عرض مشاركة واحدة
قديم 04-23-2009
  #1
أبو يوسف
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 518
معدل تقييم المستوى: 16
أبو يوسف is on a distinguished road
المراح في المزاح


:extra145:

المراح في المزاح


ابن الغزي الشافعي




الحمد لله على جميل أفضاله، وجزيل بره ونواله، والصلاة والسلام على أشرف الخلق
سيدنا محمد وصحبه وآله.
وبعد: فقد سُئلتُ قديماً عن المزاح، وما يكره منه وما يباح، فأجبت بأنه مندوب إليه بين
الإخوان، والأصدقاء والخلان. لما فيه من ترويح القلوب، والاستئناس المطلوب، بشرط أن
لا يكون فيه قذف ولا غيبة، ولا يحرك الحقود الكمينة ثم طلب مني بعد مدة السائل،
بسط الكلام في ذلك وإيضاح الدلائل، فقلت مستعينا بالله ومتوكلاً عليه، ومفوضاً جميع
أموري إليه:
قد ورد في ذم المزاح ومدحه أخبار، فحملنا ما ورد في ذمه على ما إذا وصل إلى حد
المثابرة والإكثار. فإنه إزاحة عن الحقوق، ومخرج إلى القطيعة والعقوق. يصم المازح،
ويضيم الممازح. فوصمة المازح أن يذهب عنه الهيبة والبهاء، ويجريء عليه الغوغاء
والسفهاء، ويورث الغل في قلوب الأكابر والنبهاء. وأما إضامة الممازح فلأنه إذا قوبل بفعل ممض وقول مستكره وسكت عليه أحزن قلبه وأشغل فكره، أو قابل عليه جانب مع
صاحبه حشمة وأدبا، وربما كان للعداوة والتباغض سببا، فإن الشر، إذا فتح لا يستد،
وسهم الأذى إذا أرسل لا يرتد. وقد يعرض العرض للهتك، والدماء للسفك. فحق العاقل
يتقيه، وينزه نفسه عن وصمة مساويه. وعلى ذلك يحمل ما روي عن النبي صلّى الله عليه
وسلّم أنه قال:" المزَاحُ استِدرَاجٌ مِنَ الشَّيطَانِ وَاختِدَاعٌ مِنَ الهوَى ". وقوله صلّى الله عليه
وسلّم:" لاَ تُمَارِ أَخَاكَ وَلاَ تُمَازِحهُ وَلاَ تَعِدهُ مَوعِداً فَتُخِلفُهُ ".
وقال عمر بن عبد العزيز: اتقوا المزاح فإنها حمقة تورث ضغينة. وقال: إنما المزاح سباب
إلا أن صاحبه يضحك وقيل: إنما سمي مزاحاً لأنه مزيح عن الحق.
وقال إبراهيم النخعي: المزاح من سخف أو بطر. وقيل في منثور الحكم: المزاح يأكل
الهيبة كما تأكل النار الحطب. وقال بعض الحكماء: من كثر مزاحه زالت هيبته، ومن كثر خلافه طابت غيبته.
وقال بعض البلغاء: من قل عقله. كثر هزله.
وذكر خالد بن صفوان المزاح فقال: يصك أحدكم صاحبه بأشد من الجندل، وينشقه
أحرق من الخردل، ويفرغ عليه أحر من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك.
وقال بعض الحكماء: خير المزاح لا ينال، وشره لا يقال، فنظمه السابوري في قصيدته
الجامعة للآداب فقال وزاد:
شرُّ مُزاح المرءِ لا يقاُل = وخيرُه يا صاحِ لا ينُاُل
وقد يُقال كثرة المزاحِ = من الفتى تدعو إِلى التَّلاحي
إِن المزاحَ بدؤه حلاوه = لكنّما آخرُه عَداوَه
يَحقِد منه الرجلُ الشريفُ = ويجتري بسُخفه السَّخيفُ
وفي معنى هذه الجملة الأخيرة قول شيخ الإسلام الوالد في منظومته في التصوف:
ولا تمازحِ الشريفَ يحقِد = ولا الدنّي يجتري ويفسد
وما أحسن ما قال أبو نواس:
مُت بداء الصمت خيرٌ = لك من داءِ الكلام
إِنما السَّالم من أَل = جم فاه بلجام
ربما يستفتح المز = حُ مغاليق الحمام
والمنايا آكلاتٌ = شارباتٌ للأَنام
وحملنا ما ورد في مدح المزح على ما سلم مما ذكر، فإنه قل ما يعرى من المزاح من كان
سهلاً، فالعاقل يتوخى بمزحه إحدى حالتين: إما إيناس المصاحبين، والتودد إلى المخاطبين،
وهذا يكون بما أنس من جميل القول، وبسط من مستحسن الفعل كما قال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزحك فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ السفهاء، وإن التقصير فيه يغض عنك المؤانسين، ويوحش منك المصاحبين. وإما أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم، أو حدث من سأم، أو حدث به من هم وغم. فقد قيل: لابد للمصدور أن ينفث وأنشد أبو نواس:
أُروّح القلب ببعض الهزلِ = تجاهلاً منّي بغير جهلِ
أَمزح فيه مزحَ أَهل الفَضل = والمزحُ أَحياناً جِلاء العقلِ
وأنشد أبو الفتح البستي:
أفِد طبعَك المكدودَ بالجِدّ راحةً = يَجِمَّ وعللّه بشيء من المزحِ
ولكن إِذا أَعطيتَه المزح فليكن = بمقدار ما تعطي الطَّعامَ من الملحِ
قال الابيرد:
إِذا جدّ عند الجِد أَرضاك جدُّه = وذو باطلٍ إِن شئت أَلهاك باطله
وقال أبو تمام:
الجِدُّ شيمتُه وفيه فكاهةٌ = طوراً ولا جِدُّ لمن لم يلعب
وعلى هاتين الحالتين كان مزح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتابعيه والعلماء
والأئمة.

روى بكر بن عبد الله المزني أنه صلّى الله عليه وسلّم قال:"إِنّي لأَمزَحُ وَلاَ أَقُولُ إِلاَّ الحَقّ".
وفي روايةٍ إِلاَّ حَقًّا. وعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا قال:" إِنّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا".
وقد سئل سفيان: المزاحُ هُجنَة؟ فقال: بل سنة لقوله عليه السلام :"إني لأمزح ولا أقول إلا الحق" .وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أفكه الناس.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: " رَوّحِوُا القُلُوبَ ساعَةً بَعدَ ساعَةٍ" .
ومن مزاحه صلّى الله عليه وسلّم ما رواه أنس قال: إن كان رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ كان له نغير يلعب به
فمات.
وما رواه الحسن قال: أتت عجوز من الأنصار إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم
فقالت: يا رسول الله ادع لي بالمغفرة فقال لها: أَمَا عَلِمتِ أَنَّ الجَنَّةَ لاَ يَدخلُهُاَ العَجَاَئِزُ وفي
روايةٍ العجوزَ وفي رواية لاَ تَدخُلُ الجَنَّةَ عَجُوزٌ فبكت وفي رواية فصرخت فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال لها: لَستِ يَومَئذٍ بعَجُوزٍ أَمَا قَرَأتِ قَولَهُ تعالى: (إِنَّا أَنشَأنَاهُنَّ
إِنشَاءَ فَجَعَلنَاهُنَّ أَبكاَراً عُرُباً أَتَراباً).
وروى زيد بن أسلم أن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت النبي صلّى الله عليه وسلّم في حاجة
لزوجها فقال لها: مَن زَوجُكِ؟ فقالت فلان فقال: الذِي في عَينِهِ بَيَاضٌ؟ فقالت أَي رسولَ
اُلله ما بعينه بياض قال: بلى إِنَّ بِعَينِه بَيَاضاً فقالت: لا واللهِ فقال النبي صلّى الله عليه
وسلّم: وَمَا مِن أَحَدٍ إِلاَّ بِعَينِهِ بَياَضٌ وفي رواية فانصرفت عَجلى إِلى زوجها وجعلت تتأَمّل
عينيه فقال لها: ما شأنكِ؟ فقالت: أَخبرني رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم أَن في عينيك
بياضاً فقال لها: أَما ترين بياضَ عيني أَكثَر من سوادها؟.
وجاءته امرأة أخرى فقالت: يا رسول الله احملني على بعير فقال رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم: احمِلُوهَا عَلَى ابنِ البَعِير فقالت: ما أَصنع به؟ ما يحملني فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: وهَلِ مِن بِعَيرٍ إِلاَّ اُبنُ بَعِيرٍ؟ فكان يمزح معها.
وعن أنس أن رجلاً استحمل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إِنّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ فقال: ما أَصنع بولد الناقةِ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وهَل تَلِدُ الأبِلَ إِلاَّ النُّوقُ؟.
وعن جابر قال: دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم والحسن والحسين على ظهره
وهو يمشي بهما على أربع ويقول: نِعمَ الجمَلُ جَملُكُمَا وَنِعمَ العِدلاَنِ أَنتُمَا.
وعن زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يغتسل،
فأخذ حفنة من ماء فضرب بها وجهها وقال يالَكَاِع.
وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: يَاذَا الأُذُنينِ.
وعن بلال أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رآه وقد خرج بطنه فقال: أمّ حُبَينِ تشبيهاً له بها
وأُمّ حُبَين دُوَيبةَ عَلَى خلقِة الحرباء عظيمة البطن ويقال: هي أنثى الحرابي وقد تكلم الفقهاءُ في حِلّها.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سابقني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسبقته،
فلما حملت اللحم سابقني فسبقني فقال: هذِهِ بتلك.
وقال صلّى الله عليه وسلّم للشفاء بنت عبد الله: عَلّمِيِ حَفصَةَ رُقيَةَ النَّملِة كَمَا عَلَّمتها
الكِتَابَة والنملةُ قروحٌ تَخرج في الجنب ورُقيَتُها شيءٌ كانت تستعمله النساء يعلم كلُّ من
يسمعه أَنهُ كلامٌ لا يضّر ولا ينفع وهو أن يقال: العرسُ تحتفل، وتختضب وتكتحل، وكلَّ شيء تفتعل، غير أن لا تعصي الرّجُل، أراد عليه السلام بهذا المقال تأنيبَ حفصة لأنه ألقى إِليها سِرًّا فأفشته فكان هذا من المُزاح ولغز الكلام.

وعن النعمان بن بشير قال استأذن أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلّى الله عليه
وسلّم فسمع صوت عائشة عالياً، فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: لا أَراكِ ترفعين صوتَك
عَلَى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَحجُزُهُ
وخرج أَبو بكر مغضباً فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم حين خرج أبو بكر: كَيف رَأيتِني
أَنقَذتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟ قال: فمكث أبو بكر أياماً ثم استأذن فوجدهما قد اصطلحا فقال
لهما: أدخلاني في سِلمِكما كما أدخلتماني في حربكما فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قَد
فَعَلنا.
وعن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في بيت عائشة فبعث إليه بعض نسائه
بقصعة فدفعتها عائشة فألقتها وكسرتها، فجعل النبي عليه السلام يضم الطعام ويقول: غَارَت أُمُّكُم فلما جاءت قصعة عائشةَ بعث بها إلى صاحبة القصعة التي كسرتها وأَعطى عائشةَ القصعة المكسورة.
وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قالت عائشة: كان عندي رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم و سودة فصنعت خزيراً فجئت به فقلت لسودة: كُلِي فقالت: لا أُحبّه
فقلت: والله لَتأكلين أَو لاَ لُطخنّ وجهك فقالت: ما أَنا يباغية، فأَخذت شيئاً من الصحَّفة
فلطختُ به وجهها ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ما بيني وبينها فخفض لها رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم ركبتيه لِتَستقِيدَ مني فتناولت من الصحَّفة شيئاً فمسحت به وجهي
وجعل رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك في حديثٍ أَكبِر من هذا.
وعن عائشة قالت: لما قدم النبُّي عليه السلام المدينة عرس بصفية فأخبرني قالت:
فتنكّرتُ وتنقّبتُ فذهبت أَنظرُ، فنظَر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلى عيني فعرفني
فأَقبل إِلَّي فانقلبت راجعةً فأَسرع المشَي فأَدركني فاحتضنني فقال: كَيفَ رأَيتِ؟ قلتُ:
يهودية بين يهوديات.

وعن عائشة أنه ذكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة فقالت: عائشة قد
شبّهتمونا بالحمير والكلاب؟ والله لقد رأَيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّىِّ وإِني
عَلَى السرير بينه وبين القِبلة مضطجعةً الحديث.
وعن عروة بن الزبير قال: قالت عائشة: ما يقطع الصلاة؟ قال: فقلنا: المرأَةُ واُلحمار فقالت: إِنَّ المرأةَ لدابة سَوء، لقد رأَيتُني بَين يدَي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معترضةً
كاعتراض الجَنِازة وهو يصلى.

عن ابن أبي عتيق قال: تحدثت أنا والقاسم (يعني ابن محمد) عند عائشة حديثاً وكان
القاسم رجلًا لحانة وكان لامّ ولد فقالت له عائشة: مالك لا تَحَدَّثُ كما يتحدّث ابنُ أَخي هذا؟ (يعني ابن أبي عتيق) أَما إِني قد علمت من أَين أَتِيتَ، هذا أَدَّبته أمّه، وأَنت أَدّبتك أَمُّك قال: فغضب القاسم وأَضبَّ عليها (يعني حَقِد)، فلما رأَى مائدة عائشةَ قد أَتي بها قام، قالت: أين؟ قال: أُصلي قالت: اجلس قال: إِني أُصلي قالت: اجلس غُدَر إِني سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:" لاَ صَلاَة بَحَضرَةِ الطَّعَامِ وَلاَ هُوَ يُدَافِعُهُ الأَخبَثَانِ" (روى الثلاثة مسلم).

وعن أنس أن رجلاً من أهل البادية اسمه زاهر بن حرام وكان يهدي للنبي صلّى الله عليه
وسلّم من البادية فيجهزه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج فقال النبي
صلّى الله عليه وسلّم إِن زَاهَراً بَاديَتُنا وَنَحنُ حَاضِرُوه، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم
يحبه وكان دميماً فأَتى النبي صلّى الله عليه وسلّم يوماً وهو يبيع متاعة فاحتضنه من خلفه
وهو لا يبصر قال: أَرسِلني، من هذا؟ فالتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعل لا يألوما
أَلزق ظهره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين عرفه وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم
يقول: مَن يَشتَري العَبدَ؟ فقال: يا رسول الله إِذاً والله تجدني كاسداً ، فقال النبي صلّى الله
عليه وسلّم: لَكِن عندَ الله لَستَ بَكاَسِدٍ.

وعن ربيعة بن عثمان أنه بلغه أن خوّات بن جبير كان جالساً إلى نسوة من بني كعب
بطريق مكة فطلع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يَا أَبَا عَبدِ اللهِ مَالَكَ مَعَ
أُولاء النِسوَةِ؟ قال: يَفتِلنَ ضفُيَراً لجملٍ لي شَرُودٍ قال: فمضى رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم لحاجته ثم طلع علّي فقال: أَبَا عَبدِ اللهِ مَا تَرَك ذلِكَ الشّرِاَدَ بَعدُ؟ قال: فسكت
واُستحيَيتُ فكنت بعد ذلك أَتفرد منه كلما رأَيته حياءً منه حتى قدمت المدينة وبعد ما
قدمت المدينة حتى طلع علَّي وأَنا أُصلي في المسجد إِلَّي فطولت فقال: لاَ تُطَوّل فَإِنّي
أَنتظركَ فلما فرغت قال: يَا أَبَا عَبدِ اللهِ مَا تَرَك ذلِك الجَمَلَ الشّرِاَدَ بَعدُ؟ قال: فسكت
واستحيَيتُ، فقام فكنت أتفرد منه حتى لحقني يوماً وهو على حمار وأنا أريد قُباَ، وقد
جعل رجليه في شق واحد فقال: أَبَا عَبدِ اللهِ مَا تَرَك ذلِكَ الجَمَل الشّرِاَدَ بَعدُ؟ قلت:
والذي بعثك بالحقّ ما شَردَ منذ أَسلمتُ قال: اللهُ اكبر اللهم اهد أبا عبد الله. قال الراوي:
فحسن إسلامه وهداه الله وله الحمد. وذكر غير واحد أنه صلّى الله عليه وسلّم لما قال
له: ما فعل جملك الشرود قال: عقله الإسلام يا رسول الله.
وهو خوّات بن جبير بن النعمان بن أمية بن امرىء القيس وهو البرك بن ثعلبة بن عمرو
بن عوف بن مالك بن الأوس، كسر أو نهش في غزوة بدر فرده النبي صلّى الله عليه وسلّم
وضرب له بسهم وشهد المشاهد كلها بعد وعاش حتى كف بصره ومات في سنة اثنتين
وأربعين في أول ولاية معاوية وله عقب. وكان معاوية عنه منحرفاً.

عن الواقدي قال: قال خوّات بن جبير: فعلت ثلاثة أشياء لم يفعلهن أحد قط: ضحكت
في موضع لم يضحك فيه أحد قط،ونمت في موضع لم ينم فيه أحد قط، وبخلت في موضع لم يبخل فيه أحد قط. انتهيت يوم أحدٍ إلى أخي وهو مقتول وقد شق بطنه وقد خرجت
حشوته، فاستعنت بصاحب لي عليه فحملناه وختل المشركين حوالينا فأدخلت حشوته في
جوفه وشددت بطنه بعمامتي وحملته بيني وبين الرجل، سمعت صوت حشوته رجعت في
بطنه ففزع صاحبي فطرحه فضحكت، ثم مشينا فحفرت له بسية قوسيى وكان عليها
الوتر فحللته وبخلت به مخافة أن ينقطع فحفرت له فدفنته، فإذا أنا بفارس قد سدد رمحه
نحوي يريد أن يقتلني فوقع علي النعاس فنمت في موضع ما نام فيه أحد قط، فانتبهت فلم أر فارساً ولا غيره ولا أدري أي شيء كان ذلك.
وعن يوسف بن محمد الصهيبي عن أبيه قال: قدم صهيب من مكة فنزل على النبي صلّى
الله عليه وسلّم وأبي بكر رضي الله عنه، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يشتكى
عينيه وهو يأكل تمراً فقال: أيا صُهَيبُ تَأكُلُ التَّمرَ عَلَى عِلَّةِ عَينَيكَ؟ فقال: إِنَّمَا آكُلُ مِنَ
الِشّقِ الصحيحِ فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذه، وإنما
استجاز صهيب أن يعرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمزح في جوابه لأن استخباره
قد كان يتضمن المزح، فأجابه عنه بما وافقه من المزح مساعدة لغرضه وتقرباً من قلبه، وإلا
فليس لأحد أن يجعل جواب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مزحاً، لاّن المزح هزل ومن
جعل جواب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المبين عن الله عزَّ وجلّ أحكامه المؤدي إلى
خلقه أوامره هزلاً ومزحاً فقد عصى الله تعالى ورسوله، وصهيب كان أطوع لله سبحانه
ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يكون بهذه المنزلة، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: أنا
سابق العرب وصهيب سابق الروم وسليمان سابق الفرس وبلال سابق الحبشة وقال: نعم
العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه.
__________________
خَليليَّ وَلّى العمرُ مِنّا وَلَم نَتُب = وَنَنوي فعالَ الصالِحات وَلَكِنّا
أبو يوسف غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس