عرض مشاركة واحدة
قديم 04-06-2011
  #6
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: الشعاعات - الشعاع الخامس عشر

نبين معنى من معانى تلك المحاورة السامية باربع اشارات مختصرة جداً محيلين ايضاحها الى رسائل النور.

الكلمة الاولى : هي " التحيات لله "
ومعناها باختصار هو :
اذا ما صنع صنّاع ماهر ماكنة خارقة، بمايملك من علم واسع وذكاء خارق، فان كل من يشاهد تلك الماكنة العجيبة يهنئ ذلك الصناع تهنئة تقدير واعجاب. ويقدم له هدايا وتحيات مادية ومعنوية مع ثناء مفعم بالاستحسان. والماكنة بدورها تهنئ وتبارك صناعها بلسان الحال وتقدم هدايا وتحيات معنوية له، وذلك باظهار رغبات ذلك الصناع كاملة، وعرض خوارق صنعته الدقيقة وابراز حذاقته العلمية.
كذلك فان جميع طوائف ذوي الحياة في الكائنات كلها، بل كل طائفة منها، وكل فرد من افرادها، انما هي ماكنة معجزة بكل جوانبها، تهنئ صانعها الجليل الذي يعرّف نفسه بجلوات علمه الواسع الذي يبصر علاقةكل شئ باي شئ كان ويوصل اليه كل ما يلزم حياته في وقته، تهنؤه بالتحيات وتباركه بقولها: "التحيات لله" بألسنة احوال حياتها، كما تهنؤه ألسنة اقوال ذوي الشعور كالانس والجن والملك. فيقدم جميع ذوي الحياة ثمن حياتهم مباشرة بمعنى العبادة الى خالقهم الذي يعلم احوال المخلوقات كلها. فعبّر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لدى حضوره امام الواجب الوجود في ليلة المعراج بإسم جميع ذوي الحياة بقوله: "التحيات لله" بدلاً من السلام، مقدماً تحيات طوائف جميع ذوي الحياة وهداياهم وسلامهم المعنوى.
نعم، ان كانت ماكنة منتظمة اعتيادية تدل على صانع ماهر حاذق بتركيبها المنظم الموزون، فان كل ماكنة من المكائن الحية التي تملأ الكون والتي لاتعد ولاتحصى تظهر
الشعاع الخامس عشر - ص: 678
اذن ألف معجزة ومعجزة علمية، ولاشك ان ذوي الحياة يدلون على وجوب وجود صانعهم السرمدي وعلى معبوديته بتجليات العلم التي هي كضوء الشمس بالنسبة لدلالة تلك الماكنة التي هي كضوء اليراعة.

الكلمة الثانية السامية من كلمات المعراج: هي "المباركات":
لما كانت الصلاة معراج المؤمن كما هو ثابت في الحديث الشريف، وفيها انوار تجليات المعراج الاعظم، وان سائح الدنيا قد وجد خالقه العلاّم للغيب بصفة العلم في كل عالم. فنحن كذلك ندخل مع ذلك السائح عالم المباركات الواسع والذي يستنطق الاخرين بالتبريك والتهنئة، ونحاول ان نعرف خالقنا بعلم اليقن - مثل ذلك السائح - من خلال التجليات المعجزة الدقيقة للصفة الالهية الجليلة ، صفة العلم. وذلك اثناء مشاهدة ذلك العالم، عالم المباركات ومطالعته، ولاسيما صغار ذوي الارواح اللطيفين المباركين الابرياء، والنوى والبذور التي هي عليبات تضم مقدرات ذوي الحياة وبرامجها.
نعم اننا نشاهد بابصارنا ان جميع اولئك الصغار اللطيفين الابرياء وتلك المخازن والعليبات المباركة، تنتفض جميعها وكل فرد منها دفعة بعلم عليم حكيم للمضي الى ما خُلق لأجله حتى تستنطق تلك الحركات كل ناظر اليها بنظر الحقيقة بالقول : بارك الله، ما شاء الله.. ألف ألف مرة.
نعم، فالنطف مثلا ً والبيوض والبذور والنوى، كل منها ضمن نظام دقيق آت من العلم.. وان ذلك النظام ضمن ميزان آت من مهارة كاملة.. وذلك الميزان ضمن تنظيم جديد.. وهذا ضمن مكيال ووزان جديد.. وهذا بدوره ضمن تربية.. وتمييز.. وعلامات فارقة مقصودة عن متشابهات امثالها.. وهذه ضمن تزيين وتجميل متقن.. وهذا ايضاً ضمن اجهزة كاملة وتصوير ملائم دقيق حكيم.. وهذه ضمن اختلاف لحوم تلك المخلوقات والثمرات وما يؤكل منها، لإشباع المحتاجين الى الرزق اشباعاً كريما ًبما ينسجم واذواقهم.. وهذا ايضا ً ضمن نقوش واشكال من الزينة المتباينة زيّنت بعلم واعجاز.. وهذه ضمن روائح طيبة متنوعة.. وطعومات لذيذة متباينة،
الشعاع الخامس عشر - ص: 679
بحيث ان انكشاف صور جميع تلك المخلوقات وتمايز بعضها عن بعض بكمال الانتظام بلا خطأ ولا سهو في سرعة مطلقة.. ووسعة مطلقة.. مع انها في كثرة مطلقة.. ودوام تلك الحالة الخارقة في كل موسم، يجعل كل فرد والافراد جميعاً يظهرون بهذه الألسنة الخمسة عشرة العلم الإلهي، ويلفتون الانظار الى المهارة الخارقة لربهم ويدلون بها على علمه المعجز. فيعرّفون بجلاء كالشمس صانعَهم الواجب الوجود، علام الغيوب.
فشهادتهم هذه الواسعة الساطعة جداً وتهانيهم لصانعهم، هي التي عبّر عنها النبي صلى الله عليه وسلم الذي تكلم باسم جميع المخلوقات في ليلة المعراج وقال: "المباركات" بدلا عن السلام.

الكلمة الثالثة: وهي " الصلوات"
ان مائة مليون من اهل الايمان يعلنون تلك الكلمة المقدسة التي قيلت في المعراج المحمدي الاكبر، وتقال في المعراج الخاص بالمؤمن، اي في تشهد الصلاة، في كل يوم في الاقل عشر مرات، بإتّباعهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يعلنونها في ارجاء الكون كله مقدمين اياها الى الحضرة الربانية.
وبناء على البيان الواضح والاثبات القوى القاطع في رسالة المعرا ج "الكلمة الحادية والثلاثين" وايضاحها جميع حقائق المعراج، حتى ازاء خطابها للملحد المنكر المتعنت، نحيل تفاصيل البحث وحججه الى تلك الرسالة،الاّ اننا نشير اشارة في منتهى الاختصار الى المعنى الواسع لهذه الكلمة المعراجية الثالثة والذي يبينه العوالم العجيبة لطوائف ذوي الارواح والمشاعر، فنشاهد تلك العوالم محاولين معرفة وحدانية خالقنا ووجوده وكمال رحمانيته ورحيميته وعظمة قدرته وشمول ارادته، وذلك من خلال تجليات العلم الازلي.
نعم، اننا نشاهد في هذا العالم ان كل ذي روح يستشعر بالاحاسيس وبالفطرة - وان لم يكن بالشعور والعقل - انه يعانى عجزاً وضعفاً لايحدان بحدود مع ان اعداءه وما يؤلمه لايعدون، وان كلاً منهم يتقلب في فقر وحاجة لاحدود لهما مع ان
الشعاع الخامس عشر - ص: 680
حاجاته ومطاليبه لاحدّ لها. ولما كان اقتداره وراس ماله لايكفي لواحد من الف منها تراه يستغيث ويبكي بكل ما يملك من قوة، ويتضرع فطرة وضمناً. واذ يلتجئ الى ديوان عليم قدير بصوته الخاص وبلسانه الخاص وبدعوات وصلوات وتوسلات وتضرعات ونوعاً من صلوات خاصة به، اذا بنا نشاهد ان قديراً حكيماً عليماً مطلقاً يعلم كل حاجة من حاجات اولئك الاحياء ويقضيها لهم، ويبصر كل داء من ادوائهم ويسعفها لهم، ويسمع كل نداء ودعاء يدعونه فطرة ويستغيثونه ويستجيب لهم، فيحول سبحانه وتعالى بكاءهم الى ابتسامات حلوة ويبدل استغاثاتهم الى انواع من الحمد والشكر.
ان هذا المدد المتسم بالحكمة والعلم والرحمة يدل دلالة واضحة بتجليات العلم والرحمة على المجيب المغيث الرحيم الكريم. فجميع الصلوات والعبادات التي تنطلق من هذه العوالم، عوالم ذوي الارواح، الصاعدة الى ذلك المجيب المغيث قد عبّر عنها - بهذا المعنى - وقدّمها وخصصها محمد صلى الله عليه وسلم في المعراج الاكبر، ويرددها كل مؤمن في المعراج الاصغر في كل صلاة بـ"الصلوات الطيبات لله".

الكلمة الرابعة السامية: "وهي الطيبات لله":
لما كانت حقائق كثيرة لرسائل النور تتخطر على قلبي في أذكار الصلاة، فقد رأيتني كأنني أنساق - بناء على هذه الحكمة - الى بيان حقائق كلمات سورة الفاتحة والتشهد باشارات قصيرة دون اختيار منى.
وهكذا فالكلمة القدسية "الطيبات" التي قيلت في المعراج المحمدي التي تحوى معانى الطيبات التي لاتحد والمنطلقة من الانس والجن والملك والروحانيين الذين هم اهل المعرفة والايمان والشعور الكلي، والذين يجملون الكون بأسره بطيباتهم وحسناتهم وعباداتهم الجميلة، المتوجهة كلها الى عالم الجميلات، والذين يدركون ادراكاً كاملاً الجمالات والمحاسن التي لاتحد للجميل المطلق السرمدي والجمال الدائم لأسمائه الحسنى التي تجمل الكون فيقابلون بالعبادات الكلية المفعمة بالعشق والشوق، وبالروائح الطيبة العطرة للايمان الساطع وللمعارف الواسعة وللحمد والثناء التي يقدمونها تجاه خالقهم الجليل..
الشعاع الخامس عشر - ص: 681
وبحكم هذا المعنى الواسع لتلك الطيبات التي لا تحد وبمضمون ما قيل في المعراج، تكرر الأمة كلها تلك الكلمة المقدسة في التشهد يومياً دون ملل ولاسأم.
نعم ان هذا الكون مرآة تعكس الجمال السرمدي والحسن غير المحدود، بل من تجلياته سبحانه. وما في الكون من جمال وحسن آت من ذلك الحسن السرمدي، ويتجمل بالانتساب اليه فيرقى ويعلو.. اذ لولا ذلك الانتساب لتحول الكون الى مأتم موحش واخلاط ودمار وفوضى ضارب اطنابها.
ويُدرك ذلك الانتساب بمعرفة الانس والجن والملك والروحانيين وبتصديقهم، وهم الدعاة الادلاء الى سلطنة الالوهية،حتى ان الحمد الجميل والثناء الحسن الذي يرفعه اولئك الدعاة ونشر ثنائهم على معبودهم وكلماتهم الى كل ناحية في الكون والى العرش الاعظم تقف ازاءها ذرات الهواء على أهبة الاستعداد لاداء هذه المهمة وكأنها ألسنة ناطقة مصغرة وآذان صاغية صغيرة،لأجل تقديم تلك الكلمات الطيبات الى الحضرة الالهية.. فخطر الى قلبي ان هناك احتمالاً قوياً بمنح تلك المهمة الخارقة جداً والعجيبة الى الهواء.
وهكذا فكما ان الانس والملك يعرّفون المعبود الجليل بايمانهم وعباداتهم، كذلك الحكيم ذو الجلال يعرّف نفسه تعريفاً ظاهراً ساطعاً بما اودع من استعدادات جامعة كثيرة في الدعاة وبما جهزهم باجهزة بديعة خارقة وبما فيهم من دقائق علمية، وجعل كلاً منهم ذا ارتباط مع الكون بأسره وكأن كلاً منهم كون مصغر.
فمثلاً: ان خلق القوة الحافظة والخيالية والمفكرة وامثالها من المكائن العجيبة. في موضع صغير في دماغ الانسان لايتجاوز حجم جوزة واحدة. وجعل القوة الحافظة بمثابة مكتبة ضخمة.يبين انه سبحانه وتعالى يظهر نفسه بتجليات العلم الازلي بياناً واضحاً كالشمس في رابعة النهار 1.
والآن نشير باشارات في منتهى الايجاز الى فحوى الفقرة العربية المذكورة في مقدمة هذا البحث المشيرة الى الحجج الكلية للعلم المحيط، وهي حجة عظيمة تضم ما لايحد من البراهين وتبين العلم الازلي بخمسة عشر دليلاً.
_____________________
1 ان مرضي الشديد جداً لا يسمح بالايضاح، وما كتبته انما هو مصدر ومساعدة لمهمة «خسرو» في الترجمة ليس إلاّ. - المؤلف.

الشعاع الخامس عشر - ص: 682
فالدليل الاول من الادلة الخمسة عشر هو: [فالانتظامات الموزونة].
اي ان التناسق المقدر قدره والمشاهد في المخلوقات جميعاً، وكذا الانتظام الموزون فيها يشهدان على علم محيط بكل شئ. نعم انه ابتداءً من جميع الكون الذي هو كقصر بديع منسق الاجزاء، ومن المنظومة الشمسية، ومن عنصر الهواء الذي تنشر ذراته الكلمات والاصوات نشراً يبعث على الحيرة والاعجاب، ويبين انتظاماً بديعاً، ومن سطح الارض الذي يهيئ ثلاثمائة ألف نوع من الانواع المختلفة في كل ربيع وفي اتم نظام واكمل انتظام.. الى كل جهاز من اجهزة كل كائن حي بل الى كل عضو فيه بل الى كل حجيرة من جسمه بل الى كل ذرة من ذرات جسمه..كل ذلك انما هو اثر علم لطيف محيط بكل شئ لايضل ولاينسى.
نعم ان وجود هذا النظام الموزون والانتظام الاتم في كل ما ذكر يدل دلالة قاطعة ويبين بوضوح تام علماً محيطاً بكل شئ ويشهد له.
الدليل الثاني: هو [الاتزانات المنظومة].
اي ان وجود ميزان في منتهى الانتظام ومكيال في منتهى الاتزان في جميع المصنوعات التي في الكون جزئيها وكلّيها إبتداءً من السيارات الجارية في الفضاء الى الكريات الحمر والبيض السابحة في الدم. انما يدل بالبداهة على علم محيط بكل شئ ويشهد عليه شهادة قاطعة.
نعم اننا نشهد مثلاً ان اعضاء الانسان او الذباب واجهزته، بل حتى حجيرات جسمه وكريات دمه الحمر والبيض قد وضعت في موضعها الملائم المناسب والمنسجم، بميزان حساس جداً وبمكيال دقيق جداً ينسجم انسجاماً تاماً بعضه مع البعض الآخر ومع سائر اعضاء الجسم.. بحيث يدل دلالة قاطعة على ان من لايملك علماً محيطاً بكل شئ لايستطيع ان يعطى تلك الاوضاع الى تلك الاشياء ولايمكن له ذلك بحال من الاحوال.
وهكذا فان جميع ذوي الحياة وانواع المخلوقات من الذرات الى سيارات المنظومة الشمسية هي في موازنة تامة لاتتعثر قيد أنملة، ويحكمها جميعاً مكيال منظم، مما
الشعاع الخامس عشر - ص: 683
يدل دلالة قاطعة على علم محيط بكل شئ ويشهد شهادة صادقة عليه. بمعنى ان كل دليل من دلائل العلم دليل ايضاً على وجود العليم الخبير. اذ محال وجود صنعة بلا موصوف، فجميع حجج العلم الازلي حجة قوية ايضاً على وجوب وجوده سبحانه وتعالى.
الدليل الثالث: وهو [والحِكَم القصدية العامة]
اى ان حكماً مقصودة بعلم، تناط بكل مصنوع، وبكل طائفة فى الكون الذى تجرى فيه الخلاقية الدائمة والفعالية المستمرة والتبدل الدائم والاحياء المستمر والتوظيف والتسريح المستديمين، تلك التى لها من الفوائد والوظائف بحيث لايمكن اسنادها الى المصادفة قطعاً .فنشاهد انه من لايملك علماً محيطاً لايمكن ان يكون مالكاً لإي منها وفي أية جهة كانت من حيث الايجاد.
فمثلاً: اللسان جهاز واحد من مائة جهاز من اجهزة الانسان الذي هو واحد مما لايحد من الاحياء، هذا اللسان عبارة عن قطعة لحم ليس الاّ. ولكنه يكون وسيلة لمئات من الحكم والنتائج والثمرات والفوائد بادائه وظيفتين مهمتين:
فاداؤه لوظيفة تذوق الاطعمة: هو ابلاغه الجسم والمعدة بعلم عن جميع اللذائذ المتنوعة لكل نوع من انواع الاطعمة، وكونه مفتشاً حاذقاً على مطابخ الرحمة الالهية..
واداؤه لوظيفة الكلمات: هو كونه مترجماً اميناً ومركزاً لبث ما يدور في القلب وما يراود الروح والدماغ من امور.. كل ذلك يدل دلالة في منتهى السطوع والقطعية على علم محيط لاشك فيه..
فلئن كان لسان واحد يدل دلالة الى هذا الحد بما فيه من حكم وثمرات، فان ألسنة غير متناهية وذوي حياة غير معدودين ومصنوعات لامنتهى لها تدل بلاشك دلالة اوضح من الشمس وتشهد شهادة أبين من النهار على علم لانهاية له. وتعلن جميعها انه لاشئ خارج عن دائرة علم الغيب ولاخارج عن مشيئته جل وعلا.
الدليل الرابع: هو:[والعنايات المخصوصة الشاملة]
اي ان انواع العناية والشفقة والرعاية الخاصة المناسبة لكل نوع بل لكل فرد والشاملة جميع ما في عالم الاحياء وذوي الشعور تدل دلالة بديهية على علم
الشعاع الخامس عشر - ص: 684
محيط. وتشهد شهادات لاحدّ لها على وجوب وجود عليم ذي عناية يعلم اولئك الذين نالوا تلك العنايات ويعلم حاجاتهم.
"تنبيه": ان ايضاح كلمات الفقرة العربية التي هي زبدة خلاصة الخلاصة لرسائل النور المترشحة من القرآن الكريم هو إشارة الى ما استفاضته رسائل النور من الحقائق المنبعثة من لمعات آيات القرآن الكريم ولاسيما الدلائل والحجج التي تخص "العلم" و"الارادة" و"القدرة" بحيث تفسّر باهتمام بالغ ما تشير اليه هذه الكلمات العربية من دلائل علمية. بمعنى ان كلاً منها عبارة عن بيان لنكتة واشارة لآيات قرآنية كريمة.والاّ فهى ليست تفسيراً لتلك الكلمات العربية وبيانها وترجمتها.."
نرجع الى الموضوع الذي نحن بصدده:
نعم اننا نشاهد بابصارنا ان عليماً رحيماً يعرفنا ويعلم بحالنا واحوال جميع ذوي الارواح فيشملهم جميعاً بشفقته وحمايته ويأخذهم تحت كنف رحمته عن معرفة وبصيرة، ويوفي حاجات كل منهم ومطاليبه فيغيثه بعنايته ورأفته.
نورد مثالاً واحداً من بين امثلته غير المحدودة: فالعنايات الخاصة والعامة والواردة من حيث رزق الانسان وما يحتاجه من ادوية ومعادن تبين بياناً جليّاً علماً محيطاً وتشهد على الرحمن الرحيم بعدد الارزاق والادوية والمعادن.
نعم، ان اعاشة الانسان ولاسيما العاجزين والصغار الضعاف،وبخاصة ايصال الرزق الى اعضاء الجسم المحتاجة اليه من مطبخ المعدة، حتى الى حجيراته، كل بما يناسبه.. وكذا جعل الجبال الشوامخ مخازن للمعادن ومداخر ادوية يحتاجها الانسان وامثالها من الافعال الحكيمة، لايمكن ان تحصل الاّ بعلم محيط بكل شئ. فالمصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والاسباب الجامدة الفاقدة للشعور والعناصر البسيطة المستولية، لايمكن ان تتدخل قطعاً في مثل هذه الاعاشة والادارة والحماية والتدبير المتسمة بالعلم والبصر والحكمة والرحمة والعناية. فليست تلك
الشعاع الخامس عشر - ص: 685
الاسباب الظاهرية الاّ ستاراً لعزة القدرة الالهية بأمر العليم المطلق وباذنه وضمن دائرة علمه وحكمته.
الدليل الخامس والسادس: وهما: [والاقضية المنتظمة والاقدار المثمرة]
اي ان اشكال كل شئ ولاسيما اشكال النباتات والاشجار والحيوانات والانسان ومقاديرها قد فصلت تفصيلاً متقناً بدساتير نوعي العلم الازلي وهما القضاء والقدر وخيطت بما يلائم قامة كل منها ملاءمة تامة وأسبغت على كل منها فاعطيت لها شكلاً منتظماً في غاية الحكمة. فكل شئ من هذه الاشياء وجميعها معاً تدل على علم لانهاية له وتشهد بعددها على صانع عليم.
لنأخذ من امثلتها غير المحدودة مثالاً واحداً: شجرة واحدة، او انسان فرد، فنشاهد ان هذه الشجرة المثمرة وهذا الانسان الحامل لاجهزة كثيرة قد رسمت حدود ظاهره وباطنه بفرجال غيبي وقلم علم دقيق، اذ اعطي بانتظام تام لكل عضو من اعضائه ما يناسبه من صورة لتثمر ثمراتها وتنتج نتائجها وتؤدي وظائف فطرتها. ولما كان هذا لا يحدث الاّ بعلم لانهاية له، يحتاج الى علم غير محدود لصانع مصوّر وعليم مقدّر يعلم العلاقة بين الاشياء كلها ويحسب ارتباط كل شئ بالاشياء كلها ويعلم جميع امثال هذه الشجرة وهذا الانسان، وجميع انواعهما ويقدّر بفرجال وقلم قضائه وقدر علمه الازلي مقادير خارجه وباطنه ويصوّر صورته تقديراً حكيماً، وعلى بصيرة وعلم. اي ان الدلائل والشهادات على وجوب وجوده سبحانه وعلى علمه المطلق هي بعدد النباتات والحيوانات.
الدليل السابع والثامن: وهما: [والآجال المعينة والارزاق المقننة].
ان الآجال والارزاق اللذين يبدوان بظاهر الأمر كأنهما مبهمان وغير معيّنان، الاّ انهما في الواقع مقدّران تحت ستار إبهام في دفتر القضاء والقدر الازلي، وفي صحيفة المقدّرات الحياتية. فالأجل المحتوم لكل ذي حياة مقدر ومعين لا يتقدم ساعة ولا يتأخر، ورزق كل ذي روح قد عين وخصص، ومكتوب كل ذلك في لوح القضاء والقدر.
الشعاع الخامس عشر - ص: 686
وهناك ما لا يحد من الادلة على هذا الحكم، منها:
ان موت شجرة ضخمة وتوريثها بذيراتها التي هي بمثابة نوع من روحها،للقيام بمهامها التي كانت تؤديها، لا يتم الاّ بقانون حكيم لعليم حفيظ. وان ما يتدفق من الاثداء من لبن خالص رزقاً للصغير، وخروجه من بين فرثٍ ودمٍ دون اختلاط او امتزاج، صافياً طاهراً، وسيلانه الى فمه، ليردّ رداً قوياً احتمال وقوعه بالمصادفة، ويبين تحققه في غاية القطعية انه من جراء دستور ذي شفقة موضوعة من لدن رزاق عليم رحيم. وقس سائر ذوي الحياة وذوي الارواح على هذين النموذجين الجزئيين.
ففي حقيقة الامر ان الاجل معين مقدر، والرزق كذلك، وقد ادرجا في سجل المقدّرات وجعل كل منهما معيناً. ولكنهما يبدوان ـ في الظاهر ـ متواريين خلف الغيب، ومتعلقين في خيوط الابهام غير المرئية، ويظهران كأنهما غير معينين فعلاً، وكأنهما مشدودان الى المصادقة...كل ذلك لاجل حكمة دقيقة وفي غاية الأهمية.!
اذ لو كان الاجل معيناً كغروب الشمس لكان الانسان يقضي شطر عمره في غفلة مطبقة، ويضيّعه، عازفاً عن السعي للآخرة، ثم يتورط في الشطر الآخر بخضم المخاوف المذهلة، ويكون كمن يخطو خطوة كل يوم نحو اعواد المشانق، ولكانت المصيبة المندرجة في الاجل تتضاعف بالمئات!.ولاجل هذا السر الدقيق أبقيت المصائب - التي تعاود الانسان عادةً - تحت ستار الغيب. بل حتى ان أجل الدنيا الذي هو القيامة قد أخفاه سبحانه - رحمةً منه ورأفةً - خلف حجاب الغيب للسبب نفسه.
اما الرزق، فلكونه أعظم خزينة تفيض بالنعم بعد نعمة الحياة.. واغنى منبع يفعم بالشكر والحمد..وأجمع كنز للعبودية والدعاء وضروب الرجاء، فقد عرض في صورته الظاهرة كأنه مبهمٌ ومشدود الى المصادفة؛ وذلك لئلا يوصد باب طلب الرزق بالدعاء من الرزاق الكريم في كل حين، ولئلا ينغلق باب الالتجاء والتوسل المشفعة بالحمد والشكر لله تعالى، اذ لو كان الرزق معيناً كشروق الشمس وغروبها، لكانت ماهيتُه متغيرة كلياً، ولكانت أبواب الرجاء ومنافذ التضرع ومعارج الدعاء الملفّعة كلها بالشكر الجميل والرضى الحسن قد أنسدت عن آخرها، بل لكانت ابواب العبودية الخاشعة الضارعة قد انغلقت نهائياً.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس