عرض مشاركة واحدة
قديم 08-07-2009
  #8
بنت الاسلام
بنت الاسلام
 الصورة الرمزية بنت الاسلام
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 1,350
معدل تقييم المستوى: 17
بنت الاسلام is on a distinguished road
افتراضي رد: الاسلام والاستعمار والهوية فى دول ساحل الصحراء

حاصل القول – كما سبق الذكر- أن التاريخ السياسي لدول الساحل الأفريقي موضع الدراسة لا ينفصل عن التاريخ العام للقارة الأفريقية التى شهدت منذ منتصف العقد الثامن من القرن التاسع عشر تكالباً استعمارياً غريباً عليها. وكما أتضح من العرض السابق كانت البلدان الأربع ( السنغال، مالى، النيجر، تشاد ) من نصيب فرنسا فى إطار المساومات والاتفاقات الاستعمارية التى دارت خلال مؤتمر برلين 1884-1885 وما تلاها من اتفاقات ومساومات. وقد كانت السنغال أولى البلدان الأربع التى وصلها النفوذ الفرنسي منذ القرن السابع عشر، وأن لم يستتب لها الأمر إلا مع منتصف القرن التاسع عشر. ولم يختلف الأمر كثيراً فى كل من النيجر ومالى اللتين خضعتا للاستعمار الفرنسي بعد جهاد اسلامى ومقاومة شديدة للاستعمار الفرنسي على نحو لم يكفل استتباب الأمر لفرنسا بالبلاد إلا مع بداية القرن العشرين بعد القضاء على مراكز المقاومة الإسلامية، وروحها فى كل من مالى والنيجر عبر سنوات طوال من الكفاح استخدمت فيها قوى الاستعمار ممثلة فى فرنسا كافة الأساليب المشروعة وغير المشروعة لبسط هيمنتها على كل من النيجر ومالى، وكان نصيب المسلمين والعرب فى تلك البلدان فى الاضطهاد والقهر أكبر على الصعيدين المادى والمعنوى. عبر محاولات طمس الهوية العربية والإسلامية فى تلك البلدان بإتباع سياسات الحكم المركزي المباشر وتطبيق سياسات الاستيعاب والفرنسة- على نحو ما سيرد البيان- على أن ما يعنينا فى هذا المقام أن كل من النيجر ومالى قد تحولتا إلى إقليمين من أقاليم أفريقيا الغربية الفرنسية مثلها فى ذلك مثل السنغال. أما بالنسبة لتشاد فقد بدأت المناوشات والأطماع الفرنسية بشأنها فى أواخر القرن التاسع عشر مما اضطر القبائل التشادية إلى توقيع اتفاقات سلام مع الإدارة العسكرية الفرنسية إلا أنه سرعان ما تم إخضاع تشاد للهيمنة الفرنسية عام 1899. وهى الهيمنة التى توجت بسقوط آخر معاقل المقاومة الوطنية التشادية "قصيرى"[92] بالقرب من العاصمة الحديثة "فورت لامى". وبهذا الانتصار الفرنسي عام 1900 تم توحيد امبراطورتى فرنسا فى أفريقيا الغربية والاستوائية عام 1908 . لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل تاريخ بلدان المنطقة فى ظل نظم وسياسات الحكم الفرنسي. وهو ما تتناوله الصفحات التالية:
ثالثاً: نظم الحكم الفرنسي وسياسة الاستيعاب
1- نظم الحكم الفرنسي فى المستعمرات الأفريقية
ما كاد القرن التاسع عشر يصل إلى نهايته حتى كان الاحتلال الفرنسي لغرب أفريقيا قد أوشك على الاكتمال وكان من الصعب على الإدارة الفرنسية فى السنغال أن تدعم سيطرتها على تلك المساحة الشاسعة من الأراضي التى سيطرت عليها القوات الفرنسية والتى امتدت إلى المناطق الساحلية فاقتضى الأمر توحيد المصالح الفرنسية فى المنطقة وإيجاد حكومة عليا تشرف وتدير المستعمرات كلها.
لقد تم تنظيم أدوات الحكم الفرنسية بعد تخطيط الحدود بين هذه المستعمرات. ومنذ أيام الجمهورية الثالثة ظهر تياران متعارضان حول إجراءات تنظيم هذه الأجهزة الحكومية وكان التيار الأول يرى أن يتم التنظيم على أساس إقليمى فتقوم العلاقات المباشرة بين حكومة المستعمرة وبين وزارة المستعمرات والحكومة الفرنسية فى باريس. وكان التيار الثانى يرى أن يتم التنظيم على أساس فيدرالى فتقوم العلاقات بين اتحادين فيدراليين فى أفريقيا الغربية وفى أفريقيا الاستوائية وبين وزارة المستعمرات والحكومة الفرنسية فى باريس. وقد تغلب التيار الثانى وتم التنظيم الإداري والحكومى على أساسه قبل صدور دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة عام 1946 [93]
ويتكون الاتحاد الفيدرالي فى كل منطقة من عدة وحدات تخضع كل منها لحاكم يخضع بدوره للحاكم العام للاتحاد. ويمثل هذا الحاكم العام الجمهورية الفرنسية وهو مسئول أمام وزير المستعمرات الفرنسي وقد ساد نظام الحكم المباشر فى كل وحدات الاتحاد عدا السنغال التى كان لها تمثيل فى البرلمان الفرنسي كما ظهر فيها نظام البلديات وقد أصبح السنغاليون مواطنين فرنسيين فى عام 1916، وتكون فيها مجلس وسيط بين مستوى البلديات وبين مستوى البرلمانات كما ضم كل اتحاد مجلس وحكومة يعين أعضاؤه بحكم وظائفهم أو بحكم عضويتهم فى المجالس المكونة للاتحاد. وظل التشريع للمستعمرات فى يد رئيس الجمهورية الذى لا يستشير الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ إنما يتم التشريع للمستعمرات للمستعمرات بناء على إعداد وزير المستعمرات وإمضاء رئيس الجمهورية وتبلغ هذه التشريعات للحاكم العام بوصفه ممثل الجمهورية وليقوم الحاكم العام بدوره بإبلاغ هذه القرارات والتشريعات لمساعديه وعلى الحاكم إصدار القرارات والأوامر التنفيذية [94].
ويعتبر وزير المستعمرات هو المرجع الرئيسي فى إدارتها وهو الذى يعين الحاكم وعلى هذا فإن الضغط السياسي أو الاقتصادي يوجه إليه أو إلى حزبه ولم تحاول الحكومة الفرنسية بين الحربين وضع سياسة طويلة الأمد تجاه المستعمرات كما لم تحاول تمثيل الأفريقيين فى مجالس تشريعية أو تنفيذية لكن أثناء الحرب العالمية الثانية. ومع بروز فليكس أبويى ذلك الأفريقي الذى وصل إلى منصب الحاكم العام فى أفريقيا الاستوائية الفرنسية وأيد ديجول والحلفاء وأصدر نشرة فى عام 1941 تدعو لرفض فكرة الاستيعاب الاندماحى واحترام المؤسسات القبلية والنظم والعادات الوطنية. كان لابد أن تطور السياسة الاستعمارية الفرنسية من نفسها إذ تمشياً مع هذه التطورات ونمو الحركة القومية فى المستعمرات التى دافع أبناؤها عن استقلال فرنسا ذاتها من الاحتلال النازى أثناء الحرب العالمية الثانية، رأت حكومة فرنسا الحرة أن تقابل هذا الموقف الناشئ فى أفريقيا بشئ من الحكمة فبدأت تدعو إلى عقد مؤتمر برازفيل عام 1944 [95].
- مؤتمر برازفيل 1944 [96]:
انعقد هذا المؤتمر فى الكونغو ولم يحضره أى أفريقى وحضره حكام المستعمرات الفرنسية ورجال الإدارة وبعض أعضاء البرلمان وتوضح قرارات هذا المؤتمر الخطوط العريضة لسياسة فرنسا الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية ولم يصدر المؤتمر توصيات محددة ومفصلة عن كيفية تمتع الأفريقيين بتكوين الجمعيات التشريعية لكنه طالب بنظام اللامركزية وإنشاء جمعيات تمثيلية من المستعمرات تضم فى عضويتها الأفارقة والفرنسيين وأصر المؤتمر على إلغاء قانون العمل الإجباري واعترف بحق الأفارقة فى حياة أفضل وكان هذا المؤتمر بالفعل بداية سلسلة من الجهود توجت بمنع السخرة فى المستعمرات الفرنسية.
كما استبعد المؤتمر كل اتجاه نحو تحرير المستعمرات من الارتباط بفرنسا حتى فى المستقبل القريب كما أشار إلى ضرورة تمثيل المستعمرات على نطاق واسع فى الجمعية الوطنية وفى المجالس المنتخبة تقديراً لتلك التضحيات التى قدمتها المستعمرات خلال الحرب وظهرت فكرة ارتباط فرنسا مع مستعمراتها فى اتحاد فيدرالي الهدف منه تدعيم وحدة فرنسا الكبرى. واتخذ المؤتمر قرارات هامة تتعلق بإصلاح أحوال التعليم وعلاج المشكلات الاجتماعية والاقتصادية واحترام حرية العمل وتطوير القوانين لمنع الظلم الواقع على الأفريقيين بالإضافة إلى النهوض بالصناعات الأفريقية.
- الاتحاد الفرنسي ودستور 1946:
لقد استعانت الجمعية التأسيسية التى وضعت دستور عام 1946 بقرارات مؤتمر برازافيل حيث نص الدستور على تكوين الاتحاد الفرنسي من الجمهورية الفرنسية (فرنسا الأوروبية ومديريات ما وراء البحار) وأقاليم ما وراء البحار (مستعمرات أفريقيا) والدول الشريكة (مراكش وتونس ودول الهند الصينية والأقاليم الشريكة فى الكاميرون وتوجو) ظهر الاتحاد الفرنسي الاستعماري نتيجة لظهور دستور فرنسا 1946 وهو يختلف قليلاً عن الشكل الاستعمارى الامبراطورى قبل الحرب وأول أشكال هذا الاختلاف أن الدستور وعد بمنح الرعوية الفرنسية للمنضمين إلى الاتحاد وبحقهم فى الجلوس إلى جانب الفرنسيين فى البرلمان الفرنسي على أن تطبيق ذلك قد اعتمد على التفرقة العنصرية والتمييز بين الأوروبيين والأفريقيين ثم التمييز بين الموالين لفرنسا من هؤلاء وأولئك المتمسكين بالهوية الوطنية الأفريقية ومن ثم لم تنجح النظم الانتخابية المزدوجة إلى طبقتها فرنسا فى أى من المستعمرات وهى تشبه إلى حد كبير النظم التى حاولت بريطانيا تطبيقها فى مستعمراتها روديسيا ونياسالاند وكينيا، والاختلاف الثانى الذى جاء به الاتحاد الفرنسي هو إيجاد نوع من العلاقة بين فرنسا والمحميات السابقة التى اتخذت فرنسا لها اسم الدولة المنضمة أو المنتسبة هذه الدول التى رفض أهلوها الرعوية الفرنسية وانصبت هذه العلاقة على تمثيل هذه المستعمرات فى هيئتين استشاريتين أولهما مجلس الاتحاد والذى كان يضم بعض نواب المستعمرات إلى جانب عدد مماثل من النواب الفرنسيين. وثانيهما المجلس الأعلى للاتحاد الذى كان يضم- نظرياً- مندوبين من الدول المنتسبة وفرنسا وهكذا أدى عدم تطبيق هذا التعديل إلى فشل محاولة خلق الاتحاد الذى كانت تبغيه الجمهورية الثالثة نتيجة رفض المغرب وتونس الاعتراف به وقيام الهند الصينية بحركتها التحررية.
والاختلاف الثالث هو محاولة فرنسا تقديم الحكم الذاتى للمستعمرات على درجات متقاربة أو متباعدة تبعاً لاشتداد الحركات الوطنية فى المناطق المختلفة الواقعة عبر البحار.
وكان انتشار القومية الأفريقية وهزيمة فرنسا فى الهند الصينية عام 1954، واضطرارها إلى التسليم باستقلال المغرب وتونس بعد ذلك، وانبثاق الثورة فى الجزائر سبباً فى انهيار الشكل الجديد من الاستعمار الفرنسي الذى فشل فى التعرف على حقيقة التيارات الوطنية فى آسيا وأفريقيا وكانت النتيجة تقديم مشروع 1956 الذى نص على تمتع المستعمرات بمجالس تشريعية وبحكم ذاتي تشرف عليه مجالس وزارية يرأسها رئيس الجمهورية الفرنسية ولكن هذا فشل أيضاً [97].
دستور ديجول:
عندما سقطت الجمهورية الفرنسية الرابعة فى مايو 1958 كانت حركة التحررية الأفريقية قد بلغت أشدها ولم يعد مشروع الاتحاد الفرنسي كافياً. وبعد ذلك جاءت الجمهورية الخامسة التى أقامت نظام الجماعة الفرنسية محل الاتحاد الفرنسي وغيرت دستور البلاد فى أغسطس 1958 [98] وقد تقرر فيه ما يلى:
1- أن تكون فرنسا مع الجمهوريات الأفريقية التى تقبل هذا الدستور رابطة الجماعة الفرنسية وهو اتحاد فيدرالي بين جماعات مستقلة.
2- تتكون حكومة الجماعة الفرنسية من رئيس الجمهورية الفرنسية ومندوب عن كل جمهورية من جمهوريات الجماعة وسكرتير عام ومستشار فني وتعتبر حكومة مسئولة عن السياسة الخارجية للجماعة وعن شئون الدفاع والعملة والشئون الاقتصادية العامة والتعليم العالي.
3- للجماعة مجلس تنفيذى من رؤساء حكومات الجماعة لدراسة المسائل الكبرى التى سبق أن بحثها مجلس الوزراء.
4- أن يكون للجماعة مجلس شيوخ من مندوبين عن برلمانات الدول الأعضاء.
5- تقدم فرنسا المعونة الفنية والإدارية لأعضاء الجماعة.
والجماعة الفرنسية التى ابتكرتها الجمهورية الخامسة اصطلاح غير محدد وتعريف عائم وتتألف من فرنسا نفسها واثنتى عشرة دولة وقد أجريت فيها الانتخابات فى ديسمبر 1958 واختارت كل منها الاسم الذى أرادته ثم قامت بوضع دستور خاص اشترك فى وضعه الفرنسيون وبعد ذلك أجريت انتخابات عامة لتكوين المجالس التشريعية[99].
وتتألف الجماعة من أجهزة ثلاثة هى المجلس التنفيذى ويتكون من رئيس الوزراء الفرنسي ورؤساء الأقطار المنضمة والوزراء الذين يعينهم رئيس الجمهورية ومهمة المجلس بحث السياسة العامة والتأكد من وجود تنسيق كامل للحكومات المختلفة داخل الجماعة ومن المسائل التى يختص بها المجلس التنفيذي بحث الاعتمادات المالية للإدارة فى كل قطر. والجهاز الثانى هو مجلس الشيوخ ويتكون من مندوبين عن البرلمان الفرنسي وعن برلمانات الأقطار المنضمة ومهمته بحث الشئون المالية والاقتصادية الخاصة بالجماعة قبل تقديم مشروعات القوانين الخاصة بالجماعة قبل تقديم مشروعات القوانين الخاصة بها للبرلمان الفرنسي أو البرلمانات المحلية ودراسة المعاهدات الدولية والاتفاقات التى تمس الجماعة، وهو يتخذ قرارات ملزمة للدول المنضمة والجهاز الثالث يتمثل فى لجنة تحكيم عليا تتكون من سبعة أعضاء ينتخبهم رئيس الجماعة وهو رئيس الجمهورية الفرنسية. ومهمتها الفصل فى المنازعات التى تثار بين أعضاء الجماعة وقراراتها ملزمة لتكفل صالح فرنسا وسياساتها.
ونلاحظ أن نظم الحكم فى الجماعة لم تترك جانباً إلا وفرضت عليه الشخصية الفرنسية الاستعمارية وألغت الشخصية الأفريقية إلغاءً تاماً ولقد ركز دستور الجماعة جميع الموضوعات والسلطات فى يد رئيس الجمهورية الفرنسية الذى يعتبر أوتوماتيكياً رئيساً للجماعة واختصاصات رئيس الجماعة واسعة شاملة بل ديكتاتورية ويمثله فى كل قطر مندوب سام يختاره بنفسه إذا شاء بعد استشارة مجلس الشيوخ. ويحق له ان يرأس المجلس التنفيذي ويدعو إلى انعقاده ويقرر جدول أعماله وهو الذى يعين سكرتيراً عاماً للمجلس ومن حقه وضع القوانين التى يقترحها المجلس وله مطلق الحرية فى تنفيذها كما يشرف على تنفيذ قرارات لجنة التحكيم والمعاهدات .. والواقع أن قائمة اختصاصات رئيس الجمهورية طويلة ومحكمة بحيث تجعل منه ديكتاتورياً لا مرد لكلمته بل تجعل منه السلطة الوحيدة فى الجماعة الفرنسية التى تتمتع بحق اتخاذ قرارات ملزمة ولقد صيغت المواد بشكل مانع بحيث تترك السلطة فى يد ديجول. كما أن العلاقة القائمة بين الجماعة من ناحية وفرنسا من ناحية أخرى يكتنفها الغموض وتركت هكذا ليقوم ديجول بتفسيرها. ومن ثم يمكن القول أن ديجول قد وضع قوانين هذه الجماعة بحيث يعيد الحياة إلى الحكومة المركزية الفرنسية خاصة فى النواحى المالية والشئون الخارجية والدفاع والمصالح المشتركة[100].
وقد قام ديجول بجولة فى المستعمرات الأفريقية فى أغسطس 1958 لشرح أهداف دستوره وأعلن أن الذين يرغبون فى الاستفادة من مزايا نظام الجماعة الفرنسية عليهم التصويت بالإيجاب أما الذين يرغبون فى الاستقلال فعليهم التصويت بالنفى. وعندما طرح الدستور وافقت عليه جميع المستعمرات أي البقاء فى المجموعة الفرنسية عدا مستعمرة غينيا بسبب نفوذ سيكوتورى القوى فأعلن استقلالها عام 1958 [101].
ولكن نظام الجماعة الفرنسية بما له من عيوب ديكتاتورية كان ولابد من أن يؤدى إلى انفجار جديد يطيح بالجماعة الفرنسية فتتفق دولها على ضرورة أن تكون السيادة منفصلة تمام الانفصال عن فرنسا حيث لم يستمر هذا النظام سوى عامين.
وفى عام 1960 أجبرت فرنسا على الاعتراف باستقلال دول الجماعة الفرنسية وعقدت كل منها معاهدة تحدد نوع العلاقة بين البلدين وهكذا استقلت دول الساحل الأفريقى عن فرنسا وصارت أعضاءاً فى الأمم المتحدة لقد اختلفت العلاقة بين فرنسا والأراضى الواقعة فيما وراء البحار من عهد إلى عهد خلال مائة عام من السيطرة والاستعمار لكنها تميزت دائماً بإدارة مركزية صارمة مقرها باريس.
هذا عن تطور نظم الحكم الفرنسية منذ الاستعمار حتى الاستقلال لبلدان أفريقيا، على أن الممارسات الفرنسية تركت بصماتها على الواقع الأفريقى حتى بعد رحيلها، وذلك من جراء ما طبقت من سياسات تسعى إلى تذويب هوية سكان تلك المناطق العربية الإسلامية لا سيما فى الشمال وتعميق الفوارق بين شمال البلاد وجنوبها بتشجيع بعثات التبشير والنعرات التقليدية المناهضة للتوجه العربي الإسلامي فى البلدان موضع الدراسة. وفيما يلى نعرض لملامح السياسة الفرنسية فى تعاملها مع المنطقة والمجتمعات الإسلامية فيها. باستعراض أسس ومبادئ سياسة الاستيعاب وجوهرها. ثم التطورات التى طرأت عليها وآثار كل هذا على الهوية الإسلامية لشعوب تلك المنطقة وعلاقاتها.
ب- سياسة الاستيعاب:
على الرغم من اختلاف السياسة الفرنسية تجاه الأراضي الواقعة فيما وراء البحار من عهد إلى عهد خلال المائة عام من السيطرة والاستعمار إلا أنها تميزت دائماً بإدارة مركزية صارمة مقرها باريس. حيث عمدت فرنسا فى معظم مستعمراتها إلى تطبيق سياسة الحكم المباشر، وتطبيقاً لذلك محت فرنسا جميع الزعامات القبلية والمحلية وقضت على النظم التى كانت موجودة أصلاً فى بلدان الساحل الأفريقى. وهى الزعامات والنظم التى كانت فى مجملها وجوهرها زعامات ونظم إسلامية بالأساس.
ومن عجب أن السياسة الاستعمارية الفرنسية بُنيت على بعض المبادئ البراقة فى مظهرها والتى أعلنتها الثورة الفرنسية حيث استند الفرنسيون فى دعايتهم على أن جميع سكان المستعمرات يجب أن يكونوا مواطنين فرنسيين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. وعلى هذا الأساس قامت نظرية الاستيعاب[102] (Assimilation) وتعنى هذه السياسة فرض الثقافة الفرنسية ونظم المؤسسات السياسية والاجتماعية على الأفريقيين حتى يستوعبوها فيصبح كيانهم النفسي والثقافي متفرنساً كالفرنسيين أنفسهم وتتم هذه العملية عن طريق تثقيف وتربية وتعليم طويلة المدى بعبارة أخرى كان جوهر تلك السياسة يقوم على قطع كل صلة للأفريقى المسلم بتاريخ قومه وحضارته وهذه السياسة فى جوهرها ومضمونها كانت تتسق والهدف الفرنسي الرامى إلى تخليد وتأييد الاستعمار الفرنسي بتعميق روابطها بين المركز (باريس) والمحيط أو الأطراف ممثلة فى مستعمراتها فيما وراء البحار. عبر الجناحين الأساسيين لسياستها ممثلين فى الإدارة المركزية المباشرة وسياسة الاستيعاب والدمج القائمة فى أبعادها على تخلى الشعوب المستعمرة عن كافة مواريثهم الحضارية. بمختلف مظاهرها ومقوماتها ثم تبدأ تدريجياً فى تشرب الثقافة الفرنسية بكل تقاليدها ومظاهرها ثم ما يتبع ذلك تلقائياً من ارتباطها اجتماعياً وسياسياً وتاريخياً بالأم الكبرى فى فرنسا[103] .
لقد كان فى اعتقاد فرنسا أن أعظم منحة يقدمها الفرنسيون للمستعمرات الأفريقية هى تلك الثقافة واللغة الفرنسيتين.
لقد حاول الفرنسيون تطبيق سياسة الاستيعاب هذه أو ما يطلق عليه "الاستعمار الثقافي" فى المستعمرات التى خضعت للسيطرة الفرنسية بالرغم من وجود أوضاع سياسية وحضارية متفاوتة بين هذه المستعمرات والبلدان[104] .
وبعد الثورة الفرنسية وجد القادة الجدد أن تخضع المستعمرات لعمليات دمج كاملة فى النظم والإدارة والقانون وارتبط هذا الواقع العملى فى أذهانهم بالأساس الفلسفى للثورة وقد اعتقد الفرنسيون فى سياسة إنسانية مؤداها أنه يجب على أهالى المستعمرات معرفة مآثر ومحاسن النظم الفرنسية وأن كل تقدم ورقى يصيبهم لن يأتى أو يتحقق إلا عن طريق الثقافة الفرنسية ولغتها والمستويات الروحية التى أتت بها لكن بينما كان الإيمان بهذه السياسة فى باريس؛ كان التطبيق فى أفريقيا بالاستيلاء على مستعمرات جديدة يقوم بها القواد العسكريون والجيش الفرنسي وهذه الفلسفة ظاهرها المساواة وعدم التفرقة على اللون والعنصر لكن ظهرت تفرقة قائمة على أساس الاستيعاب. فقد ميز الفرنسيون بين الأفريقيين الذين خضعوا لقانون الأحوال الشخصية الفرنسي فى الزواج والطلاق والميراث وبين الذين لم يخضعوا لهذه القوانين حيث ترتب على ذلك وضع قانون الانديجينا – (Indigenant)- وهو مجموعة من الأوامر الإدارية والعرفية التى يطبقها الضباط والحكام العسكريون والمدنيون وتنطبق على الرعايا الأفريقيين الذين لم يرتفعوا إلى مستوى الاستيعاب والاندماج فى البيئة الاجتماعية الفرنسية[105] لقد كان الهدف من هذا القانون هو تطبيق سياسة الفرنسة الجماعية. وقد لجأ الفرنسيون بمقتضى هذا القانون إلى إلغاء السلطات القضائية التى كانت فى يد الزعماء المحليين وتركيزها فى يد الضباط الفرنسيين الذين كان من حقهم إلقاء القبض على أي أفريقى وحبسه لمدة خمسة عشر يوماً لدواعى الأمن والصالح العام ومن ثم صار القواد الفرنسيون هم أصحاب السلطة المطلقة ولم يكن من حق الأفريقى الاعتراض[106] .
لقد كان هدف الفرنسيين هو فرنسة جماعية لكل الأفريقيين وكانت أي مقاومة لهذه الفرنسة تعد بمثابة جريمة بشعة وعدم اعتراف بالفضل والرقى الفرنسي لكن هذه السياسة لم تحقق الغرض وبدأ الكتاب الفرنسيون ابتداءاً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر يوجهون النقد لهذه السياسة وبدأت تظهر أفكار جديدة ضد سياسة الاستيعاب وتبنى يوليوس هارماند نظرية السياسة القائمة على المشاركة (Politique d’association) وتهدف هذه النظرية الجديدة إلى تكوين مجموعة من الأفريقيين قادرة على استيعاب الثقافة الفرنسية وأطلق على هذه المجموعة اسم النخبة (Elite) والهدف من هذه السياسة أن يتم التعاون بين الإدارة الحكومية الفرنسية وبين هيئات وأفراد محليين فى سبيل خلق زعامات أفريقية تقود الشعوب والمجتمعات إلى طريق الحضارة والمدنية أى أن هدف هذه السياسة يكون فرنسة هذه الزعامات والقيادات بدلاً من الفرنسة الاجتماعية للشعب.
كان هدف الفرنسيين تكوين نخبة تستوعب التراث الفرنسي وتتشكل أفكارها وثقافتها بالقيم الفرنسية ولا تنفصل هذه النخبة عن المجتمع المحلى وتبقى على اتصال وثيق به وتكون بمثابة حبل بين هذه الثقافة الفرنسية والشعوب الأفريقية[107] .
كان الاستيعاب الاندماجي يهدف إلى فرنسة إجماعية للأفريقيين لكى يذوبوا فى كيان فرنسا الأوروبية ويعيشوا كما يعيش الفرنسيون فى القارة الأورويبة. أما المشاركة فهى سياسة فرنسية تهدف إلى خلق زعامات أو قيادات تستوعب الثقافة الفرنسية ولكنها تعيش فى ظل الإطار الأفريقى وتقود جموع الشعب على أساس عاداته وتقاليده الأفريقية لكن سياسة المشاركة أو فرنسة النخبة لم تنجح فى خلق زعامات أو قيادات أفريقية تتفق وأهواء الفرنسيين لأنهم لم يهدفوا إلى تطبيق نظام الحكم غير المباشر الذى يطبقه الإنجليز فى غرب أفريقيا ذلك لأن السلطة التى رغبت فرنسا أن تمنحها لهذه الزعامات الأفريقية إنما هي سلطة مظهرية لأن السلطة الحقيقية كانت فى أيدى الفرنسيين [108].
لقد تفاوت تأثير السياسات الفرنسية بين مستعمرات غرب أفريقيا. ولقد كان للسنغال وضع مميز فى الاتحاد الفرنسى حيث اختيرت مركزاً له وأصبحت "سانت لويس" عاصمة له ثم داكار 1904 مما يدل على الاهتمام الفرنسى بالسنغال باعتبار أنها المستعمرة المفضلة فهى من أقدم المستعمرات الفرنسية. وقد أعطيت حق انتخاب مندوب لها منذ عام 1848 عندما سمح لمواطن سانت لويس وجوريه بانتخاب مندوب لهما فى البرلمان الفرنسي ولكن هذه الخطوة التحررية التى أقدمت عليها الجمهورية الثانية لم تلبث أن ألغيت ثم أعيدت فى عهد الجمهورية الثالثة 1871. وهكذا منذ ذلك الحين صار للسنغال وضعها الخاص وكونت فرنسا فى كل من سانت لويس وداكار وجوريه وروفسك كوميونات وأصبح للكوميونات الأربع مجالس على غرار مجالس كوميونات فرنسا وقد ظهر التأثير الفرنسي بوضوح فى هذه المناطق من حيث انتشار اللغة الفرنسية والمدارس والبعثات التبشيرية، وأصبح من السهل تقبل المواطنين السود كمواطنين فرنسيين مثلهم مثل البيض تماماً وتم تأسيس مجلس بلدي فى السنغال شبيهاً لمجالس المقاطعات فى فرنسا وطوال القرن التاسع عشر ضم المجلس مرشحين أفارقة إلى جانب الأوروبيين والفرنسيين واهتم المجلس بالمصالح الفرنسية فى المقام الأول على أنه مما تجدر الإشارة إليه أن أعضاء المجلس من الأفارقة قد نافسوا التجار الفرنسيين، وفى عام 1919 صار لتلك القوى سيطرة كبيرة على المجلس [109].
__________________
بنت الاسلام غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس