عرض مشاركة واحدة
قديم 08-21-2008
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

ساحة فكر لا ساحة معركة


كان صلاح الدين سنيا عميق الاقتناع بتسننه، بل كان متحيزا للمذهب الشافعي الذي يدين به على حساب المذاهب السنية الأخرى. وكان إلى ذلك مؤمنا بوحدة الأمة، حريصا على الارتباط بالخلافة العباسية في بغداد التي هي رمز الوحدة الإسلامية رغم ضعفها وخورها.

بينما كان الفاطميون في مصر متعصبين لمذهبهم الشيعي -وهو أبعد مظاهر التشيع عما يدين به جمهور المسلمين- كما كانوا شديدي المنافسة لسلطة الخلافة في بغداد، في وقت تحتاج الأمة فيه إلى التعاضد في وجه أمواج التتار العاتية القادمة من الشرق، وصولات الصليبيين المدمرة في الشمال والغرب.

لكن صلاح الدين كان يدرك أن الخلاف بين أهل الملة الواحدة يجب أن يتم حسمه في ساحة الفكر، لا في ساحة المعركة، وأن هذا الخلاف مهما تعاظم وتراكم على مر القرون، ومهما تجاوز الفروع إلى الأصول، يظل خلافا داخل البيت الواحد، لا يصلح التعامل معه بغير الحوار المتأسس على الحجة والبرهان.

وبهذه الرؤية الحكيمة الرحيمة غير صلاح الدين وجه مصر من دولة يحكمها الفكر الشيعي إلى دولة يسود فيها الفكر السني، دون أن يجر المجتمع المسلم إلى حرب استنزاف طائفي بين السنة والشيعة.

وكانت منهجية صلاح الدين هي تغيير المناخ الفكري والفقهي السائد بطريقة مترفقة هادئة دون مواجهة أو ضوضاء، فأسس صلاح الدين مدارس كثيرة في مصر والشام وفلسطين تحمل الفكر والفقه السني، منها المدرسة الناصرية والمدرسة القمحية والمدرسة السيفية في مصر، ومنها المدرسة الصلاحية في دمشق، ومدرسة بنفس الاسم في القدس.

ولما كان الجامع الأزهر يومها غرة الدولة الفاطمية ومركز أيديولوجيتها وأهم إنجازاتها العلمية، لم يسع صلاح الدين إلى هدمه أو انتزاع قيادته من الفاطميين وأشياعهم من الفقهاء، وإنما انتهج إستراتيجية التفاف حكيمة للتعاطي مع هذه المؤسسة العظيمة.

فنقل صلاح الدين خطبة الجمعة -وهي يومئذ رمز سيادة الحاكم وتأكيد شرعيته- من الجامع الأزهر إلى الجامع الحاكمي بالقاهرة، فهمش المؤسسة التي يسطير عليها الفكر الفاطمي، والتف عليها بحكمة وروية، دون أن يدخل في مواجهة مفتوحة مع القوى الدينية المرتبطة بالنظام القديم.


مؤاخذة بالفعل لا بالمذهب



وحينما ثار ثوار على صلاح الدين، وحاولوا اغتياله واستعادة السلطة الفاطمية، وبدؤوا الاتصال بالصليبيين، عاملهم صلاح الدين بحزم، طبقا لفعلهم لا طبقا لفكرهم.

وكان من بين الثوار على صلاح الدين السني المتعصب لتسننه والشيعي المتعصب لتشيعه، خلافا لما يقدمه البعض اليوم من قراءة طائفية صرفة لتلك الحقبة التاريخية.

يروي ابن العماد الحنبلي في "شذرات الذهب" أن من الثوار على صلاح الدين الذين أرادوا استرداد النظام الفاطمي المنهار الفقيه عُمارة بن علي المذحجي "وكان شديد التعصب للسنة، أديبا ماهرا، لم يزل ماشيَ الحال في دولة المصريين (الفاطميين) إلى أن ملك صلاح الدين فمدحه، ثم إنه شرع في أمور، وأخذ في اتفاق مع الرؤساء في التعصب للعبيديين (الفاطميين) وإعادة دولتهم، فنُقل أمرهم -وكانوا ثمانية- إلى صلاح الدين فشنقهم في رمضان ) 6|387.

وقد نشبت ثورات أخرى عدة تهدف إلى استعادة السلطة الفاطمية، وواجهها صلاح الدين بحزم وقوة. لكن صلاح الدين كان يؤاخذ الناس بفعلهم لا بمذهبهم، فهو لم يقتل الشيعة لأنهم شيعة أو السنة لأنهم سنة، وإنما قتل من تآمر لاسترداد حكم فاسد مترهل، عاجز عن حماية الأمة والذب عن حياضها، مفرق لكلمتها ووحدتها.
دروس للحاضر والمستقبل



إن تعامل صلاح الدين الأيوبي مع الحكام الفاطميين والفكر الشيعي الفاطمي في مصر يحمل دروسا عظيمة للسنة والشيعة اليوم، يمكن تلخيص أهمها في الآتي:

أولا: أدرك صلاح الدين بفطرته السليمة أن روابط الولاء والأخوة بين أهل الملة الواحدة لا تنصرم بالخلافات المذهبية والطائفية مهما عظمت. فعمل وزيرا للفاطميين وقاتل الصليبيين تحت رايتهم، دون تمييز بين سنة وشيعة، لأن مشروعه كان استنقاذ أمة بأسرها، وهو مشروع أكبر من كل تشيع وتسنن.

ثانيا: انتهج صلاح الدين منهج الحكمة والرحمة في التعامل مع مخالفيه من الفاطميين، إدراكا منه أن الإسلام بغير حكمة ورحمة اسم بغير مسمى، فرقَّ للخليفة الفاطمي المريض، وجلس للعزاء بوفاته، ووفَّى له بوصيته حول إكرام أبنائه ورعايتهم.

ثالثا: واجه صلاح الدين الفكر المخالف بفكر منافس، وواجه المؤامرات العسكرية بسيف صارم، إدراكا منه أن الفكر يواجَه بقوة الفكر، والجُرم يواجَه بقوة القانون. وليس من العدل أن يتم إزهاق نفس بسبب تبنيها فهما مغايرا للإسلام، ولا حتى بسبب رفضها للإسلام جملة وتفصيلا.

رابعا: اعتمد صلاح الدين طريق الترفق والتدرج في التغيير الفكري الذي ارتآه، لأن الجفاء في الإنكار على المخالفين من المسلمين المتلبسين ببعض البدع، دون لطف أو ترفق، أو اعتبار للمآل والثمرات، يعمق الجرح ويوسع الشرخ، دون أن يصلح الخلل أو يحقق المصلحة المرجوة.

خامسا: كان صلاح الدين رجل عمل لا جدل، مدركا أن الاستغراق في أمور الخلاف والوقوف عندها طويلا استنزاف للذات. فعمل على استنقاذ الأمة من حالة الطوارئ التي تعيشها، بالعمل الإيجابي في ساحة الحرب وفي ساحة الفكر، ولم يستنزف جهده في أمور الخلاف والجدل النظري.

وبهذه الرؤية الحكمية، والروح النبيلة سجل صلاح الدين الأيوبي اسمه في سجل الخالدين، قائدا رحيما بأبناء أمته، حريصا عليهم، يسعى لإصلاح فقههم وفكرهم، ويقدم روحه فداء لأرواحهم، بترفق وتلطف وحكمة ورحمة، لا تعميه الخلافات الجزئية عن رؤية الأمور الكلية وفهم حالة الطوارئ التي عاشتها الأمة في أيامه، كما تعيشها في أيامنا.

فهل يتعلم من يحصدون أرواحهم وأرواح إخوانهم كل يوم في مواكب الموت البغدادية، هذه الحكمة والرحمة من هذا القائد الخالد، الذي ولد في العراق وجمع في شخصيته فضائل أهل العراق عربا وأكرادا، سنة وشيعة.

.................................................. .

بقلم الأستاذ: محمد بن مختار الشنقيطي
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس