عرض مشاركة واحدة
قديم 07-09-2011
  #6
عمرالحسني
محب فعال
 الصورة الرمزية عمرالحسني
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 93
معدل تقييم المستوى: 15
عمرالحسني is on a distinguished road
افتراضي رد: دراسات في التصوف ، في الشأن العام و الخاص: ( مقدمات)

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد و على آله و صحبه ، وبعد
يمنع أهل الله أحيانا في مذكراتهم التربوية الحديث عن شئون الحكم.و يظلون في معزل عن النصيحة العامة المأمور بها ، اللهم إن كان أمرا من الحاكم و طلبا منه كما تذكره بعض الروايات التاريخية ، في عبرة الحاكم التلقائية بسماع الموعظة الحسنة من فم ولي ناصح مرب.وقد كثر في أدبيات الدعاة إلى الله ، نوع من التذكير بمثل هذه المواقف.
يقول الشيخ عبد السلام ياسين ، في فقرة رجال صدقوا في كتابه رجال القومة و الإصلاح رجال صدقوا
في كل عصور الإسلام وَفَى لله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ولم تنقطع سلسلة الإرشاد والتربية ومقاومة السلطان الجائر، وإن تعددت المدارس، واختلفت الأساليب. من الإمام الحسين إلى الإمام الخميني عرفت الشيعة أئمة وعلماء حافظوا على جذوة الإيمان ورفض الظلم حية في ضمير الأمة. ومن الحسن البصري إلى حسن البنا عرف أهل السنة مربين ومقاومين مجاهدين جددوا الإيمان وحاربوا الطغيان.
منهم سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام. كان شَجىً في حلق الحكام، غضب على سلطان دمشق المُسَمَّى الصالحَ بن إسماعيل حين استنجد بالإفرنج على المَلِكِ نجم الدين أيوب سلطانِ مصر، فأسقط اسمه من الخطبة وخرج مهاجرا. فتبعته الحاشية وقالوا : "ما بينك وبين أن تعود إلى ما كنت عليه من الحظوة إلا أن تعود، فتنخشع للملك، وتُقَبِّلَ يده". فقال : "يا مساكين ! أنا لا أرضى أن يقبل السلطان يدي !".
ذهب العز إلى مصر فاحتفى به نجـمُ الدين، وكان شديد البأس لا يجسُرُ أحد أن يخاطبَه ابتداء. ففي محفَله ناداه عز الدين : يا أيوب ! ونهاه عن منكر. فسألوه بعد ذلك عن جُـرأته فقال : "يا بُنَيَّ، استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقِط،(...) فلا عظمة ولا سلطان، ولا بقاء ولا دنيا. بل هو (أي الملك) لا شيء في صورة شيء".
وطغى الأمراء المماليك واشتدت وَطْأتَهم على الأمة فأفتى الشيخُ أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء، ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة، وأنه لا يصح لهم شيء من هذا حتى يُباعوا ويرد ثمنُهم إلى بيت مال المسلمين. فغضب عليه الملك، فخرج مهاجرا وتبعه الناس لم يتخلف عنه رجل ولا امرأة ولا صبي ولا عالم ولا محترف. ففزع الملك وخرج يسترضيه[1].
ومنهم عبد الله بن ياسين. عالِمٌ مرب عاش في المغرب أواسِطَ القرن الخامس. وكان عصرا انتشرت فيه ردة قوم يُسَمَّوْن البُرْغْوَاطِيِّينَ. فانحاز بجماعة من الشباب في جزيرة يربيهم حتى اكتملت له العُدَّةُ. فزحف على الكفر، ولم شَعَثَ الأمة، وحمل السيف والدعوة حتى أسس دولة ترأسها من بعده الملكُ الصالح يوسفُ بن تاشفين. تُسَمَّى هذه الدولةُ دولة المُرابطين باسم رباط التربية والجهاد الذي خرج منه تلامذة عبد الله بن ياسين.
وكان يوسف بن تاشفين قائدَ جند الله في معركة الزلاّقة الشهيرة التي انتصر فيها المسلمون على جحافل الإسبان في الأندلس. فمَدّوا بذلك عُمْرَ الإسلام بتلك البلاد أربعة قرون. يوسف بن تاشفين الملك الصالح الذي لم يُغْوه السلطانُ فبقي على بَسَاطَةِ البدوي الصحراوي تُحْلَبُ له ناقةٌ منها طعامُهُ، ويدُه مبسوطةٌ على جزْءٍ مهم من شمال إفريقيا والأندلس. يُرْوَى أن الإمام الغزاليَّ هاجر إليه لما سمع من عدله، فلم تتم الهجرة لموت الملك الصالح.
ومنهم نورُ الدين بن زنكي الملكُ الصالحُ التقيُّ، نعُدُّهُ من البناة. وهو الذي هيأ لصلاح الدين الأيوبي قواعدَ الوحدة وأسَّسَ القوة التي اعتمد عليها لتجنيد الأمة في جهادها ضد الصليبية. كانا أميرين من حَمَلَةِ السيف، لكن جهادهما وصفاءهما وسَطَ الكَدَرِ، وإنجازهما التاريخيَّ، ترفعهما في ذاكرة الأمة وعند الله إن شاء الله إلى المراتب العليا. ولا نزكي على الله أحدا. رحمهم الله.
ومنهم في القرن الحادي عشر في المغرب الشيخ الحسنُ اليوسيُّ. قاوم الظلم ونشر العلم، وعاش مشردا طول حياته. ورسائله لإسماعيل مَلِكِ المغرب تشهد أنه ممن وَفَوْا لله حقّ النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.
ومنهم الشيخ الإمام أحمد بن عرفان الشهيدُ في الهند. ربى الرجال، وجند المومنين لقتال الكافرين منذ قرن ونصف.
ومنهم بعدَه المهديُّ السودانيُّ من أهل الطريق أهل المصحف والسيف. حارب الإنجليز في وقت كان فيه العالم الإسلامي منبهرا أمام قوة الاستعمار الهاجم. كان سلاحه أمام بنادق العدو ومدافعه رماح بسيطة وإيمان غلاب.
ومنهم قبله في الجزائر الإمام عبد القادر شيخ الطريق وأمير الجهاد وأستاذ المنبر. قاوم الاحتلال الفرنسي ست عشرة سنة. فكان مفخرة من مفاخر الإسلام.
ومنهم المشايخ السنوسية في ليبيا. أسسوا المدارس ونشروا الإسلام في إفريقيا. ولا يزال اسم الإمام أحمد السنوسي واسم عمر المختار وهو ثمرة تربية الجماعة السنوسية يجلجلان في أسماع التاريخ لجهادهما الاحتلال الإيطالي الوحشي الهمجي.
ومنهم محمد بن عبد الكريم الخطابي بالمغرب. عالم مجاهد، جمعَ القبائل، وواجه جيوش إسبانيا وفرنسا مجتمعين. فنصره الله نصرا مؤزرا. وكان ماوتسي تونغ الزعيم الصيني معجبا به. ولا يزال اليساريون والثوريون من كل جنس ومِلة يتحدثون عن جهاده ويعُدُّونه مخترع حرب العصابات الحديثة.
ومنهم عِز الدين القسامُ أب المقاومة ضد اليهود في فلسطين. عالِمٌ مِنَّا جاهد باسم الإسلام لا باسم القومية.
ومنهم علماء مسلمون شاركوا في حروب التحرير من الاستعمار، لكنهم رأوا جهادهم تمتصه الحزبية والوطنية لما تحالفوا مع غير جنسهم من هذه الأجيال التي قاومت الاستعمار استنادا إلى الدم والأرض والتاريخ لا إلى الدين. )رجال القومة و الإصلاح.
1.الحسن البصري
التابعي الجليل. تربى في حجر أُم سَلَمة أمِّ المومنين، فكانت تُلهيه وهو رضيع بثديها. فلمسته نفحة نبوية. ورباه الصحابة الكرام حتى غدا بحراً دافقا من العلم، ومثالا للتقوى والتواضع، وأسدا في الحق لا يخاف في الله لومة لائم. كانت برزت في بعض العلماء على عهده لَوْثَةٌ هي اليومَ فينا مُستَفْحِلَةٌ، وهي التشاغُل بتوافه المسائل عن مصير الأمة. فحارب الحسن علماءَ الخمول وعلماءَ الخلاف والتفاهات قبل حربه الظلمة. سأله وكيعٌ بن أبي الأسود : "يا أبا سعيد ! ما تقول في دَمِ البراغيث يصيبُ الثوب، أيُصَلَّى فيه ؟" فيُجيبه : "يا عجبا ممن يَلِغُ في دماء المسلمين كأنه كلب، ثم يسأل عن دم البراغيث !"[1]. حمَّلَ الإمام الحَسنُ وِزرَ الدماءِ الزكية التي سفحها غِلْمةُ قريش المفسدون العلماءَ الساكتين عن مقتل الحسين، ثم يسأل بعضهم عن دم البرغوث !
استدعاه عمر بن هبيرة، عامل يزيد بن عبد الملك على العراق، واستدعى معه الشعبيّ. فقال عمر : "إنَّ يزيد بن عبد الملك عبد أخَذ الله ميثاقَه، وانتجبه لخلافته. وقد أخذ بِنواصينا، وأعطيناه عهودَنا ومواثيقنا وصفْقَةَ أيدينا. فوجب علينا السمع والطاعة. وإنه بعثني إلى عراقكم غير سائل إيَّاه. إلا أنه لا يزال يبعث إلينا في القوم نقتُلهم، وفي الضِّياعِ نقْبِضُها، أو في الدُّور نهدمُها. فَنُوَلِّيه من ذلك ما ولاه الله ! فما تريان ؟".
وَالٍ يتنازعه عامل الوفاء لبيعةٍ هي رِبقة مفروضة لا تصح شرعا وعامل الغضب على ما يستعمله فيه يزيد من سفك الدماء وهتك الحُرَمِ. فيريد أن يتنصل من المأزق بدفع المسؤولية عنه وتحميلها مَن ولاّه.
أجابه الإمام الحسنُ قال : "يا عمر ! إني أنهاك عن الله أن تتعرض له. فإن الله مانعُك من يزيد، ولا يمنعك يزيدٌ من الله(...). إن هذا السلطان إنما جُعل ناصراً لدين الله، فلا تركَبوا دينَ الله وعباد الله بسلطان الله تذلونهم به. فإنه لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق جل وعز".
قاطع غِلْمَةَ قريش، ولذعهم بلسانه، وأفشى في العامة كراهيتهم. فلما ولِيَ الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز صحبه. فمن مواعظه له قال : "يا أمير المومنين، كن للمِثْلِ من المسلمين أخا، وللكبير ابنا،وللصغير أباً.وعاقب كل واحـد منهم بذنبه على قدر جُرْمِهِ، ولا تضربَنَّ لِغضبك سوطا واحدا فتدخلَ النار"[2].
ومِثلُ الحَسَنِ من ينصح الصالحين أمثالَ ابن عبد العزيز. قال عنه الغزالي : "ولقد كانَ الحسن البصـريُّ رحمه الله أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأقربَهم هَديا من الصحابة رضي الله عنهم. اتفقت الكلمة في حقه على ذلك"[3].
2.الفضيل بن عياض
ذكر ابن الجوزي أنَّ هارون الرشيد طاف في حجهِ على العلماء والصالحين يلتمس منهم أنْ يعظوه. حتى انتهى هو والفضل بن الربيع وزيرُه فقرعا الباب على الفضيل رحمه الله. فإذا هو قائم يصلي بآية يرددها. ثم أجاب الوزيرَ سائلا : "من هذا ؟" قال ابن الربيع : "فقلت : أجبْ أمير المومنين ! فقال : ما لي ولأمير المومنين ؟ فقلت : سبحـان الله ! أما عليك طاعة ؟ (...). فنـزل ففتح الباب، ثم ارتقى الغرفة فأطفأ المصباح. ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت.
"فدخلنا. فجعلنا نجول عليه بأيدينا. فسبقت كفُّ هارون قبلي إليه. فقال : يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله عز وجل ! (...) فقال : "إن عمر بن عبد العزيز لما ولِي الخلافةَ دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القُرَظِيَّ، ورجاءَ بن حَيْوَة، فقال لهم : إني قد ابتُليتُ بهذا البلاء فأشيروا علي. فعد الخلافة بلاء وعددتها أنتَ وأصحابك نعمة. فقال له سالم بن عبد الله : إن أردتَ النجاة غدا من عذاب الله فليكن كبيرُ المسلمين عندك أبا، وأوسطُهم عندك أخا، وأصغرُهم عندك ولدا.
"وقال له رجاء بن حيوة : إن أردت النجاة غدا من عذاب الله عز وجل فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت !
"وإني أقول لك : إني أخاف عليك أشد الخوف يوما تزل فيه الأقدام ! فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا ؟ فبكى هارون بكاء شديدا حتى غُشِيَ عليه. فقلت له : ارفق بأمير المومنين ؟ فقال : يا ابن الربيع ! تقتله أنت وأصحابُك وأرفُـقُ به أنا !"[1].
من علمائنا وصالحينا من انقبضوا عن السلطان انقباض الفضيل إذْ أطفأ مصباحه وترك الزائرين عند الباب يُشعِرُهما بهوانهما عليه. ومن الملوك من خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فيبكي إذا وُعظ، ثم ينصرف إلى الدنيا وبسطتها. يُفسدُ النظامُ الرجالَ، فأنى يُفلتُ من رِبقته إلاَّ أمثال عمر بن عبد العزيز ! وتبقى الأمة بعد مرور زيد وعمر من الناس في الربقة، ما منها من خلاص.
3.الإمام أحمد بن حنبل
لم يدرك إمامُ أهل الحديث رحمه الله قومة النفس الزكية وقومة يحيى، فلم يشارك في الخروج على الطغاة مثلما شارك أبو حنيفة ومالك والشافعي. لكن قولته المشهورة في الخروج ومشروعيته تحمل روح القومة لو وجد إليها سبيلا.
نذكر بهذه القولة البليغة التي رواها عنه القاضي أبو يعلى الحنبلي : "ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمِّيَ أميرَ المومنين، فلا يحل لأحد يومن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما، بَرّاً كان أو فاجرا"[1].
ولا شك أن شدة كراهته لمنكر المامون والمعتصم دفعه أن يأمل الخير في قائم "عليهم" بالسيف "بَرا كان أو فاجرا". وكأنه رحمه الله لشدة فجور المتسلطين يرى في مجرد الاستبدال خيرا. هذا تفسير آخر لهذه الكلمة، يخالف تفسير بعض الفقهاء الذين يستندون إلى مثل هذا النص ليُفتوا بجواز "ولاية الاستيلاء".
كانت له رحمه الله مكانة عظيمة في نفوس الأمة، أشْرَبَ الله قلوبَ الناس حُبَّه ومهابَته بعد أن أغدق عليه نِعمة العلم ومِنة التقوى. قال أحدُ معاصريه : "دخلت على إسحق بن إبراهيم (نائب بغداد) وفلان وفلان من السلاطين. فما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل. صِرتُ إليه أكلمه في شيء، فوقعَتْ عَلَيَّ الرِّعْدَةُ حين رأيته من هيبته"[2].
لا يحب الملوك والسلاطين من يزاحمهم على الرئاسة، ولا من تُجِلُّهم الأمة وتسمع نداءهم، سيما إن كانوا مثلَ ابن حنبل لا تلين لهم قناة في الحق. لهذا امتحنوه وعذبوه.
أصْدر المامون العباسيُّ أمره، بعد أن اعتنق بدعة القول بخلق القرآن، أن يُجْمَع العلماء والقضاة ويُمتحنوا في القول بمذهبه. فعزَل من خالفه، وأسقط شهادتَهم. ثم شدد الامتحان فتخلى الكل عن المقاومة إلا أربعة منهم الإمام أحمد. فسيق أحمد بن حنبل إلى بغداد مقيدا، وسُجن في سجن العامة ثلاثين شهرا. واستدعاه المعتصم، بعد وفاة المامون، إلى بَلاطه، وجمع له العلماء المُدَجَّنين لِيُناظروه.
قال ابن دُؤَادَ في ذلك المجلس : "يا أمير المومنين ! لئن أجابك لَهُوَ أحبُّ إليَّ من مائة ألف دينار، فيَعُدَّ من ذلك ما شاء الله أنْ يعد". فقال المعتصم : "والله لئن أجابني لأطلِقَنَّ عنه (يعني القيد) بيدي، ولأرْكَبَنَّ إليه بِجُندي، ولأطأن عَقِبَه (يعني يسير خلفه باحترام وتعظيم) !". وطال الإغراء وطالت المساومة. وما ظنُّك برجل لا يثمن عقيدته بمآت آلاف الدنانير، بمتاع قليل كما يثمن وزراء الجور.
قال الإمام أحمد : "وجلس المعتصم على كرسي ثم قال : العقَّابين والسياط ! فجيء بالعقابين (وهم الجلادون) فمُدَّت يدايَ. فقال بعض مَن حضر خلفي : خُذْ نَأْيَ الخشبتين بيديك، وشد عليهما ! فلم أفْهَمْ ما قال، فتخَلَّعَتْ يدايَ".
إذن فقد كان حتى في البلاط قومٌ يتعاطفون مع الإمام، فيُسِرّون إليه النصيحة ليخِفّ عنه العذاب.
قال الإمام : "ولما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم وقال : ائتوني بغيرها !" خليفةٌ جلاد ! "ثم قال للجلادين تقدموا ! فجعل يتقدم إليَّ الرجلُ منهم فيضربني سوطين، فيقول له : شُدَّ ! قطع الله يدك ! فلما ضُرِبْتُ تسعة عشر سوطا قام إليَّ (أيْ المعتصم) وقال : يا أحمد ! علام تَقتُلُ نفسك ! إني واللهِ عليك لشفيق ! قال : فجعل عُجَيْفٌ (جلاد) يَنْخَسُنِي بقائِمةِ سيفه.
"وقال : أتريد أن تغلب هؤلاء كلَّهم ! (يعني علماءَ القصر الكُثْرَ المتألِّبِين على الإمام). وجعل بعضهم يقول : ويلكَ ! الخليفةُ على رأسك قائم ! وقال بعضهم : يا أمير المومنين ! دمُه في عنقي ! اقتُله ! وجعلوا يقولون : يا أميرَ المومنين ! أنت صائم ! وأنت في الشمس قائم ! فقال لي : ويحك يا أحمد ! ما تقول ؟ فأقول : أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقولُ به. فرجع وجلس وقال للجلاد : تقدم وارجع، قطع الله يدك ! ثم قام الثانية، فجعل يقول : ويحك يا أحمد ! أجبني ! فجعلوا يُقْبِلُون عليَّ ويقولون : يا أحمد ! إمامُك على رأسك قائم"[3].
وأُغمي على الإمام، فطرحوه على وجهه وداسوه بنعالهم. وكان صائما فما أفطر. قال بعض معاصريه : "أُدْخِلَ الكير فخرج ذهبا أحمر". ما وهَنَ في سبيل الله. رحمه الله ورضي عنه.
هكذا نرى كيف كان بِساط الملك مَرْتعا لعلماء القصور عَبَدَةِ الطاغوت وأعوانِه، وكيف كان بساط الملوك نُطْعاً جُلدت عليه الأبشار، وسُفكت فيه دماء الأحرار. وإنها لمأساة في تاريخنا أن يَجِدَ الظلَمَةُ والطغاة من المنتسبين إلى العلم خداما خانِعين. والمأساة في عصرنا أشدُّ ما كانت عليه. رحم الله سيد قطب والإمام البنا والإمام باقر الصدر وسائر العلماء العاملين. حشرنا الله في زمرتهم.

4.شيخ الإسلام يُدافع عن الطريق
اشتهر بين أنصـار السنة من أهل الحديث شيخ الإسـلام ابن تيمية. عاش رحمه الله أواخر القرن السـابع وأوائل الثـامن (661-728) عصرا مضطربا. قال الشوكاني : "وقد وقع له من أهل عصره قلاقلُ وزلازلُ ، وامتُحن مرة بعد أخرى وحُبس حَبْسا بعد حبس". كان مثالا للزهد وعلو الهمة. قال تلميذه البزار : "ما رأيناه يذكر شيئا من ملاذِّ الدنيا ونعيمها. ولا كان يخوض في شيء من حديثها، ولا يسأل عن شيء من معيشتها. بل جُلُّ هِمته وحديثِه في طلب الآخرة وما يُقرِّب إلى الله تعالى".
حارب رحمه الله الطوائف الضالة ومن جملتهم فسادا وإفسادا القائلون بالحلول والوحدة المطلقة وما إلى ذلك من الكفريات نعوذ بالله. لا تهمنا تلك المعارك ولا نقلد في ديننا رجلا كائنا من كان دون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فإن أوردنا من كلام شيخ الإسلام ما يثبت احترامه وتعظيمه وتسليمه للعارفين بالله، فإنما نفعل لعل بعض المقلدة من كسالى الفكر،ومتحجري العقل، ممن يلف في جراب بؤسه المعنوي أقوالَ العلماء، ليحارب بها الأمة، يرجع ليبحث عن الحق كما بحث الرجال.
كانت أيام شيخ الإسلام جهادا متواصلا، قال كلمة الحق عند سلاطين الجور، وإن لم يُفْت بجواز الخروج عليهم. وحارب التتار، وحث الناس على جهادهم، وأصْلَتَ سيفه على المارقين والضالين، فأصابت ضرباتُه بعض أهل الله. هي معركة يغفر الله فيها إن شاء الله.
سأله الحافظ عُمَرُ البزار تلميذُه عن سبب اقتصاره في التأليف على مُحاربة الفِرَقِ الضالة فأجابه قائلا : "الفروعُ أمرها قريبٌ. فإذا قلد المسلم فيها أحد العلماء المجتهدين جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه. وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة، والباطنية، والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية، والنصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطلة، والمجسمة، والمشبهة، والراوندية، والكلابية، والسلمية، وغيرهم من أهل البدع، قد تجاذبوا فيها أزمة الضلال. وبان لي أن كثيرا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية"[1].
جيش عرمرم من الطوائف. ورجل من علماء الأمة يدافع عن "الشريعة المقدسة المحمدية" فهل طريق التربية الصوفية مخالفة للشريعة ؟
كتب شيخ الإسلام لأحد مشايخ الطريق، وهو الشيخ نصر المنبجي، يقول : "إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر، فتح الله على ظاهره وباطنه ما فتح به على قلوب أوليائه(...)، وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته(...). أما بعد فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ وأنعم به نعمة باطنة وظـاهرة في الدين والدنيا.وجعـل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا (قلت : يعني الصوفية الذين كان المنبجي أحد كبارهم) منـزلة علية، ومودة إلهية،لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد. فإنَّ العلم والإرادة أصل لطريق الهدى والعبادة"[2].
إلى أن يقول : "والله تعالى يعلم، وكفى به عليما، لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء (يعني الأدعياء في الطريق الصوفي) عن أهل طريق الله تعالى السالكين إليه من أعظم الواجبات، وهو شبيه بدفع التتار عن المومنين، لم يكن للمومنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تُكْشَفَ أسرارُ الطريق وتهتك أستَارُها"[3].
يقصد رحمه الله بأسرار الطريق وأستارها هذه الأذواق القلبية والأحوال الشريفة والمقامات العلية التي يكون الحديث عنها فتنة لمن ليس له استعداد أن ينفض يده من كل هم غير هَمِّ الله، ومن كل خطرة غير ذكر الله، ومن كل حركة غير عبادة الله والجهاد في سبيل الله. لا إله إلا الله محمد رسول الله.
عن هذه الأذواق والإلهامات القلبية يقول شيخ الإسلام : "لا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا (يعني للشريعة)، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق(...). وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثونَ. فإن يكن في أمتي فعمرُ منهم"[4].
فالرجل لا ينكر عجائب القلب، ولا الإلهام، ولا الكرامات، ولا اختصاص الله بعض عباده بالولاية الخاصة، وهي غير ولاية المومنين المتقين العامة.
والرجل يعظم المشايخ ويستشهد بهم، مشايخ الطريق أهل الولاية. يتحدث عن بعض من خاصمهم في الطريق فيقول : "فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين"[5].
هؤلاء الذين ذكرهم هم صفوة الأمة، سمَّوهم صوفية. تبَنَّى الدفاعَ عنهم، وسماهم مشايخ أهل الكتاب والسنة. ولا يمَلُّ يكيلُ لهم الثناء، ويُظْهِرُ تبجيله لهم، خاصة الإمام عبد القادر الجيلي رحمه الله.
قوم من المقلِدة رفعوا عِلْمَ هذا الإمام رايةً ليُكَفروا المسلمين. ليتهم على الأقل فهموه، وليتهم يفهمون !
إن معركة أهل السطوح مع أهل الله قائمةٌ أشَدَّ ما كانت. راجع كتاب الشيخ سعيد حوى "تربيتنا الروحية" وراجع كتاب "مدارج السالكين" لابن القيم رحمه الله وهو تلميذ ابن تيمية النجيب. وأبُثُّكَ هنا كلمة : إن فاتك البحث عن الطريق إلى الله فابك على نفسك، والسلام ! فاز والله من سلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء الناهجة ! .
5.الشيخ عبد القادر الجيلاني
من هؤلاء الكُمَّل رجلٌ أجمعت الأمة على صلاحه وولايته. كان قمةً في علوم عصره، قمة في التقوى والزهد، قمة في الجهر بالحق، قمة في التربية والحنُوِّ على الأمة. كانت الاستقامة على السنة النبوية مذهبَه، وكان الحثُّ عليها دَيْدَنَهُ.
قال رحمه الله : "اتبع الشرع في كل ما ينـزل بك إن كنت في التقوى التي هي القدم الأول (يعني في الطريق إلى الله). واتبع الأمر (أي أمر الشرع) في حالة الولاية ووجود الهوى (مادام يغلبك هوى نفسك) ولا تتجاوزه وهي القدم الثانية. وارض بالفعل (فعل الله)، ووافق، وَافْنَ، في حالة البَدَلِيَّةِ والعينية والصديقية (وهي مقامات أهل الله) وهي المنتهى. تَنَحَّ عن الطريق القَذِرِ، خلِّ عن سبيله. رُدَّ نفسك وهواكَ".
قال ابن تيمية بعد أن أورد هذا الكلام : "فقد بين الشيخ عبد القادر رضي الله عنه أن لزوم الأمر والنهي لا بد منه في كل مقام.(...) وقد بين أن صاحب الحقيقة (العارف بالله) عليه أن يلزم الأمر دائما؛ الأمر الشرعي الظاهر إن عرفه، أو الأمر الباطن. وبيَّن أن الأمر الباطنَ إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ولا محرم. وأن مثل هذا يُنْتَظَرُ فيه الأمر الخاصُّ حتى يفعله بحكم الأمر"[1].
إذن هنالك أذواق قلبية هي من قبيل الإلهام والتحديث الذي ورد في الحديث الصحيح. وابن تيمية إذ يشرح كلام الشيخ يتحدث حديث الخبير. ويورد كلام الإمام الجيلي ليرد على الطوائف الزائغة الكافرة القائلة بأن السالك يصل إلى مقام يرتفع فيه عنه تكليف الشرع. نعوذ بالله من الخذلان !
هؤلاء المحدَّثون الكمل أمثال الشيخ عبد القادر هم مستودعُ أسرار الله بين خلقه، هم حَمَلَة القرآن حقا، وأهلُ الاصطفاء صدقا. تأثيرُهم في الأمة لا يقارَنُ بتأثير الواعظ الفصيح الذي يهُزُّكَ هزا ثم تنفصل عنه بقلب ما لاَنَ، ولا بتأثير الفقيه يفتيك في النازلة بالدليل والبرهان ويتركك وشأنك.
قال السيد الجليل أبو الحسن الندوي رحمه الله يصف المربيَ النموذجيَّ الشيخ عبد القادر : "وانتهى الأمر إلى القرن السادس، وقد تباعد الزمان عن النبوة وآثارِها وبركاتها. واتسعت الدنيا، وكثرت أسبابُ الغفلة واللهو، وطال على المسلمين الأمَدُ فقست قلوبُهم. هنالك نهض في بغداد، دار السلام وقلبِ عالَم الإسلام، رجلٌ قوي الشخصية، قويُّ الإيمان، قويُّ العلم، قويُّ الدعوة، قويُّ التأثير. فجدد دعوة الإيمان والإسلام الحقيقي، والعبودية الخالصة، وأخلاقِ المومنين المخلصين. وحارب النفاق الذي اجتمع في المجتمع الإسلامي بقوة منقطعة النظير في تاريخ الإصلاح والتجديد. وفتح باب البيعة والتوبة (بيعة التوبة لا بيعة الإمارة) على مصراعيه، يدخل فيه المسلمون من كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي، يجددون العهد والميثاق مع الله(...).
قال رحمه الله : "وظل الشيخ يربيهم ويحاسبهم ويشرف عليهم وعلى تقدُّمهم. وأصبح هؤلاء التلاميذ الروحيون يشعرون بالمسؤولية بعد البيعة والتوبة وتجديد الإيمان على يد عبد مخلص وعالم رباني شعورا جديدا. وظل بينهم وبين الشيخ رباطٌ وثيق عميق أقوى من رباط التلاميذ بالأساتذة والشيوخ، ومن رباط الجند بالقائد، ومن رباط الرعية بالراعي(...).
"وقد كان لخلفائه وتلاميذه ولمن سار سيرتهم في الدعوة وتهذيب النفوس، من أعلام الدعوة وأئمة التربية في القرون التي تلته، فضلٌ كبيرٌ في المحافظة على روح الإسلام، وشُعلة الإيمان، وحماسة الدعوة والجهاد، وقوة التمرد على الشهوات والسلطات. ولولاهم لابتلعت المادة التي كانت تسير في ركاب الحكومات والمدنيات هذه الأمة"[2].







عمرالحسني غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس