق أجملها فيما يلي :
أولاً : التعليم الزّمَرِيّ أو ما يسمى بلغة المحاظر (الدولة) وهو دراسة جماعية
يشترك فيها مجموعة من الطلبة متقاربي المستويات يقع اختيارهم على متن واحد
يدرسونه معاً ، حصةً حصةً ، يتعاونون على تكراره واستظهار معانيه [15] ،
يتحاجون فيه ، ويُنَشّط بعضهم بعضاً على المواصلة والاستمرار ومدافعة السآمة
والملل . أذكر وأنا في المرحلة (المتوسطة الإعدادية) أنني أدركت مجموعة من
طلاب العلم الشناقطة ( دولة ) في المسجد النبوي في شعر المعلقات .
ثانياً : تقسيم المتن إلى أجزاء وهو ما يعرف بلغة المحاظر (الأقفاف) مفردها:
قُفّ . والمشهور في المحاظر أن متوسط درس أو قف المتن المنظوم خمسة أبيات
لا يزيد عليها إلا المبرزون الأذكياء . وأما المتون المنثورة فيتعارف أهل المحاظر
على تقسيم شائع بينهم ، فمثلاً مختصر العلامة الشيخ خليل عندهم ثلاثمائة
وستون [16] قفاً ، ولا تخفى فائدة هذا التقسيم للمتن المراد حفظه ، فيعرف الطالب
مواضع الصعوبة من السهولة فيحتاط في المراجعة والتكرار ، كما أن تخزين
المادة في الذاكرة مرتبة منتظمة أيسر في استظهارها واسترجاعها .
ويرى الشناقطة وهم مضرب المثل في قوة الحافظة والذكاء أن (القف) الكثير
لا يستطيع استيعابه مع الاحتفاظ به في الذاكرة إلا قلة من الحفاظ ولذلك عمدوا إلى
تجزئة كل متن .
وسارت عندهم هذه العبارات مسار المثل : (قفْ أف) أي أنه بمثابة الريح
(أف اسم صوت) يمر عابراً فلا يستقر منه شيء في الذاكرة .
(نص لا بُدّ الُ يْخصّ) أي أن النصف لا يمكن الاحتفاظ به جملة فلا بد أن
ينسى قارئه بعضه أو يعجز عن استيعابه أصلاً .
(الثلث يوترث) أي أن ثلث القف يعلق بالذاكرة فلا ينساه قارئه حتى يموت
كأنه يورث من بعده [17] .
ثالثاً : وحدة المتن واستيفاؤه : فينصحون الطالب أن يشتغل بدراسة متن واحد
يفرغ قلبه له ، ويستجمع قوته لحفظه ولا يجمع إليه غيره ، ولا ينتقل عنه حتى
يستوفي دراسته كله ، بل يرون أن جمع متنين معاً يحد من قدرة الطالب على
الاستيعاب فيظل جهده الذهني موزعاً بين عدة متون لا يكاد يتقن أياً منها ، كما أن
بتر المتن دون حفظه كله يضيع جهد الدارس هباءً ، وينم عن كسل وقصور في
همة الطالب ، ويمثلون لمن يروم حفظ نصين في وقت واحد بالتوأمين ؛ فلا سبيل
إلى خروجهما معاً في آن واحد ، بل لا بد أن يسبق أحدهما الآخر ، ونظموا هذا
المبدأ بقولهم :
وإن تُرد تحصيلَ فَنّ تَمّمهْ = وعن سواهُ قبل الانتهاءِ مَه
وفي ترادف الفنون المنعُ جا = إذ توأمان اجتمعا لن يخرجا
[18]
رابعاً : صياغة المتن المنثور نظماً :
لقد وظف الشناقطة ملكَة الشعر كثيراً في تيسير العلوم للحفظ ، وضمان حظ
أوفر من القبول والبقاء له ، ولذا غلبت الصبغة النظمية في نظام الدرس المحظري .
وكما هو معلوم فإن النظم أسهل حفظاً واستحضاراً من النثر ، قال ابن معط رحمه
الله في خطبة ألفيّة في النحو :
لعلمهم بأن حفظ النظم = وفق الذكي والبعيد الفهم
لا سيما مشطور بحر الرّجز = إذا بُني على ازدواج موجز
وفي المحضرة قلّ أن تجد متناً يُدرس في فن إلا وجدت من نظمه حتى يسهل
حفظه على الطلاب ، فمن ذلك [19] أن أبا بكر بن الطفيل التشيتي رحمه الله
(ت 1116هـ) نظم كتاب (قطر الندى) لابن هشام رحمه الله .
والعلامة محمد المامي الشمشوي رحمه الله (ت 1282هـ) عقد كتاب
الأحكام السلطانية للماوردي بنظم سماه ( زهر الرياض الورقية في عقد الأحكام
الماوردية ) .
والعلامة الأديب عبد الله بن أحمد أُبّه الحسني نظم كتاب (مجمع الأمثال)
للميداني .
خامساً : تركيزهم على بداية الحفظ والمراجعة المستمرة للمحفوظ ، فعدد
تكرار الطالب المتوسط للقدر المراد حفظه من مائة مرة إلى ألف مرة ، ويسمونه
بلغة المحاضر (أَقَبّاد) فيجلس طالب العلم يكرر لوحة بصوت مرتفع في
الصباح [20] ثم يعود إليه بعد الظهر ثم بعد المغرب ثم من الغد يبدأ بمراجعته
وتسميعه قبل أن يبدأ في درس جديد ، وهكذا يفعل مع الدرس الجديد وفي نهاية
الأسبوع تكون مراجعة لما حفظ من بداية الأسبوع مع ما قبله من المتن حتى ينتهي
من المتن بهذه الطريقة ، ثم يأخذ متناً آخر وتصبح لهذا المتن الأول ختمة أسبوعية
يمر عليه كله ، وبعد تثبيته في الذاكرة ومزاحمة غيره له ، لا يصل الإهمال
والانشغال أن يترك ختمة شهرية للمتن ، وأعرف من المشايخ في المدينة
النبوية من عنده ختمة أسبوعية للألفية ولمختصر خليل وختمة شهرية للمتون
القصيرة كـ (لامية الأفعال) في الصرف لابن مالك والبيقونية والرحبية
وبلوغ المرام وغيرها .
سادساً : حفظ النص قبل الحضور إلى الشيخ ليشرحه ، وهذه من أهم الطرق
التي تعين الطالب على متابعة الحفظ دون انقطاع أو تأخر ، وكان شيخنا الشيخ سيد
أحمد بن المعلوم البصادي رحمه الله لا يشرح لأي طالب نصاً حتى يسمعه منه غيباً ،
فيبدأ الشيخ في شرحه وتفكيك ما استغلق على الطالب فهمه .
سابعاً : لا يحفظ الطالب إلا ما يحتاجه ويمارسه في حياته من العلوم
والأبواب في الفن . فالطالب إذا كان يقرأ مختصراً فقهياً مثلاً ، وبلغ في المتن
كتاب الحج ، ولم يكن من أهل الوجوب والاستطاعة فإنه يتعداه إلى غيره وهكذا
في أبواب الفرائض والقضاء والجهاد وقِس على ذلك بقية الأبواب في الفنون
المختلفة .
ثامناً : تأثر البيئة بالحركة العلمية : فقد خالط حفظ العلم في بلاد شنقيط حياة
الناس هناك ؛ ففي بلاد الزوايا [21] ، يعتبرون من تقصير الأب في حق ابنه إذا
بلغ وهو لا يحفظ القرآن حفظاً متقناً ولا يعرف من الأحكام ما يقيم به عباداته ، ولا
من العربية ما يصلح به لسانه ، بل ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار وأنه قد عق
ابنه وقصّر في تربيته . وكان من عادة أهل الشيخ القاضي (اجيجبه) أن لا
يتسرول [22] الشاب منهم حتى يتم دراسة مختصر خليل ، فحفظ المختصر عندهم
شرط معتبر للرجولة وسمة للنضج .
وتجد أمثال العامة ومخاطباتهم خارج حلقات الدرس قد صبغت بلون المتون
السائدة ؛ فمن أمثالهم إذا أرادوا وصف الشيء بأنه بلغ إلى منتهاه يقولون : (لا حِق
فلا إشكال) أي وصل في كذا إلى ذروته وعبارة (لاحق فلا إشكال) هي آخر جملة
في مختصر الشيخ خليل .
ومن أمثالهم قولهم : (وحَذْفُ ما يُعلم جائز) وهو جزء من بيت من خلاصة
ابن مالك في الألفية .
تاسعاً : عقد مجالس للمذاكرة والإنشاد والألغاز في العطلة المحضرية . وهي
عطلة نهاية الأسبوع العمرية (الخميس وجناحاه مساء الأربعاء وصباح الجمعة) .
فيعقد طلاب (الدولة) أو المنتهون مجالس السمر وغالباً تكون ليلة الخميس أو
الجمعة يتذاكرون فيها ما درس خلال الأسبوع ويتبارون في تجويد حفظه وإتقانه ،
أو يحددون باباً أو فصلاً من كتاب يتحاجون فيه ، وأعرف عدة مجالس في المدينة
المنورة عقدت لهذا الغرض منها مجالس لبعض النساء عَقَدْنَهُ لمذاكرة حفظ القرآن
والفقه والسيرة النبوية ، ومن ذلك ما يُروى أن محمد بن العباس الحسني وهو راوية
شعر ادعى ليلة في مجلس سمر أنه لا يسمع بيتاً من الشعر إلاّ روى القطعة التي
هو منها ، وذكر الكتاب الذي توجد فيه ، فتصدى له حبيب ابن أمين أحد تلامذة
العلامة حُرْمة بن عبد الجليل رحمة الله على الجميع فسأله من القائل :
لو كنت أبكي على شيء لأبكاني = عصر تصرّم لي في دير غسّانِ
فقال ابن العباس : نسيت قائل هذا البيت وهو من قطعة أعرفها في حماسة
أبي تمام ، فدعي بالكتاب ، وقلب ورقة ورقة ، فلم توجد فيه فقال لهم حبيب :
هاهي بقية الأبيات وذكرها :
دير حوى من (ثمار) الشام أودها = وساكنوه لعمري خير سكان
دهراً يدير علينا الراح كل رشا = خمصان غض بزنديه سُواران
وقال : إن القطعة من إنشائه ، نظمها تعجيزاً لزميله ، وساق دليلاً على صحة
قوله أن دير غسان لا وجود له في أديرة العرب .
كان شيخ المحضرة الفقيه اللغوي الشاعر حرمة بن عبد الجليل
(ت 1234 هـ) رحمه الله حاضراً فالتفت إلى تلميذه حبيب وأنشأ على
البديهة :
لله درك يا غليّم من فتى = سن الغليم في ذكاء الأشيب
لستَ الصغير إذا تَنِدّ شريدةٌ = وإذا تذاكر فتيةٌ في موكب
إن الكواكب في العيون صغيرة = والأرض تصغر عن بساط الكوكب
[23]
عاشراً : اغتنام لحظات السحر في تثبيت الحفظ ، فلا تكاد تجد طالباً من
طلاب المحضرة في وقت السحر نائماً بل يزجرون عن النوم في هذا الوقت .
حدثني الوالد حفظه الله قال : كان إذا صعب علينا حفظ شيء انتظرنا به
السحر فيسهله الله علينا ، ولا ريب أنها لحظات مباركة ؛ لأنها وقت النزول الإلهي ،
ووقت الهبات والأعطيات [24] . وساعات السحر هي لحظات الإدلاج التي
أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسير إلى الله فيها كما في صحيح البخاري
رحمه الله (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة) وهي سير آخر
الليل [25] .
وذكر أهل العلم بالتفسير آثاراً عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عن
الجميع في انتظار يعقوب عليه السلام لزمان الإجابة حين قال له أبناؤه :  يَا أَبَانَا
اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ  [يوسف : 97] فقال :  قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ  [يوسف : 98] أنه أخّرهم إلى وقت السحر [26] .
وضابط وَقت السحر على الصحيح أنه قبل طلوع الفجر بساعة تقريباً على ما
حققه الحافظ رحمه الله في الفتح .
وبعدُ .. أخي القارئ الكريم :
بهذه العوامل والأسباب خطف علماء الشناقطة المتجولون الأضواء ، وبهذه
الطرق والأساليب في الحفظ بزّوا غيرهم في العلوم التي شاركوهم فيها ، فهل تجد
في هذه الإجابة المقتضبة ما يشحذ همتك ويحرك إرادتك ويكون مثالاً لك تحتذيه ،
ويستحثك لجعل الحفظ أهم طرق العلم الشرعي ؟ ! ذلك ما كنا نبغي ، وفضل الله
واسع ، وكم ترك الأول للآخر  وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ  [المطففين : 26] .
وصلى الله وسلم وبارك على النبي وعلى آله وصحبه أجمعين .

________________________

(15) بتصرف من : شنقيط المنارة والرباط ، ص 59 .
(16) والبعض يجعله ، 333 قفاً .
(17) بلاد شنقيط المنارة والرباط ، ص 200 .
(18) السلفية في موريتانيا ، ط الأولى ، ص 104 .
(19) معجم المؤلفين في القطر الشنقيطي ، وفيه كثير ممن نظم متوناً نثرية .
(20) مجلة الأمة القطرية ، العدد (60) ، ذي الحجة 1405هـ ، ص 54 .
(21) الزوايا : القبائل المختصة أو المهتمة بالعلم ، تعلماً وتعليماً ، ويقابلهم حسان وهم القبائل ذات
الشوكة والبأس .
(22) أي يلبس السروال .
(23) الشعر والشعراء في موريتانيا ، للدكتور محمد المختار ولد أباه ، تونس 1987م ، ص 36-37.
(24) كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ينزل
ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له) وصفة النزول هنا
في الحديث من الصفات الفعلية التي نقل عن السلف الإجماع على إثباتها حقيقة لله تعالى ، فهو
سبحانه ينزل لكل قوم في ثلث ليلتهم أي سدس الزمان ولا يخلو منه العرش جل شأنه وتقدست
أسماؤه ، فكما أن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ، كما قال جمهور السلف وقرر ذلك
شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع ، انظر شرح حديث النزول ضمن المجموع (5 31 132 ،
380 -396) .
(25) أورد الإمام ابن الأثير - رحمه الله - في النهاية (2/129) قول أمير المؤمنين علي رضي الله
عنه وأرضاه شاهداً على أن الإدلاج يكون في السحر
اصبر على السير والإدلاج في السحر وفي الرواح على الحاجات والبكر .
(26) الدر المنثور (4/584) وتفسير الماوردي (3/79) .

(( مجلة البيان ـ العدد [‌ 135 ] 1999 ))
__________________
خَليليَّ وَلّى العمرُ مِنّا وَلَم نَتُب = وَنَنوي فعالَ الصالِحات وَلَكِنّا
أبو يوسف غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس