الموضوع: المكتوبات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-2011
  #17
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: المكتوبات

المكتوب السابع عشر

ذيل اللمعة الخامسة والعشرين

عزاء بطفل

باسمه سبحانه

} وَاِنْ مِنْ شَيءٍْ اِلاَّ يُسَبِـّحُ بِحَمْدِهِ{

السيد الحافظ ((خالد)) يا اخا الآخرة العزيز!

بِسْم الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

} وَبـَشِّر الصابرين ` الذين اذا اَصابَتْهُم مُصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون{ (البقرة: 155ــ 156)

أخي! لقد آلمني كثيراً نبأ وفاة طفلكم، ولكن الحكم لله، فالرضاء بقضائه والتسليم بقدره شعار الاسلام. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقكم الصبر الجميل، وأن يجعل لكم المرحوم ذخراً للآخرة، وشفيعاً يوم القيامة.

وسنبيّن لكم ولأمثالكم من المؤمنين المتقين ((خمس نقاط)) تشع بشرى سارة وتقطر سلواناً حقيقياً لكم.

النقطة الاولى:

ان معنى الآية الكريمة } وِلْدانٌ مُخَلَّدون{ وسرها هو هكذا:

إن أولاد المؤمنين المتوفين قبل البلوع سيخلَّدون في الجنة أطفالاً محبوبين بما يليق بالجنة.. وسيكونون مبعث سرور أبدي في احضان آبائهم وأمهاتهم الذين مضوا الى الجنة.. وسيكونون مداراً لتحقيق ألطف الاذواق الابدية للوالدين وهو حب الاطفال وملاطفة الاولاد.

وحيث أن كل شئ لذيذ موجود في الجنة، فلا صحة لقول مَن يقول: ((لا وجود لمحبة الاطفال ومداعبتهم في الجنة لخلوها من التكاثر والتناسل)). بل هناك الفوز العظيم بمحبة الاطفال وملاعبتهم بصفاء تام ولذة كاملة طوال ملايين السنين، من دون أن يشوبها ألمٌ ولا كدرٌ، بدلاً من محبتهم وملاعبتهم في عشر سنوات دنيوية قصيرة فانية مشوبة بالآلام. كل هذا تحققه الآية الكريمة بجملة } وِلْدانٌ مُخَلَّدون{ فتصبح اكبر مدار لسعادة المؤمنين وتزفّ أعظم بشرى لهم.

النقطة الثانية:

كان هناك - ذات يوم - رجل كريم في السجن.. ألُحق به ولده الحبيب أيضاً. فكان يتألم كثيراً بمشقات عجزه عن تأمين راحة إبنه فضلاً عن مقاساته آلامه الشخصية.

بعث اليه الحاكم الرحيم احداً ليبلّغه: ((أن هذا الطفل وإن كان إبنك إلاّ أنه واحد من رعيتي وأحد أفراد امتي، سآخذه منك لأربيه في قصر جميل فخم)).. بدأ الرجل بالبكاء والحسرة والتأوه، وقال: ((لا. لا اعطي ولدي ولا اسلّمه، إنه مدار سلواني!)).

انبرى له اصدقاؤه في السجن: يا هذا لا داعي لأحزانك ولا معنى لتألمك. إن كنت تتألم لأجل الطفل فهو سيمضي الى قصر باذخ رحيب بدلاً من أن يبقى في هذا السجن الملوّث المتعفن الضيق. وان كنت متألماً لذات نفسك وتبحث عن نفعك الخاص، فان الطفل سيعاني مشقات كثيرة مع ضيق وألم شديدين فيما إذا بقي هنا لأجل أن تحصل على نفع مؤقت ومشكوك فيه! اما اذا ذهب الى هناك فسيكون وسيلة لألف نفع وفائدة لك، ذلك لأنه سيكون سبباً لدرّ رحمة الحاكم لك، وسيصبح لك في حكم الشفيع. ولابد أن الحاكم سيرغب يوماً في أن يسعده باللقاء معك، ولا جرم أنه لن يرسله اليك في السجن، بل سيأخذك اليه ويخرجك من السجن ويبعثك الى ذلك القصر لتحظى باللقاء مع الطفل، فيما اذا كنت ذا طاعة له وثقة به.



وفي ضوء هذا المثال - يا أخي العزيز - ينبغي أن يتفكر فيه أمثالُك من المؤمنين عندما يتوفى أطفالهم، ويقولوا: إن هذا الطفل برئ، وان خالقه رحيم وكريم، فبدلاً من رقتي القاصرة عليه، وبدلاً من تربيتي الناقصة له، فقد احتضَنَتْه الرحمة الآلهية وضمته العناية الآلهية الى كنفها العظيم، وأخرجته من سجن المشقات والمصائب والآلام الدنيوية وارسلته الى ظلال جنة فردوسه العظيم. فهنيئاً لذلك الطفل!

ومَن يدري ماذا كان يعمل وكيف كان يتصرف لو ظل في هذه الدنيا؟ لذا فأنا لست متألما عليه، بل أراه سعيداً محظوظاً.. اما تألمي لنفسي بالذات فلا أتألم لها ألماً شديداً، فيما يخص متعتي الخاصة. اذ لو كان باقياً في الدنيا لكان يضمن لي محبّة الاولاد وملاعبتهم المؤقتة زهاء عشرة أعوام وهي مشوبة بالآلام، ولربما لو كان صالحاً بارّاً، وكان ذا قدرة في أمور الدنيا كان يمكنه أن يعينني ويتعاون معي، الا انه بوفاته فقد ضمن لي محبة الاولاد ولعشرة ملايين من السنين وفي الجنة الخالدة، وأصبح مشفّعاً لي للدخول الى السعادة الابدية، فلا أكون اذن شديدَ التألم عليه حتى على حساب نفسي كذلك. لان مَن غابت عنه منفعة عاجلة مشكوك فيها، وربح ألف منفعة آجلة محققة الحصول، لن يظهر الاحزان الأليمة، ولن ينوح يائساً أبداً!

النقطة الثالثة:

إن الطفل المتوفى.. ما كان إلا مخلوقاً لخالق رحيم، وعبداً له، وبكل كيانه مصنوعاً من مصنوعاته سبحانه، وصديقاً مودعاً من لدنه عند الوالدين ليبقى مؤقتاً تحت رعايتهما، وقد جعل سبحانه أمه وأباه خادمَين أمينين له، ومنح كلاً منهما شفقة ملذّة، أجرةً عاجلة أزاء ما يقومان به من خدمة.

والآن. إن ذلك الخالق الرحيم الذي هو المالك الحقيقي للطفل - وله فيه تسع وتسعون وتسعمائة حصة ولوالده حصة واحدة - اذا ما أخذ بمقتضى رحمته وحكمته ذلك الطفل منك مُنهياً خدماتك له، فلا يليق بأهل الايمان أن يحزنوا يائسين ويبكوا صارخين بما يومئ الى الشكوى أمام مولاهم الحق صاحب الحصص الالف، مقابل حصة صورية. وانما هذا شأن أهل الغفلة والضلالة.





النقطة الرابعة:

لو كانت الدنيا أبدية أبد الآباد، ولو كان الانسان فيها خالداً مخلداً، أو لو كان الفراق أبدياً، إذن لكان للحزن الأليم والأسف اليائس معنىً ما. ولكن ما دامت الدنيا دار ضيافة فاينما ذهب الطفل المتوفى فكلنا - نحن وأنتم كذلك - الى هناك راحلون لا مناص.

ثم ان هذه الوفاة ليست خاصة به هو وحده، بل هي طريق يسلكه الجميع.

ولما لم يكن الفراق أبدياً كذلك، بل سيتم اللقاء في الأيام المقبلة في البرزخ وفي الجنة. لذلك ينبغي القول: الحكم لله.. إن لله ما اخذ وما أعطى، مع الاحتساب والصبر الجميل والشكر قائلين: الحمد لله على كل حال.

النقطة الخامسة:

إن الشفقة التي هي ألطف تجليات الرحمة الآلهية وأجملها وأطيبها واحلاها.. لهي أكسير نوراني، وهي أنفذ من العشق بكثير، وهي أسرع وسيلة للوصول الى الحق تبارك وتعالى.

نعم، مثلما أن العشق المجازي والعشق الدنيوي - بمشكلات كثيرة جداً - ينقلبان الى ((العشق الحقيقي)) فيجد صاحبه الله جل جلاله، كذلك الشفقة - ولكن بلا مشكلات - تربط القلب بالله سبحانه ليوصل صاحبَه الى الله جل وعلا بأقصر طريق وأصفى شكل.

والوالد أو الوالدة على السواء يحبان ولدهما بملء الدنيا كلها، فعندما يؤخذ الولد من اي منهما فانه - إن كان سعيداً ومن أهل الايمان - يعرض وجهه عن الدنيا ويدير لها ظهره فيجد المنعم الحقيقي حاضراً فيقول: ما دامت الدنيا فانية زائلة فلا تستحق اذن ربط القلب بها، فيجد إزاء ما مضى اليه ولده علاقة وثيقة ويغنم حالة معنوية سامية.

إن أهل الغفلة والضلالة لمحرومون من سعادة هذه الحقائق الخمس وبُشَرياتها. فقيسوا على ما يأتي مدى ما هم فيه من أحوال أليمة؛ عندما تُشاهد والدة عجوز طفلها الوحيد الذي تحبه حباً خالصاً، يتقلّب في السكرات، يذهب فكرها حالاً الى رقوده في تراب القبر بدل فراشه الناعم الوثير، لما تتصور الموت عدماً وفراقاً أبدياً، لتوهمها الخلود في الدنيا ونتيجة الغفلة والضلالة، لذا لا يخطر على بالها رحمة الرحمن الرحيم ولا جنته ولا نعمة فردوسه المقيم.. فأنت تستطيع أن تقيس من هذا مدى ما يعانيه أهل الضلالة والغفلة من ألم وحزن يائس بلا بصيص من أمل.

بينما الايمان والاسلام وهما وسيلتا سعادة الدارين يقولان للمؤمن:

إن هذا الطفل الذي يعاني ما يعاني من سكرات الموت سيرسله خالقه الرحيم الى قدس جنته بعدما يخرجه من هذه الدنيا القذرة، زد على ذلك أنه سيجعله لك مشفّعاً، كما سيجعله لك أيضاً ولداً أبدياً... فلا تقلق إذن ولا تغتم. فالفراق مؤقت، واصبر قائلاً: الحكم لله } انا لله وِاِنا اليه راجعون{ .

الباقي هو الباقي

سعيد النورسي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس