عرض مشاركة واحدة
قديم 08-09-2008
  #8
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,181
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

معلم لغة الإسلام: نشط النورسي في تعليم اللغة العربية في المدة الواقعة بين عامي 1930م و 1950م، وهي المدة التي شهدت ركودًا كبيرًا في تعليم العربية على مستوى الجمهورية التركية. ولاسيما بعد حظر الأبجدية العربية، بل حظر كل ما له صلة بالإسلام. فعن العرب قال : «يتوقف تقدم العالم الإسلامي ورقيـه على تيقظهم وانتباههم» ثم أضاف: «إن الحمية الدينية والملية الإسلامية قد امتزجتا في الترك والعرب مزجًا لا يمكن فصلهما، وإن الحمية الإسلامية هي أقوى وأمتن حبل نوارني نازل من العرش الأعظم، فهي العروة الوثقى لا انفصام لها، وهي القلعة الحصينة التي لا تهدم».
إنني لا أذهب بعيدًا إذا قلت: ليت معلمي العربية لغير الناطقين بها ينهجون نهج النورسي، فإنه نهج يقوم على أسس، منها: صحبة التلميذ أستاذه. والربط الوثيق بين تعليم الدين وتعليم اللغة. وترتيب الدروس على مواعيد الصلوات. وتوظيف محصول الطلاب من الكتب التي يعرفونها بلغتهم الأم في دروس اللغة العربية. وممارسة النشاط اللغوي المتمثل في نسخ رسائل النور ومراجعة ما تنجزه المطبعة من ملازم، وتصحيحه على النسخ الأصلية. وحسن توظيف ما يعرفه الطلاب من الحروف العربية، ولاسيما الطلاب الناطقين بالأردية والفارسية والتركية العثمانية. كان يريد ـ بالإصرار على الكتابة بالحروف العربية ـ المحافظة عليها من الاندثار والنسيان، لأنها الحروف التي بها يكتب المصحف. وزوالها يعني استحالة كتابة المصاحف.
ومن تلك الأسس أيضًا الانغماس شبه التام في التعلم، فقد كان طلاب النورسي شبه ملازمين له، حتى في فترات سجنه ونفيه. و«اشتراك المساجد والمدارس الدينية ومعسكرات الجنود والسجون ومرافق المجتمع كافة في تعبئة عامة للتعليم». ووضوح الهدف لدى المعلم والمتعلم من عملية التعلم، وهو «استيعاب علوم القرآن وفهم النصوص الدينية المكتوبة باللغة العربية». وهو هدف يتسم بالوضوح والسمو معًا.
ومن الأسس توفير مكتبة للطالب، وقد كانت رسائل النور تمثل للطالب مكتبة مطالعة باللغة المستهدفة. أما التعلم التعاوني فقد طبقه النورسي قبل شيوع التنظيرات الأكاديمية لهذا الأسلوب في التعلم.
ومن تلك الأسس التكامل بين تعلم اللغة وتعلم المضامين المعرفية المعبر عنها بنفس اللغة. وهذا من أعمق الفلسفات في النظر إلى اللغة، ومن أشمل المداخل في تعليم اللغة وتعلمها. كان الطالب المتمكن يكلف بترجمة نصوص من اللغة المستهدفة (رسائل النور بالعربية) إلى اللغة الأم (التركية) وأحيانًا العكس، فقد كتبت بعض رسائل النور بالتركية ابتداء ونقلها الطلاب إلى العربية. التدريس المكثف اليومي من أنجع أنماط التدريس للغات. حكى تلاميذه:«كان الدرس يدوم على الأغلب ثلاث ساعات أو أربع ساعات وأحيانًا بل نادرًا يطول إلى خمس ساعات. كان يقرأ علينا باللغة العربية ويوضح ويشرح المعنى بالتركية. ولا يخفى ما للمثنوي العربي النوري من أهمية حيث يمثل منشأ «رسائل النور» وأصولها، وقد درسنا الأستاذ «المثنوي» مرتين. ودرسنا كذلك «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» العربية».
ومن تلك الأسس اتخاذ النص القرآني محورًا للتدريس، بل محورًا للحياة. يقول النورسي: «..فلم أجمّل أنا حقائق القرآن، بل لم أتمكن من إظهار جمالها، وإنما الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جمّلت عباراتي ورفعت من شأنها».
وكما جعل النص القرآني محورًا للتدريس، فقد جعله أيضًا أساسًا لفن الخط العربي الجميل. ولفن الخط العربي في تركيا سُمُوٌ خاص، حتى قيل: «نزل القرآن بمكة، وقرئ بمصر، وكتب بتركيا» نعم، أنجبت تركيا أعظم الخطاطين لكنوز الخط العربي. وقد كان النورسي هو الذي أشار على تلميذه (خسـرو) بكتابة المصحف الشريف، لإبراز التوافقات العجيبة في رسم لفظ الجلالة، مما عد لونًا من ألوان الإعجاز.
وكان النورسي يخطط لتصنيف معجم عربي، لا يذكر المعاني المتعددة للكلمة الواحدة ـ كما يفعل القاموس المحيط مثلاً ـ بل يورد الكلمات المتعددة التي تدور حول معنى واحد. وقد هيأ نفسه للمهمة فحفظ من القاموس المحيط إلى حرف السين. لكن لم ينجز مشروعه المعجمي، بل تركه فكرة، فالتقطها بعض المجتهدين.
سمات المعلم: وليت معاهد التعليم تبحث لمهمة تعليم العربية عن أكثر المعلمين كفاءة وتمكًنا، مثلما لم يكن هنالك من هو أشد تمكنًا من النورسي. كما كان المعلم (النورسي) يعتبر طلابه ـ غير الملازمين ـ ضيوفًا، فكان يرى حقًا للزائر على المزور أن يعامله معاملة الضيف. ولم يقبل النورسي قط أجرًا، فضلاً عن أن يقبل هدية أو صدقة. وله في هذا الأمر تشدد بالغ وعزيمة عرفت عنه منذ صغره، فقد جرت العادة في شرق الأناضول أن يأخذ الطلاب من أموال الصدقات، لكن الصبي سعيد كان يأبى في ترفع مبالغ فيه. كانت حياة النورسي تأويلاً لعبارة: «التدريس ليس سلة خبز، فهو تبليغ كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم للناس».
وكان مع الهيبة يبذل المحبة،كان طلابه يصفونه:«لا نرى فيه غير آثار الألفة والأنس مع الهيبة والجلال، نعم كان مبتسما على الدوام، وأحيانا تظهر عليه المهابة والصرامة بحيث ينعقد لساننا عنده ولا نتفوه بشيء» كان شخصية آسرة، وبعبارة الطلاب أنفسهم : «فما كنا نشعر بسأم ولا تعب مع الأستاذ، حتى ولو كان الدرس من الصباح إلى المساء، ومشيًا على الأقدام»
أوتي الصبر على سفاهة السفيه من الغلمان: رماه الصبيان بالحجارة حينما خرج من بيته يومًا في قسطموني قاصدًا التوضؤ من النبع، ولكنه تحمل وتجمل بالصبر، ولم يحمل في صدره غير السلامة وفي قلبه غير الطهر لأولئك الصبيان، فلم يغضب ولم يحقد عليهم بل دعا لهم بالخير وقال: لقد أصبح هؤلاء سببًا لكشفي سرا من أسرار آية جليلة في سورة «يس». ثم أصبح أولئك الصبيان ـ بفضل الله وبركة الدعاء لهم ـ بعد ذلك يهرولون إلى أستاذنا أينما رأوه ويقبلون يده ويرجون منه الدعاء.
كان النورسي يرى في طلابه أولادًا صالحين يدعون له من بعد موته، فقد عوضه الله بهم عن الذرية، وهو الذي لم يتزوج قط، فكان من دعائهم: «نسأل الله سبحانه أن يحشرنا مع أستاذنا بديع الزمان وكنز العلوم والعرفان وعلامة العصر الذي نشر حقائق الإيمان والقرآن طوال وجوده في مدينتنا قسطموني، وبذل كل ما في وسعه لننال السعادة، ونسأله تعالى أن نكون معه يوم الحشر الأعظم ويأخذنا بيده الحانية المنورة الطيبة إلى حضرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.. إن شاء الله»
اعتاد الخروج بالطلاب إلى الطبيعة، وربط مشاهدها بالتفكر في آيات الله ودلائل قدرته، مع استحضار ما يناسب المقام من آي القرآن العظيم. حكى الأستاذ مصطفى صونغور: «كنت أنا وزبير مع الأستاذ في غرفة في بستان على حافة بحيرة بارلا أغردير وذلك في ربيع سنة 1954م فقال الأستاذ: قبل ثلاثين سنة تقريبا وفي هذا الموسم حيث تتفتح أزاهير أشجار اللوز، كنت أتجول هنا مشيرًا إلى الأشجار والبساتين وإذا بالآية الكريمة: فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير. ترد إلى خاطري، وفتح الله علي هذه الآية في ذلك اليوم، فكنت أسير وأتجول وأتلوها بصوت عال حتى قرأتها أربعين مرة، وفي المساء ألفت رسالة الحشر، الكلمة العاشرة مع الحافظ توفيق الشامي أي أمليت عليه الرسالة وكتبها».
يذكر عبدالله جاويش أيضًا: «ذات يوم جئت إلى الأستاذ، وإذا بالحافظ علي وعدد من الطلاب عنده، بدأ الأستاذ يوزع أجزاء من القرآن الكريم عليهم ليستنسخوه مع تعليمات بكيفية الاستنساخ، ولأني أمي لا أعرف الكتابة والقراءة، قمت لأهيئ الشاي لهم كي أشاركهم الأجر، ولكن ما إن أتيت بالشاي لأوزعه عليهم حتى نهض الأستاذ وأخذ الشاي مني وبدأ هو بالتوزيع فخجلت، إذ كيف يوزع الأستاذ الشاي على طلابه! ولكني سكت أمام إلحاحه الشديد... ثم قال: إن استنساخكم أجزاء من القرآن الكريم، وسعيكم في سبيل القرآن مقبول عند الله الذي يراكم في وضعكم هذا، وملائكته الكرام يلتقطون صوركم في أوضاعكم هذه، وأنا لكوني خادمًا للقرآن الكريم ينبغي أن أقوم بخدمتكم.. فوزع عليهم الشاي وهم منهمكون بالاستنساخ».
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس