الموضوع: دمعة دمشقية...
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-21-2008
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

كل من أحبك يا شام وكل من ذاق من عشقك وصلاً فهو دمشقي أصيل وإن أتى من أقاصي الأرض... وكل من كان لئيماً مخرباً فهو لقيط فيك لا ينتسب إليك ولو تسلسلت وجمعت له الأنساب العظام.


منذ أيام خرجت من منطقة المكتبات في حي الحلبوني مذهولاً... بعدما يئست من أن أجد كتاب علامة الشام علي الطنطاوي الذي يبوح بحبك يا دمشق... وقد أخبرني الباعة أن كتب الشيخ قد سحبت من السوق!!


غرغرت الدمعة في عيني وتخيلت الشيخ علي الطنطاوي عندما توفي أبوه وهو طفل صغير فمر بظروف من الفقر والضيق لا يعلمها إلا الله، وعاش في بيت مثل القبر لا يكاد يدخله نور ولا هواء وكان إذا استيقظ في الليل يرى قطرات الدمع تنسكب من عيني أمه الحنون، وقد هدها المرضُ، وأحاط بها الفقر المدقع من كل جانب، وهي تدفع البق والحشرات عن الأطفال الأيتام الذين مضى والدهم وتركهم بين أيديها... وتخيلت الشيخ علي مرة ثانية عندما زرته منذ سنوات كثيرة فبكى رقة لذكر ابنته (بنان) وقد أطلق المجرمون النار عليها فأردوها قتيلة بخمس رصاصات، وما رحموا لها غربة ولا أمومة ولا إنسانية، فيا خجلة المؤرخين من أفعال الجبناء...


أفقت مما تخيلته ونظرت حولي فوجدت اللافتات التي تغزو الطرقات تدعو الناس إلى انتخاب أصحابها.. وقد مل الناس من معظم الأسماء التي صارت كالضيف الثقيل لا يصدق الإنسان رحيله... بعدما خبروا أكثر أصحابها فلم يروا فيهم شيئاً من الوفاء... لا للشام ولا لدمشق.. ولا لحق ضاع فيها.. ففي عهدهم تآكلت المنابر من المساجد إلى الصحافة إلى الكتابة إلى السياسة... حتى كأنها من عهد عاد...


وفي زمنهم ضاعت غوطتها... بعدما عملت الوسائط والرشى في اقتلاع شجرة جوز وراء أخرى.. حتى أصبحت مثل الصحراء التي عرّشت فيها جحافل الجراد...


وما بين ذلك من دمار الحجر والشجر والبشر... ما لا تنتهي من كتابته الأقلام... وسيتوارى التاريخ خجلاً من سوء ما ستقع عليه عيناه...


لو كنتم أيها المرشحون العظماء تحبون الشام لما صارت في شر حال...


عدت بذاكرتي إلى ما قرأته عن فترة الخمسينيات عندما كانت الانتخابات مفتوحة، والجميع يتنافسون، ولا يوجد أحد يصادر قرار أحد... ولا حزب يدعي العصمة أو يؤله نفسه فوق العباد.. وأسماء قادة الأحزاب وزعماؤهم معروفة للجميع.. فارس الخوري.. صلاح الدين البيطار... مصطفى السباعي.. رياض المالكي.. خالد العظم..


وأجلت النظر ثانية فيما تقع عليه عيني من اللافتات فلم أجد من بين كل الأسماء رجلاً يستطيع أن يدعي أنه عاشقٌ للشام... وفيٌ لدمشق... رجل يستطيع القول إن له فيها تاريخ حافل بالحفاظ عليها والدفاع عنها دفاع المستميت...


قدموا أنفسكم وعلقوا صوركم ولافتاتكم أيها المرشحون الكرام.. ولكن ثقوا أن الناس تعرف كل مفصل في حياتكم وتعرف المحب من الوصولي... والصادق من المنافق..... وأنا لن أنتخب واحداً منكم وهنيئاً لكم فوزكم الظافر المبارك... على أشلاء مدينتكم وأهلكم وعلمائكم ودهمائكم أيها المرشحون العظام!


تلفتت إلى الوراء...ونظرت إلى واجهات المكتبات، ثم غرغرت الدمعة في عيني... أسَجناً للشام حتى في كتب علامتها الطنطاوي...رأقيداً على العقول في أمة صارت من أدنى أمم الأرض ثقافة وقراءة ومعرفة... أمصادرة للكتب في زمان صار همُّ الناس فيه (سندويشة) يسدون بها جوعهم ولا يهم أكثرهم مقال ولا كتاب... أوصاية على البشر في عصر طلق الناس فيه فكر المعصومين والأوصياء.... أظناً أن ذلك ممكن في عصر انفجرت فيه المعلومات وامتدت أخطبوطاً بمليون ذراع تتعانق فيها مصادر العرفان... أتحريماً لحب الشام وكل حبة تراب فيها سقته راية قائد ولوعة فقيه وغيرة محب ومهارة تاجر وأنين عاشق ودلال صبية وقصيدة شاعر ولوحة رسام!


حسنٌ... فلتمنع كتب الشيخ علي الطنطاوي... وليحرم أهل الشام من رمز من أعظم رموزهم... ولكن ليثق الكل أن الشيخ علي الطنطاوي وأمثاله أرسخ في قلوبنا من جبل قاسيون...


نزلت دمعتي أخيراً وأنا أغادر منطقة الحلبوني... وتذكرت دموع علي الطنطاوي وحبه للشام.. ومرت بي أطياف نزار قباني عاشق الشام... وتتابعت أمامي ألف صورة وصورة، ثم اعتراها الغبش من دموعي الهاملة... ونظر إلىَّ شخص يعبر الشارع مدهوشاً لرجل يبكي في الطريق... لم أخبره لم كنت أبكي فقد حبست أشجاني في صدري والآن أبوح لكم بها أيها الناس... كنت أبكي على المساكين الذي سحبوا الكتب من السوق... وهم لا يعرفون من هو علي الطنطاوي...
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس