عرض مشاركة واحدة
قديم 10-11-2010
  #6
محمّد راشد
رحمه الله
 الصورة الرمزية محمّد راشد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 404
معدل تقييم المستوى: 16
محمّد راشد is on a distinguished road
افتراضي رد: دروس المنطق للمبتدئين_التصورات 1

في معنى العلم الحادث

قيدنا العلم بالحادث لأن العلم القديم الذي هو صفة لله سبحانه وتعالى وحده، لا يمكن لنا إدراك كنهه، كباقي صفات الله سبحانه.
وهو ليس كالعلم الذي نعلمه، كما سيأتي بيانه في آخر هذا الفصل.

والعلم هو: الإدراك الجازم المطابق للواقع.
أي أنه الفهم أو التعقل الصحيح الذي يشهد له الواقع.
ولا يوصف الإنسان بأنه عالم بأمر ما وإن قام في نفسه التصور الصحيح عن ذلك الأمر على ما هو به في الواقع إلا إذا كان إدراكه لذلك الأمر جازماً.
لأن من أهم خصائص العلم الجزم وعدم التردد.
والخصيصة الثانية هي المطابقة للواقع فإن كان المرء جازماً بأمر غير صحيح، فلا يسمى إدراكه علماً. واختلف في أنه هل يحصل الجزم بدون دليل يوجبه، بحيث تقطع النفس بصحة إدراكها، أو لا يحصل إلا بدليل؟.
فقال البعض : إن الدليل شرط كمال للعلم.
وقال بعضهم غير ذلك.
وهذا الأمر مبحوث باستفاضة في كتب المنطق والأصول، وسأكتب إن شاء الله بحثاً صغيراً يتناول تعريفات العلم، وبيان ما نقل عن بعض كبار الأئمة من أنه لا يعرف لعسر ذلك، أو لبداهته، وغير ذلك مما له علاقة بتمييز العلم، وأطرحه للمناقشة في المنتدى قريباً.
وعلى أي حال، يكفينا أن نعرف الآن أن العلم إدراك مخصوص للمعلوم.
وأن الإدراك مطلقاً أعم من العلم.
لأن من الإدراكات أو التعقلات ما هو علمي تقطع النفس بثبوته.
ومنها ما هو ظني تغلّب النفس ثبوته ولكنها لا تقطع، بمعنى أنها تجوز صدقه تجويزاً راجحاً وتجوز عدم صدقه تجويزاً مرجوحاً، ومنها ما هو وهمي يغلب عند العقل أنه غير صحيح.
بمعنى أن العقل يرجح عدم صدقه مع تجويز صدقه تجويزاً مرجوحاً.
ومن الإدراكات ما هو كاذب مخالف قطعاً للواقع، ويسمى جهلاً مركباً.
وقد لا تدرك النفس أمراً معيناً يذكر لها، ويسمى عدم الإدراك هذا جهلاً بسيطاً بذلك الأمر.
أما الشك: فهو توقف النفس في أمر معين بحيث لا تستطيع أن تغلب صدقه أو كذبه.
وهل يسمى الشك إدراكاً أو لا، سنأتي إلى نقاشه في بحثنا الذي أشرنا إليه إن شاء الله تعالى، حيث سنتعمق هنالك بقدر الوسع.
فتحصّل عندنا حتى الآن أن:
العلم إدراك مخصوص , ويلازم هذا العلم على الأقل الجزم ، والمطابقة للواقع.
فإذا فقد أياً من هاتين الخصيصتين فلا يسمى ما قام في النفس علماً.
والظن أدنى منه، لفقده ميزة الجزم، وقد يكون مطابقاً للواقع أو غير مطابق.
ودونه الشك، حيث تتوقف النفس فيه فلا تدري ما تختار من المحتملات عندها.
وهو يختلف عن الجهل في أن توقف الجاهل في إدراك أمر ما سببه أن نفسه لا تعلق بينها وبين ذلك المذكور مطلقاً، فكأنها لم تسمع به مطلقاً، كما تقف مثلاً أمام كلمة مكتوبة بلغة صينية على ورقة بيضاء فاقداً لكل قرينة يمكن أن توحي لك بمعناها، فإنك عندها تتوقف فيها توقف الجاهل بمعناها لا توقف الشاك فيه.
والوهم دون الشك، وقد بيناه.
ودونه الجهل البسيط وهو عدم إدراك الشيء أي عدم العلم به، وقد بيناه.
أما الجهل المركب فهو إدراك الشيء على خلاف ما هو به في الواقع، كمن يعتقد أن الله تعالى له حد، أو أنه جسم، أو أن العالم قديم.
فهذا وإن جزم بهذه الأقوال فإنه لا يمكن أن ينقلب جهله هذا علماً، لأنه غير مطابق للواقع، لقيام الدليل العقلي القاطع على بطلان اعتقاده.
ويمكن أن يعرّف الإدراك بتقسيمه:
إلى تصور , وإلى تصديق.
فأما التصور فهو إدراك الذوات.
وأما التصديق : فهو إدراك نسبة هذه الذوات بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات.
مثال التصور: إدراكك لمعنى جسم، وحركة ، وسكون، وزيد، وعالم، وحيوان، ونبات، وقديم، وحادث، إلى غير ذلك من الأسماء المفردة، التي وضعها واضع اللغة للدلالة على الذوات التي تعرف عليها عقل الإنسان. تأمل.
والتصديق: هو أن تعلم مثلاً معنى مفرداً كالذرة ثم تعلم معنى مفرداً آخر مثل الانقسام، ثم تنسب الانقسام إلى الذرة.
فتقول: الذرة منقسمة. بمعنى أن الذرة قابلة للانقسام.
ولاحظ أن التصديق أو التكذيب لا يمكن أن يتطرق إلى الألفاظ المفردة الدالة على معاني الذوات، ولكنه يتطرق إلى اللفظ المركب من مفردين، نسب أحدهما إلى الآخر، وهو ما يسمى خبراً أو قضية كما ستعرف لاحقاً.
فهذا القدر الذي يمكنك أن تحكم عليه بالصدق أو الكذب، يسمى إدراكه تصديقاً، ويكون تصديقاً علمياً إذا كان مطابقاً للواقع وجزمت النفس به، بمعنى أنه انكشف للنفس انكشافاً تاماً وثبتت عليه واطمأنت إليه دون تردد.
وأما إدراكنا لمعنى كل واحد من اللفظين المفردين المنتسبين إلى بعضهما هنا، فيسمى تصوراً.
ويكون تصوراً علمياً إذا كان مطابقاً للواقع وجزمت النفس به، أي تحققت فيه خصيصتا العلم اللتين أشرنا إليهما سابقاً.
ودعونا نتقدم خطوة إلى الأمام، قلنا:
إن إدراك المفرد تصور.
وبعبارة أخرى: التصور هو الإدراك غير المشتمل على نسبة حكمية.
فكم من التصورات لدينا في قضيتنا التالية:
حبة الفول منقسمة؟
لدينا أولاً: تصور حبة الفول وهي المحكوم عليه. وكلنا والحمد لله يتصورها.
وثانياً: تصور الانقسام وهو المحكوم به.
وثالثاً: تصور النسبة بين المبتدأ والخبر، أي هذا التعلق بين حبة الفول والانقسام، أي تصور انقسام حبة الفول دون الحكم على هذه النسبة بأنها واقعة أو غير واقعة.
وزاد الإمام الرازي رضي الله عنه تصوراً رابعاً وهو: تصور هذه النسبة واقعة أو ليست بواقعة.
أي حكم الناظر بأن حبة الفول منقسمة، أو حكمه أنها ليست بمنقسمة.
وسمى الإمام مجموع هذه التصورات الأربعة تصديقاً.
فيكون التصديق عند الإمام مركباً وكل تصور من هذه التصورات هو جزء من التصديق.
أما عند الحكماء (الفلاسفة) فالتصورات الثلاثة الأولى أي تصور الطرفين والنسبة بينهما هي شروط غير داخلة في حقيقة التصديق، لأن التصديق عندهم هو الحكم الذي هو التصور الرابع عند الإمام.
فيكون التصديق بسيطاً عند الحكماء لا مركباً.
وقد نعرض عما قريب في منتدانا العامر إن شاء الله، إلى منشأ الخلاف بين الفريقين، وما ينبني على هذا الخلاف، كما سنحقق أكثر في مفهوم النسبة، وأنواعها، وما هي النسبة التي يسمى إدراكها تصوراً، وما هي النسبة التي يسمى إدراكها تصديقاً، وعلى أي وجه يتم ذلك.
وحبذا لو يبحث بعض المهتمين في ذلك فيكتب سطوراً يلخص لنا فيها هذه الأمور ثم نتباحثها جميعاً.
ثم بعد أن عرفنا ما هو العلم، وقسمناه إلى تصور وتصديق، ووقفنا على الفرق بينهما على عجل
فاعلم:
أن كلاً من التصور والتصديق إما أن يكون بديهياً أي يحصل للنفس بالاضطرار ودون تأمل ونظر واكتساب، أو يحتاج في حصوله إلى ذلك ويسمى نظرياً أو كسبياً.
ومثال التصور البديهي تصورك لوجودك، ولمعنى أرض أو سماء أو زيد المعروف لديك، أو الواحد، أو الكثير، وأمثال ذلك من المفردات، فإنه بمجرد ذكرها ينكشف معناها للنفس ودون روية وفكر.
ومثال التصور النظري إدراكك لحقيقة الإنسان أو الذرة أو الحاسوب الذي تجلس أمامه، وأمثال ذلك من الحقائق التي تحتاج إلى إدراك أشياء قد تقل أو تكثر قبل أن تتمكن من إدراك حقيقتها.
وذلك يحتاج منك إلى نظر وكسب وبذل جهد فلذلك سميت أمثال هذه التصورات كسبية أو نظرية.
ومثال التصديق البديهي التصديق بأن الواحد نصف الإثنين، أو أن الكل أكبر من جزئه، أو أن زيت الخروع مسهل، وأن الشمس تطلع في النهار، وتظهر من الشرق، وأمثال ذلك من القضايا التي بمجرد أن تتصور طرفيها تصدق بها دون نظر أو فكر.
وقد يحتاج فيه إلى التنبيه إذا لم يكن شيء من التصورات اللازمة له مألوفة للعقل، ففي مثالنا على زيت الخروع قد يتوقف السامع في التصديق بهذه القضية لأنه لم يألف اسم زيت الخروع، فإنه قد يستخدم في بلده اسماً آخر له فيقال له زيت الخروع هو ما تسمونه كذا وكذا في بلادكم، فإذا تصوره وافق على ما نقول. وهكذا في باقي التصورات التي تتألف منها القضية.
وأما مثال التصديق النظري فهو كقولنا: العالم حادث، فإن كثيراً من الناس سوف ينازعوننا في ذلك
وكقولنا: محمد رسول الله إلى العالمين.
أو قولنا: إن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وقولنا: إن الإمام لا تشترط فيه العصمة.
وغير ذلك من القضايا التي يخالفك فيها ملايين الناس.
فهذه تحتاج منهم لكي يوافقوا عليها أن يطلعوا على مقدمات ترتب في صورة معينة، بحيث إذا سلموا تلك المقدمات سلموا هذه القضايا الناتجة عنها.
فمثلاً إذا سلم لك الخصم أن (العالم متغير) وسلم لك أن (كل متغير فهو حادث) لزمه أن يسلم بأن (العالم حادث).
ويسمى ما يتوصل به إلى التصديق بالحجة، وسنأتي إليها بتفصيل لاحقاً.
ويسمى ما يتوصل به إلى تصور بالقول الشارح أي التعريف أو المعرّف أو الحد.
وسنأتي عليه بتفصيل قريباً عند بحثنا للمعرفات.
واعلم أن بعض العلماء المتقدمين سموا إدراك المفردات معرفة، وسموا إدراك النسب الخبرية علماً.
استناداً إلى قول النحاة: المعرفة تتعدى إلى مفعول واحد، والعلم يتعدى إلى مفعولين.
وهو نظر لطيف، ولا مشاحة في الاصطلاح، إذ لا اختلاف بيننا وبينهم في مفهوم قسمي العلم، وما أثبتناه هو ما استقر وجرى عليه المتأخرون.
وبعد أن بان لك ما بان، فإنك تعرف الآن أن:
العلم الذي نعلمه إنما ينقسم إلى تصور وتصديق، وعلم الله سبحانه لا ينقسم، فكيف يتعدد علمه
تعالى ويتنوع، وهو صفته الواحدة، وهو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله.
وتعرف الآن أن هذا العلم منه بديهي ومنه كسبي، والله تعالى عالم بجميع المعلومات علماً قديماً لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وليس شيء من علمه ليس بحاصل ليحصل ببديهة أو بكسب تعالى الله وتنزه عن ذلك.
ثم إن العلم الذي بين أيدينا مفسر بالإدراك، وهو وصول النفس إلى تمام المعنى، وهذا الوصف للعلم يتنافى مع القدم الموصوف به علم الله تعالى.
وكذلك فإن هذا الوصف إنما يتصور في الأجسام والأنفس حيث تنطبع صور المعلومات.
وفي وصف علمه تعالى بأنه تصور أو تصديق وإن أريد به معنى صحيح، إيهام بأنه تعالى جسم، أو أن له نفساً تنطبع فيها الصور، كيف وهو الذي ليس كمثله شيء سبحانه.
ومن أراد الاستزادة فليراجع مبحث العلم في محله من كتب الكلام. فإنه يجاب بأكثر من ذلك عن هذه المسألة.
وأخيراً: إذا لم تستطع أن تضبط المفرد، فلا تبتئس بما صنعنا، فسنعود إلى الكلام في المفرد والفرق بينه وبين المركب في الدرس القادم أو الذي يليه عند الشروع في إيساغوجي، أي مبحث الكليات الخمس.
وإنما نبذل جهدنا، والتوفيق من الله تعالى.
محمّد راشد غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس