الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #32
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

النكتة الخامسة

اسم الله الاعظم

الحي

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

} فانْظُر الى اثارِ رحْمتِ الله كيفَ يُحْيي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها

إنّ ذلك لَمُحْيي الموتى وهو على كل شيءٍ قدير{ (الروم:50)

} الله لا اله الاّ هو الحيُّ القيُّومُ لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نوٌم... { (البقرة: 255)



لقد تراءت في افق عقلي نكتة من النكات الدقيقة للآيتين المذكورتين، وتجلٍ من تجليات نور الاسم الاعظم ((الحي)) أو أحد نورَيه، أو أحد انواره الستة، وذلك. في شهر شوال عندما كنت في سجن ((اسكي شهر)). فلم اتَمكن ان اثبّتها في حينه، ولم استطع ان اقتنص ذلك الطائر السامي، ولكن بعدما تباعد ذلك القَبسُ الوضئ اضطررت الى الاشارة اليه بوضع رموزٍ ترمز الى اشعةِ تلك الحقيقة الكبرى، وذلك النور الاعظم.

وسأشير اليها هنا باختصار:

الرمز الأول:

ما ((الحياة)) التي هي تجلٍ أعظم لأسم الله ((الحي المحيي))؟

وما ماهيتها؟

وما مهمتها؟

جواب هذا السؤال نُدرجه على صورة فهرس، على النحو الآتي:

الحياة هي لهذه الكائنات:

أهمُّ غاية..
وأعظمُ نتيجة..
وأسطع نور..
وألطفُ خميرة..
وأصفى خلاصة..
وأكملُ ثمرة..
وأسمى كمال..
وأزهى جمال..
وأبهى زينة..
وهي سرُّ وحدتها..
ورابطةُ اتحادها..
ومنشأ كمالاتها..
وهي أبدع ذاتِ روحٍٍ فيها، من حيث الاتقان والماهية..
وهي حقيقتُها المعجزة؛ تُصير أصغر مخلوقٍ عالَماً بحدّ ذاته..
وهي اروع معجزات القدرة الإلهية؛ بجعلها الكائن الحي بمثابة كونٍ مصغر، فكأنها - اي الحياة - وسيلةٌ لأنطواء الكائنات في ذلك الكائن الحي الصغير؛ بما تُظهر فيه ما يشبه فهرس الكون العظيم، كما تجعله في رباط وثيق مع معظم الموجودات..
وهي صنعةٌ الهية خارقة؛ تكبِّر الجزء الضئيل الى اكبر كلٍّ، حتى انها تجعل الفردَ بحكم العالَم وكأنه كلّي. وتُعرض الكونَ - من حيث الربوبية - في حكم الكلّ والكلي الذي لا يقبل التجزئة والاشتراك والانقسام..
وهي أسطعُ برهانٍ ضمن ماهيات الكائنات، واثبتُه واكملُه، يشهد على وجوب وجوده سبحانهُ، وعلى أنه ((الحي القيوم)) ويدل على وحدته وأحديته جل وعلا..
وهي أبلغ صورة لصنعة ربانية حكيمة - ضمن المصنوعات الإلهية - واخفاها وأظهرها وأثمنها وازهدها وأنزهها وألمعها.
وهي ألطف تجلٍ للرحمة الإلهية وأرقها وأدقها؛ تجعل الموجودات خادمة لها..
وهي أجمع مرآة تعكس الشؤون الإلهية للانظار..
وهي اعجوبة الخلقة الربانية؛ اذ تجمع تجليات اسم ((الرحمن، الرزاق، الرحيم، الكريم، الحكيم وأمثالها من الاسماء الحسنى)) وتجعل الحقائق الكثيرة والمشاهَدة كالرزق والحكمة والعناية والرحمة تابعة لها، فتقودها، مثلما هي منشأ جميع المشاعر ومعدن الحواس العامة كالبصر والسمع والشعور..
وهي ماكنة تنظيفٍ عظيمة، وجهاز استحالةٍ عجيبة في مصنع الكائنات حيث تقوم بالتصفية والتطهير في كل نواحيه؛ فتطهِّر الشئ وتمنحُه الرقيَ وتنوّره، وكأن الجسدَ الذي هو عشّ الحياة - دارُ ضيافةٍ لقوافل الذرات ومدرستُها ومعسكرُها؛ تتعلم فيه وظائفها، وتتدرب على اعمالها، فتتنور وتضئ .
وهي وسيلة ينوّر بها الحيُّ المحيي سبحانه عالَم الدنيا المظلم الفاني السافل ويمنحه نوعاً من البقاء، ويجعله بماكنة الحياة لطيفاً مهيئاً للمضي الى العالم الباقي ..
ثم ان وجهي الحياة، اي المُلك والملكوت، صافيان طاهران لا نقص فيهما، ساميان وهي - أي الحياة- مخلوق خاص متميز عن كل خلق آخر لم توضَع لها الاسباب الظاهرة حُجباً بينها وبين تصرفات القدرة الإلهية - كما هي في سائر الاشياء - وذلك ليكون أمر صدورها من يد القدرة الربانية مباشرة دون حُجب أو وسائط..
. وحقيقة الحياة نورانية تتطلع الى الاركان الايمانية الستة وتثبتها معنىً ورمزاً، اي:
انها تثبت وجود واجب الوجود سبحانه وحياته السرمدية..
والدار الآخرة وحياتها الدائمة..
ووجود الملائكة.. وتتوجه توجهاً كاملاً الى اثبات سائر الاركان الايمانية وتقتضيها.
وهي أصفى خلاصة مترشحة من الكائنات كلها كما أنها أعظم سِرّ يولّد الشكر والعبادة والحمد والمحبة التي هي أهم المقاصد الإلهية في الكون واهم نتيجة لخلق العالم هذا.
تأمل هذه الخصائص المهمة القيّمة للحياة والبالغة تسعاً وعشرين خاصية، ودقق النظر في مهماتها السامية الشاملة، ثم انظر من وراء اسم المحيي الى عظمة اسم ((الحي)) وادرك كيف ان اسم ((الحي)) هو اسم الله الاعظم من حيث هذه الخصائص العظيمة للحياة، ومن حيث ثمارها ونتائجها، وافهم ايضاً ان للحياة غاية كبرى كبرَ الكون ونتيجة عظمى بعظمته ما دامت هي اعظم نتيجة لهذه الكائنات واعظم غاية واثمن ثمرة؟ لأن الثمرة مثلما هي نتيجة الشجرة، فنتيجة الثمرة شجرة قادمة بوساطة بذرتها.

نعم، ان غاية هذه الحياة ونتيجتها هي الحياة الابدية، كما ان ثمرة من ثمارها هي الشكر والعبادة والحمد والمحبة تجاه واهب الحياة ((الحي المحيي)) وان هذا الشكر والمحبة والحمد والعبادة هي ثمرة الحياة كما انها غاية الكائنات.

فاعلم من هذا: ان الذين يحصرون غاية هذه الحياة في: ((عيشٍ برفاه، وتمتّع بغفلة، وتنعّم بهوى)) انما يستخفّون - بجهل مستهجن قبيح - بهذه النعمة الغالية الكبرى، نعمة الحياة، وهدية الشعور، واحسان العقل، ويحقرونها وينكرونها بل يكفرون بها فيرتكبون كفراناً عظيماً واثماً مبيناً.

الرمز الثاني:

الحياة التي هي أعظم تجلٍٍّ لاسم الله ((الحي)) وألطف تجلٍ لاسم الله ((المحيي)) يحتاج في بيان مراتبها وصفاتها ووظائفها - المذكور فهرستُها في الرمز الاول - الى كتابة رسائل عدة بعدد تلك المزايا والخصائص. لذا سنشير إشارة مختصرة الى بضع منها محيلين تفاصيلها الى اجزاء رسائل النور، حيث بَيّنت قسماً من تلك الخصائص والمراتب والمهمات.

فلقد ذكر في الخاصية الثالثة والعشرين من الخصائص التسعة والعشرين للحياة:

أن وجْهَي الحياة صافيان، شفافان، رائقان. فلم تضع القدرة الربانية اسباباً ظاهرية لتصرفاتها فيها.

وسرّ هذه الخاصية هو ما يأتي:

ان كل شئ في الكون ينطوي على خير، وفيه جمالٌ وحُسن، أما الشر والقبح فهما جزئيان جداً، وهما بحُكم وحدتين قياسيتين، أي انهما وُجدا لإظهار ما في الخير وما في الجمال من مراتب كثيرة وحقائق عديدة؛ لذا يُعَدُّ الشر خيراً والقبح حُسناً من هذه الزاوية. اي من زاوية كونهما وسائل لإبراز المراتب والحقائق.

ولكن ما يبدو لذوي الشعور من مظاهر القبح والشر والبلاء والمصائب قد تدفعهم الى السخط والشكوى والامتعاض. فوُضعَت الاسبابُ الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الإلهية، لئلا تتوجه تلك الشكاوى الظالمة والسخط الباطل الى ((الحي القيوم)) جلّ وعلا.

زد على ذلك فان العقل ايضاً بنظره الظاهري القاصر، قد يرى منافاة بين امور يراها خسيسةً، خبيثةً، قبيحة، وبين مباشرة يد القدرة المنزّهة المقدسة لها. فوُضِعَت الاسبابُ الظاهرية ستاراً لتصرف القدرة الربانية لتُنَزِّه عزة القدرة الإلهية عن تلك المنافاة الظاهرية.

هذا علماً ان الاسباب نفسهَا لا يمكنها ان توجد شيئاً بحد ذاتها قط. بل هي موضوعة لصيانة عزة القدرة الإلهية وتنزيهها، ولتظل هي هدفاً مباشراً للشكاوى الظالمة والاعتراضات الباطلة.

ولقد ذكرنا في ((مقدمة المقام الثاني من الكلمة الثانية والعشرين)) أن مَلَك الموت (عزرائيل) عليه السلام وجد أن مهمة قبض الارواح التي اوكلَتْ اليه مهمةٌ بغيضة لبني آدم، وسيكون من جرائها موضع سخطهم ومثار امتعاضهم، فناجى رب العزة بشأن مهمته قائلاً:

- يارب ان عبادَك سيسخطون عليّ!

وجاءه الجواب:

- سأضع ستار الامراض وحجاب المصائب بين مهمتك وبينهم، فلا تُصوَّب سهام الشكاوى والاعتراضات اليك، بل الى الحُجُب.

فحسب مضمون هذه المناجاة نقول:

ان الذين لا يرون الوجه الصبوح الحقيقي للموت - المطل على أهل الايمان - ولا يدركون ما فيه من رحمةٍ مدّخرة، يبدون اعتراضات وشكاوى، فتبرز أمامهم مهمة عزرائيل - عليه السلام - حجاباً وستاراً، فلا تتوجه تلك الشكاوى الباطلة والاعتراضات المجحفة الى الذات المقدسة ((للحي القيوم)). ومثلما ان مهمة عزرائيل ستار، فان الاسباب الظاهرية الاخرى هي ايضاً حُجُب وأستار.

نعم، ان ((العزة والعظمة)) تقتضيان ان تكون الاسباب حُجُباً بين يدي القدرة الإلهية أمام نظر العقل، الاّ ان ((الجلال والوحدانية)) يقتضيان ان تسحب الاسباب ايديها وترفعها عن التأثير الحقيقي.

أما وجها الحياة الظاهر والباطن، المُلك والملكوت، فهما صافيان كاملان مبرّءان من النقص والتقصير، فمثلما لا يوجد فيهما مايستدعي الشكوى أو الاعتراض، فليس فيهما كذلك ماينافي عزة القدرة ونزاهتها من دَنَس مستهجَن أو قبح ظاهر؛ لذا فقد سُلِّم وجهاها مباشرةً الى اسم ((المحيي)) لذات الله الحي القيوم من دون إسدال أستار الاسباب وحُجُبها.

ومِثل الحياة؛ النور، وكذلك الوجود والايجاد.. وعليه نرى أن الايجاد والخَلق يتوجهان مباشرةً من دون حُجُب واستار الى قدرة الخالق سبحانه، بل حتى المطر - وهو نوع من الحياة ورحمة مهداة منه سبحانه - فلا يحكّمه قانون مطّرَد يحدد وقت نزوله؛ وذلك لئلا تُحرَم اكفّ الضراعة امام باب الرحمة من الرجاء والاسترحام وقت الحاجة؛ اذ لو كان المطر ينزل حسب قانون مطّرد - بمثل شروق الشمس وغروبها - لَمَا كان الخلقُ يتوسلون ويستغيثون كل حين استنزالاً لنعمة الحياة تلك.

الرمز الثالث:

لقد ذكر في الخاصية التاسعة والعشرين أن:

الحياة هي نتيجة الكائنات مثلما أن نتيجة الحياة هي:

الشكر والعبادة، فهما سبب خلق الكائنات وعلة غايتها، ونتيجتها المقصودة.

نعم، ان خالق الكون سبحانه ((الحي القيوم)) اذ يعرِّف نفسَه لذوي الحياة ويحبّبها اليهم بنِعَمه التي لاتعد ولاتحصى، يطلب منهم شكرَهم تجاه تلك النعم، ومحبَّتهم ازاء تلك المحبة، وثناءهم واستحسانهم مقابل بدائع صُنعه، وطاعتَهم وعبوديتهم تجاه اوامره الربانية.

فيكون الشكر والعبادة - حسب سرّ الربوبية هذا - اعظم غاية لجميع انواع الحياة، وبدورها يكون غاية الكون بأسره.. ومن هنا نرى ان القرآن الكريم يحث بحرارة ويسوق برفق وعذوبة الى الشكر والعبادة؛ فيكرر كثيراً ويبيّن ويوضح:

أن العبادة خاصّة لله وحده، وأن الشكر والحمد لايليقان حقاً الاّ به سبحانه، وان ما في الحياة من شؤون وامور هي في قبضة تصرفه وحده، فينفي بهذا وبصراحة تامة الوسائطَ والاسباب، مسلِّماً الحياة بما فيها الى يد القدرة ((للحي القيوم)) فيقول مثلاً:

} وهو الذي يُحيي ويُميتُ وله اختلافُ الليلِ والنهار{ (المؤمنون:80)

} وهو الذي يُحيي ويُميتُ فاذا قَضى أمراً فإنما يقولُ له كُنْ فيكون{ (المؤمن: 68)

} فيُحيي به الارضَ بَعد مَوتها{ (الروم: 24)

نعم! ان الذي يدعو الى الشكر والحمد والامتنان، والذي يثير الشعور الى المحبة والثناء - بعد نعمة الحياة - انما هو الرزق والشفاء والغيث، وامثالها من دواعي الشكر والحمد.

وهذه الوسائل ايضاً محصورة كلياً بيد "الرزاق الشافي" سبحانه، فليست الاسباب الاّ أستار وحُجب ووسائط فحسب؛ اذ ان علامة الحصر والتخصيص - حسب قواعد اللغة العربية - هو الرزاق، هو الذي، واضحة في الآيات الكريمة الاتية:

} هو الرزاقُ ذو القوةِ المتينُ{ (الذرايات: 58)

} واذا مَرِضْتُ فهوَ يَشفينِ{ (الشعراء:80)

} وهو الذي يُنزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ ما قَنَطوا{ (الشورى: 28)

فهذه الآيات الكريمة وامثالها تبين:

ان الرزق والشفاء والغيث خاصةٌ به سبحانه وتعالى، وتنحصر كلياً بيد قدرة ((الحي القيوم)). فالذي وهب خواص الادوية والعلاج هو ذلك الشافي الحقيقي سبحانه الذي خلقها وليس غيره.

الرمز الرابع:

لقد بُيّنت في الخاصة الثامنة والعشرين من الحياة:

ان الحياة تثـبت اركان الايمان الستة وتنـظر اليها وتتوجه نحـوها، وتشير الى تحقيقها.

نعم! فما دامت (الحياة) هي حكمة خلق الكائنات، وأهم نتيجتها وخميرتها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل ان غاية شجرة الحياة ونتيجتها وثمرتها - والتي فهم عظمتها وماهيتها بالخواص التسع والعشرين - ما هي الاّ الحياة الأبدية والآخرة والحياة الحية بحجرها وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة. والاّ يلزم ان تظل شجرة الحياة المجَهزة بهذه الأجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور - ولا سيما الانسان - دون ثمر ولا فائدة، ولا حقيقة. ولظل الانسان تعساً وشقياً وذليلاً وأحط من العصفور بعشرين درجة - بالنسبة لسعادة الحياة - مع أنه أسمى مخلوق، وأكرم ذوي الحياة وارفع من العصفور بعشرين درجة، من حيث الاجهزة ورأس مال الحياة.

بل يصبح العقل الذي هو أثمن نعمةٍ بلاءً ومصيبة على الانسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل فيعدِّب قلبَ الانسان دائماً معكراً صفو لذةٍ واحدة بتسعة آلام!. ولا شك أن هذا باطل مائة في المائة.

فهذه الحياة الدنيا اذن تثبت ركن ((الايمان بالآخرة)) اثباتاً قاطعاً بما تظهر لنا في كل ربيع اكثر من ثلاثمائة الف نموذج من نماذج الحشر.

فيا ترى هل يمكن لربٍّ قدير، يهئ ما يلزم حياتك من الحاجات المتعلقة بها جميعاً ويوفّر لك أجهزتها كلها سواءً في جسمك أو في حديقتك، أو في بلدك، ويرسله في وقته المناسب بحكمة وعناية ورحمة، حتى أنه يعلم رغبة معدتك فيما يكفل لك العيش والبقاء، ويسمع ما تهتف به من الدعاء الخاص الجزئي للرزق مُبدياً قبوله لذلك الدعاء بما بثّ من الاطعمة اللذيذة غير المحدودة ليُطمئِن تلك المعدة! فهل يمكن لهذا المتصرف القدير ان لايعرفك؟ ولايراك؟ ولايهئ الاسباب الضرورية لأعظم غاية للانسان وهي الحياة الأبدية؟؟ ولايستجيب لأعظم دعاءٍ وأهمّه وأعمّه، وهو دعاء البقاء والخلود؟ ولا يقبله بعدم انشائه الحياة الآخرة وايجاد الجنة؟ ولا يسمع دعاء هذا الانسان - وهو أسمى مخلوق في الكون بل هو سلطان الارض ونتيجتها - ذلك الدعاء العام القوي الصادر من الاعماق، والذي يهز العرش والفرش! فهل يمكن ان لا يهتم به اهتمامَه بدعاء المعدة الصغيرة ولا يُرضي هذا الانسان؟ ويعرّض حكمتَه الكاملة ورحمته المطلقة للانكار؟؟ كلا.. ثم كلا ألف ألف مرة كلا.

وهل يعقل ان يسمع اخفت صوت لأدنى جزء من الحياة فيستمع لشكواه ويسعفه، ويحلم عليه ويربيه بعناية كاملة ورعاية تامة وباهتمام بالغ مسخِّراً له أكبر مخلوقاته في الكون، ثم لا يسمع صوتاً عالياً كهزيم الرعد لأعظم حياة وأسماها وألطفها وأدومها؟ وهل يعقل: ألاّ يهتم بدعائه المهم جداً - وهو دعاء البقاء - وألاّ ينظر الى تضرعه ورجائه وتوسله؟ ويكون كَمَن يجـهّز - بعنـاية كاملة - جندياً واحداً بالعتاد، ولايرعـى الجيـش الجرار الموالى له!! وكمن يـرى الذرة ولايرى الشمس! أو كمن يسمع طنين البعوضة ولا يسمع رعود السماء! حاشَ لله مائة ألف مرة حاشَ لله.

وهل يقبل العقل - بوجه من الاوجه - ان القدير الحكيم ذا الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب صنعتَه كثيراً، ويحبّب نفسَه بها الى مخلوقاته وهو أشدّ حباً لمن يحبونه، فهل يعقل أن يُفْني حياة مَن هو أكثُر حباً له، وهو المحبوب، وأهلٌ للحب، والذي يعبد خالقَه فِطرةً؟ ويُفني كذلك لبَّ الحياة وجوهرها وهو الروح، بالموت الأبدي!! ويسبب جفوةً بينه وبين محبه ومحبوبه ويؤلمه أشد الايلام! فيجعل سر رحمته ونور محبته معرّضاً للأنكار! حاشَ لله الف مرة حاشَ لله...

فالجمال المطلق الذي زيّن بتجلّيه هذا الكون وجمّله، والرحمة المطلقة التي أبهجت المخلوقات قاطبة وزيّنتها، لابد أنهما منزّهتان ومقدستان بلا نهاية ولا حدّ عن هذه القساوة وعن هذا القبح المطلق والظلم المطلق.

النتيجة:

مادامت في الدنيا حياة، فلابد أن الذين يفهمون سر الحياة من البشر، ولايسيؤن استعمال حياتهم، يكونون أهلاً لحياة باقية، في دار باقية وفي جنة باقية.. آمنا.

ثم، ان تلألؤ المواد اللماعة على سطح الارض بانعكاسات ضوء الشمس، وتلمّع الفقاعات والحَباب والزَبَد على سطح البحر، ثم انطفاء ذلك التلألؤ والبريق بزوالها ولمعان الفقاعات التي تعقبها - كأنها مرايا لشُمَيساتٍ خيالية - يُظهر لنا بداهة ان تلك اللمعات ما هي الاّ تجلي انعكاس شمسٍ واحدة عالية. وتذكُر بمختلف الالسنة وجود الشمس، وتشير اليها بأصابع من نور... وكذلك الامر في تلألؤ ذوي الحياة على سطح الارض، وفي البحر، بالقدرة الإلهية وبالتجلي الاعظم لإسم ((المحيي)) للحي القيوم جلّ جلاله، واختفائها وراء ستار الغيب لفسح المجال للذي يخلفها - بعد أن رددّت ((ياحي)) - ما هي إلاّ شهادات واشارات للحياة السرمدية ولوجوب وجود ((الحي القيوم)) سبحانه وتعالى.

وكذا، فان جميع الدلائل التي تشهد على العلم الإلهي الذي تُشاهَد آثارُه من تنظيم الموجودات، وجميع البراهين التي تثبت القدرة المصرّفة في الكون، وجميع الحجج التي تثبت الارادة والمشيئة المهيمنة على ادارة الكون وتنظيمه، وجميع العلامات والمعجزات التي تثبت الرسالات التي هي مدار الكلام الرباني والوحي الإلهي.. وهكذا جميع الدلائل التي تشهد وتدلّ على الصفات الإلهية السبع الجليلة، تدل - وتشهد أيضاً - بالاتفاق على حياة ((الحي القيوم)) سبحانه، لأنه: لو وجدت الرؤية في شئ فلابد أن له حياة ايضاً، ولو كان له سمع فذلك علامة الحياة، ولو وجد الكلام فهو اشارة على وجود الحياة، ولو كان هناك الاختيار والارادة فتلك مظاهر الحياة، كذلك فان جميع دلائل الصفات الجليلة التي تشاهَد آثارُها ويُعلَم بداهة وجودُها الحقيقي، أمثال القدرة المطلقة، والارادة الشاملة، والعلم المحيط، تدل على حياة ((الحي القيوم)) ووجوب وجوده، وتشهد على حياته السرمدية التي نورََّتْ - بشعاعٍ منها - جميعَ الكون وأحيَت - بتجلٍ منها - الدار الآخرة كلها بذراتها معاً.

* * *

والحياة كذلك تنظر وتدل على الركن الايماني (الايمان بالملائكة) وتثبته رمزاً. لأن:

الحياة ما دامت هي أهم نتيجةٍ للكون، وان ذوي الحياة - لنفاستهم - هم اكثر انتشاراً وتكاثراً، وهم الذين يتتابعون الى دار ضيافة الارض قافلة إثر قافلة، فتعمَّر بهم وتبتهج.. وما دامت الكرة الارضية هي محط هذا السيل من انواع ذوي الحياة، فتُملأ وتُخلى بحكمة التجديد والتكاثر باستمرار، ويُخلق في أخس الاشياء والعفونات ذوو حياةٍ بغزارة، حتى اصبحت الكرة الارضية معرضاً عاماً للاحياء.. وما دام يُخلق بكثرة هائلة على الأرض أصفى خلاصة لترشح الحياة وهو الشعور والعقل والروح اللطيفة ذات الجوهر الثابت، فكأن الأرض تحيا وتتجمل بالحياة والعقل والشعور والارواح.. فلا يمكن ان تكون الاجرام السماوية التي هي أكثر لطافةً واكثر نوراً وأعظم أهميةً من الارض جامدةً ودون حياة وبلا شعور.

اذن فالذين سيعمِّرون السماوات ويبهجون الشموس والنجوم، ويهبون لها الحيوية، ويمثلون نتيجة خلق السماوات وثمرتها، والذين سيتشرفون بالخطابات السبحانية، هم ذوو شعور وذوو حياة من سكان السموات وأهاليها المتلائمين معها حيث يوجدون هناك بسرّ الحياة.. وهم الملائكة.



* * *

وكذلك ينظر سر ماهية الحياة ويتوجه الى ((الايمان بالرسل)) ويثبته رمزاً.

نعم! فما دام الكون قد خُلق لأجل الحياة وان الحياة هي اعظم تجلٍ وأكمل نقش وأجمل صنعة ((للحي القيوم)) جلّ جلاله، وما دامت حياته السرمدية الخالدة تظهر وتكشف عن نفسها بارسال الرسل وانزال الكتب، اذ لو لم يكن هناك ((رسل)) ولا ((كتب)) لما عُرفت تلك الحياة الازلية، فكما ان تكلم الفرد يبين حيويته وحياته كذلك الانبياء والرسل عليهم السلام والكتب المنزَلة علـيهـم، يبيّنون ويدلّون على ذلك المتكلم الحي الذي يأمر وينهي بكلماته وخطـاباته من وراء الغيب المحجوب وراء ستار الكون. فلابد ان الحياة التي في الكون كمـا انـها تدل - بصـورة قاطعـة - عـلى ((الحي الازلي)) سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده، تدل كذلك على شعاعات تلك الحياة الازلية وتجلياتها وارتباطاتها وعلاقاتها باركان الايمان مثل (ارسال الرسل) و (انزال الكتب) وتثبتهما رمزاً. ولا سيما ((الرسالة المحمدية)) و ((الوحي القرآني)). اذ يصح القول، انهما ثابتان قاطعان كقطعية ثبوت تلك الحياة، حيث انهما بمثابة روح الحياة وعقلها.

نعم، كما ان الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتها الثابتة المستقلة.. كذلك الحياة المحمدية - المادية والمعنوية - مترشحة من الحياة ومن روح الكون فهي خلاصة زبدتها، والرسالة المحمدية كذلك مترشحة من حسّ الكون وشعورِه وعقِله، فهي اصفى خلاصته، بل ان حياة محمد صلى الله عليه وسلم - المادية والمعنوية - بشهادة آثارها حياة لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني - بشهادة حقائقه الحيوية - روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل.. أجل.. أجل.

فاذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره مات الكون وتوفيت الكائنات، واذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جَنّ جنونه وفَقَدت الكرة الارضية صوابَها، وزال عقلُها، وظلت دون شعور، واصطدمت باحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة.

* * *

والحياة - كذلك - تنظر الى الركن الايماني ((القدر)) وتدل عليه وتثبتهُ رمزاً، اذ: ما دامت الحياة ضياءً لعالم الشهادة وقد استولت عليه وأحاطت به، وهي نتيجة الوجود وغايته، واوسع مرآةٍ لتجليات خالق الكون، وأتم فهرسٍ ونموذج للفعالية الربانية حتى كأنها بمثابة نوعٍ من خطتها ومنهجها - اذا جاز التشبيه - فلابد أن سر الحياة يقتضي ان يكون عالم الغيب أيضاً - وهو بمعنى الماضي والمستقبل - أي المخلوقات الماضية والقابلة في حياة معنوية أي في نظام وانتظام وان يكون معلوماً ومشهوداً ومتعيّناً ومتهيأً لأمتثال الأوامر التكوينية. مَثَلُها كمثل تلك البذرة الاصلية للشجرة وأصولها، والنوى والاثمار التي في منتهاها، التي تتميز بمزايا نوعٍ من الحياة كالشجرة نفسها، بل قد تحمل تلك البذور قوانين حياتية أدق من قوانين حياة الشجرة.

وكما ان البذور والأصول التي خلفها الخريف الماضي، وما سيخلفه هذا الربيع - بعد إدباره - من البذور والأصول، تحمل نور الحياة، وتسير وفق قوانين حياتية، مثل ما يحمله هذا الربيع من الحياة، فكذلك شجرة الكائنات، وكلُّ غصن منها وكلُّ فرعٍ، له ماضيه ومستقبله، وله سلسلة مؤلفة من الاطوار والاوضاع، القابلة والماضية، ولكل نوعٍ ولكلّ جزء منه وجودٌ متعدد بأطوار مختلفة في العلم الألهي، مشكّلاً بذلك سلسلة وجود علمي. والوجود العلمي هذا، الشبيه بالوجود الخارجي هو مظهرٌ لتجلٍ معنوي للحياة العامة، حيث تُؤخذُ المقدرات الحياتية من تلك الالواح القَدَرية الحية ذات المغزى العظيم.

نعم، ان امتلاء عالم الارواح - الذي هو نوع من عالم الغيب - بالارواح التي هي عين الحياة، ومادتها، وجوهرها، وذواتها، يستلزم ان يكون الماضي والمستقبل - اللذان هما نوع من عالم الغيب وقسم ثان منه - متجلية فيهما الحياة. وكذا فان الانتظام التام والتناسق الكامل في الوجود العلمي الإلهي لأوضاع ذات معانٍ لطيفة لشئ ما ونتائجَه واطوارَه الحيوية ليبين ان له اهلية لنوع من الحياة المعنوية.

نعم، ان مثل هذا التجلي - تجلي الحياة - الذي هو ضياء شمس الحياة الازلية لن ينحصر في عالم الشهادة هذا فقط، ولا في هذا الزمان الحاضر، وفي هذا الوجود الخارجي، بل لابد أن لكل عالمٍ من العوالم مظهراً من مظاهر تجلّي ذلك الضياء حسب قابليته.

فالكونُ اذن - بجميع عوالمه - حيٌ ومشعٌ مضئ بذلك التجلي والا لأصبح كلٌّ من العوالم - كما تراه عين الضلالة - جنازة هائلة مخيفة تحت هذه الحياة الموقتة الظاهرة، وعالماً خرباً مظلماً.

وهكذا يُفهم وجهٌ واسع من أوجه الايمان بالقضاء والقدر من سر الحياة ويثبت به ويتضح. أي كما تَظهر حيويةُ عالمٍ الشهادة والموجودات الحاضرة بانتظامها وبنتائجها، كذلك المخلوقات الماضية والآتية التي تعدّ من عالم الغيب لها وجودٌ معنوي، ذو حياة معنىً، ولها ثبوتٌ علمي ذو روح، بحيث يظهر - باسم المقدرات - اثر تلك الحياة المعنوية بوساطة لوح القضاء والقدر.

الرمز الخامس:

لقد ذكر في الخاصية السادسة عشرة من خصائص الحياة أنه:

ما ان تنفذ الحياةُ في شئ تصيّره عالَماً بحدّ ذاته؛ اذ تمنحه من الجامعية مايجعله كلاً ان كان جزءاً، وما يجعله كلياً إن كان جزئياً؛ فالحياة لها من الجامعية بحيث تعرض في نفسها أغلب الاسماء الحسنى المتجلية على الكائنات كلها، وكأنها مرآة جامعة تعكس تجليات الاحدية. فحالما تدخل الحياة في جسم تعمل على تحويله الى عالم مصغّر، لكأنها تحيله بمثابة بذرة حاملة لفهرس شجرة الكائنات، وكما لايمكن ان تكون البذرة الاّ اثر قدرة خالق شجرتها كذلك الذي خلق اصغر كائن حي لابد انه هو خالق الكون كله.

فهذه الحياة بجامعيتها هذه تُظهر في نفسها أخفى اسرار الاحدية وأدقّها. أي: كما ان الشمس العظيمة توجد بضيائها وألوانها السبعة وانعكاساتها في ما يقابلها من قطرة ماء أو قطعة زجاج، كذلك الامر في كل ذي حياة الذي تتجلى فيه جميع تجليات الاسماء الحسنى وانوار الصفات الإلهية المحيطة بالكون. فالحياة - من هذه الزاوية - تجعل الكون من حيث الربوبية والايجاد بحكم الكلّ الذي لايقبل الانقسام والتجزئة، وتجعله بحكم الكلّي الذي تمتنع عليه التجزئة والاشتراك.

نعم! ان الختم الذي وَضَعه الخالق سبحانه على وجهك يدل بالبداهة على أن الذي خلقك هو خالق بني جنسك كلهم؛ ذلك لأن الماهية الانسانية واحدة، فانقسامها غير ممكن. وكذلك الامر في أجزاء الكائنات! اذ تتحول بوساطة الحياة كأنها افراد الكائنات، والكائنات كأنها نوع لتلك الافراد.

فكما تُظهر الحياة ختمَ الأحدية على مجموع الكون فانها تردّ الشرك والاشتراك وترفضه رفضاً باتاً باظهارها ختم الأحدية نفسَه وختم الصمدية على كل جزء من أجزاء الكون.

ثم ان في الحياة من خوارق الصنعة الربانية ومعجزات الابداع الباهر بحيث انه مَن لم يكن قادراً على خلق الكون يعجز كلياً عن خلق أصغر كائن حي فيه.

نعم، ان القلم الذي كتب فهرس شجرة الصنوبر الضخمة ومقدّراتها في بذرتها الصغيرة - ككتابة القرآن مثلاً على حبة حمص - هو ذلك القلم نفسَه الذي رصّع صفحات السماء بلآلئ النجوم، وان الذي ادرج في رأس النحل الصغير استعداداً يمكّنها من معرفة ازهار حدائق العالم كله، وتقدر على الارتباط مع اغلبها بوشائج، ويجعلها قادرة على تقديم ألذّ هدية من هدايا الرحمة الإلهية - وهي العسل - ويدفعها الى معرفة شرائط حياتها منذ أول قدومها الى الحياة لا شك انه هو خالق الكون كله وهوالذي اودع هذا الاستعداد الواسع والقابلية العظيمة والاجهزة الدقيقة فيها



الخلاصة:

ان الحياة آيةُ توحيد ساطعة تسطع على وجه الكائنات، وان كل ذي روح - من جهة حياته - آيةٌ للأحدية، وان الصنعة المتقنة الموجودة على كل فرد من الاحياء ختمٌ للصمدية، وبهذا جميع ذوي الحياة يصدّقون ببصمات حياتهم رسالةَ الكون هذه ويعلنون أنها من ((الحي القيوم)) الواحد الأحد.. فكل منها ختم للوحدانية في تلك الرسالة فضلاً عن انها ختم للأحدية وعلامة الصمدية.

فكما ان الأمر هكذا في الحياة، فكل كائن حي ايضاً ختم للوحدانية في كتاب الكون؛ كما قد وُضع على وجهه وسيماه ختم الأحدية.

نعم! ان الحياة بعدد جزئياتها وبعدد أفرادها الحية أختامٌ وبصماتٌ حية تشهد على وحدانية ((الحي القيوم)) مثلما ان فعل البعث - الإحياء - ايضاً يختم باختام التصديق على التوحيد بعدد الأفراد من الاحياء.

فإحياءُ الارض الذي هو مثال واحد على البعث هو شاهدُ صدقٍ ساطع على التوحيد كالشمس، لأن بعث الأرض في الربيع واحياءها يعني بعث افرادٍ لا تعد ولا تحصى لأنواع الأحياء التي تربو على ثلثمائة الف نوع، فتُبعث جميعاً معاً من دون نقص ولا قصور بعثاً متداخلاً متكاملاً منتظماً. فالذي يفعل بهذا الفعل أفعالاً منتظمة لا حدود لها فانه هو خالق المخلوقات جميعها، وأنه ((الحي القيوم)) الذي يحيي ذوي الحياة قاطبة، وأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له في ربوبيته قط.

اكتفينا بهذا القدر القليل المختصر من بسط خواص الحياة محيلين بيان الخواص الاخرى وتفصيلاتها الى أجزاء رسائل النور وفي وقت آخر.

الخاتمة

ان الاسم الاعظم ليس واحداً لكل أحد، بل يختلف ويتباين، فمثلاً: لدى الامام علي رضي الله عنه هو ستة اسماء حسنى هي: فردٌ، حيٌ، قيومٌ، حكمٌ، عدلٌ، قدوسٌ.. ولدى أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه اسمان هما: حَكَمٌ عدلٌ.. ولدى الشيخ الكيلاني قُدس سره هو اسم واحد: يا حيّ.. ولدى الامام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) رضي الله عنه هو: القيومُ.. وهكذا، فلدى الكثيرين من العظماء الافذاذ اسماء اخرى هي الأسم الاعظم عندهم.

ولما كانت هذه ((النكتة الخامسة)) تخص اسم الله ((الحي)) وقد أظهر الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم في مناجاته الرفيعة المسماة بــ((الجوشن الكبير)) معرفَته الجامعة السامية لله اظهاراً يليق به وحده؛ لذا نذكر من تلك المناجاة شاهداً ودليلاً وحجةً وتبركاً ودعاء مقبولاً وخاتمة حسنةً لهذه الرسالة، فنذهب خيالاً الى ذلك الزمان ونقول: آمين.. آمين على ما يقوله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فنردد المناجاة نفسها على أصداء ذلك القول النبوي الكريم:

يا حيُّ قـبـلَ كـلِّ حـيّ * يا حيُّ بعد كل حيّ

يا حـيُّ الـذي لا يـُشبِـهَهُ شـئٌ * يَا حيُّ الذي ليسَ كمثلِه حيٌّ.

يا حيُّ الـذي لا يُشـاركـُـه حـيٌّ * يا حيُّ الذي لا يحتاج الى حيّ.

يا حيُّ الذي يُميت كلَّ حيّ * يا حيُّ الذي يرزُق كلَّ حيّ.

يا حيُّ الذي يحيى الموتى * يا حيُّ الذي لا يموت.

سُبحانك يا لا إله إلاّ انتَ الأمان الأمان نـجـِّنا من النار.آمين.

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ مَا عَلّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ{



النكتة السادسة

تتطلع الى اسم الله الاعظم:

القيوم

لقد اصبحت الخلاصة المقتضبة لاسم الله ((الحي)) ذيلاً لمنبع النور، كما اُرتُئي ان تكون هذه النكتة التي تخص اسم الله ((القيوم)) ذيلاً للكلمة الثلاثين.

اعتذار:

ان هذه المسائل البالغة الخطورة والاهمية، والتجلي الاعظم لإسم الله ((القيوم)) الطافح على وجه الحياة والغاص في أعماق الوجود، لم تتوارد الى القلب توارداً متعاقباً منتظماً، الواحدة تلوَ الأخرى. بل سَطَعت دفعةً واحدة في سماء القلب كالبروق الخاطفة، وانقدح زناد القلب، فاستنار الوجدانُ بها فدونتها كما خطرتْ لي ولم أجرِ عليها أي تعديل أو تغيير أو تشذيب. فلا جرم أن يعتورها شئ من الخلل في الأداء البياني، والسبك البلاغي. فارجو ان تتكرموا بالصفح عما تشاهدونه من قصور في الشكل لأجل جمال المضمون وحُسن محتواه.

تنبيه:

ان المسائل اللطيفة والنكات الدقيقة التي تخص ((الاسم الاعظم)) هي عـظيمة السعة، عميقة الاغوار، ولاسيما المسائل التي تخص اسم ((الحي القيوم)). وبخاصة ((الشعاع الاول)) منها، الذي ورد وروداً أعمق من غيره لتوجهه مباشرة الى الماديين (1). لذا فليس الجميع ُ سواءً في إدراكهم لمسائله كلها، وربما صَعُب على البعض الاحاطة ببعضٍ منها، وفاته إدراك جزءٍ هنا، وجزء هناك، الاّ أننا مطمئنون الى ان أحداً لن يخرُجَ من النظر فيها، من غير أن يستفيد شيئاً، بل سينال – بلا شك – حظَّه المقسوم له من كل مسألة منها، ((فما لا يُدرَك كلُّه، لا يُترك كلـُّه)) كما تقول القاعدة السارية؛ فليس صواباً ان يدع أحدٌ هذه الروضة المعنوية المليئة بالثمرات بحجة عجزه عن جَني جميع ثمراتها! وما قطفه منها وحصل عليه فهو كسب ومغنم.

ومثلما ان من المسائل التي تخص ((الاسم الاعظم)) ما هو واسع جداً لدرجة تتعذر معها الأحاطة الكلية به، فان فيها أيضاً مسائل لها من الدقة ما تندُّ بها عن بصر العقل؛ ولاسيما رموز الحياة الشاملة لأركان الايمان التي هي في اسم الله ((الحي))، واشارات الحياة فيه الى الايمان بالقضاء والقدر، والشعاع الاول لاسم الله ((القيوم)).

ولكن مع هذا لا يبقى أحد دون الأخذ بحظٍ منها. بل تشدّ ايمانَه وتُزيده سعةً ومدىً على أقل تقدير، ولا غرو فان زيادة الأيمان الذي هو مفتاح السعادة الأبدية انما هي على جانب عظيم من الأهمية، فزيادتُه ولو بمقدار ذرة كنزٌ عظيم، كما يقول الأمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي:

((ان انكشاف مسألة صغيرة من مسائل الايمان لهو أفضل في نظري من مئاتٍ من الاذواق والكرامات)).

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

} بيَدِه مَلَكوتُ كلِّ شيءٍ { (يس: 83)

} لَهُ مقاليدُ السّمواتِ والأرض { (الزمر: 63)

} وانْ مِن شئٍ إلاّ عِنْدَنا خَزَائِنُه { (الحجر: 21)

} مَا مِنْ دَابَّةٍ إلاّ هو آخِذٌ بناصِيَتها { (هود: 56)

لقد تراءى لعقلي في شهر ذي القعدة وانا نزيل سجن ((اسكي شهر)) تجلٍ عظيمٌ من أنوار اسم الله الأعظم ((القيوم)) الذي هو الاسم الأعظم، أو السادس من الأنوار الستة للاسم الأعظم. كما تراءت نكتة من نكات هذه الآيات الكريمة المشيرة الى القيومية الإلهية.

بيد أن ظروف السجن المحيطة بي تحول دون أن أوفي حق هذه الانوار من البيان. وحيث ان الأمام علياً رضي الله عنه قد أبرز الاسم الأعظم في قصيدته المسماة بـ((أرجوزة السكينة)) لدى بيانه لسائر الاسماء الجليلة من قصيدته ((البديعة)). يولي أهمية خاصة لتلك الاسماء الستة، فضلاً عما يمنحه لنا – بكرامة من الله – السلوان والعزاء اثناء بحثه لتلك الأسماء، لذا سنشير باشارات مختصرة الى بيان هذا النور الأعظم لإسم الله ((القيوم)) - كما فعلنا مع الاسماء الخمسة الأخرى - وسنجعل تلك الاشارات في خمسة أشعة.

الشعاع الأول:

ان خالق هذا الكون ذا الجلال ((قيومٌ)). أي: أنه قائم بذاته، دائم بذاته، باقٍ بذاته، وجميع الأشياء والموجودات قائمة به، تدوم به، تبقى في الوجود به، وتجد البقاء به. فلو انقطع هذا الانتساب للقيومية من الكون بأقل من طرفةِ عينٍ يُمحى الكونُ كله.

ثم ان ذلك الجليل مع قيوميته } لَيْسَ كَمثلِه شئٌ{ كما وصفه القرآن الكريم. أي لا نظير له ولا مثيل ولا شبيه ولا شريك: في ذاته.. في صفاته.. وفي أفعاله.

نعم، ان الذي يمسك الكون كله أن يزول في قبضة ربوبيته ويدير جميع شؤونه ويدبّر جميع أحواله وكيفياته بكمال الإنتظام ومنتهى التدبير وغاية الرعاية، وفي سهولة مطلقة كادارة قصر أو بيت محالٌ ان يكون له مثلٌ او مِثيلٌ أو شريك أو شبيه.

نعم، ان مَن كان خلق النجوم سهلاً عليه وهيناً كخلق الذرات.. ويسخّر أعظم شئ في الوجود كأصغره ضمن قدرته المطلقة.. ولا يمنع شئ شيئاً عنه، ولا فعلٌ فعلاً، فالأفراد غير المحدودين نصبَ نظره كالفرد الواحد، والأصوات جميعُها يسمعها معاً، ويوفي حاجات الكل في آن واحد ودفعةٍ واحدة، ولا يخرج شئ مهما كان، ولا حالةٌ مهما كانت من دائرة مشيئته ونطاق ارادته - بشهادة الأنظمة والموازين الجارية في الكون - وكما انه لا يحدّه مكانٌ فهو بقدرته وبعلمهِ حاضرٌ في كل مكان، وكما ان كل شئ بعيدٌ عنه بُعداً مطلقاً، فهو أقرب اليه من أيّ شئ.. فهذا ((الحي القيوم)) ذو الجلال، لابد أنه } لَيْسَ كَمثلِه شئٌ{ فلا نظير له ولاشريك ولاوزير ولاضد ولاندّ. بل محال في حقه كل ذلك. اما شؤونُه المنزّهة الحكيمة، فيمكن ان يُنظَر اليها بمنظار المَثَل والتمثيل (وجميع أنواع الأمثال والتمثيلات والتشبيهات الواردة في رسائل النور انما هي من هذا النوع من المثل والتمثيل).

فهذا الذات الأقدس الذي لا مثيل له، وهو الواجب الوجود، والمجرّد عن المادة المنزّه عن المكان، المحال عليه التجزؤ والانقسام، والممتنع عليه التغيّر والتبدل، والذي لا يمكن أن يُتصورَ عجزه واحتياجه ابداً، هذا الذات الأقدس قد أعطى قسمٌ من أهل الضلالة احكامَ ألوهيته العظيمة الى بعضِ مخلوقاته، وذلك بتوهمهم ان تجلياته سبحانه المتجلية في صفحات الكون وطبقات الموجودات هي الذات الأقدس نفسه، ففوض قسم من هؤلاء بعض آثار تجلياته سبحانه الى الطبيعة والاسباب، والحال انه قد ثبت ببراهين متعددة ناصعة وفي عديد من رسائل النور:

أن الطبيعة: ما هي الاّ صنعة الهية ولا تكون صانعاً، وهي كتاب رباني ولا تكون كاتباً، وهي نقشٌ بديع ومحال ان تكون نقّاشاً مُبدعاً، وهي كراسٌ ولا تكون واضعة القوانين وصاحبة الكراس، وهي قانونٌ ولا تكون قدرةً، وهي مسطرٌ ولا تكون مصدراً للوجود، وهي شئ منفعل ولا تكون الفاعل، وهي نظام ومحال ان تكون ناظماً، وهي شريعة فطرية وممتنع ان تكون شارعاً مشرّعاً.

ولو أفترض محالاً وأحيل خلقُ أصغر كائن حي الى الطبيعة، وقيل لها - فرضاً -: هيا أوجدي هذا الكائن - مثلاً - فينبغي للطبيعة عندئذٍ ان تهئ قوالبَ مادية ومكائن - بعدد أعضاء ذلك الكائن لكي تستطيع ان تؤدي ذلك العمل!! وقد أثبتنا محالية هذا الفرض في مواضع كثيرة من رسائل النور.

ثم ان قسماً من أهل الضلالة الذين يطلق عليهم ((الماديون)) يشعرون بالتجلي الأعظم للخلاقية الإلهية والقدرة الربانية في تحولات الذرات المنتظمة، ولكنهم يجهلون مصدر ذلك التجلي، ويعجزون عن ان يدركوا من أين تُدار تلك القوة العامة النابعة من تجلي القدرة الصمدانية.. فلأنهم يجهلون كل ذلك فقد شرعوا باسناد اثار الألوهية الى الذرات نفسها والى حركاتها عينها، فتوهموا أزلية المادة والقوة. فسبحان الله!! أفيمكن لإنسانٍ ان يتردى الى هذا الدرك السحيق من الجهالة والخرافة المحضة، فيسند الآثار البديعة للخالق البديع والأفعال الحكيمة للعليم البصير - وهو المتعال عن المكان والزمان - الى ذراتٍ مضطربة بتيارات المصادفات، جامدةٍ عمياء غير شاعرة، لاحول لها ولا قوة، والى حركاتها!.. أفيمكن ان يقرّ بهذا أحد؟. فمن كان له مسكةٌ من عقل لابد ان يحكم بان هذا جهلٌ ما بعده جهل، وخرافة ما بعدها خرافة.

ان هؤلاء التعساء قد وقعوا في عبادة الهة كثيرة لأنهم أعرضوا عن الوحدانية المطلقة. أي لأنهم لم يؤمنوا بالهٍ واحد، أصبحوا مضطرين الى قبول ما لا نهاية له منالآلهة!.. أي لأنهم لم يستوعبوا بعقولهم القاصرة أزلية الذات الأقدس وخلاّقيته - وهما صفتان لازمتان ذاتيتان له سبحانه - فقد اصبحوا - بحكم مسلكهم الضال - مضطرين الى قبول أزلية ذرات جامدة لا حدّ لها ولا نهاية، بل الى قبول ألوهية الذرات!

فتأمل مبلغ الحضيض الذي سقطوا فيه، وسحيق الدرك الاسفل من الجهل الذي تردّوا فيه!

نعم! ان التجلي الظاهر ((للحي القيوم)) في الذرات قد حوّلها الى ما يشبه الجيش المهيب المنظم بحول الله وقوته وأمره، فلو سُحب أمرُ القائد الأعظم لأقل من طرفة عين من تلك التي لا تحد من الذرات الجامدة والتي لاشعور لها ولاعقل، لظلت سائبة، بل تمحى نهائياً من الوجود.

ثم ان هناك من يتظاهرون ببُعد النظر، فيسوقون فكراً أجهل من السابق وأوغل في الخرافة منه حيث يتوهمون ان مادة الأثير هي المصدر وهي الفاعل، لقيامها بمهمة المرآة العاكسة لتجليات ربوبية الخالق سبحانه! علماً انها ألطف وأرق وأطوع صحيفة من صحائف اجراءات الصانع الجليل واكثرها تسخيراً وانقياداً، وهي وسيلة لنقل أوامره الجليلة. وهي المداد اللطيف لكتاباته، والحلّة القشيبة الشفيفة لايجاداته، والخميرة الاساس لمصنوعاته، والارض الخصبة لحبّاته.

فلا شك ان هذا الجهل العجيب المرعب يستلزم محالات لاحد لها ولا نهاية، وذلك لأن مادة الأثير هي ألطف من مادة الذرات التي غرق بها الماديون في مستنقع الضلالة، وهي اكثف من الهيولي(1) التي ضلّ فيها الفلاسفة القدماء وتاهوا. وهي مادة جامدة لاأرادة لها ولاأختيار ولاشعور، فإسناد الافعال والآثار الى هذه المادة القابلة للأنقسام والتجزؤ والمجهّزة للقيام بوظيفة النقل وخاصة الإنفعال، والى ذراتها التي هي اصغر من الذرات لاشك انه جريمة وخطأ فاحش بعدد ذرات الأثير؛ لأن تلك الافعال والآثار الربانية لا يمكن ان تحدث الاّ بارادة من يقدِر على رؤية كل شئ في أي شئ كان ومَن يملك علماًِ محيطاً بكل شئ.

نعم! ان فعل الايجاد المشهود في الموجودات يتسم بكيفية معينة واسلوب منفرد بحيث يدل دلالة واضحة على ان الموجِد هو صاحبُ قدرةٍ قادرة واختيار طليق، يرى اكثر الاشياء، بل الكون كله لدى ايجاده أيَّ شئ كان، ولاسيما الكائن الحي ويعلم كل ما يرتبط به من الأشياء، ثم يضع ذلك الشئ في موضعه الملائم له، ويضمن له البقاء في ذلك الموقع، أي ان الاسباب المادية الجاهلة لا يمكن ان تكون بحال من الأحوال فاعلاً لها.

نعم، ان فعلاً ايجادياً - مهما كان جزئياً - يدل دلالة عظيمة - بسر القيومية - على انه فعلُ خالِق الكون فعلاً مباشراً. فالفعل المتوجّه الى ايجاد نحلة - مثلاً - يدلنا بجهتين على أنه يخص خالق الكون ورب العالمين.

الجهة الاولى

ان قيام تلك النحل مع أمثالها في جميع الأرض بالفعل نفسه في الوقت نفسه يدلنا على ان هذا الفعل الجزئي الذي نشاهده في نحلة واحدة انما هو طرفٌ لفعلٍ يحيط بسطح الارض كله. أي ان من كان فاعلاً لذلك الفعل العظيم الواسع ومالكاً له فهو صاحب ذلك الفعل الجزئي.

الجهة الثانية

لأجل ان يكون أحدٌ فاعلاً لهذا الفعل الجزئي المتوجه الى خلقِ هذه النحلة الماثلة أمامنا، ينبغي ان يكون - الفاعل - عالماً بشروط حياة تلك النحلة وأجهزتها

وعلاقاتها مع الكائنات الاخرى وكيفية ضمان حياتها ومعيشتها، فيلزم اذن ان يكون ذا حكم نافذ على الكون كله ليجعل ذلك الفعل كاملاً. أي ان أصغر فعلٍ جزئي يدل من جهتين على أنه يخصّ خالقَ كل شئ. ولكن اكثر ما يحيّر الانسان ويجلب انتباهه هو: ان الأزلية والسرمدية التي هي من أخص خصائص الألوهية وألزم صفةٍ للذات الأقدس المالك لأقوى مرتبة في الوجود وهو ((الوجوب)) وأثبت درجة في الوجود وهو ((التجرد من المادة)) وأبعد طور عن الزوال وهو ((التنزه عن المكان)) واسلم صفة من صفات الوجود وأقدسها عن التغير والعدم وهو ((الوحدة)).

أقول: ان الذي يحير الانسان ويثير قلقه، ويجلب انتباهه انما هو: منح صفة الأزلية والسرمدية الى الأثير والذرات وما شابهها من المواد المادية التي لها أضعف مرتبة من مراتب الوجود، وأدق درجة فيه، واكثر أطواره تغيراً وتحولاً، وأعمها انتشاراً في المكان، ولها الكثرة التي لا تحد.. فإسناد الأزلية الى هذه المواد وتصورها أزليةً، وتوهم نشوء قسم من الآثار الألهية منها، ما هو الاّ مجافاة وأي مجافاة للحقيقة وأمرٌ منافٍ أي منافاة للواقع، وبعيد كل البعد عن منطق العقل وباطل واضح البطلان وقد أثبتنا هذا في كثير من الرسائل ببراهين رصينة.

الشعاع الثاني: وهو مسألتان:

المسألة الاولى: قال تعالى:

} لا تأخذُهُ سِنةٌ ولا نَومٌ{ (البقرة: 255)

} ما مِنْ دابةٍ الاّ هو آخذٌ بناصِيَتِها{ (هود: 56)

} لهُ مقاليدُ السّموات والارض{ (الزمر: 63)

وأمثالها من الآيات التي تتضمن حقيقة عظمى تشير الى التجلي الأعظم لاسم الله ((القيوم)).. سنورد وجهاً واحداً من تلك الحقيقة، وهو الآتي:

ان قيام الأجرام السماوية في هذا الكون ودوامَها وبقاءها انما هو مشدود بسر القيومية، فلو صَرف سر القيومية وتجلّيه وجهَه - ولو لأقل من دقيقة - لتبعثرت تلك الأجرام التي تفوق ضخامة بعضها ضخامة الكرة الأرضية بألوف المرات ولإنتثرت ملايين الأجرام في فضاء غير متناهٍ ولإصطدم بعضُها ببعض ولَهَوت الى سحيق العدم.

لنوضح ذلك بمثال:

اننا مثلما نفهم قدرة قيومية مَن يُسيّر ألوف قصور ضخمة في السماء بدل الطائرات بمقدار ثبات تلك الكتل الهائلة التي في السماء ودوامها، وبمدى انتظام دورانها وانقيادها في جريها. نفهم أيضاً: تجلي الأسم الأعظم: ((القيوم)) من منح القيوم ذي الجلال قياماً وبقاءاً ودواماً - بسر القيومية - لأجرامٍ سماوية لا حدّ لها في أثير الفضاء الواسع، وجريانها في منتهى الإنقياد والنظام والتقدير، واسنادها وادامتها وابقائها دون عمد ولا سند، مع ان قسماً منها أكبر من الأرض ألوف المرات وقسماً منها ملايين المرات، فضلاً عن تسخير كل منها وتوظيفها في مهمة خاصة، وجعلها جميعاً كالجيش المهيب، منقادةً خاضعة خضوعاً تاماً للأوامر الصادرة ممن يملك أمر ((كن فيكون)). فكما ان ذلك يمكن ان يكون مثالاً قياسياً للتجلي الأعظم لاسم ((القيوم)) كذلك ذرات كل موجود - التي هي كالنجوم السابحة في الفضاء - فانها قائمةٌ ايضاً بسر القيومية، وتجد دوامَها وبقاءها بذلك السر.

نعم! ان بقاء ذرات جسم كل كائن حي دون ان تتبعثر وتجمّعها على هيئة معينة وتركيب معين وشكل معين حسب ما يناسب كل عضو من اعضائه، علاوةً على احتفاظها بكيانها وهيئتها أمام سيل العناصر الجارفة دون ان تتشتت، واستمرارها على نظامها المتقن.. كل ذلك لا ينشأ - كما هو معلوم بداهة - من الذرات نفسها، بل هو من سر القيومية الإلهية التي ينقاد لها كلٌّ فردٍ حي انقيادَ الطابور في الجيش، ويخضع لها كلُّ نوعٍ من أنواع الأحياء خضوعَ الجيش المنظم.

فمثلما يُعلن بقاءُ الأحياء والمركبات ودوامُها على سطح الأرض وسياحةُ النجوم وتجوالُها في الفضاء ((سرَّ القيومية)) تعلنه هذه الذرات أيضاً بألسنة غير معدودة.

المسألة الثانية:

هذا المقام يقتضي الاشارة الى قسم من فوائد الأشياء وحِكَمها المرتبطة بسر القيومية. ان حكمة وجود كل شئ، وغايةَ فطرته، وفائدةَ خلقه، ونتيجة حياته - كلاً منها - انما هي على أنواع ثلاثة.

النوع الاول: وهو المتوجه الى نفسه والى الانسان ومصالحه.

النوع الثاني: (وهو الأهم من الأول): هو ان كل شئ في الوجود بمثابة آية جليلة، ومكتوب رباني، وكتاب بليغ، وقصيدة رائعة، يستطيع كلُّ ذي شعور ان يطالعها ويتعرّف من خلالها على تجلّى اسماء الفاطر الجليل. أي ان كل شئ يعبّر عن معانيه الغزيرة لقرائه الذين لا يحصيهم العد.

أما النوع الثالث: فهو يخص الصانَع الجليل، وهو المتوجه اليه سبحانه، فلو كانت فائدةُ خلقِ الشئ في نفسه واحدةً فالتي يتطلع منها الى الباري الجليل هي مئات من الفوائد، حيث أنه سبحانه يجعله موضع نظره الى بدائع صنعه، ومحطّ مشاهدة تجلي أسمائه الحسنى فيه، فضمن هذا النوع الثالث العظيم من حكمة الوجود يكفي العيش لثانية واحدة.

هذا وسيوضح في ((الشعاع الثالث)) سرٌ من أسرار القيومية الذي يقتضي وجود كل شئ.

تأملتُ ذات يوم في فوائد الموجودات وحكمها من زاوية انكشاف ((طلسم الكائنات)) و ((لغز الخلق)) فقلت - في نفسي -: ((لماذا ياتُرى، تعرض هذه الأشياء نَفسَها وتُظهِرُها ثم لاتلبث أن تختفي وترحل مسرعةً؟)).. انظر الى أجسامها وشخوصها فاذا كل منها منظـّم منسق قد اُلبس وجوداً على قدِّه وقدره بحكمةٍ واضحة وزُيّن بأجمل زينة وألطفها، واُرسل بشخصية ذات حكمة وجسم منسق ليُعرَض أمام المشاهدين في هذا المعرض الواسع.. ولكن ما أن تمر بضعة أيام - أو بضع دقائق - الاّ وتراه يتلاشى ويختفي من دون أن يترك فائدة أو نفعاً.!! فقلت: تُرى ما الحكمة من وراء هذا الظهور لنا لفترة قصيرة كهذه؟..

كنت في لهفة شديدة للوصول الى معرفة السر.. فادركني لطفُ الرب الجليل سبحانه.. فوجدت - في ذلك الوقت - حكمةً مهمة من حِكَم مجئ الموجودات - ولا سيما الأحياء - الى مدرسة الأرض، والحكمة هي: ان كل شئ - ولا سيما الأحياء - انما هي كلمة إلهية ورسالة ربانية وقصيدةٌ عصماء، واعلانٌ صريح في منتهى البلاغة والحكمة. فبعد ان يصبح ذلك الشئ موضع مطالعة جميع ذوي الشعور، ويفي بجميع معانيه لهم ويستنفد أغراضه، تتلاشى صورتهُ الجسدية وتختفي مادتُه تلك التي هي: بحكم لفظ الكلمة وحروفها،تاركة معانيها في الوجود. لقد كفتني معرفة هذه الحكمة طوال سنة.. ولكن بعد مضيها انكشفت أمامي المعجزات الدقيقة في المصنوعات والاتقان البديع فيها ولا سيما الأحياء. فتبيّن لي:

ان هذا الأتقان البديع جداً والدقيق جداً في جميع المصنوعات ليس لمجرد افادة المعنى أمام أنظار ذوي الشعور؛ اذ رغم ان ما لا يحد من ذوي الشعور يطالعون كلَّ موجود الاّ ان مطالعتهم - مهما كانت - فهي محدودة، فضلاً عن أنه لا يستطيع كل ذي شعور ان ينفذ الى دقائق الصنعة وابداعها في الكائن الحي ولا يقدر على اكتناه جميع أسرارها.

فأهم نتيجة اذاً في خلق الأحياء وأعظم غاية لفطرتها انما هي: عرضُ بدائع صنع ((القيوم الأزلي)) أمامَ نظره سبحانه، وابرازُ هدايا رحمته وآلائه العميمة التي وهبها للأحياء، أمام شهوده جل وعلا.. لقد منحتني هذه الغاية اطمئناناً كافياً وقناعة تامة لزمن مديد. وأدركت منها:

ان وجود دقائق الصنع وبدائع الخلق في كل موجود - ولا سيما الأحياء - بما يفوق الحد، انما هو لعرضها أمام ((القيوم الأزلي)) أي ان حكمة الخلق هي:

مشاهدة ((القيوم الازلي)) لبدائع خلقه بنفسه.. وهذه المشاهدة تستحق هذا البذل العميم وهذه الوفرة الهائلة في المخلوقات.

ولكن بعد مضي مدة.. رأيت أن دقائق الصنع والاتقان البديع في شخوص الموجودات وفي صورتها الظاهرة لاتدوم ولاتبقى، بل تتجدد بسرعة مذهلة، وتتبدل آناً بعد آن، وتتحول ضمن خلق مستمر متجدد وفعالية مطلقة.. فأخذتُ أوغل في التفكير مدة من الزمن.

وقلت: لابد ان حكمة هذه الخلاقية والفعالية عظيمةٌ عظمَ تلك الفعالية نفسها.. وعندها بدت الحكمتان السابقتان ناقصتين وقاصرتين عن الايفاء بالغرض. وبدأت أتحرى حكمة أخرى بلهفة عارمة، وابحث عنها باهتمام بالغ.. وبعد مدة - و لله الحمد والمنة - تراءت لي حكمةٌ عظيمة لاحد لعظمتها وغاية جليلة لامنتهى لجلالها، تراءت لي من خلال فيض نور القرآن الكريم ونبعت من سر القيومية..

فأدركت بها سراً إلهياً عظيماً في الخلق، ذلك الذي يطلق عليه ((طلسم الكائنات)) و ((لغز المخلوقات))!

سنذكر في ((الشعاع الثالث)) هنا بضع نقاط من هذا السر ذكراً مجملاً حيث انه قد فصل تفصيلاً كافياً في ((المكتوب الرابع والعشرين)) من المكتوبات.

نعم! انظروا الى تجلي سر القيومية من هذه الزاوية وهي :

ان الله أخرج الموجودات من ظلمات العدم ووهب لها الوجود، ومنحها القيام والبقاء في هذا الفضاء الواسع، وبوأ الموجودات موقعاً لائقاً لتنال تجلياً من تجليات سر القيومية كما بينته الآية الكريمة: } الله الذي رفعَ السمواتِ بغير عَمَدٍ تَرَوْنها{ (الرعد:2). فلولا هذه الركيزة العظيمة وهذا المستند الرصين للموجودات، فلا بقاء لشئ بل لتدحرج كل شئ في خضم فراغ لا حدّ له، ولهوى الى العدم.

وكما تستند جميع الموجودات الى ((القيوم الأزلي)) ذي الجلال في وجودها وفي قيامها وبقائها، وان قيام كل شئ به سبحانه.. كذلك جميعُ أحوال الموجودات قاطبة وأوضاعها كافة وكيفياتها المتسلسلة كلها مرتبطةٌ بداياتُها أرتباطاً مباشراً بسر القيومية، كما توضحها الآية الكريمة:

} واليه يُرجَع الأمرُ كُلُّه{ (هود: 123) اذ لولا استناد كل شئ الى تلك النقطة النورانية، لنتج ما هو محال لدى أرباب العقل من ألوف الدور والتسلسل، بل بعدد الموجودات. ولنوضح ذلك بمثال:

أن الحفظ، أو النور، أو الوجود، أو الرزق أو ما شابهه من أي شئ كان، انما يستند - من جهة - الى شئ آخر، وهذا يستند الى آخر، وهذا الى آخر وهكذا.. فلابد من نهاية له، اذ لا يعقل الاّ ينتهي بشئ. فمنتهى امثال هذه السلاسل كلها انما هو في ((سر القيومية)).

وبعد أدراك هذا السر ((سر القيومية)) لايبقى معنىً لأستناد أفراد تلك السلاسل الموهومة بعضها بالبعض الآخر، بل تُرفع نهائياً وتزال. فيكون كل شئ متوجهاً توجهاً مباشراً الى ((سر القيومية)).

الشعاع الثالث:

سنشير في مقدمة أو مقدمتين الى طرفٍ من انكشاف ((سر القيومية)) الذي تتضمنه الخلاقية الإلهية والفعالية الربانية كما تشير اليها امثال هذه الآيات الكريمة:

} كُلَّ يَوم هو في شأن{ (الرحمن: 29)

} فعّالٌ لِمَا يُريدُ{ (البروج:16)

} يَخْلُقُ ما يَشَاءُ{ (الروم:54)

} بِيَدِهِ مَلكُوت كلِّ شىءٍ{ (يس:83)

} فانْظُر الى آثارِ رَحْمتِ الله كَيْفَ يُحيي الأرض بَعْدَ مَوتِهَا{ (الروم:50)

حينما ننظر الى الكائنات بعين التأمل، نرى: ان المخلوقات تضطرب في خضم سيل الزمان وتتعاقب قافلةً إثر قافلة. فقسمٌ منها لا يلبث ثانية ثم يغيب، وطائفة منها تأتي لدقيقة واحدة ثم تمضي الى شأنها. ونوع منها يمر الى عالم الشهادة مر الكرام ثم يلج في عالم الغيب بعد ساعة. وقسم منها يحط رحلَه في يومٍ ثم يغادر، وقسم منها يمكث سنة ثم يمضي، وقسم يمضي عصراً ثم يرحل، وآخر يقضي عصوراً ثم يترك هذا العالم.. وهكذا فكلٌ يأتي ثم يغادر بعد اداء مهمته الموكولة اليه.

فهذه السياحة المذهلة للعقول، وذلك السيل الجاري للموجودات والسفر الدائب للمخلوقات، انما تتم بنظام متقن وميزان دقيق وحكمة تامة، والذي يقود هذه الرحلة المستمرة ويمسك بزمامها، يقودها ببصيرة ويسيّرها بحكمة، ويسوقها بتدبير بحيث لو اتحدت جميع العقول واصبحت عقلاً واحداً لما بلغ معرفة كنه هذه الرحلة ولا يصل الى ادراك حكمتها، ناهيك عن ان يجد فيها نقصاً او قصوراً.

وهكذا ضمن هذه الخلاقية الربانية يسوق الخالق تلك المصنوعات اللطيفة المحبوبة اليه - ولاسيما الاحياء - الى عالم الغيب دون ان يمهلها لتتفسح في هذا العالم. ويعفيها من مهماتها في حياتها الدنيوية دون ان يدعها تنشرح وتنبسط، فيملأ دار ضيافته هذه بالضيوف ويخلّيها منهم باستمرار دون رضاهم، جاعلاً من الكرة الارضية ما يشبه لوحة كتابة - كالسبورة - يكتب فيها باستمرار قلم القضاء والقدر كتاباته ويجددها، ويبدلها، بتجليات مَن(يُحيي ويُميت).

وهكذا، فان سراً من اسرار هذه الفعالية الربانية وهذه الخلاًقية الالهية، ومقتضياً اساساً من مقتضياتها وسبباً من الاسباب الداعية لها انما هو حكمة عظيمة لا حدّ لها ولانهاية، هذه الحكمة تتشعب الى ثلاث شعب مهمة:

فالشعبة الاولى من تلك الحكمة:

هي أن كل نوع من انواع الفعالية - جزئياً كان ام كلياً - يورث لذة، بل ان في كل فعالية لذة، بل الفعالية نفسها هي عين اللذة، بل الفعالية هي تظاهر الوجود الذي هو عين اللذة، وهو انتفاضة بالتباعد عن العدم الذي هو عين الالم.

وحيث ان صاحب كل قابلية يرقُب بلهفة ولذة ما ينكشف عن قابلياته بفعالية ما، وان تظاهر كل استعداد بفعالية انما هو ناشئٌ من لذةٍ مثلما يولّد لذةً، وان صاحب كل كمال ايضاً يتابع بلهفة ولذة تظاهر كمالاته بالفعالية، فاذا كان في كل فعالية لذة كامنة مطلوبة كهذه وكمال محبوب كهذا، والفعالية نفسها كمال، وتشاهد في عالم الاحياء تجليات أزلية لرحمة واسعة ومحبة لا نهاية لها نابعة من حياة سرمدية.. فلا شك ان تلك التجليات تدل على:

ان الذي يحبّب نفسه الى مخلوقاته، ويحبّهم ويرحمهم باسباغ نِعَمه وألطافه عليهم على هذه الصورة المطلقة، تقتضي حياته السرمدية عشقاً مطلقاً (لاهوتياً اذا جاز التعبير) ومحبة مقدسة مطلقة، ولذة - منه - منزّهة سامية.. وأمثالها من الشؤون الالهية المقدسة اللائقة بقدسيته والمناسبة لوجوب وجوده. فتلك الشؤون الالهية بمثل هذه الفعالية التي لا حد لها، وبمثل هذه الخلاقية التي لا نهاية لها، تجدّد العالَم وتبدٍّله وتخضّه خضاً.

الشعبة الثانية من حكمة الفعالية الالهية المطلقة المتوجهة الى سر القيومية:

هذه الحكمة تطل على الاسماء الالهية الحسنى.

من المعلوم ان صاحب كل جمال يرغب ان يرى جماله ويُريَه الآخرين، ويودّ صاحب المهارة ان يلفت الانظار اليه بعرض مهاراته واعلانه عنها. فالحقيقة الجميلة الكامنة، والمعنى الجميل المخبوء يتطلعان اذاً الى الانطلاق واستقطاب الانظار.

ولما كانت هذه القواعد الرصينة سارية في كل شئ، كلٍ حسب درجته. فلا بد ان كل مرتبة من مراتب كل اسمٍ من ألف اسم واسم من الاسماء الحسنى للجميل المطلق وللقيوم ذي الجلال، ينطوي على حُسنٍ حقيقي، وكمالٍ حقيقي، وجمال حقيقي، وحقيقة جميلة باهرة بشهادة الكائنات كلها، وتجليات تلك الاسماء الظاهرة عليها، واشارات نقوشها البديعة فيها، بل ان كل مرتبة من مراتب كل اسم من الاسماء الحسنى فيهامن الحسن والجمال والحقائق الجميلة ما لايحصره حدّ.

وحيث ان هذه الموجودات وهذه الكائنات هي مرايا عاكسة لتجليات جمال هذه الاسماء المقدسة.. وهي لوحات بديعة تُعرض فيها نقوش تلك الاسماء الجميلة.. وهي صحائفها التي تعبر عن حقائقها الجميلة.

فلابد ان تلك الاسماء الدائمة الخالدة ستعرض تجلياتها غير المحدودة، وتبرز نقوشها الحكيمة غير المعدودة، وتشهر صحائف كتبها امام نظر مسمّاها الحق وهو (القيوم) ذو الجلال، فضلاً عن عرضها امام انظار ما لا يعد من ذوي الارواح وذوي الشعور لمطالعتها والتأمل فيها.

ولا بد انها تجدّد الكائنات عامة وعلى الدوام بتجلياتها وتُبدِّلها إستناداً الى ذلك العشق الالهي المقدس، وبناءً على سر القيومية الالهية، وذلك لاجل ابراز لوحاتٍ لا نهاية لها من شئ محدود، وعرض شخوصٍ لا حدّ لها من شخص واحد، واظهار حقائق كثيرة جداً من حقيقة واحدة.

الشعاع الرابع:

الشعبة الثالثة من حكمة الفعالية الدائمة المحيٍّرة في الكون:

هي ان كل ذي رحمة يُسرّ بإرضاء الآخرين، وكل ذي رأفة ينشرح اذا ما أدخل السرور الى قلوب الاخرين، وهكذ يبتهج ذو المحبة بابهاج مخلوقاته الجديرة بالبهجة، كما يسعد كلُّ ذي همة عالية وصاحب غيرة وشهامة باسعاده الآخرين، ومثلما يفرح كل عادل بجعل اصحاب الحقوق ينالون حقهم ويشكرونه لوضع الحق في نصابه وانزال العقاب على المقصّرين، يزهو كلُّ صناع ماهر ويفتخر بعرض صنعته واشهار مهارته لدى قيام مصنوعاته بانتاج ما كان يتوقعه على أتم وجه يتصوره.

فكلٌ من هذه الدساتير المذكورة آنفاً، قاعدة اساسية عميقة راسخة جارية في الكون كله مثلما تجري في عالم الانسان.

ولقد وضّحنا في (الموقف الثاني من الكلمة الثانية والثلاثين) أمثلة ثلاثة تبين جريان هذه القواعد الاساسية في تجليات الاسماء الحسنى، نرى من المناسب اختصارها هنا فنقول:

ان الذي يملك رحمة فائقة وهمة عالية مع منتهى الكرم والسخاء، يسعده جداً ان يغدق على فقراء مدقعين ومحاويج مضطرين ويتفضل عليهم بكرمه وجوده، فيعدّ لهم موائد ولائم فاخرة ومأكولات نفيسة على متن سفينة عامرة تجري بهم في بحار الأرض ليُدخل البهجة والسرور في قلوبهم ضمن سياحة جميلة ونزهة لطيفة.. فهذا الشخص يستمتع من مظاهر الشكر المنبعثة من اولئك الفقراء، وينشرح صدره انشراحاً عظيماً وهو يشاهد تمتعهم بمباهج النعم والآلاء، ويفتخر بسرورهم ويزهو بفرحم.. كل ذلك بمقتضى ما أودع الله في فطرته من سجايا سامية وصفات رفيعة.

فاذا كان الانسان الذي هو بمثابة أمين على ودائع الخالق الكريم وموظف للتوزيع ليس الاّ، اذا كان يستمتع وينشرح ويتلذذ الى هذا القدر لدى اكرامه الآخرين في ضيافة جزئية، فكيف اذن ياترى بالحي القيوم - ولله المثل الاعلى - الذي تنطلق اليه آياتُ الحمد والشكر وتُرفع اليه اكفّ الثناء والرضى بالدعاء والتضرع من مخلوقاتٍ لا حدّ لهم من الاحياء الى الانسان والملائكة والجن والارواح، الذين حملهم في سفينة الرحمن - الارض - واسبغ عليهم نِعَمه ظاهرة وباطنة بانواع مطعوماته المنسجمة تماماً مع ما غرز فيهم من اذواق وارزاق، وتفضَّل عليهم بهذه السياحة الربانية في أرجاء الكون. فضلاً عن جعله كلَّ جنةٍ من جنانه في دار الخلود، دار ضيافة دائمة معدَّة فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الاعين... فجميع آيات الشكر والحمد والرضى المنطلقة من جميع المخلوقات قاطبة والمنبعثة من سرورهم وفرحهم وابتهاجهم بالنعم والآلاء العميمة عليهم والمتوجهة كلها الى الحي القيوم تولد من الشؤون الالهية، المقدسة التي تقتضي هذه الفعالية الدائمة والخلاقية المستمرة، تلك الشؤون التي يُعجز التعبير عنها ولم يؤذن لنا بالافصاح عنها، بل ربما يشار اليها باسماء: ((الرضى المقدس)) و((الافتخار المقدس)) و ((اللذة المقدسة)) وما شابهها من الاسماء التي نُعبّر بها - نحن البشر - عن معاني الربوبية المنزّهة.

ومثال آخر:

اذا قام صنّاع ماهر، بصنع حاكٍ - بلا اسطوانة - يعبّر عما يريده منه ويعمل على افضل صورة يرغبها هو، كم يكون ذلك الصناع مفتخراً، وكم يكون متلذذاً من رؤية صنعته على هذه الصورة وكم يكون مسروراً حتى يردد في نفسه: ما شاء الله..

فاذا كانت صنعة صغيرة صورية - من دون ايجاد حقيقي - تثير في روح صانعها الى هذه الدرجة من مشاعر الافتخار والرضى. فكيف بالصانع الحكيم الذي أوجد هذه الموجودات كلها وجعلها موسيقى إلهية تعبّر عن شكرها وتسبيحها وتقديسها بأنواعٍ من النغمات وانواع من الكلام، كما جعلها مصنعاً عجيباً فضلاً عما أسبغ على كل نوع من أنواع الكائنات، وكل عالم من عوالم الكون من صنعةٍ متقنة بديعة متباينة معجزة بخوارقها، أضف الى ذلك المكائن الكثيرة التي اودعها في رؤوس ذوي الحياة الشبيهة بالحاكي وآلات التصوير وأجهزة البث والاستقبال، بل أودع أعجب من هذه الاجهزة المعجزة حتى في رأس أصغر حيوان! بل لم يودع في رأس الانسان مجرد حاكٍ بلا اسطوانة، ولا آلة تصوير بلا عدسة، ولا هاتفاً بلا سلك بل مكائن اعجب بكثير وخوارق أعظم وأعظم مما ذكر بكثير.

فما يُنشئه عمل هذه المكائن العاملة وفق ارادته والمودَعة في رأس الانسان المخلوق في احسن تقويم من معاني الافتخار المقدس والرضى المقدس، وأمثالها من المعاني الجليلة والشؤون المقدسة للربوبية - التي هي من هذا النوع - يستلزم حتماً هذه الفعالية الدائمة المشاهدة.

ومثلاً:

ان الحاكم العادل يجد لذة ومتعة ورضىً عندما يأخذ حقَّ المظلوم من الظالم ويجعل الحق يأخذ نصابه، ويفتخر لدى صيانته الضعفاء من شرور الاقوياء، ويسر لدى منحه كل فرد ما يستحقه من حقوق.. كل ذلك من مقتضيات الحاكمية والعدالة وقواعدهما الاساس.

فلا بد ان الحاكم الحكيم العادل الذي هو ((الحي القيوم)) منحه شرائط الحياة في صورة حقوق الحياة للمخلوقات كافة ولاسيما الاحياء.. وباحسانه اليهم باجهزة تحافظ على حياتهم.. وبحمايته الضعفاء من شرور الاقوياء بكل رحمة ورأفة.. وبتوليه اظهار سر العدالة في الكون باعطاء كل ذي حق من الاحياء حقَّه كاملاً، وبانزال شئ من العقوبة بالظالمين - في هذه الدنيا - وبخاصة ما يحصل من التجلي الكامل للعدالة العظمى في المحكمة الكبرى ليوم الحشر الاعظم.. يحصل من كل هذا ما نعجز عن التعبير عنه من شؤون ربانية ومعانٍ قدسية جليلة هي التي تقتضي هذه الفعالية الدائمة في الكون.

وهكذا في ضوء هذه الامثلة الثلاثة:

فان الاسماء الالهية عامة، وكلَّ اسمٍ منها خاصة، يقتضي هذه الخلاّقية الدائمة، حيث يكون محوراً لقسم من هذه الشؤون الالهية المقدسة وأمثالها ضمن هذه الفعالية الدائمة.

وحيث ان كل قابلية وكل استعداد يورث فرحاً وانشراحاً ولذةً، بمنحها الثمار والفوائد لدى انبساطها وانكشافها.. وان كل موظف يشعر - عند اتمام الوظيفة وانهائها على الوجه المطلوب - براحة وأيّ راحة.. وان جني ثمرات كثيرة من بذرة واحدة، واغتنام ربح مئات الدراهم من درهم واحد هي حالات مفرحة جداً لأصحابها وتعد تجارة رابحة لهم..

فلا بد ان يفهم مدى أهمية المعاني المقدسة وشؤون الربوبية الالهية الناشئة من الفعالية الدائمة والخلاقية الربانية التي تكشف عن جميع الاستعدادات التي لا تحد، وجميع القابليات التي لا تعد، لجميع المخلوقات غير المحدودة.. والتي تُنهي وظيفة جميع المخلوقات بعد ان تستخدمها في وظائف جسيمة وترقّيها بهذا التسريح الى مراتب أسمى وأعلى - كأن ترقى العناصر الى مرتبة المعادن، والمعادن الى حياة النباتات، والنباتات الى درجة حياة الحيوانات بما تمدّها من رزق، والحيوانات الى مرتبة الانسان الشاعرة والعالية بالشكر والحمد - والتي تجعل كل كائن يخلُف انواعاً من الوجود كروحه وماهيته وهويته وصورته بعد زوال ظاهر وجوده لتؤدي المهمة نفسها ((كما وضح في المكتوب الرابع والعشرين)).

جوابُ قاطع عن سؤال مهم

يقول قسم من أهل الضلالة:

ان الذي يغيّر الكائنات بفعالية دائمة ويبدلها، يلزم ان يكون هو متغيراً ومتحولاً أيضاً.

الجواب:

كلا ثم كلا. حاش لله ألف ألف مرة حاش لله!

ان تغيّر اوجه المرايا في الارض، لا يدل على تغير الشمس في السماء، بل يدل على اظهار تجدد تجليات الشمس. فكيف بالذي هو أزلي وأبدي وسرمدي وفي كمال مطلق وفي استغناء مطلق (عن الخلق) وهو الكبير المتعال المقدس عن المادة والمكان والحدود، والمنزّه عن الامكان والحدوث، فتغيّر هذا الذات الاقدس محال بالمرة.

ثم ان تغير الكائنات، ليس دليلاً على تغيّره هو، بل هو دليل على عدم تغيره، وعدم تحوّله سبحانه وتعالى. لان الذي يحرّك اشياءً عديدة بانتظام دقيق ويغيّرها، لابد الاّ يكون متغيراً والاّ يتحرك.. مثال ذلك: انك اذا كنت تحرك كرات كبيرة وصغيرة مرتبطة بعدة خيوط؛ حركة منتظمة ودائمة، وتضعها في اوضاع منتظمة، ينبغي ان تكون أنت ثابتاً في مكانك دون ان تتحول عنه والاّ اختل الانتظام.

ومن القواعد المشهورة: ان الذي يحرّك بانتظام ينبغي الاّ يتحرك، والذي يغيّر باستمرار ينبغي الاّ يكون متغيراً. كي يستمر ذلك العمل في انتظامه.

ثانياً: ان التغير والتبدل ناشئ من الحدوث، ومن التجدد بقصد الوصول الى الكمال، ومن الحاجة، ومن المادية، ومن الامكان.

أما الذات الاقدس؛ فهو قديم أزلي، وفي كمال مطلق، وفي استغناء مطلق، منزّه عن المادة، وهو الواجب الوجود، فلا بد ان التبدل والتغير محال في حقه وغير ممكن أصلاً.

الشعاع الخامس:

المسألة الاولى:

اذا اردنا ان نرى التجلي الاعظم لاسم الله (القيوم) فما علينا الاّ ان نجعل خيالنا واسعاً جداً بحيث يمكنه ان يشاهد الكون بأسره، فنجعل منه نظارتين احداهما ترى أبعد المسافات كالمرصد والاخرى تشاهد اصغر الذرات .

فاذا ما نظرنا بالمنظار الاول نرى:

ان ملايين الكرات الضخمة والكتل الهائلة التي منها ما هو اكبر من الارض بألوف المرات، قد رُفعت بتجلي اسم (القيوم) بغير عمد نراها، وهي تجري ضمن أثير لطيف ألطف من الهواء، وتسخَّر لاجل القيام بمهام عظيمة في حركاتها وفي ثباتها الظاهر.

لنرجع الآن الى المنظار الاخر.. لنرى أصغر الاشياء، فاذا بنا امام ذرات متناهية في الصغر تشكل اجسام الاحياء - بسرّ القيومية - وهي تأخذ اوضاعاً منتظمة جداً كالنجوم، وتتحرك وفق نظام معين وتناسق مخصص منجزة بها وظائف جمة، فان شئت فانظر الى الكريات الحمر والبيض تراهما تتحركان حركات خاصة شبيهة بحركات المولوية لأنجاز مهمات جسيمة في الجسم وهما تجريان في السيل الدافق للدم.

خلاصة الخلاصة :(1)

لقد ارتأينا ان ندرج هنا خلاصة تبين الضياء المقدس الحاصل من امتزاج أنوار الاسماء الستة للاسم الأعظم، كامتزاج الألوان السبعة لضوء الشمس - ولله المثل الاعلى - ولأجل مشاهدة هذا النور المقدس نسوق هذه الخلاصة:

تأمل في موجودات الكون كله وانظر اليها من وراء هذا التجلي الاعظم لاسم (القيوم) الذي منح البقاء والدوام والقيام لها ترَ: ان التجلي الاعظم لاسم (الحي) قد جعل تلك الموجودات الحية ساطعةً منورة بتجليه الباهر، وجعل الكائنات كلها منورة بنوره الزاهر، حتى يمكن مشاهدة لمعان نور الحياة على الاحياء كافة.

والآن انظر؛ الى التجلي الاعظم لاسم (الفرد) من وراء اسم (الحي) ترَه قد ضمّ جميع الكائنات بأنواعها وأجزائها واستوعبها ضمن وحدة واحدة، فهو يطبع على جبهة كل شئٍ ختم الوحدانية، ويضع على وجه كل شئ ختم الاحدية، فيجعل كل شئ يعلن تجلّيه بألسنة لا حد لها ولا نهاية.

ثم انظر من خلف اسم (الفرد) الى التجلي الاعظم لاسم (الحكم) ترَ: انه قد ضم الموجودات كلها من أعظم دائرة فيها الى أصغرها كلياً كان أم جزئياً - ابتداءً من النجوم وانتهاء الى الذرات - منح كل موجود ما يستحق من نظام مثمر وما يلائمه من انتظام حكيم وما يوافقه من انسجام مفيد. فلقد زيّن اسم (الحكم) الاعظم الموجودات كلها ورصّعها بتجليه الساطع.

ثم انظر من خلف التجلي الأعظم لأسم (الحكم) الى التجلي الاعظم لاسم (العدل) - كما اوضحناه في النكتة الثانية - ترَه يدير جميع الكائنات بموجوداتها ضمن فعالية دائمة بموازينه الدقيقة ومقاييسه الحساسة ومكاييله العادلة بحيث يجعل العقول في حيرة واعجاب، فلو فقد نجمٌ من الأجرام السماوية توازنه لثانية واحدة. أي اذا انفلت من تجلي اسم (العدل) لحلِّ الهرجُ والمرج في النجوم كلها ولأدّى - لامحالة - الى حدوث القيامة.

وهكذا فكل دائرة من دوائر الوجود وكل موجود من موجوداتها ابتداءً من الدوائر العظيمة - المسماة بدرب التبانة - الى حركات أصغر الموجودات في الجسم من كريات حمر وبيض، كلٌّ منها قد فُصّل تفصيلاً خاصاً وقُدّر تقديراً دقيقاً وقيس بمقاييس حساسة، ومُنح شكلاً معيناً ووضعاً مخصوصاً بحيث يُظهر - كل منها - الطاعة التامة والانقياد المطلق ودينونة كاملة للأوامر الصادرة من الذي يملك أمر "كن فيكون" ابتداءً من جيوش النجوم الهائلة المتلألئة في الفضاء الى جيوش الذرات المتناهية في الصغر.

فانظر الآن من خلف التجلي الاعظم لاسم الله ( العدل) ومن خلاله، وشاهد التجلي الاعظم لاسم الله (القدوس) - الذي وضحناه في النكتة الاولى - تَرَ : ان هذا التجلي الاعظم لاسم (القدوس) قد جعل موجودات الكائنات نظيفة، نقية طاهرة، براقة، صافية، زكية، مزينة، وجميلة وحوّلها الى ما يشبه مرايا جميلة مجلوة لائقة لاظهار الجمال البديع المطلق، وتناسب عرض تجليات اسمائه الحسنى.

نحصل مما تقدم:

ان هذه الاسماء والانوار الستة للاسم الاعظم، قد عمّت الكون كله وغطت الموجودات قاطبة ولَفَعَتْها باستار مزركشة ملونة بازهى الالوان المتنوعة وابدع النقوش المختلفة وأروع الزينات المتباينة.

المسألة الثانية من الشعاع الخامس:

ان جلوة من تجليات القيومية على الكون، وشعاعاً من نورها مثلما يعمّ الكون بمظاهر ((الواحدية والجلال))، فانه يبرز على هذا الانسان - الذي يمثل محور الكون وقطبه وثمرته الشاعرة - مظاهر ((الاحدية والجمال)). وهذا يعني:

ان الكائنات التي هي قائمة بسر القيومية فهي تقوم ايضاً - من جهة - بالأنسان؛ الذي يمثل اكمل مظهر من مظاهر تجلي اسم (القيوم). أي: ان القيومية تتجلى في الانسان تجلياً يجعل منه عموداً سانداً للكائنات جميعاً، بمعنى ان معظم الحِكَم الظاهرة في الكائنات وأغلب مصالحها وغاياتها تتوجه الى الانسان.

نعم ، يصح ان يقال: ان (الحي القيوم) سبحانه قد أراد وجود الانسان في هذا الكون، فخلق الكون لاجله، وذلك لان الانسان يمكنه ان يدرك جميع الاسماء الالهية الحسنى ويتذوقها بما اودع الله فيه من مزايا وخصائص جامعة. فهو يدرك - مثلاً - كثيراً من معاني تلك الاسماء بما يتذوق من لذائذ الارزاق المنهمرة عليه، بينما لا يبلغ الملائكة الى ادراك تلك الاسماء بتلك الاذواق الرزقية.

فلأجل جامعية الانسان المهمة يُشعِر ((الحي القيوم)) الانسان بجميع اسمائه الحسنى، ويعرّفه بجميع انواع احسانه، ويذوّقه طعوم آلائه، فمَنحَه معدةً ماديةً يستطيع بها ان يتذوق ما أغدق عليه من نِعمٍ لذيذة قد بسطها في سُفرة واسعة سعة الارض. ثم وهب له حياة، وجعل هذه الحياة كتلك المعدة المادية تستطيع ان تتنعم بأنواع من النعم المُعَدّة على سُفرة واسعة مفروشة أمامها وتتلذذ بها بما زودها - سبحانه - من مشاعر وحواس لها القدرة ان تمتد - كالايدي - الى كل نعمة من تلك النعم، فتؤدي عند ذلك حقها من انواع الشكر والحمد.

ثم وهب له - فوق معدة الحياة هذه - معدة الانسانية، وهذه المعدة تطلب رزقاً ونعَماً ايضاً. فجعل العقل والفكر والخيال بمثابة أيدي تلك المعدة، لها القدرة على بلوغ آفاق أوسع من ميادين الحياة المشهودة، وعندها تستطيع الحياة الانسانية ان تؤدي ما عليها من شكر وحمد تجاه بارئها حيث تمتد أمامها سُفرةُ النِعَم العامرة التي تسع السماوات والارض.

ثم لأجل ان يمدّ امام الانسان سفرة نعمٍ أخرى عظيمة جعل عقائد الاسلام والايمان بمثابة معدة معنوية تطلب ارزاقاً معنوية كثيرة فمدّ سفرة مليئة بالرزق المعنوي لهذه المعدة الايمانية وبَسَطها خارج الممكنات المشاهدة. فضم الاسماء الالهية في تلك السفرة العظيمة.. ولهذا يستشعر الانسان - بتلك المعدة المعنوية - ويتمتع بأذواق رفيعة لا منتهى لها، نابعة من تجليات اسم ((الرحمن)) واسم ((الحكيم)) حتى يردد (الحمد لله على واسع رحمته وجليل حكمته).. وهكذا - مكّن الخالق المنعم الانسان - بهذه المعدة المعنوية العظمى - ليستفيد ويغنم نعماً الهية لا حد لها، ولا سيما أذواق محبته الالهية، في تلك المعدة فان لها آفاقاً لا تحد وميادين لا تحصر.

وهكذا جعل (الحي القيوم) سبحانه الانسان مركزاً للكون، ومحوراً له، بل سخّر الكون له فمدّ أمامه سفرة عظيمة عظم الكون لتتلذذ انواع معداته المادية والمعنوية.

اما حكمة قيام الكون بسر القيومية على الانسان - من جهة - فهي للوظائف المهمة الثلاث التي انيطت بالانسان:

الاولى:

تنظيم جميع انواع النعم المبثوثة في الكائنات بالانسان وربطها بأواصر المنافع التي تخص الانسان، كما تنظَّم خرز المسبحة بالخيط، فتُربط رؤوس خيوط النعم بالانسان ومصالحه ومنافعه. فيكون الانسان بما يشبه فهرساً لأنواع ما في خزائن الرحمة الالهية ونموذجاً لمحتوياتها.



الوظيفة الثانية:

كون الانسان موضع خطابه سبحانه بما أودع فيه من خصائص جامعة أهّلته ليكون موضع خطابه سبحانه وتعالى، ومقدّراً لبدائع صنائعه ومعجباً بها، ونهوضه بتقديم آلاء الشكر والثناء والحمد الشعوري التام. على ما بُسط أمامه من أنواع النعم والألاء العميمة.



الوظيفة الثالثة:

قيام الانسان بحياته بمهمة مرآة عاكسة لشؤون (الحي القيوم)ولصفاته الجليلة المحيطة، وذلك بثلاثة وجوه:



الوجه الاول:

هو شعور الانسان بقدرة خالقه سبحانه المطلقة ودرجاتها غير المحدودة بما هو عليه من عجز مطلق. فيدرك مراتب تلك القدرة المطلقة بما يحمل من درجات العجز. ويدرك كذلك رحمة خالقه الواسعة ودرجاتها بما لديه من فقر، ويفهم أيضاً قوة خالقه العظيمة بما يكمن فيه من ضعف... وهكذا.

وبذلك يكون الانسان مؤدياً مهمة مرآةٍ قياسية صغيرة لأدراك صفات خالقه الكاملة، وذلك بما يملك من صفات قاصرة ناقصة؛ اذ كما ان الظلام كلما اشتد سطع النور اكثر، فيؤدي هذا الظلام مهمة اراءة المصابيح، فالانسان ايضاً يؤدي مهمة اراءة كمالات صفات بارئه سبحانه بما لديه من صفات ناقصة مظلمة.



الوجه الثاني:

ان ما لدى الانسان من ارادة جزئية وعلمٍ قليل وقدرة ضئيلة وتملّك في ظاهر الحال وقابلية على إعمار بيته بنفسه، يجعله يدرك بهذه الصفات الجزئية خالق الكون العظيم ويفهم مدى مالكيته الواسعة وعظيم اتقانه وسعة ارادته وهيمنة قدرته واحاطة علمه. فيدرك ان كلاً من تلك الصفات انما هي صفات مطلقة وعظيمة لا حدّ لها ولا نهاية.وبهذا يكون الانسان مؤدياً مهمة مرآة صغيرة لأظهار تلك الصفات وادراكها.

أما الوجه الثالث:

من قيام الانسان بمهمة مرآة عاكسة لكمالات الصفات الالهية فله وجهان:

l اظهاره بدائع الاسماء الالهية الحسنى المتنوعة وتجلياتها المختلفة في ذاته. لأن الانسان بمثابة فهرس مصغر للكون كله - بما يملك من صفات جامعة - وكأنه مثاله المصغر، لذا فتجليات الاسماء الالهية في الكون عامة نراها تتجلى في الانسان بمقياس مصغر.



l الوجه الثاني:

اداؤه مهمة المرآة العاكسة للشؤون الالهية، أي ان الانسان كما يشير بحياته الى حياة ( الحي القيوم) فانه بوساطة ما ينكشف في حياته الذاتية من حواس كالسمع والبصر وامثالها يفهم - ويبيّن للآخرين - صفات السمع والبصر وغيرها من الصفات الجليلة المطلقة (للحي القيوم).

ثم ان الانسان الذي يملك مشاعر دقيقة جداً وكثيرة جداً - وقد لا تنكشف ضمن حياته وانما عندما يحفَّز او يُثار - فتظهر تلك المشاعر بأشكال متنوعة وانفعالات مختلفة، فانه بوساطة هذه المشاعر الدقيقة والمعاني العميقة يؤدي مهمة عرض الشؤون الذاتية (للحي القيوم). فمثلاً: الحب والافتخار والرضى والانشراح والسرور وما شابهها من المعاني التي تتفجّر لدى الانسان في ظروف خاصة، يؤدي الانسان بها مهمة الاشارة الى هذه الانواع من الشؤون الالهية بما يناسب قدسية الذات الالهية وغناه المطلق وبما يليق به سبحانه وتعالى.

وكما ان الانسان وحدة قياس - بما يملك من جامعية حياته - لمعرفة صفات الله الجليلة، وشؤونه الحكيمة، وفهرس لتجلي اسمائه الحسنى، ومرآة ذات شعور بجهات عدة لذات (الحي القيوم).. كذلك - الانسان - هو وحدة قياس ايضاً لمعرفة حقائق الكون هذا، وفهرس له ومقياس وميزان.

فمثلاً: ان الدليل القاطع على وجود اللوح المحفوظ في الكون يتمثل في نموذجه المصغر وهو ((القوة الحافظة)) لدى الانسان. والدليل القاطع على وجود عالم المثال نلمسه في نموذجه المصغر وهو ((قوة الخيال)) لدى الانسان(1)، والدليل القاطع على وجود الروحانيات في الكون ندركه ضمن نموذجها المصغر وهو ((لطائف الانسان وقواه)).. وهكذا يكون الانسان مقياساً مصغراً يُظهر عياناً الحقائق الايمانية في الكون بدرجة الشهود.

وهناك مهمات ووظائف وخدمات كثيرة اخرى للانسان فضلاً عمّا ذكرناه؛ اذ هو: مرآة لتجلي الجمال الباقي، وداعٍ الى الكمال السرمدي ودالّ عليه. ومحتاجٌ شاكر لأنعم الرحمة الواسعة الابدية.

فما دام الجمال باقياً والكمال سرمدياً والرحمة أبدية، فلا بد ان الانسان الذي هو المرآة المشتاقة لذلك الجمال الباقي والداعي العاشق لذلك الكمال السرمدي والمحتاج الشاكر لتلك الرحمة الابدية سيُبعث الى دار بقاء أبدية ليخلد فيها دائماً، ولابد انه سيذهب الى الابد ليرافق الباقين الخالدين هناك ويرافق ذلك الجمال الباقي وذلك الكمال السرمدي وتلك الرحمة الابدية في ابد الاباد. بل يلزم ذلك قطعاً لأن: الجمال الابدي لا يرضى بمشتاق فانٍ ومحبٍ زائلٍ. اذ الجمال يطلب محبة تجاهه مثلما يحب نفسه. بينما الزوال والفناء يحولان دون تلك المحبة ويبدلانها الى عداء.

فلو لم يرحل الانسان الى الابد، ولم يبق هناك خالداً مخلداً فسيجد في فطرته عداءً شديداً لما يحمل من سر مغروز فيه وهو المحبة العميقة نحو الجمال السرمدي. مثلما بينا ذلك في حاشيةٍ في الكلمة العاشرة (رسالة الحشر): ان حسناء بارعة الجمال عندما طردت - ذات يوم - احد عشاقها من مجلسها، انقلب عشقُ الجمال لدى العاشق المطرود قبحاً وكرهاً حتى بدأ يسلّى نفسه بقوله: تباً لها ما أقبحها! فانكر الجمال وسخط عليه.

نعم فكما ان الانسان يعادي ما يجهله، فانه يتحرى النقص والقصور فيما تقصر يدُه عنه، ويعجز عن الاحتفاظ به ومسكه.. بل تراه يتحرى فيه عن القصور بشئ من عداء وحقد يضمره، بل يتخذ مايشبه العداء له.

فما دام الكون يشهد بان المحبوب الحقيقي والجميل المطلق سبحانه يحبّب نفسَه الى الانسان بجميع اسمائه الحسنى، ويطلب منه مقابل ذلك حباً عظيماً له، فلابد انه سبحانه لايدع هذا الانسان الذي هو محبوبه وحبيبه يسخط عليه، فلا يودع في فطرتهما يثير عداءً نحوه - أي بعدم احداث الاخرة - ولا يغرز في فطرة هذا المخلوق المكرم الممتاز، المحبوب لدى الرب الرحيم والمخلوق اصلاً للقيام بعبادته، ما هو منافٍ كلياً لفطرته من عداء خفي، ولا يمكن ان يحمّل روحه سخطاً عليه سبحانه قط؛ لأن الانسان لا يمكنه ان يداوى جرحه الغائر الناشئ من فراقه الابدي عن جمال مطلق يحبّه ويقدّره الا بالعداء نحوه، أو السخط عليه، أو انكاره؛ وكون الكفار اعداء الله نابع من هذه الزاوية.. لأجل هذا فسيجعل ذلك الجمال الازلي حتماً هذا الانسان الذي هو مرآة مشتاقة اليه مبعوثاً الى طريق أبد الآباد، ليرافق ذلك الجمال المطلق والبقاء والخلود، ولا ريب ان سيجعله ينال حياة باقية في دار باقية خالدة.

وما دام الانسان مشتاقاً فطرةً لجمال باقٍ وقد خُلقَ محباً لذلك الجمال.. وان الجمال الباقي لا يرضى بمشتاق زائل.. وان الانسان يسكّن آلامه وأحزانه الناجمة عما لا تصل اليه يدُه او يعجز عن الاحتفاظ به او يجهله، بتحري القصور فيه بل يسكّنها بعداء خفي نحوه، مسلياً نفسه بهذا العداء.. وما دام الكون قد خُلق لاجل هذا الانسان، والانسان مخلوق للمعرفة الالهية ولمحبته سبحانه وتعالى.. وخالق الكون سرمديٌ باسمائه الحسنى وتجلياته باقية دائمة.. فلا بد ان هذا الانسان سيُبعث الى دار البقاء والخلود، ولا بد ان ينال حياة باقية دائمة.

هذا وان الرسول الاكرم صلى الله عليه وسلم وهو الانسان الاكمل والدليل الاعظم على الله قد أظهر جميع ما بيّناه من كمالات الانسان وقيمته ومهمته ومثله، فأظهر تلك الكمالات في نفسه، وفي دينه، بأوضح صورة وأكملها، مما يدلنا على: ان الكائنات مثلما خُلقت لأجل الانسان، أي انه المقصود الاعظم من خلقها والمنتخب منها، فان اجلّ مقصود من خلق الانسان ايضاً وافضل مصطفى منه، بل أروع واسطع مرآة للأحد الصمد انما هو محمد عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام بعدد حسنات أمته...

فيا الله يارحمن يارحيم يا فرد يا حيُّ با قيوم يا حكم ياعدل ياقدوس.

نسألك بحق فرقانك الحكيم وبحُرمة حبيبك الاكرم صلى الله عليه وسلم

وبحق اسمائك الحسنى وبحرمة إسمك الاعظم

ان تحفظنا من شر النفس والشيطان ومن شر الجن والانسان. آمين

} سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم{
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس