عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #2
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - حبة


المثنوي العربي النوري - ص: 227
ذرات الكائنات ومركباتها بألسنتها المختلفة ودلالاتها المتنوعة تتكلم بـ:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل الى ذاك الجمال يشير
نعم، ان كل حرف من كتاب الكائنات، يدل على وجود نفسه بوجهٍ واحدٍ، وبمقدار حرف، لكن يدل على كاتبه وصانعه بوجوه كثيرة. وينشدُ من اسمائه المتجلية عليه قصيدة طويلة:
تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى اليك رسائل 1
اعلم! 2 إن مرايا التجليات متنوعة منها: الزجاج، والماء، والهواء - لاسيما للكلمات - وعالم المثال، والروح، والعقل، والخيال، والزمان. وغيرها مما لانعلم او لاتعلم.. وتماثيل الماديات الكثيفة في المرايا 3 منفصلة حُكماً، وامواتٌ حقيقةً.. وليس لها خاصية الأصل.. وغيرٌ للاصل ايضاً، بدليل انتقالها الى الفطوغراف، دون النورانية الخالصة، وفي غير الخالصة تنتقل هوية صورتها المادية فقط.
واما تماثيل النورانيات فمتصلةٌ حكماً، ومرتبطةٌ حقيقة، ومالكةٌ لخواص الاصل، وليستْ غيراً له. فلو جعل الفاطرُ جل جلاله حرارةَ الشمس حياتها، وضياءها شعورَها، والوان الضياء حواسَّها؛ لتكلمت الشمسُ معك في قلب مرآتك التي في يدك، كتلفونك ومرآة قلبك. اذ مثالها الذي في يدك له ايضاً بمقدار استعداده حرارة حياة، وضياء شعور، والوان حواس. ومن هذا السر يطّلع النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو النور النوراني على صلوات كلّ مَن صلى عليه في آن واحد. ومن هذا السر ينفتح مغلقات اسرار.. 4
اعلم! ان "سبحان الله والحمد لله" يتضمنان التوصيف بصفات الله: الجلال بالاول.. والجمال بالثاني. "فسبحان الله" ينظر الى بُعد العبد والممكن عن الله الواجب الوجود العلي العظيم. و"الحمد لله" ينظر الى قُرب الله بالرحمة واللطف الى العبد ومخلوقاته. فكما ان الشمس قريبةٌ منك تُوصل حرارتها وضياءها اليك
_____________________
1 لرجل نحوى مشهور يُعرف بركن الدين بن القَوْبََع (ت 738 هـ) - (قول على قول 11/157 للكرمى).
2 الغصن الرابع من الكلمة الرابعة والعشرين تفصّل هذه المسألة.
3 اي صورها المرتسمة في المرايا ، كما سيأتي.
4 ايضاحها في اللوامع - اقسام التمثلات مختلفة - ص847 من مجلد "الكلمات".

المثنوي العربي النوري - ص: 228
وتتصرف فيك باذن خالقها، الذى صيّرها مرآة لجلوة اسمه" النور" وظرفاً لنعمه التى هى الحرارة والضياء مع انك بعيد عنها لايصل يدك اليها، وانت بالنسبة اليها قابل فقط لافاعل ولامؤثر.. كذلك (ولله المثل الاعلى) ان الله جلّ جلاله قريبٌ منا فنحمده، ونحن بعيدون عنه فنسبّحه. فاحمده وانت تنظر الى قربه برحمته. وسبّحه وانت تنظر الى بُعدك بإمكانك. ولاتخلط بين المقامين، ولاتمزج بين النظرين، لئلا يتشوش عليك الحق والاستقامة. لكن يمكن لك - بشرط عدم الالتباس والمزج - ان تنظر الى القرب في جهة البُعد.. والى وجه البُعد في جهة القرب.. والى الوجهين معا فتقول: "سبحان الله وبحمده"..
اعلم! ياطالب الدنيا! لابد ان تتركها 1 لامور أربعة:
اولاً: فلأنها سريعة الزوال، وألم الزوال مذلّ ومزيل للذة الوصال.
واما ثانياً: فلأن لذائذها منغّصة بآلام مقارنة وأكدار متعاقبة.
واما ثالثاً: فان ما ينتظرك وانت تذهب اليه بسرعة بلا انحراف من القبر الذي هو باب الى الآخرة، لايقبل منك مزينات الدنيا هدية، اذ تنقلب هناك قبائح.
واما رابعاً: فوازن بين سكونك ساعة في موقع بين الاعداء والمؤذيات والحشرات المضرة، وبين السكون في سنين كثيرة في موقع آخر قد اجتمع فيه كل احبابك وكل عظمائك. ومالك الملك ايضاً يدعوك الى ترك لذة تلك الساعة ليريحك في تلك السنين مع اودّائك. فأجب داعي الله قبل ان تُساق اليه بالسلاسل.
فسبحان الله ما اعظم فضل الله على الانسان يشتري بثمن غال من الانسان مالاً له وديعة عند الانسان ليحمله عنه.. ويبقيه له.. ويحميه مما يفسده. مع ان الانسان ان تملّكه ولم يبعه وقع في بلاءٍ عظيم في تعهّده بقدرة لاتكفي - من الوف مصالحه - بواحد.. ولو تحمله بنفسه على ظهره لأنقضّ ظهره. ولو امسكه بنفسه لزال سريعاً وذهب مجاناً وفنى مورثاً لآثامه واثقاله على مالكه الكاذب.
اعلم! انه انني مصداق لما قيل:
وعيني قد نامت بليلِ شبيبتي ولم تنتبه الاّ بصبح مَشيب
_____________________
1 وتركها يعنى: انها ملك الله، يُنظر اليها بإذنه وبإسمه (الكلمات ص 227)


المثنوي العربي النوري - ص: 229
إذ اشد اوقات انتباهي في شبيبتي رأيته الآن اعمقَ طبقات نومي!.. فالمتنورون المتنبهون في عرف المدنيين كانتباهي فيما مضى، مَثَلُهم كمثل مَن رأى في رؤياه انه انتبه وقص رؤياه على بعض الناس. والحال انه بهذا الانتباه مرّ من طبقة النوم الخفيفة الى الطبقة الكثيفة. فمن كان هكذا نائماً كالميت كيف يوقظ الحي الناعس، وكيف يُسمع الناعسَ ما يتكلم به من وراء حُجب نومه المضاعف! ..
ايها المتنبهون النائمون! لاتتقربوا الى المدنيين بالمسامحة الدينية والتشبه، ظناً منكم انكم تصيرون جسراً بيننا وبينهم، وتملأون الوادي بيننا. كلاّ، ان المسافة بين المؤمنين والكافرين غير محدودة، والوادي بيننا في غاية العمق لاتملأونه، بل تلتحقون بهم او تضلون ضلالاً بعيداً! ...
اعلم! ان في ماهية المعصية 1 - لاسيما اذا استمرت وكثرت - بذر الكفر.. اذ المعصية تولد الُفةً معها وابتلاء بها، بل تصير داءً، دواؤها الدائمى نفسها، فيتعذر تركُها. فيتمنى صاحبُها عدَم عقابٍ عليها، ويتحرى بلا شعور ما يدل على عدم العذاب، فتستمر هذه الحال حتى تنجر الى انكار العذاب وردّ دار العقاب. وكذا ان خجالة المعصية - بغير الندامة والقلع - تلجئ صاحبَها الى انكار كون المعصية معصيةً، وانكار مَن يطلع عليها من حَفَظة الملائكة وغيرها.. فمن شدة الخجالة يتمنى عدمَ الحساب.. فان صادف وهماً ينفيه، تلقاه برهاناً.. وهكذا الى ان يسودّ القلب، العياذ بالله..
اعلم! 2 ان من لمعات معجزات القرآن كما في [اللوامع] 3 المشتملة على الاشارة الى اربعين نوعاً من اعجازه، ومن كمال بلاغته:
انه جمع السلاسة الرائقة، والسلامة الفائقة، والتساند المتين، والتناسب الرصين، والتعاون بين الجمل وهيئاتها، والتجاوب بين الآيات ومقاصدها بشهادة علم البيان وعلم المعاني مع انه نزل في عشرين سنة منجماً لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقاطعاً بتلائمٍ كأنه نزل دفعةً.. ولاسباب نزولٍ مختلفة متباينة مع كمال التساند، كأن

_____________________
1 توضيح هذه المسألة في اللمعة الثانية من "اللمعات".
2 اعتمدنا في تحقيق هذه الفقرة على ما جاء في القطرة الخامسة من الرشحة الرابعة عشرة وعلى الطبعة الاولى من الكتاب.
3 اللوامع - بيان موجز لإعجاز القرآن - ص880 من "الكلمات".


المثنوي العربي النوري - ص: 230
السبب واحدٌ.. وجاء جواباً لاسئلة مكررة متفاوتة، مع نهاية الامتزاج والاتحاد، كأن السؤال واحدٌ.. وجاء بياناً لحادثات احكامٍ متعددة متغايرة، مع كمال الانتظام كأن الحادثة واحدة.. ونزل متضمناً لتنزلات إلهية في اساليب تناسب افهام المخاطبين، لاسيما، المنزَل عليه "عليه السلام" بحالات في التلقي متنوعة متخالفة، مع غاية التماثل والسلاسة، كأن الحالة واحدة.. وجاء متكلماً متوجهاً الى اصناف مخاطبين متعددة متباعدة، مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطب واحد، بحيث يظن كلُ صنف كأنه المخاطب بالاصالة.. ونزل مهدياً وموصلاً لغايات ارشادية متدرجة متفاوتة، مع كمال الاستقامة والنظام والموازنة كأن المقصد واحد؛ تدور تلك المقاصد والغايات على الاقطاب الاربعة: وهي "التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة". فبسر امتلائه من التوحيد، التأم وامتزج وانتظم واتحد.
ومن كان له عين في بصيرته، يرى في التنزيل عيناً ترى كل الكون، كصحيفة مبصرة واضحة.. وقد جاء مكرراً ليقرّر.. ومردّداً ليحقق قصصاً واحكاماً. مع انه لايُملُّ تكرارهُ، ولايُزيل عَوْدهُ ذَوْقَه ولايُسئمُ تردادهُ. كلما كرّر حقّق وقرّر، بل ما كررته تحلو وتفوحُ انفاسُ الرحمن منه "ان المسك ماكررته يتضوّع". وكلما استعدتَه استَلذْتَه؛ ان كان لك ذوق سليم بقلب غير سقيم. والسر فيه: انه قُوتٌ وغذاءٌ للقلوب، وقوة وشفاء للارواح. والقوت لايُملُّ تكرارهُ.. فمألوفه آأنس وألذ، خلاف التفكّه الذي لذتُه في تجدده، وسآمتهُ في تكرره.
وكما ان الانسان في حياته المادية يحتاج في كل آنٍ الى الهواء، وفي كل وقتٍ الى الماء، وفي كل يوم الى الغذاء، وفي كل اسبوع الى الضياء، في الاكثر.. فتتكرر هذه الامور لتكررّ الحاجات، فلا تكون تكراراً.. كذلك ان الانسان بجهة حياته الروحانية ايضاً؛ يحتاج الى انواع مافي القرآن؛ فإلى بعضٍ في كل دقيقة بل في آن سيال كـ: "هو.. الله" فبه يتنفس الروحُ.. والى بعضٍ في كل ساعة كـ: "بسم الله".. والى بعض في كل وقت.. والى بعض في كل زمان متدرجاً بدرجات الاحتياج، فيكرر القرآن على ما تقتضيه حياة القلب تكراره.
مثلاً: "بسم الله" كالهواء النسيمي يطهِّر الباطن داخلاً ويثمر خارجاً في نَفْسِك كَنفَسِك في جسمك.. وايضاً في تكرار القرآن بعض الحادثات الجزئية اشارة الى ان
المثنوي العربي النوري - ص: 231
الحادثة الجزئية تتضمن دستوراً كلياً، كما اشرتُ الى بعض من جمل قصة "موسى" عليه السلام التي هي اجدى من تفاريق العصا 1.
والحاصل: ان القرآن الحكيم كتاب ذكر، وكتاب فكر، وكتاب حُكم، وكتاب علم، وكتاب حقيقة، وكتاب شريعة، وشفاء لما في الصدور، وهدىً ورحمة للمؤمنين.
اعلم! ان من اعاجيب فطرة الانسان في وقت الغفلة، التباس احكام اللطائف والحواس.كالمجنون الذي يصل نظرُه الى شئ، فيمدّ يدهُ اليه ظناً منه - لمجاورة العين لليد - ان مايحصل بتاك، يحصل بهذه ايضاً. فالانسان الغافل الذي لايصل يد اقتداره الى تنظيم أدنى جزء من اجزاء نفسه يتطاول بغروره وبوسعة خياله الى الحكم والتحكم في افعال الله في الآفاق.. وكذا من اعجب فطرة البشر ان افراده، مع تقارب درجاتها في الصورة الجسمية، تتفاوت معنىً بدرجات، كما بين الذرة الى الشمس الى شمس الشموس خلافاً لسائر الحيوانات؛ اذ هي مع تفاوت افرادها في الصور الجسمية، كالسمك والطير، تتقارب في قيمة الرّوح؛ فكأن الانسان الذي قام من "مخروط الكائنات" في حاق الوسط، 2 منه الى الذرة ومنه الى شمس الشموس سوآء؛ اذ لم يُحدَّد قواه ولم تُقيّدْ، أمكَنَ له ان يتنزل ويتسفل "بالانانية" الى ان يكون هو والذرة سواء. وكذا جاز له ان يتجاوز بالعبودية وبترك "انا" ويتصاعد باذنه تعالى الى ان يصير بفضل الله كشمس الشموس مثل محمد عليه الصلاة والسلام.
اعلم! ان الاصل في الشئ البقاء، حتى ان الامور السيالة السريعة الزوال كالكلمات والتصورات لها ايضاً مواضعَ أُخر يتحصنون فيها من الزوال. لكن يتطورون في الصوّر، حتى كأن الاشياء موظفون لحفظ الشئ إما بتمامه كالنوراني، او وجهٍ من الشئ، يسارعون بكمال الاهتمام لأخذه ووضعه في قلوبهم الشفافة.
_____________________
1 مثل يضرب فيمن نفعه اعمّ من غيره (مجمع الامثال 1/37)
2 الحاق: الوسط، والكامل في الشئ.


المثنوي العربي النوري - ص: 232
والحكمة الجديدة تفطنت لهذا السر لكن بلا وضوح، فلهذا اخطأت بالافراط فقالت: لاعدم مطلقاً، بل تركُّبٌ وانحلال. 1 كلا! بل تركيب بصُنعه تعالى.. وتحليل باذنه.. وايجادٌ واعدام بأمره.. يَفعَلُ مَا يَشاءُ ويَحكُم مَا يُريدُ.
اعلم! ايها السعيد الشقي! ان القبر باب باطنه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب.. وأودّاؤك ومَن تحبه اكثرهم - حتى كلهم - ساكنون خلف هذا الباب. ألَمْ يأنِ لك أن تشتاق اليهم والى عالمَهم.. فَتنظَّفْ، والاّ استقذروك.
لو قيل لك مثلاً: ان "الامام الرباني احمد الفاروقي" قُدس سره، ساكن الآن في الهند، لاقتحمتَ المهالك وتركتَ الاوطان لزيارته. مع ان تحت اسم احمد فقط الوفُ نجوم حول شمس مَن في الانجيل اسمه "احمد" وفي التوراة "اُحيد" وفي القرآن "محمد".. وتحت اسم محمّد ملايين.. وهكذا كلهم خلف باب القبر في رحمة الله ساكنون. فلابد ان يكون نصب عينك دائماً "هذه الاساسات" وهي:
ان كنتَ له تعالى كان لك كلُّ شئ، وان لم تكن له كان عليك كلُّ شئ.
وكلُّ شئ بِقَدَرٍ، فارضَ بما آتاك تزد يُسْراً على يُسْرٍ، والاّ زدْتَ مرضاً على مرض.
المُلكُ له، ويشتريه منك ليبقيه لكَ.. ويزول مجاناً لو بقي عندك.
وانت فقيرٌ اليه من كُلِّ وجهٍ.
وانت مقيّدٌ بجهات اربع مسدودة. تُساق الى باب القبر المفتوح لك.
لالذة للقلب حقيقةً فيما لادوام فيه؛ تزول انتَ، وتزول دنياك، وتزول دنيا الناس.
وستُنْزَع من الكائنات هذه الصورة. وسيُخلَع عليها اخرى. كالثانية، والدقيقة، والساعة، واليوم.. كأن الكائنات ساعة كبرى كما ذكر في [النكتة الرابعة من الكلمة التاسعة]. فلا تهتم بما يبقى لك أثراً في الفاني ويفنى عنك في الباقي.
ولاتنظر من بُعدِك وخستك ومن عظمته وعزته تعالى - ونقطة نظرك هذه الحيثية - الى تصرفاته وتنزّلاته برحمته ونعمته؛ اذ حينئذٍ لايليق الاّ التسبيحُ.

_____________________
1 انظر خاتمة "الطبيعة" - اللمعة الثالثة والعشرين - ففيها التوضيح الشافي لهذه المسألة.


المثنوي العربي النوري - ص: 233
ولاتنظر من حيثية قربه واحاطته بعلمه ورحمته، ومن مخلوقيتك ودخولك في عنايته وكرمه، الى صفات جلاله، لئلا تستهوي بك الاوهامُ والاهواءُ.
فسبحان من تقدستْ وتنزهتْ عن ان تحيط به الافكارُ والعقول، والحمد لله الذي وسعت رحمتهُ كلَّ شئ.. لا الهَ الاّ الله وَحْدَهُ لاشَريكَ لهُ، لهُ المُلكُ ولهُ الحمدُ يُحيي ويُميت بيدهِ الخَير وهوَ على كلِّ شئٍ قدير..
اعلم! ان مَن في قلبه حياة اذا توجه الى الكائنات يرى من عظائم الامور مالا يحيط به ويعجز عن ادراكه ويتحيّر فيه، فللتشّفي من ألم الحيرة يشتاق الى "سبحان الله" كتعطش العليل الغليل الى الماء الزلال.
ويرى من لطائف النِعم واللذائذ ما يُجبرهُ على اظهار تلذذه وتزييد تلذذه واستيزاد لذته بالدوام برؤية الإنعام في النعمة، والمنعم في الإنعام بعنوان الحمد، فيتنفس بـ"الحمد لله" كما يتنفس المظفر السالم الغانم.
ويرى من عجائب المخلوقات وغرائبها مالايطيق مقاييس عقله وزنَها ويضيق ذهنهُ عن محاكمتها، وحسُّ تجسس الحقيقة يُشغله بها، فينادي: "الله اكبر" فيستريح. اي خالقها اعظمُ واكبرُ فلا يثقل عليه خلقُهاوتدبيرها، كمثل من يرى القمر يدور حوله فيغشاه ألمُ تعجب، او خروج جبل بالزلزلة فيتدهش فيكبّر، فيلقى عن ظهره اثقال العَجب والتدهش على سفينة القدير القوي المتين جل جلاله..
اعلم! انك بسيئاتك لاتضر الله شيئاً انما تضر نفسك. مثلاً: ليس في الخارج 1 شريكٌ حتى تقوّيه باعتقادك فتؤثّر في كمال ملكهِ تعالى، بل في ذهنك وفي عالمك فقط. فيخرّب بيتك على رأسك..
اعلم! انه من توكّل على الله فهو حسبه.. فقل: "حسبي الله ونعم الوكيل":
فاولاً: لانه الكامل المطلق، والكمال محبوب لذاته وتُفدى له الارواحُ.
وثانياً: لانه محبوب لذاته وهو المحبوب الحقيقي، والمحبة تقتضي الفداء.
_____________________
1 اى في الواقع والحقيقة (ت: 118)



المثنوي العربي النوري - ص: 234
وثالثاً: لانه الموجود الواجبَ.. وبقربه انوارُ الوجود.. وببُعده ظلماتُ العَدَمات، وألمٌ أليم في افول آمال الروح الانساني.
ورابعاً: لانه الملجأ والمنجأ للروح الذي ضاقت عليه الاكوانُ، وآلمَته مزخرفات الدنيا، وعادَتْهُ الكائنات وأنقض ظهره تحت الشفقة اليتمية والمرحمة المأتمية..
وخامساً: لانه الباقي الذي به البقاء، وبدونه الزوال، وكل العذاب في الزوال. وبدونه يتراكم على الروح آلامٌ بعدد الموجودات، وبه يتظاهر على المتوكل انوارٌ بعددها..
وسادساً: لانه المالك يحمل عنك مُلكه الذي عندك، اذ لاتطيق حملهُ، فبتوهم التملّك تقع في عذاب أليم أليم. فلبقائه ودوام إنعامه لاتغتم بفناء ما في يدك، كما لاتحزن الحباباتُ المتشمسة بالتحول والانحلال. فلإظهار تجددات تجليات الشمس يفدي الحبابُ صورتَه بكمال النشاط بل يموت وهو يضحك. وكما لاتغتم الثمرات بفراق الشجرة ولا النواة بانحلال الثمرة ولا انت بزوالها اذ تقولون 1 فلتحى الشجرة اذ في حياتها موتُنا حياةٌ.
ياهذا! انت ثمرة إنعاماته بل مجسَّمُ إنعاماته.
وسابعاً: لانه الغني المغني وبيده مقاليد كل شئ، اذا صرتَ عبداً خالصاً له، ثم نظرت الى الكائنات تراها ملكَ مالكك وحِشمته وحواشيه فتتنزه بها، كأنها ملكٌ لك بل أعلى، بلا كلفة ولا ألم زوال.. اذ الخادمُ الخالص للمَلِك والفاني في محبته يفتخر بكل ما للمَلِك..
وثامناً: لانه ربّ الانبياء والمرسلين والاولياء والمتّقين وكلهم مسعودون في رحمته، فعِلْمك بسعادتهم يعطيك في شقاوتك سعادةً ولذةً إن كنتَ ذا قلب.
اعلم! انه لايليق بك إن كان لك عقلٌ سليم أن تهتم وتغتم وتغضب وتصخب لما يأتيك او يفوتُك من امور الدنيا، لان الدنيا تزول لاسيما دنياك، ولاسيما انت؛ اذ لست بأبدي هنا، ولستَ من حديدٍ ولاشجر حتى يطول بقاؤك، بل من لحم متجدّد ودم متردد وروابط في غاية رقة تتأثر بادنى شئ. وقد تنقطع تلك، وينجمد هذا،
_____________________
1 انت والنواة والثمرة.

المثنوي العربي النوري - ص: 235
ويتفسخ ذلك باختلال ذرتين، ولاسيما تَنفس فيك صبحُ المشيب وكَفنَ نصف رأسك.. ولاسيما تضيّفَت بل توطنت فيك العللُ التي هي طليعة الموت، والامراض التي هي مخالبُ هادم اللذات، مع ان امامك عمراً أبدياً ألقيته خلفك ظهرياً، انما ترتّبت راحته على سعيك هناك، مع انك في حرصك وشَرهَك كمن هو خالد وخَلُدَت له الدنيا خاصة.. فانتبه قبل ان تُنبّهك سكراتُ الموت..
اعلم! انك اذا توجهت اليه تعالى بعنوان المعلوم والمعروف يصير لك مجهولاً ومنكراً، اذ هذه المعلومية والمعروفية نتيجة الاُلفة العُرفية والتسامع التقليدي، والتداول الاصطلاحي، وهي لاتغني من الحقيقة شيئاً؛ بل ما يتراءى لك فيها مقيد لايتحمل الصفات المطلقة. بل انما هو نوع عنوان لملاحظة الذات الاقدس..
واما اذا توجهت اليه بعنوان الموجود المجهول، تكشّف لك عن اشعة المعروفية.. وعن بروق شروق موصوفٍ لاتثقل ولا تتعاظم عليه هذه الصفات المطلقة المحيطة المتجلية في الكائنات، كما لا يثقل عليك حمل قميصك من الحرير الرقيق ومنديلك من الخز المنمنم. 1
اعلم! كفاك فخراً بلا نهاية - لا كفخرك بكمال كبرائك - ان يكون لك مالكٌ قدير على كل شئ. ومن اقتداره وهو هو الذي السموات مطويات بيمينه، والارض قبضته يوم القيامة، انه يربيك بشفقة أتمّ من شفقة ابويك، وانت انت: كقطرة في بحر، والبحر كنقطةٍ في صحراء، والصحراء كذرةٍ بين عظائم مصنوعاته؛ اذ هو نور الانوار العالمُ بالاسرار.. وليس من عظمة السلطان الانساني عدم اشتغاله بتفاصيل جزئيات الامور، بل من عَجزه وعدم اقتداره.. ومن عظمة سلطان الازل انه كما يكتب بقلم صُنعه على صحيفة السماء بمداد النجوم الدراري آيات الوُهيته، كذلك يكتب بذلك القلم على صحيفة سواد العين بمداد الجواهر الفردة آيات ربوبيته...
فسبحان مَن هذه الاجرام العلوية والكواكب الدرية نيّرات براهين الُوهيته وعظمته، وهذه المصابيح المزينة والنجوم المتبسمة شعاعات شواهد ربوبيته وعزته جلّ جلاله.
_____________________
1 الحرير المنقش

المثنوي العربي النوري - ص: 236
اعلم! ان الاسماء الحسنى كلٌ منها يتضمن الكلَّ اجمالاً، كتضمن الضياء للألوان السبعة.. وكذا كلٌ منها دليل على كلّ منها، ونتيجةٌ لكلٍ منها، بينها تعاكسٌ كالمرايا. فيمكن ذكرها كالقياس الموصول النتائج متسلسلاً، وكالنتيجة المترتبة الدلائل. إلا أن الاسم الاعظم الواحد يتضمن الكلَّ فوق هذا التضمن العام. فيمكن للبعض الوصول الى نور الاسم الاعظم بغيره من الاسماء الحسنى. فيتفاوت الاسم الاعظمُ بالنظر الى الواصلين. والله اعلم بالصواب.
تضرّع (ونياز)
إلهي لازم عليّ أن لا اُبالي ولو فات مني حياةُ الدارين وعادَتْني الكائناتُ بتمامها؛ اذ انت: "ربي وخالقي والهي".. اذ انا مخلوقُك، ومصنوعُك، لي جهةُ تعلّق وانتساب، مع قطع نهايةِ عصياني وغايةِ بُعدي لسائر روابط الكرامة. فأتضرع بلسان مخلوقيتي:
ياخالقي!. ياربي!. يارازقي!. يامالكي!. يامصوري!. يا الهي!.
اسألك باسمائك الحسنى وإسمك الاعظم، وبفرقانك الحكيم وبحبيبك الاكرم، وبكلامك القديم، وبعرشك الاعظم، وبألف الفِ
(قُل هُوَ الله أحدْ) ارحمني ياالله، يارحمنُ، ياحنّانُ، يامنّانُ، ياديّانُ.. إغفر لي ياغفّارُ، ياستّارُ، ياتوّابُ، ياوهّابُ.. أعفُ عني ياودودُ، يارؤفُ، ياعفوّ، ياغفورُ.. اُلطف بي يالطيفُ، ياخبيرُ، ياسميعُ، يابصيرُ.. وتجــاوز عني ياحليــمُ،ياعليمُ، ياكريمُ، يارحيمُ.. (اهدنا الصّراطَ المستَقيم..) ياربُ، ياصمدُ، ياهادي.. جُد عليَّ بفضلِكَ يابديعُ، ياباقي، ياعدلُ، ياهو.. أحي قلبي وقبري بنورالايمان والقرآن يانورُ، ياحقُ، ياحيُّ، ياقيّومُ، يامالكَ الملكِ ياذا الجلال والاكرام، يااوّلُ، ياآخرُ، ياظاهرُ، ياباطنُ، ياقوّيُ، ياقادرُ، يامولايَ، ياغافرُ، ياارحمَ الراحمين.. اسألك باسمك الاعظم في القرآن.. وبمحمد عليه الصلاة والسلام الذي هو سِرُّكَ الاعظم في كتاب العالم ان تفتحَ من هذه الاسماء الحسنى كواتٍ مُفيضةً لأنوار الاسم الاعظم الى قلبي في
المثنوي العربي النوري - ص: 237
قالبي، والى روحي في قبري.. فتصير هذه الصحيفة كسقف قبري، وهذه الاسماء ككوات تُفيضُ اشعةَ شمسِ الحقيقة الى روحي..
إلهي اتمنى أن يكون لي لسانٌ ابدي ينادي بهذه الاسماء الى قيام الساعة، فاقبل هذه النقوش الباقية بعدي نائباً عن لساني الزائل.
اللّهم صلِّ وسلِّم على سيدِنا محمدٍ صلاةً تُنجينا بها من جميع الاهوال والآفات، وتقضي لنا بها جميع َ الحاجات، وتُطهّرنا بها من جميع السيئاتِ، وتغفرُ لنا بها جميع الذنوب والخطيئات..
يا الله، يامجيب الدعوات! اجعل لي في مدة حياتي وبعد مماتي، في كل آن اضعافَ اضعاف ذلك.. الفَ الفَ صلاةٍ وسلامٍ مضروبَين في مثل ذلك وامثال أمثال ذلك، على سيدنا محمد وعلى آلِهِ واصحابه وانصاره واتباعه.. واجعل كل صلاةٍ من كل ذلك تزيد على انفاسيَ العاصية في مدة عمري.. واغفر لي وارحمني بكلِّ صلاةٍ منها برحمتك ياارحمَ الراحمين.. آمين..
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس