عرض مشاركة واحدة
قديم 01-22-2009
  #2
هيثم السليمان
عضو شرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: دير الزور _ العشارة
المشاركات: 1,367
معدل تقييم المستوى: 17
هيثم السليمان is on a distinguished road
افتراضي رد: حُسْنُ التَّفَهُمِ والدَّرك لمسألةِ التَّرك

الترك لا يدل على التحريم :
قررت في كتاب (الرد المحكم المتين) أنّ ترك الشيء لا يدل على تحريمه,وهذا نص ما ذكرته هناك:والترك وحده إن لم يصحبه نص على أنّ المتروك محظور لا يكون حجّة في ذلك بل غايته أن يفيد أنّ ترك ذلك الفعل مشروع,وإمّـا أنّ ذلك الفعل المتروك يكون محظوراً فهذا لا يستفاد من الترك وحده,وإنمـا يستفاد من دليل يدل عليه.ثمّ وجدت الإمام أبا سعيد بن لب ذكر هذه القاعدة أيضاً؛فإنـه قال في الرد على من كره الدعاء عقب الصلاة:غاية ما يستند إليه منكر الدعاء إدبار الصّلوات أنّ التزامه على ذلك الوجه لم يكن من عمل السّلف,وعلى تقدير صحة هذا النقل ,فالترك ليس بموجب لحكم في ذلك المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه,وأمّا تحريم أو لصوق كراهية بالمتروك فلا,ولا سيما فيما له أصل جملي متقرر من الشرع كالدعاء.
وفي المحلى (ج2ص254) ذكر ابن حـزم احتجاج المالكيّة والحنفيّة على كراهية صلاة ركعتين قبل المغرب بقول إبراهيم النخعي أنّ أبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يصلونهما ورد عليهم بقوله: لوصح لما كانت فيه حجة,لأنه ليس فيه أنهم رضي الله عنهم نهوا عنهما.
قال أيضاً:وذكروا عن ابن عمر أنّـه قال :ما رأيت أحداً يصلّيهما.ورد عليه بقوله :وأيضاً فليس في هذا لو صح نـهي عنهما ,ونحن لا ننكر ترك التطوع ما لم ينه عنه.وقال أيضاً في المحلّى (ج2ص271)في الكلام على ركعتين بعد العصر:وأما حديث علي ,فلا حجـة فيه أصلاً,لأنّه ليس فيه إلا إخباره بما علم من أنـه لم يرَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ,صلاّهمـا,وليس في هذا نـهي عنهما ولا كراهة لـهما,فما صام عليه السّلام قط شهراً كامـلاً غير رمضان وليس هذا بموجب كراهيّة صوم شهـر كامل تطوعاً,اهـ.[/align][/COLOR] فهذه نصوص صريحة في أن الترك لا يفيد كراهة فضلاً عن الحرمة.وقد أنكر بعض المتنطعين هذه القاعدة ونفى أن تكون من علم الأصول فدل بإنكاره على جهل عريض ,وعقل مريض. وها أنا ذا أبين أدلتها في الوجوه التالية:
أحدهما:أن الذي يدل على التحريم ثلاثة أشياء:
1- النـهي, نحو ((ولا تقربوا الزنا)),((ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)).
2- لفظ التحريم نحو((حرمت عليكم الميتة)).
3- ذم الفعل أو التوعد عليه بالعقاب,نحو ((من غش فليس منا)).
والترك ليس واحداً من هذه الثلاثة,فلا يقتضي التحريم.
ثانيها:إنّ الله تعالى قال :((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) ولم يقل: وما تركه فانتهوا عنه,فالترك لا يفيد التحريم.
ثالثها:قال النبي,صلّى الله عليه وآله وسلّم: ((ما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)) ولم يقل :وما تركته فاجتنبوه فكيف دل الترك على التحريم؟رابعها:أنّ الأصوليين عرفوا السنّـة بأنها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وفعله وتقريره ولم يقولوا وتركه,لأنه ليس بدليل.
خامسها:تقدم أن الحكم خطاب الله ,وذكر الأصوليون :أن الذي يدل عليه قرآن أو سنة أو إجماع أو قياس ,والترك ليس واحداً منها فلايكون دليلاً.سادسها:تقدم أن الترك يحتمل أنواعاً غير التحريم ,والقاعدة الأصولية أن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال بل سبق أيضاً أنه لم يرد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ,إذا ترك شيئاً كان حراماً وهذا وحده كاف في بطلان الاستدلال به.سابعها:أن الترك ظل كأنه عدم فعل,والعدم هو الأصل والفعل طارىء والأصل لا يدل على شيء لغة ولا شرعاً,فلا يقتضي الترك تحريماً. أقوال غير محررة :
قال ابن السمعاني إذا ترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً وجب علينا متابعته فيه,واستدل بأن الصحابة حين رأوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أمسك يده عن الضب توقفوا وسألوا عنه..
قلت:لكن جوابه عليه الصلاة والسلام بأنه ليس بحرام-كما سبق-يدل على أن تركه لا يقتضي التحريم فلا حجة له في الحديث,بل الحجة فيه عليه.وسبق أن الترك يحتمل أنواعاً من الوجوه,فكيف تجب متابعته في أمر محتمل لأن يكون عادة أو سهواً أو غير ذلك مما تقدم؟!.

كلام ابن تيمية :
سئل عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور,في مرض به أو بفرسه أو ببعيره,ويطلب إزالة الذي بهم أو نحو ذلك ؟
فأجاب بجواب مطول وكان مما جاء فيه قوله:ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر به أحد من الأئمة,يعني لم يسألوا الدعاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته كما كانوا يسألونه منه في حالة حيـاته.
وقلت في الرد عليه:وأنت خبيربأن هذا لا يصح دليلاً لما يدعيه وذلك لوجوه.
أحدها:أن عدم فعل الصحابة لذلك يحتمل أن يكون أمراً اتفاقياً ,أي اتفق أنهم لم يطلبوا الدعاء منه بعد وفاته,ويحتمل أن يكون ذلك عندهم غير جائز,أو يكون جائزاً وغيره أفضل منه فتركوه إلى الأفضل...ويحتمل غير ذلك من الاحتمالات..والقاعدة أن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال.انتهى المراد منه.
قلت:ويؤيد أنهم لم يتركوه لعدم جوازه أن بلال بن الحارث المزني الصحابي ذهب عام الرمادة إلى القبر النبوي وقال:((يارسول الله استسق لأمتك))فأتاه في المنام وقال له:((اذهب إلى عمر وأخبره أنكم مسقون,وقل له :عليك الكيس الكيس))
فأخبر عمر فبكى وقال:((اللهم لا آلوا إلا ما عجزت عنه)) ولم يعنفه على ما فعل,ولو كان غير جائز عندهم لعنفه عمر.قال ابن كثير صحيح الاسناد.
حديث صحيح لا يرد قولنا :
قال البخاري في صحيحه:(باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم)وروى فيه عن ابن عمر قال:اتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من ذهب فاتـخذ الناس خواتيم من ذهب فقال:إني اتخذت خاتماً من ذهب))فنبذه وقال:((إني لن ألبسه أبداً))فنبذ الناس خواتيمهم.قال الحافظ:اقتصر على هذا المثال لاشتماله على تأسيهم به في الفعل والترك.
قلت : في تعبيره بالترك تجوّز,لأن النبذ فعل,فهم تأسّوا به في الفعل ,والترك ناشئ عنه.وكذلك لما خلع نعله في الصلاة,وخلع الناس نعالهم,تأسوا به في خلع النعل ,وهو فعل نتيجته الترك. وليس هذا هو محل بحثنا كما هو ظاهر.
وأيضاً فإننا لا ننكر اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم في كل ما يصدر عنه,بل نرى فيه الفوز والسعادة لكن ما لم يفعله كالاحتفال بالمولد النبوي وليلة المعراج.لا نقول إنه حرام,لأنه افتراء على الله,إذ الترك لا يقتضي التحريم.وكذلك ترك السلف لشيء-أي عدم فعلهم له-لا يدل على أنه محظور,قال الإمام الشافعي:((كل ماله مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف))لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت,أو لما هو أفضل منه أو لعله لم يبلغ جميعهم علم به.
ماذا يقتضي الترك؟
بيّـنا فيما سبق أن الترك لا يقتضي تحريـماً وإنما يقتضي جواز المتروك,ولهذا المعنى أورده العلماء في كتب الحديث,فروى أبو داوود والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال:((كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار)).
أوردوه تحت ترجمة :"ترك الوضوء مما مست النار" والاستدلال به في هذا المعنى واضح ,لأنه لو كان الوضوء مما طبخ بالنار واجباً ماتركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحديث تركه دل على أنه غير واجب.قال الإمام أبوعبدالله التلمساني في مفتاح الوصول:((ويلحق بالفعل في الدلالة,الترك,فإنه كما يستدل بفعله صلى الله عليه وآله وسلم على عدم التحريم يستدل بتركه على عدم الوجوب.وهذا كاحتجاج أصحابنا على عدم وجوب الوضوء مما مست النار به)),روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضّـأ,وكاحتجاجهم على أن الحجامة لا تنقض الوضوء,بما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم احتجم ولم يتوضّـأ وصلّى(انظر مفتاح الوصول ص93 طبعة مكتبة الخانجي) ومن هنا نشأت القاعدة الأصوليّة:(جائز الترك ليس بواجـب).
إزالة اشتباه:
قسم العلماء ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشيء ما ,على نوعين:
نوع لم يوجد ما يقتضيه في عهده ثم حدث له مقتضى بعده صلّى الله عليه وآله وسلم فهذا جائز على الأصل.
وقسم تركه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع وجود المقتضى لفعله في عهده,وهذا الترك يقتضي منع المتروك,لأنه لو كان فيه مصلحة شرعيّـة لفعله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم,فحيث لم يفعله دل على أنه لا يجوز.
ومثل ابن تيمية لذلك بالأذان لصلاة العيدين الذي أحدثه بعض الأمراء وقال في تقريره :فمثل هذا الفعل تركه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضياً له مما يمكن أن يستدل به من ابتدعه,لكونه ذكراً لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله وبالقياس على أذان الجمعة.فلما أمر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بالأذان للجمعة,وصلّى العيدين بلا أذان ولا إقامة,دل تركه على أن ترك الأذان هو السنّة,فليس لأحد أن يزيد في ذلك....الخ كلامه.
وذهب إلى هذا أيضاً الشاطبي وابن حجر الهيتمي وغيرهما,وقد اشتبهت عليهم هذه المسألة بمسألة السكوت في مقام البيان.صحيح أن الأذان في العيدين بدعة غير مشروعة,لا لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم تركه ولكن لأنه صلّى الله عليه وآله وسلم بيّـن في الحديث ما يعمل في العيدين ولم يذكر الأذان فدل سكوته على أنه غير مشروع.
والقاعدة:أن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر.وإلى هذه القاعدة تشير الأحاديث التي نهت عن السؤال ساعة البيان.
روى البزار عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم :((ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً ثم تلا((وما كان ربك نسيّاً)).قال البزار :إسناده صالح,وصححه الحاكم.
وروى الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ,وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرّم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)).
في هذين الحديثين إشارة واضحة إلى القاعدة المذكورة وهي غير الترك الذي هو محل بحثنا في هذه الرسالة,فخلط إحداهما بالأخرى مما لا ينبغي. ولذا بينـت الفرق بينـهما حتى لا يشتبه أحد .وهذه فائدة لا توجد إلا في هذه الرسالة والحمد لله.
هيثم السليمان غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس