الموضوع: شرح البردة
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-20-2010
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

وشَدَّ من شَغَبٍ أحشائَهُ وطوى *** تَحتَ الحِجارةِ كَشحاً مُتْرَفَ الأَدَمِ



ولا أدري كيف يكون ذلك وأنا أنام ليلا وألهو نهاراً وأتثاقل في تأدية الواجبات اغتراراً. أتناول ما لذَّ وطاب، وكم من جائع ليس له من يدي سوى الطعان والضراب، والذي أدّعي حبه قد شدّ من الجوع أحشائه، وضغط بالحجر الصلب أمعائه لا من قلة ولا لبخل أو علة، ولكن ليسن لنا سنة الزهد في الدنيا حتى لا تلهينا بزخرفها، فنعرض عن الآخرة ونقبل عليها فنكون من الهالكين، وحب الدنيا رأس كل خطيئة.



وراوَدَتهُ الجِبالُ الشُّمَّ مِنْ ذَهَبٍ *** عن نَفسِهِ فأراها أيَّما شَممِ



والدليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد غير الزهد في الدنيا، أن الجبال عرضت عليه أن تكون له ذهباً فأبى وما كان عليه في الإجابة من حرج غير أن العصمة وهي من أخص صفاته تمنع صاحبها من المباحات.



وأكَّدَتْ زُهدَهُ فيها ضَرورتُهُ *** إنَّ الضرورة لا تَعْدُو على العِصَمِ



ومما يؤكد أنه ما فعل ذلك إلا زهداً أنه أبى قبول أن تكون الجبال له ذهبا وهو لا يملك درهما واحدا يمكنه من مشترى ما يزيل به جوعه، وشدة الجوع ضرورة قصوى، ولكن الضرورة لا تتغلب على العصمة التي منحه الله إياها.



محمدٌ سيّدُ الكونَيْنِ والثقل *** نِ والفريقينِ مِن عُربٍ ومن عَجَمِ



ومن ذا الذي تحلى بهذه الصفات وجمع هذه الكمالات وطبع على هذه المكارم؟ هو محمد سيد الإنس والجن والعرب والعجم مبعث الهدي والنور لسائر الأُمَم صلى الله عليه وسلَّم.



نَبِيُّنا الآمِرُ الناهي فلا أحَدٌ *** أبَرَّ في قولٍ لا مِنْهُ ولا نَعَمِِ



هو نبينا الذي صدقنا برسالته وأمرنا بالعمل بشريعته واقتفاء سيرته الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، الصادق الوعد الذي لا يوجد في الخلق أوفى منه إذا قال لا أو نعم.



هو الحبيبُ الذي تُرجى شفاعتهُ *** لِكٌلِّ هَوْلٍ مِنَ الأهوالِ مُقتَحَمِ



وهو حبيبنا الذي لا يصل إلى مركز حبه أحد سواه، وكيف لا وهو هادينا وشفيعنا وملجؤنا في حياتنا.



دعا إلى اللهِ فالمُستَمسِكونَ بهِ *** مُسْتَمسِكونَ بِحَبلٍ غيرِ مُنْفَصِمِ



جاءته الرسالة فدعا الخلق إلى الله، فمن أجاب دعوته وعمل بشريعته وسار على سنته تمسك بسبب قوي من أسباب النجاة لن يضيع من تمسك به.



فاقَ النَّبيينَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ*** ولم يُدانوهُ في عِلمٍ ولا كَرَمٍ



فاق النبيين في الخلقِ والخُلُق وهم مع تحليهم بصفة النبوة والرسالة لم يقاربوه لا فيما منحهُ الله من علمٍ ولا فيما خصَّه الله من كرم فهو أعلم الخلقِ وأكرمهم على الإطلاق.



وكُلُّهُم من رسولِ اللهِ مُلتَمِسٌ*** غَرفاٌ من البحرِ أو رشفاً من الدِّيَمِ



وكيف يدانونه في صفةٍ من صفاته وكلهم من فيض بحرٍ معرفته وغناه مقتبس كلٌّ على قدر ما وهبه الله جلَّ وعلا غرفاً من البحرِ أو رشفاً من مياه الأمطار أي كثيرا أو قليلاً.



وواقفون لديهِ عندَ حَدِّهِم*** من نُقطَةِ العِلمِ أو من شكلَةِ الحِكَمِ



فجميعهم واقفون بالنسبةِ إليه عند حدِّهم مُعتَرفون له بالتَّقَدُّم والفضلِ، ومن أولى منهم بالاعتراف بالفضلِ لِصاحبه.



فهوَ الذي تَمَّ معناهُ وصورَتُهُ*** ثُمَّ اصطفاهُ حبيباً بارئ النَّسَمِ



فهو الوحيد في المخلوقين الذي كمَّلهُ الله ذاتاً وصِفات. وأدباً وكمالاً ثُمَّ اختاره حبيباً ورسولاً واسطة بينه وبين خلقه يُخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور فهو عين الكمال ونبراس الهدى ومهبط الوحي فلو تمثلت جميع الكمالات صورة لما تعدَّت ذاته.



منزَّهٌ عن شريكٍ في محاسِنِهِ*** فَجَوهَرُ الحُسنِ فيهِ غيرُ مُنْقَسِمِ



فهو المخلوق الوحيد الذي نزَّهه الله عن مشاركة مخلوق له في مميِّزاته ومحاسنه.



دَعْ ما ادَّعَتْهُ النصارى في نبيِّهمِ *** واحكم بِما شِئْتَ مَدحاً فيهِ واحتَكمِ



فيا من تريد وصفه كف عما لا قدرة لك عليه. لأنك لن توفيه بعض ما يجب له من الوصف الذي يليق بمكانته عند ربه. ولكن إذا أصررت على المدح فلا تجعله لله شريكاً كما فعل النصارى مع سيدنا عيسى، وبالغ في وصفه بما شئت فلست بموفيه حقه عليك ولو أفنيت البحار مدادا والأشجار أقلاماً. وكيف لا وهذه آياته البينات ما زالت تهدي الأمم إلى ما لم تكن تعلم خاضعة لقول الله تعالى (أولم يتفكروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله) وقوله (ويخلق ما لا تعلمون).



وانسب إلى ذاتِهِ ما شئت من شَرَفٍ *** وانسُبْ إلى قَدرِهِ ما شِئتَ مِنْ عِظَمِ



فانسب كل شرف علمته وكل عظم في القدر والجلال والفضل أدركته إلى ذاته الشريفة، فليس بعد ذاته وقدره ما يصح إسناد كل شرف وعظم إليه.



فإنَّ فضلَ رسول الله ليسَ لَهُ *** حدٌّ فَيُعْرِبُ عنهُ ناطقٌ بفَمِ



كرر في المدح ما شئت ونوِّع في المعاني وتلاعب بالألفاظ على قدر ما وهبك الله من علم وفهم فستعترف في النهاية بالعجز عن بلوغ فضل لا حد له حتى يعبر عنه ناطق بفم. لأن فضله فوق مدارك العقول البشرية.



لو ناسَبَتْ قَدرَهُ آياتُهُ عِظماً *** أحي اسمُهُ حينَ يُدعى دارِسَ الرَّممِ



ولئن بهرت العالم معجزاته وحيرت العقول آياته فكل ذلك صغير بالنسبة إليه لأن الله سبحانه وتعالى لو أعطاه من المعجزات ما يناسب قدره لأحي اسمه الأجساد البالية حين ينادي به عندها.



لم يَمْتَحِنَّا بما تَعيَى العقولُ بهِ *** حِرصاً علينا فَلَمْ نَرتَبْ وَلَم نَهِمِ



يقول: غير أنَّ الله سبحانه وتعالى فضلاً منه تكريماً لهذه الأمّة لطف بنا فلم يُعطِهِ من المُعجزات ما يكون سبب فتنتنا. كما افتتن قوم عيسى بإحيائه للموتى فجعلوه لله شريكا. فالحمد لله على نعمائه. والشكر له على أن جعلنا من اتباعه.



أعيَى الوَرى فَهْمُ معناه فليسَ يُرى *** للقُربِ والبُعدِ فيهِ غيرُ مُنفَحِمِ



فهو صلى الله عليه وسلَّم معنى غامض استأثر الله بمعرفة حقيقته فأعيى جميع الخلق فهمه فما سعى أحد وراء الوقوف على حقيقته إلا وعاد بعد الجهد مقراً بالعجز معترفاً بالجهلِ.



كالشَّمسِ تظهَر للعَيْنينِ مِن بُعُدٍ *** صَغيرَةً وتكِلُّ الطَّرفَ منْ أَمَمٍ



وذلك انه يظهر بداهة بشر مثل سائر البشر امتاز بالرسالة وأكرم بالنبوة ولكن متى شرع الإنسان في تحليل أخلاقه ومطالعة سيرته وجده بشراً غير البشر الذي درس أخلاقه وعلم طباعه فهو شيء عظيم استأثر الله بعلم ما حوى من جلال وجمال وكمال.



وكيفَ يُدرِكُ في الدُّنيا حقيقَتَهُ *** قَومٌ نِيامٌ تَسَلَّوْا عَنْهُ بِالحُلُمِ



فمن العبث وهو كما وصفنا أن يسعى إلى الوصول إلى فهم حقيقته قومٌ نِيام عن التفكير في ملكوت السموات والأرض. فلم تصف نفوسهم من أدران البشرية الخاطئة ولم تشتمل بنيران الملكية المعصومة.



فَمَبْلَغُ العِلْمِ فيهِ أنَّهُ بَشَرٌ *** وأنَّهُ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمِ



فغاية علم البشر فيه أنه بشر مثلهم وأنه خير خلق الله على الإطلاق.



وكلُّ آيٍ أتى الرُّسلُ الكرامُ بها *** فإنما اتصلَتْ مِن نورهِ بِهِمِ



يقول: وكل معجزات باهرات أيّد الله بها الأنبياء السابقين في دعواهم إنما هي مقتبسة من نوره صلى الله عليه وسلم.



فانه شمسُ فضلٍ هُم كواكِبُها *** يُظهِرنَ أنوارها للنَّاسِ في الظُّلَمِ



لأنه شمس الكون الحقيقية وهم كواكبها. ولهذا كان صلى الله عليه وسلم فضل الهداية من لدن آدم حتى قيام الساعة.



أكرِم بِخُلْقِ نبيٍّ زانَهُ خُلُقٌ *** بالحُسنِ مشتَمِلٍ بالبِشرِ مُتَّسِمِ



فأكرِم به من نبيّ تحلى بالحُسن خَلقاً وخُلُقا ولم يفارقه البِشْر يسرا وعسرا.



كالزَّهْرِ في تَرَفٍ والبَدرِ في شَرَفٍ *** والبَحرِ في كَرَمٍ والدَّهرِ في هِمَمِ



فهو كالزهر ليناً ورِقّة، وكالبدر شرفاً وعلوا وارتفاعا. وكالبحر كرما وعطاء. وكالدهر قوة وبطشا. والغرض من هذا التشبيه تقريب المعنى للأذهان كالتشبيه في قوله تعالى: {مثلُ نوره كمشكاة فيها مصباح * المصباح في زجاجة * الزجاجة كأنها كوكب درّيٌّ يوقَدُ من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار * نور على نور}، لأن قدر النبي أعلى من أن يشبه بالزهر والبدر والبحر والدهر.



كأنَّهُ وهْوَ فَردٌ من جلالتِهِ *** في عسكَرٍ حينَ تلقاهُ وفي حَشَمِ



وهو مع هذه الصفات التي لابدَّ من الجرأة لمن يتحلى بها من البشر. إذا لقيته فردا خاله ملكا في حشمه وجنده، لما وهبه الله من هيبة وجلال.



كأنَّما اللُّؤلُؤُ المكنونُ في صَدَفٍ *** مِن مَعدِنَيْ منطِقٍ مِنْهُ ومُبتَسِمِ



ومع هيبته هذه التي تخِرّ أمامها الجبابرة فهو إذا تكلَّم خِلت الدُّرَّ يتناثر من فمه حلاوة ورقة وإذا سكت نظرت اللؤلؤ المكنون مستقراً بين شفتيه صفّاً ولمعانا. فما لآليء الصدف المكنون إذا قيست بلآليء حكمه البالغة إلا خزف فسبحان من كوَّنه وجمَّله.



لا طيبَ يَعدِلُ تُرباً ضَمَّ أعظُمَهُ *** طوبى لِمُنتشِقٍ منهُ وَمُلتَثمِ



ومن الخصائص التي ميزه الله بها أن جعله طيبا بحيث لا يوجد في العالم طيبٌ يوازي زكاء رائحة تراب مكان حوى ذاته الشريفة لأن طيبه عليه السلام طيبٌ إلهي مستمر غير منقطع وقد أكرم الله من استنشق طيبه فجعل جزاءه الجنة.





في مولده عليه الصلاة والسلام



أبانَ مولِدُهُ عن طيبِ عُنصرِهِ *** يا طيبَ مبتدأ منهُ ومُختَتَمِ



وقد كشف مولده عليه السلام عن قدره وجليل خطره بما حدث عند ولادته من هُويِّ الأصنام وإرعاب الأعجام فما أطيب بدأه وختامه. إذ بدأ بسيدنا إسماعيل وخُتِم بعبد الله وكلاهما ذبيح طاهر محترم من الجميع فلم يزل عليه السلام منذ آدم يتنقل من طهر إلى طهر ومن ظهر إلى ظهر. بعيداً عن سفاح الجاهلية حتى تشرفت الكائنات بظهور بدر محياه وإشراق شمس علاه.



يومٌ تَفَرَّسَ فيهِ الفُرسُ أنَّهُمُ *** قَدْ أُنذِروا بِحُلولِ البؤسِ والنِّقَمِ



ففي يوم مولده فهم الفرس فراسة بما حلَّ ببلادهم من النوائب الجسام والصدمات التي حيرت الأفهام أنهم أُنذروا بالويل والثبور وعظائم الأمور فتأهبوا لِمُلاقاة النوائب بالعزم والقوة. فلم ينفعهم عزة ولا قوة ولا عدة ولا عدد عندما ظهر من سيذهب ملكهم ويهدّ جبروتهم.



وباتَ إيوانُ كِسرى وَهْوَ مُنصَدِعٌ *** كَشَملِ أصحابِ كِسرى غير مُلتَئِمِ



وها هي بوادر فشلهم قد بدأت بتصدُّع إيوان كسرى القوي البنيان الثابت الأركان إذ لم يقو ما شيدته يد الطغيان على البقاء أمام جلال صاحب البرهان كما تشتت شمل كسرى الكثير العدد القوي العدة ذعراً ورعباً من هول ما رأى من آيات بينات.



والنار خامدة الأنفاس من أسفٍ *** عليهِ والنَّهر ساهي العين من سَدَمِ



وظهرت جلية واضحة من خمود النار التي يعبدونها وهي لم تطفأ منذ آلاف السنين. وما ذلك إلا إيذاناً بانطفاء دولتهم. فوا أسفاه على من يعبدون النار من دون الواحد القهار. ووقف نهرهم عن جريانه إجلالاً لمولود بشرت به حيتانه. وحزنا لبعده عن دار هذا الذي غيَّر معالم الكفر ظهوره فأضاء ظلمات الجهالة نوره.



وساء ساوة أن غاضتْ بُحيرتُها *** ورُدَّ واردها بالغيظ حين ظَمي



وقد عم الحزن آل ساوة لما حلّ بهم البلاء بجفاف بحيرتهم التي عليها تتوقف حياتهم حتى رجع كل قاصد الري منها والغيظُ يأكل قلبه خيبة أمله وسوء منقلبه.



كأنَّ بالنَّار ما بالماء من بللٍ *** حُزناً وبالماء ما بالنَّارِ من ضَرَمِ



كأن الحال تبدل غير الحال فصار طبع النار البلل والري والانطفاء فخمد لهبها.... وصار طبع الماء الإحراق وإزالة الرطوبة فجف وزال.... أو حزن الماء والنار لعدم إسراع الفرس إلى اغتنام الخير بالتصديق بمن بشَّر الجماد بمولده.



والجِن تهتِف والأنوار ساطِعةٌ*** والحقُّ يظهرُ من معنىً ومن كَلِمِ



ماذا أصابهم حتى لم ينتبهوا إلى كل هذه الآيات وها هي الجنُّ تهتف مبشِّرة بظهور سيد الكائنات وفوق هذا كله فأنوار هذا البدر الذي انبثق في أُفق بطحاء مكة لا تخفى والبراهين الدالّة على علو كعبه وفضله متعددة قولا وفعلا فلِمَ لا تتدبرون أيها الفُرس ولِمَ لا تعقلون؟



عَموا وصمُّوا فإعلانُ البشائرِ لم*** تُسمع وبارقَةُ الإنذار لم تُشَمِ



سرت البشر بمولد هذا العظيم في جميع الأقطار بواسطة الطير في الهواء والحيتان في الماء. والوحوش في الفضاء والجن في جميع الأرجاء ومع كل هذا فقد صمت آذان هؤلاء القوم عند سماع بشرى المبشرين. وعميت أعينهم فلم يروا سواطع النذر المتكررة. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.



من بعدِ ما أخبرَ الأقوامَ كاهنَهُمْ*** بأنَّ دينهُم المُعوَجَّ لَمْ يَقُمِ



كل هذا قد حدث من بعد ما أخبرهم كاهنهم بأن دينهم قد انهار فلن تقوم له قائمة ولن يقر له بعد اليوم قرار فلم يفدهم شيء من هذا كما لم تفدهم من كاهنهم النصيحة وهو لديهم الصادق الأمين.



وبعدما عاينوا في الأُفْقِ من شُهُبٍ*** مُنقضَّةٍ وفق ما في الأرض من صنمِ



حتى بعدما عاينوا الشهب تنقض على الأصنام التي يعبدونها وبأيديهم يصنعونها فتبتلعها.



حتى غدا عن طريق الوحيِ مُنْهَزِمٌ *** من الشَّياطينِ يقفو إثرَ مُنهَزِمِ



ورأوا من الشياطين هارباً إثر هارب فراراً من الشهب المُحرقة التي حالت بينهم وبين استراق السمع إذ كانوا يُولون الأدبار واحداً بعد واحد عن طريق الوحي والشهب تتبعهم إلى حيث يتجهون حتى بعد كل هذا لم يرجعوا عن إعراضهم ويتدبروا في مستقبلهم.



كأنهم هرباً أطفالُ أبرَهَةٍ *** أو عسكرٍ بالحصى من راحتَيْهِ رُمِى



مع أن الشياطين في هربهم كانوا من الكثرة بحيث أشبهوا أبطال أبرهة الذي جاء بجيشٍ عظيم لهدم الكعبة حين شتت الله شملهم وأهلكهم دفاعاً عنها. أو جيش الكفار في غزوة بدر وحنين حين رماه المصطفى بالحصى فكانوا من المهزومين.



نبذاً بهِ بعد تسبيحٍ ببطنِهِما *** نبذَ المُسَبِّح من أحشاءِ مُنْتَقِمِ



حيث كان الحصى يُسبِّحُ بِراحتيه عليه السلام. فكان نبذه الحصى من كفه وهو يُسبح كإلقاء الحوت سيدَنا يونُس عليه السلام من جوفه وهو يقول: لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.





في معجزاته صلى الله عليه وسلم





جاءت لدعوته الأشجار ساجدةً *** تمشي إليه على ساقٍ بِلا قَدَمِ



لما بلغ المولود الذي شرَّفَه الله بما تقدم من الدَّلائل الساطعة الدّاَلّة على عِظم منزلته عند ربه أربعين سنة اصطفاه الله نبياً وبعثه رسولا وأمره بدعوة الخَلْقِ إلى عبادة الله وحده لا يُشركون به شيئاً مع التَّصديق برسالته فامتثل الأمر ودعا الناس سِراً ثم جهراً فآمن من سبقت سعادته وأبى من حقَّت عليه شقاوته فأيده الله في أثناء ذلك بآياتٍ بيِّناتٍ تصديقاً لهُ لِئلاّ يكون للجاحدين حُجَّةً يعتمدون عليها. وهي كثيرة لا تُحصى عدداً منها دعوته الشجرة التي أتت إليه تشُقُّ الأرض شقّا حتى وصلت إليه وشهِدت برسالته إجابة له.



كأنما سطرت سطراً لما كتبت *** فروعها من بديعِ الخط باللَّقَمِ



ولِئلا يكون في هذه المعجزة مجال لِدعوى السحر. ظهرت خطوط فروعها على وجه الأرض ظهور خط الكاتب في الصحيفة البيضاء. فرقاً بين المعجزة والسحر إذ السحر خيال لا يُرى له من الأثر الحقيقي شيء.



مِثل الغمامةِ أنّى سارَ سائرةً *** تقيه حرَّ وطيسٍ للهَجيرِ حَمىِ



ولا غرابة في سعي الشجرة إليه. إذ لا فرق بين سعي الشجرة إليه وتظليل الغمامة إياه وقاية من الشمس المحرقة في وسط الصحراء القفرة فكلاهما معجزة خارقة للعادة وقد اعترفوا بتظليل الغمامة قبل الرسالة فلم لا يعترفون بسعي الشجرة بعدها!



أقسمتُ بالقمرِ المُنشَقِّ إنَّ لَهُ *** من قلبه نِسْبَةً مبرورة القَسَمِ



وإني لأُقسم بالقمر الذي انشق له انشقاقاً محسوسا كما شق جبريل صدره الشريف شقاً حقيقيا، أقسم أنَّ بين انشقاق قلبه وانشقاق القمر نسبة لا مماراة فيها ولا إيهام.



وما حوى الغار من خيرٍ ومن كَرَمٍ *** وكُلُّ طرْفٍ من الكُفّار عنهُ عَمِي



وأقسم بما حوى الغار من خير ومن كرم عميت عيون الكفار عن الاهتداء إليه.



فالصِّدْقُ في الغار والصّدِّيقُ لَم يَرما *** وهُم يقولون ما بالغار مِن أرِمِ



إن النبي صلى الله عليه وسلم والصدّيق أبا بكر في الغار لم يبرحاه. وعمي الأبصار والبصائر ممن يبحثون عنهما يقولون ما بالغار أحد.



ظنّوا الحمامَ وظنّوا العنكبوتَ على *** خيرِ البرِيَّةِ لَمْ تَنْسُجْ وَلَمْ تَحُمِ



كبر على عقولهم الناقصة أن يُمكن الله العناكب من نسج خيوطها والحمام من طرح بيضها في بعض يوم. دفاعا عنه وصديقه إذ هما في الغار. فينصرهما العزيز القهار. وهما ضعيفان أعزلان لا حول لهما إلا بالله. وما هي إلا آية أيده الله بها لإنكارهم سعي الشجرة وانشقاق القمر، حقا إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.



وقاية الله أغنت عن مُضاعفةٍ *** مِن الدُّروعِ وعن عالٍ من الأُطُم



فيا أيها الأغبياء البلهاء، لا تعدوا ذلك مستحيلا لأنَّ العناكب والحمام سببان ظاهريان والفاعل في الحقيقة هو الله بقدرته العلية. وما إسناد الفعل لهذه المخلوقات الضعيفة إلا استهزاء بجبروتكم وتعجيزاً لقوتكم وحطّاً لكرامتكم التي تدعونها. وليس تصديق هذا بكبير عليكم لو رجعتم إلى العقل وخالفتم الشيطان لأنكم شاهدتموه بأعينكم ولمستموه بأيديكم... وإنه ليسير علينا التصديق به على السماع دون المشاهدة فما لكم لا تؤمنون؟ فبعدا للقوم الكافرين.. اللهم إني آمنت وصدقت بأن وقاية الله بهذين الحيوانين الضعيفين أشد وأعظم من وقاية الحصون المنيعة والدروع المضاعفة.



ما سامني الدهرُ ضيماً واستجرتُ بِهِ ***إلاّ ونِلتُ جِواراً مِنهُ لَمْ يُضَمِ



أقسمت بما مرّ جميعه أنني ما وقعت في شدة ولا ضرني أمر واستجرت بهذا الرسول إلا ونلت ما رجوت ونجوت مما خفت بما له عند الله من مكانة. حتى ازددت إيماناً به ويقيناً بصدق دعوته. إن كان بعد تصديق المؤمن ويقينه مزيد.



ولا التمسْتُ غنى الدّارينِ من يَدِهِ *** إلاّ استَلَمْتُ النَّدى مِنْ خيرِ مُسْتَلَمِ



ولا عضني الدهر وجردني الفقر وأزعجتني المعاصي والتمست غنى الدارين منه صلى الله عليه وسلم إلا استلمت عطاء جما وخيرا عميما من كريم، وتلك شيمة العرب العرباء فما بالك بسيد الأنبياء.



لا تُنكرِ الوَحيَ من رؤياهُ إنَّ لهُ*** قلباً إذا نامتِ العينانِ لَمْ يَنَمِ



فمتى علمت ما وهبه الله في صِغره من جميل الخصال كالأدب في اليتم والعلم مع الأُمية وتظليل الغمام وإزعاج الأعجام وتكسير الأصنام. فلا تُنكر أن رؤياه وحي من عند الله إذ هو ليس مثلي ومثلك لأنه إذا نامت عيناه فقلبه لا ينام. فما يراه في منامه حق لا خيال فيه ولا إيهام.



وذاك حين بلوغٍ من نبوتِهِ*** فليس يُنكر فيه حال مُحتلمِ



خصوصاً وأن هذه الرؤيا كانت بعد بلوغه السن التي أهلته لان يكون نبياً ورسولا وهاديا وواسطة بين الله وبين خلقه حيث تمت مداركه وحيث لا تنكر رؤيا راءٍ.



تبارك اللهُ ما وحيٌ بِمُكتَسَبٍ*** ولا نبيٌّ على غيبٍ بِمُتَّهَمِ



تنزه الله عن أن يجعل وحيه تحت سلطان أية قوة روحية حتى يكتسبه من يريده بالرياضة والعبادة وتنزه عن أن يتخذ نبياً كذوبا حتى يتهم فيما يخبر به من الأمور الغيبية.



كم أبرَأَتْ وَصباً باللمسِ راحتُهُ*** وأطلقَتْ أَرِباً من رِبْقَةِ اللّمَمِ



وكيف يتهم فيما ادعاه؟ وكم أبرأت مريضا باللمس راحته. وأطلقت مخبولا مسه الجن من أسر شيطان مارد فعاد إليه عقله ورد إليه صوابه بعد الجنون.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس