الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #33
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة الخامسة والعشرون



رسالة المعجزات القرآنية

ارى من الفضول التحري عن برهانٍ وفي اليد معجزة خالدة، القرآن

اتُراني أتضايق من إلزام الجاحدين، وفي اليد برهان الحقيقة، القرآن



تنبيه:

لقد عزمنا في بداية هذه الكلمة على ان نكتب خمس شُعَل، ولكن في اواخر الشعلة الاولى - قبل وضع الحروف الجديدة بشهرين(1)1 - اضطررنا الى الأسراع في الكتابة لطبعها بالحروف القديمة، حتى كنا نكتب - في بعض الأيام - عشرين او ثلاثين صحيفة في غضون ساعتين او ثلاث ساعات، لذا اكتفينا بثلاث شُعَلٍ فكتبناها مجملةً مختصرة، وتركنا الآن شعلتين.

فآمل من اخواني الكرام ان ينظروا بعين الأنصاف والمسامحة الى ما كان مني من تقصيرات ونقائص واشكالات واخطاء.

ان كل آية من اكثر الآيات الواردة في هذه الرسالة ((المعجزات القرآنية)) إما أنها اصبحت موضع انتقاد الملحدين، أو أصابها اعتراض اهل العلوم الحديثة، أَو مسَّتها شبهات شياطين الجن والانس واوهامهم.

ولقد تناولت هذه (الكلمة الخامسة والعشرون) تلك الآيات وبيَّنت حقائقها ونكاتها الدقيقة على أفضل وجه، بحيث ان ما ظنه اهلُ الالحاد والعلوم من نقاط ضعف ومدار نقص، أثبتته الرسالة بقواعدها العلمية أنه لمعات اعجاز ومنابع كمال بلاغة القرآن.

اما الشبهات فقد اُجيبت عنها اجوبة قاطعة من دون ذكر الشبهة نفسها وذلك لئلا تتكدر الأذهان. كما في الآية الكريمة ] والشــمــس تجــري..[ ] والجبال اوتاداً[ . إلاّ ما ذكرناه من شبهاتهم في المقام الأول من الكلمة العشرين حول عدد من الآيات.

ثم ان هذه الرسالة (المعجزات القرآنية) وإن كُتبت باختصار شديد وفي غاية السرعة إلاّ أنها قد بيّنت جانب البلاغة وعلوم العربية بياناً شافياً باسلوب علمي رصين وعميق يثير اعجاب العلماء.

وعلى الرغم من ان كل بحث من بحوثها لا يستوعبه كل مهتم ولا يستفيد منه حق الفائدة، فإن لكلٍ حظه المهم في تلك الرياض الوارفة.

والرسالة وإن أُلّفت في اوضاع مضطربة وكتبتْ على عجل، ومع ما فيها من قصور في الافادة والتعبير، إلاّ انها قد بينت حقائق كثير من المسائل المهمة من وجهة نظر العلم.



سعيد النورسي

























رسالة المعجزات القرآنية



بسم الله الرحمن الرحيم

] قل لئن اجتمعتِ الانسُ والجن على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلهِ ولو كانَ بعــضُهم لبعـضٍ ظهيراً[ (الاسراء:88)



لقد اشرنا الى نحو أربعين وجهاً من وجوه إعجازٍ لا تُحد للقرآن الحكيم الذي هو منبع المعجزات والمعجزة الكبرى للرسول الكريم e ، وذلك في رسائلي العربية، وفي رسائل النور العربية، وفي تفسيري الموسوم بـ (( اشارات الاعجاز في مظان الايجاز)) وفي الكلمات الاربع والعشرين السابقة.

وفي هذه الرسالة نشير الى خمسةٍ من تلك الوجوه ونبيّنها بشئٍ من التفصيل، وندرج فيها سائر الوجوه مجملةً.

وفي المقدمة نشير الى تعريف القرآن الكريم وماهيته.

















المقدمة

(( عبارة عن ثلاثة اجزاء))



U الجزء الأول:

القرآن ما هو؟ وما تعريفه؟

لقد وضّح في الكلمة التاسعة عشرة واثبت في رسائل اخرى ان القرآن:

هو الترجمةُ الازلية لكتاب الكائنات الكبير.. والترجمانُ الابدي لألسنتها المتنوعة التالية للايات التكوينية.. ومفسّرُ كتاب عالَم الغيب والشهادة.. وكذا هو كشّافٌ لمخفيات الكنوز المعنوية للاسماء الإلهية المستترة في صحائف السماوات والأرض.. وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المضمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان عالَم الغيب في عالم الشهادة.. وكذا هو خزينةٌ للمخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية الواردة من عالم الغيب المستور وراء حجاب عالم الشهادة هذا.. وكذا هو شمسُ عالم الاسلام المعنوي وأساسُه وهندسته.. وكذا هو خريطةٌ مقدسةٌ للعوالم الاخروية.. وكذا هو القولُ الشارح والتفسيرُ الواضح والبرهانُ القاطع والترجمان الساطع لذات الله وصفاته واسمائه وشؤونه.. وكذا هو المربي لهذا العالم الانساني.. وكالماء والضياء للانسانية الكبرى التي هي الاسلام.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر.. وهو المرشد المهدي الى ما يسوق الأنسانية الى السعادة.. وكذا هو للانسان: كما انه كتاب شريعةٍ، كذلك هو كتابُ حكمةٍ، وكما انه كتابُ دعاءٍ وعبوديةٍ، كذلك هو كتابُ أمرٍ ودعوةٍ، وكما أنه كتابُ ذكرٍ كذلك هو كتابُ فكرٍ.. وهو الكتاب الوحيد المقدس الجامع لكل الكتب التي تحقق جميع حاجات الانسان المعنوية، حتى انه قد ابرز لمشرَب كلِّ واحدٍ من اهل المشارب المختلفة، ولمسلك كلِّ واحدٍ من اهل المسالك المتباينة من الاولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرَب وتنويره، ولمساقِ ذلك المسلك وتصويره. فهذا الكتاب السماوي اشبهُ ما يكون بمكتبةٍ مقدسةٍ مشحونةٍ بالكتب.

U الجزء الثاني وتتمة التعريف: لقد وضّح في ( الكلمة الثانية عشرة) واثبت فيها: ان القرآن قد نزل من العرش الاعظم، من الاسم الاعظم، من اعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى؛ فهو كلام الله بوصفه ربّ العالمين، وهو امر الله بوصفه إله الموجودات، وهو خطابه بوصفه خالق السموات والارض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطاب ازلي باسم السلطنة الإلهية الشاملة العظمى، وهو سجل الالتفات والتكريم الرحماني النابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ، وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الالوهية – اذ في بدايات بعضها رموز وشفرات – وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة، نازلٌ من محيط الاسم الاعظم ينظر الى ما احاط به العرش الاعظم. ومن هذا السر اُطلق على القرآن الكريم ويطلق عليه دوماً ما يستحقه من اسم وهو: ( كلام الله) . وتأتي بعد القرآن الكريم الكتب المقدسة لسائر الانبياء عليهم السلام وصحفهم. أما سائر الكلمات الإلهية التي لا تنفد، فمنها ما هو مكالمة في صورة إلهامٍ نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجلٍ خاص لإسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فإلهامات المَلَك والبشر والحيوانات مختلفة جداً من حيث الكلية والخصوصية.

U الجزء الثالث: ان القرآن الكريم، كتاب سماوي يتضمن اجمالاً؛ كتبَ جميع الانبياء المختلفة عصورهم، ورسائل جميع الاولياء المختلفة مشاربهم، وآثار جميع الاصفياء المختلفة مسالكهم.. جهاتُه الست مُشرقة ساطعة نقية من ظلمات الاوهام، طاهرةٌ من شائبة الشبهات؛ اذ نقطةُ استناده: الوحي السماوي والكلام الأزلي باليقين.. هدفُه وغايتُه: السعادة الابدية بالمشاهدة.. محتواه: هداية خالصة بالبداهة.. أعلاه: انوار الايمان بالضرورة.. أسفله: الدليل والبرهان بعلم اليقين.. يمينُه: تسليم القلب والوجدان بالتجربة.. يساره: تسخير العقل والاذعان بعين اليقين.. ثمرتُه: رحمة الرحمن ودار الجنان بحق اليقين.. مقامُه: قبول المَلَك والانس والجان بالحدس الصادق.

ان كل صفةٍ من الصفات المذكورة في تعريف القرآن الكريم باجزائه الثلاثة، قد اثبتت اثباتاً قاطعاً في مواضع اخرى أو ستُثبت، فدعوانا ليست مجرد إدعاء من دون دليل، بل كل منها مبرهنة بالبرهان القاطع.

الشعلة الأولى

(( هذه الشعلة لها ثلاث اشعات))

الشعاع الاول

بلاغة القرآن معجزة

هذه البلاغة المعجزة نَبعت من جزالة نظم القرآن وحسن متانته، ومن بداعة أساليبه وغرابتها وجودتها، ومن براعة بيانه وتفوقه وصفوته، ومن قوة معانيه وصدقها، ومن فصاحة ألفاظه وسلاستها.

بهذه البلاغة الخارقة تحدى القرآن الكريم، منذ ألف وثلاث مئة من السنين، أذكى بلغاء بني آدم وأبرع خطبائهم وأعظم علمائهم، فما عارضوه، وما حاروا ببنت شفة، مع شدة تحديه اياهم، بل خضعت رقابهم بذل، ونكسوا رؤوسهم بهوان، مع أن من بلغائهم مَن يناطح السحاب بغروره.

نشير الى وجه الاعجاز في بلاغته بصورتين:

الصورة الاولى:

ان أكثر سكان جزيرة العرب كانوا في ذلك الوقت أميين، لذا كانوا يحفظون مفاخرهم ووقائعهم التاريخية وأمثالهم وحكمهم ومحاسن أخلاقهم في شعرهم، وبليغ كلامهم المتناقل شفاهاً، بدلاً من الكتابة. فكان الكلام الحكيم ذو المغزى يستقر في الاذهان ويتناقله الخلف عن السلف. فهذه الحاجة الفطرية فيهم دفعتهم الى أن يكون أرغب متاع في أسواقهم وأكثره رواجاً هو: الفصاحة والبلاغة، حتى كان بليغ القبيلة رمزاً لمجدها وبطلاً من أبطال فخرها. فهؤلاء القوم الذين ساسوا العالم بفطنتهم بعد اسلامهم كانوا في الصدارة والقمة في ميدان البلاغة بين أمم العالم. فكانت البلاغة رائجة وحاجتهم اليها شديدة حتى يعدونها مدار اعتزازهم، بل حتى كانت رحى الحرب تدور بين قبيلتين أو يحل الوئام بينهما بمجرد كلام يصدرعن بليغهم بل كتبوا سبع قصائد بماء الذهب لأبلغ شعرائهم وعلقوها على جدار الكعبة، فكانت (المعلقات السبعة) التي هي رمز فخرهم.

ففي مثل هذا الوقت الذي بلغت فيه البلاغة قمة مجدها، ومرغوب فيها الى هذا الحد، نزل القرآن الكريم - بمثل ما كـانت معــجزة ســيدنا مــوسى وعيسى عليهما السلام من جنس ما كان رائجاً في زمانهما، وهو السحر والطب - نزل في هذا الوقت متحدياً ببلاغته بلاغة عصره وكل العصور التالية، ودعا بلغاء العرب الى معارضته، والاتيان ولو بأقصر سورة من مثله، فتحداهم بقوله تعالى:] وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله[ (البقرة: 23) واشتد عليهم بالتحدي ] فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار[ (البقرة:24) أي: ستساقون الى جهنم وبئس المصير. فكان هذا يكسر غرورهم، ويستخف بعقولهم ويسفّه أحلامهم، ويقضي عليهم في الدنيا بالاعدام كما هو في الآخرة، أي: إما أن تأتوا بمثله أو أن ارواحكم واموالكم في خطر، ما دمتم مصرين على الكفر!

وهكذا فلو كانت المعارضة ممكنة فهل يمكن اختيار طريق الحرب والدمار، وهي أشد خطراً وأكثر مشقة. وبين أيديهم طريق سهلة هينة، تلك هي معارضته ببضعة أسطر تماثله، لإبطال دعواه وتحديه؟

أجل! هل يمكن لاولئك القوم الاذكياء الذين أداروا العالم بسياستهم وفطنتهم أن يتركوا أسهل طريق وأسلمها، ويختاروا الطريق الصعبة التي تلقي ارواحهم وأموالهم الى الهلاك؟

اذ لو كان باستطاعة بلغائهم أن يعارضوا القرآن ببضعة حروف، لتخلى القرآن عن دعواه، ولنجوا من الدمار المادي والمعنوي، والحال أنهم اختاروا طريق الحرب المريعة الطويلة. بمعنى أن المعارضة بالحروف محالة ولا يمكنهم ذلك بحال من الاحوال، لذا عمدوا الى المقارعة بالسيوف.

ثم أن هناك دافعين في غاية القوة لمعارضة القرآن واتيان مثيله وهما:

الاول: حرص الاعداء على معارضته.

الثاني: شغف الاصدقاء على تقليده.

ولقد ألفت تحت تأثير هذين الدافعين الشديدين ملايين الكتب بالعربية، من دون أن يكون كتاب واحد منها شبيهاً بالقرآن قط، اذ كل من يراها - سواءٌ أكان عالماً أو جاهلاً - لا بد أن يقول: القرآن لا يشبه هذه الكتب، ولايمكن أن يعارض واحد منها القرآن قطعاً. ولهذا فاما أن القرآن أدنى بلاغة من الكل، وهذا باطل محال باتفاق الاعداء والاصدقاء، وإما أن القرآن فوقها جميعاً، واسمى واعلى.

فان قلت: كيف نعلم أن أحداً لم يحاول المعارضة؟ ألم يعتمد أحد على نـفسه وموهبته ليبرز في ميدان التحدي؟ أوَلم ينفع تعاونهم ومؤازرة بعضهم بعضاً؟

الجواب: لو كانت المعارضة ممكنة، لكانت المحاولة قائمة لا محالة، لان هناك قضية الشرف والعزة وهلاك الارواح والاموال. فلو كانت المعارضة قد وقعت فعلاً، لكان الكثيرون ينحازون اليها، لان المعارضين للحق والعنيدين كثيرون دائماً. فلو وجد مَن يؤيد المعارضة لاشتهر به، اذ كانوا ينظمون القصائد لخصام طفيف، ويجعلونها في المآثر، فكيف بصراع عجيب كهذا يبقى مستوراً في التاريخ؟

ولقد نقلت واشتهرت أشنع الاشاعات وأقبحها طعناً بالاسلام، ولم تنقل سوى بضع كلمات تقوَّلها مسيلمة الكذاب لمعارضة القرآن. ومسيلمة هذا، وإن كان صاحب بلاغة لا يستهان به إلاّ أن بلاغته عندما قورنت مع بلاغة القرآن التي تفوق كل حسن وجمال عُدَّت هذياناً. ونقل كلامه هكذا في صفحات التاريخ.

وهكذا فالاعجاز في بلاغة القرآن يقين كيقين حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعاً. ولهذا يكون الامر هكذا.

الصورة الثانية:

سنبين حكمة الاعجاز في بلاغة القرآن بخمس نقاط:

النقطة الاولى:

ان في نظم القرآن جزالة خارقة، وقد بيّن كتاب (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز) من أوله الى آخره هذه الجزالة والمتانة في النظم، اذ كما أن عقارب الساعة العادَّة للثواني والدقائق والساعات يكمل كل منها نظام الآخر، كذلك النظم في هيئات كل جملة من جمل القرآن، والنظام الذي في كلماته، والانتظام الذي في مناسبة الجمل كل تجاه الآخر، وقد بُيّن كل ذلك بوضوح تام في التفسير المذكور. فمن شاء فليراجعه ليتمكن من أن يشاهد هذه الجزالة الخارقة في أجمل صورها، إلاّ اننا نورد هنا مثالين فقط لبيان نظم الكلمات المتعانقة لكل جملة (والتي لا يصلح مكانها غيرها بتناسق وتكامل).

C المثال الاول:

قوله تعالى:] ولـئـن مسّـْتهـم نـفحـةٌ مـن عـذابِ ربـّك[ (سورة الانبياء:46)

هذه الجملة مسوقة لإظهار هول العذاب، ولكن باظهار التأثير الشديد لأقله، ولهذا فان جميع هيئات الجملة التي تفيد التقليل تنظر الى هذا التقليل وتمده بالقوة كي يظهر الهول:

فلفظ (لئن) هو للتشكيك، والشك يوحي القلة.

ولفظ (مسَّ) هو اصابة قليلة، يفيد القلة أيضاً.

ولفظ (نفحة) مادته رائحة قليلة، فيفيد القلة، كما أن صيغته تدل على واحدة، أي واحدة صغيرة، كما في التعبير الصرفي - مصدر المرة - فيفيد القلة..

وتنوين التنكير في (نفحةٌ) هي لتقليلها، بمعنى أنها شئ صغير الى حد لا يُعلم، فيُنكر.

ولفظ (من) هو للتبعيض، بمعنى جزء، فيفيد القلة.

ولفظ (عذاب) هو نوع خفيف من الجزاء بالنسبة الى النكال والعقاب، فيشير الى القلة.

ولفظ (ربك) بدلاً من: القهار، الجبار، المنتقم، فيفيد القلة أيضاً وذلك باحساسه الشفقة والرحمة.

وهكذا تفيد الجملة أنه:

اذا كان العذاب شديداً ومؤثراً مع هذه القلة، فكيف يكون هول العقاب الإلهي؟ فتأمل في الجملة لترى كيف تتجاوب الهيئات الصغيرة، فيُعين كلٌ الآخر، فكلٌ يمد المقصد بجهته الخاصة.

هذا المثال الذي سقناه يلحظ اللفظ والمقصد.

C المثال الثاني:

قوله تعالى: ] ومما رزقناهم يُنفقون[ (البقرة: 3)

فهيئات هذه الجملة تشير الى خمسة شروط لقبول الصدقة:

الشرط الاول: المستفاد من ((من)) التبعيضية في لفظ (مما) أي: أن لا يبسط المتصدق يده كل البسط فيحتاج الى الصدقة.

الشرط الثاني: المستفاد من لفظ (رزقناهم) أي: أن لا يأخذ من زيد ويتصدق على عمرو، بل يجب أن يكون من ماله، بمعنى: تصدقوا مما هو رزق لكم.

الشرط الثالث: المستفاد من لفظ (نا) في (رزقنا) أي: أن لا يمنَّ فيستكثر، أي: لا منّة لكم في التصدق، فأنا أرزقكم، وتنفقون من مالي على عبدي.

الشرط الرابع: المستفاد من (ينفقون) أي: أن ينفق على مَن يضعه في حاجاته الضرورية ونفقته، وإلاّ فلا تكون الصدقة مقبولة على مَن يصرفها في السفاهة.

الشرط الخامس: المستفاد من (رزقناهم) أيضاً. أي: يكون التصدق باسم الله، أي: المال مالي، فعليكم أن تنفقوه باسمي.

ومع هذه الشروط هناك تعميم في التصدق، اذ كما أن الصدقة تكون بالمال، تكون بالعلم ايضاً، وبالقول والفعل والنصيحة كذلك، وتشير الى هذه الاقسام كلمة (ما) التي في (مما) بعموميتها. وتشير اليها في هذه الجملة بالذات، لانها مطلقة تفيد العموم.

وهكذا تجُود هذه الجملة الوجيزة - التي تفيد الصدقة - الى عقل الانسان خمسة شروط للصدقة مع بيان ميدانها الواسع، وتشعرها بهيئاتها.

وهكذا، فلهيئات الجمل القرآنية نظمٌ كثيرة أمثال هذه.

وكذا للكلمات القرآنية أيضاً ميدان نظم واسع مثل ذلك، كل تجاه الآخر. وكذا للكلام القرآني ولجمله دوائر نظم كتلك.

C فمثلاً: قوله تعالى:

] قل هو الله أحد^ الله الصمد^ لم يلد ولم يولد^ ولم يكن له كفواً أحد[ .

هذه الآيات الجليلة فيها ست جمل: ثلاث منها مثبتة وثلاث منها منفية، تثبت ست مراتب من التوحيد كما تردّ ستة أنواع من الشرك. فكل جملة منها تكون دليلاً للجمل الاخرى كما تكون نتيجة لها. لان: لكل جملة معنيين، تكون باعتبار أحدهما نتيجة، وباعتبار الآخر دليلاً.

أي أن سورة الاخلاص تشتمل على ثلاثين سورة من سور الاخلاص. سور منتظمة مركبة من دلائل يثبت بعضها بعضاً، على النحو الآتي:

] قل هو الله[ لانه أحد، لانه صمد، لانه لم يلد، لانه لم يولد،لانه لم يكن له كفواً أحد.



وكذا: ] ولم يكن له كفواً[ : لانه لم يولد، لانه لم يلد، لانه صمد، لانه أحد، لانه هو الله.

وكذا: ] هو الله[ فهو أحد، فهو صمد، فاذاً لم يلد، فاذاً لم يولد، فاذاً لم يكن له كفواً أحد.

وهكذا فقس على هذا المنوال.

C ومثلاً: قوله تعالى:

] الم ^ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين[ (البقرة:1،2)

فلكلٍ من هذه الجمل الاربع معنيان: فباعتبار أحدهما يكون دليلاً للجمل الاخرى، وباعتبار الآخر نتيجة لها. فيحصل من هذا نقش نظمي اعجازي من ستة عشر خطاً من خطوط المناسبة والعلاقة.

وقد بين ذلك كتاب (اشارات الاعجاز) حتى كأن لكل آية من أكثر الآيات القرآنية عيناً ناظرة الى أكثر الآيات، ووجهاً متوجهاً اليها، فتمد الى كل منها خطوطاً معنوية من المناسبات والارتباطات، ناسجة نقشاً اعجازياً. كما بُيّن ذلك في ( الكلمة الثالثة عشرة).

وخير شاهد على هذا (اشارات الاعجاز) اذ من اول الكتاب الى اخره شرح لجزالة النظم هذه.

النقطة الثانية:

البلاغة الخارقة في معناه، اذا شئت ان تتذوق بلاغة المعنى في الآية الكريمة:

] سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم[ (الحديد: 1)

فانظر الى هذا المثال الموضّح في ( الكلمة الثالثة عشرة) . فتصوَّر نفسَك قبل مجئ نور القرآن، في ذلك العصر الجاهلي، وفي صحراء البداوة والجهل، فبينما تجد كل شئٍ قد اُسدل عليه ستارُ الغفلة وغشيَه ظلامُ الجهل ولُفّ بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد بصدى قوله تعالى:] سبح لله ما في السموات والارض او تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن[ (الاسراء: 44) قد دبّت الحياةُ في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة بصدى (سبح..) و (تسبّح) في اذهان السامعين فتنهض مسبحةً ذاكرة الله. وان وجه السماء المظلمة التي تستعرّ فيها نجومٌ جامدة والارض التي تدبّ فيها مخلوقاتٌ عاجزة، تتحول في نظر السامعين بصدى (تسبح) وبنوره الى فمٍ ذاكر لله، كلُّ نجمٍ يشع نور الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بالغة. ويتحول وجهُ الارض بذلك الصدى السماوي ونوره الى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

C ومثلاً:

انظر الى هذا المثال الذي اثبت في " الكلمة الخامسة عشرة " وهو قوله تعالى:

] يامعشرَ الجنِّ والانسِ إن استَطَعْتُمْ أنْ تَنفذوا مِن أقطارِ السموات والارضِ فانفذوا لا تنفذونَ إلاّ بسلطانٍ^ فبأي آلاء ربكما تُكذبان ^ يُرسَلُ عليكُما شواظٌ من نارٍ ونحاسٌ فلا تنتصران ^ فبأي آلاء ربكما تُكّذبان[ (الرحمن:33 ـ36) ] ولقد زيّنا السماءَ الدنيا بمصابيحَ وجعلناها رجوماً للشياطين[ (الملك:5)

استمع لهذه الآيات وتدبّر ما تقول؟ انها تقول: ايها الانس والجان، ايها المغرورون المتمردون، المتوحلون بعجزهم وضعفهم، ايها المعاندون الجامحون المتمرغون في فقرهم وضعفهم! انكم إن لم تطيعوا أوامري، فهيا اخرجوا من حدود ملكي وسلطاني إن استطعتم! فكيف تتجرأون اذاً على عصيان أوامر سلطان عظيم: النجوم والاقمار والشموس في قبضته، تأتمر بأوامره،كأنها جنود متأهبون.. فأنتم بطغيانكم هذا إنما تبارزون حاكماً عظيماً جليلاً له جنود مطيعون مهيبون يستطيعون ان يرجموا بقذائف كالجبال، حتى شياطينكم لو تحملت.. وانتم بكفرانكم هذا إنما تتمردون في مملكة مالك عظيم جليل، له جنود عظام يستطيعون ان يقصفوا اعداءً كفرة - ولو كانوا في ضخامة الارض والجبال - بقذائف ملتهبة وشظايا من لهيب كامثال الأرض والجبال، فيمزقونكم ويشتتونكم!. فكيف بمخلوقات ضعيفة امثالكم؟.. وانتم تخالفون قانوناً صارماً يرتبط به من له القدرة - باذن الله - ان يمطر عليكم قذائف وراجمات امثال النجوم.

قس في ضوء هذا المثال قوة معاني ســائر الآيات ورصــانة بــلاغــتها وســمو إفاداتها.

النقطة الثالثة:

البداعة الخارقة في اسلوبه. نعم، ان اساليب القرآن الكريمغريبة وبديعة كما هي عجيبة ومقنعة، لم يقلّد أحداً قط ولا يستطيع احدٌ ان يقلده. فلقد حافظ وما يزال يحافظ على طراوة أساليبه وشبابيته وغرابته مثلما نزل اول مرة.

C فمثلاً:

ان الحروف المقطّعة المذكورة في بدايات عدةٍ من السور تشبه الشفرات؛ امثال:

الم. الر. طه. يس. حم. عسق. وقد كتبنا نحو ستٍ من لمعات اعجازها في (اشارات الاعجاز) نذكر منها:

ان الحروف المذكورة في بدايات السور تنصِّف كلَّ ازواج طبائع الحروف الهجائية من المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة ..(1) وغيرها من اقسامها الكثيرة. اما الاوتار - التي لا تقبل التنصيف - فمن الثقيل النصف القليل كالقلقلة، ومن الخفيف النصف الكثير كالذلاقة.

فسلوكه في التنصيف والأخذ بهذا الطريق الخفي الذي لا يدركه العقل من بين هذه الطرق المتداخلة المترددة بين مائتي احتمال، ثم سَوق الكلام في ذلك السياق وفي ذلك الميدان الواسع المشتبهة الأعلام ليس بالامر الذي يأتي مصادفة قط، ولا هو من شأن البشر!

فهذه الحروف المقطعة التي في اوائل السور والتي هي شفرات ورموز إلهية تبين خمساً أو ستاً من اسرار لمعات اعجاز اخرى، بل ان علماء علم اسرار الحروف والمحققين من الاولياء قد استخرجوا من هذه المقطعات اسراراً كثيرة جداً، ووجدوا من الحقائق الجليلة ما يثبت لديهم ان المقطعات معجزة باهرة بحد ذاتها. اما نحن فلن نفتح ذلك الباب لأننا لسنا اهلاً لأسرارهم، زد عـلى ذلك لا نستــطــيــع ان نثبتها إثباتاً يكون مشهوداً لدى الجميع.وانما نكتفي بالاحالة الى ما في (اشارات الاعجاز) من خمس او ست لمعات اعجاز تخص المقطعات.

والآن نشير عدة اشارات الى اساليب القرآن، باعتبار السورة، والمقصد، والآيات، والكلام، والكلمة:

C فمثلاً:

سورة ( النبأ) ] عمّ يتساءلون..[ الى آخرها، اذا اُنعم النظر فيها فانها تصف وتثبت احوال الآخرة والحشر والجنة وجهنم باسلوب بديع يُطمئِن القلب ويقنعه، حيث تبين أن ما في هذه الدنيا من افعال إلهية وآثار ربانيةٍ متوجهة الى كلٍّ من تلك الاحوال الاخروية.

ولما كان ايضاح اسلوب السورة كلها يطول علينا، فسنشير الى نقطة او نقطتين منه:

تقول السورة في مستهلها اثباتاً ليوم القيامة: لقد جعلنا الأرض لكم مهداً قد بسط بسطاً جميلاً زاهياً.. والجبال أعمدة واوتاداً مليئة بالخزائن لمساكنكم وحياتكم.. وخلقناكم ازواجاً تتحابّون فيما بينكم ويأنس بعضكم ببعض.. وجعلنا الليل ساتراً لكم لتخلدوا الى الراحة.. والنهار ميداناً لمعيشتكم.. والشمس مصباحاً مضيئاً ومدفئاً لكم.. وانزلنا من السحب لكم ماءً باعثاً على الحياة يجري مجرى العيون.. وننشئُ بسهولة من ماء بسيط أشياء شتى من مزهر ومثمر يحمل ارزاقكم.. فاذاً يوم الفصل - وهو يوم القيامة - ينتظركم. وان إتيانه ليس بعسير علينا.

وبعد ذلك يشير اشارة خفية الى اثبات ما يحدث في يوم القيامة من سير الجبال وتناثرها، وتشقق السموات وتهيؤ جهنم، ومنح الجنة أهلها الرياض الجميلة. وكأنه يقول:

ان الذي يفعل هذه الأفعال في الجبال والأرض بمرآى منكم سيفعل مثلها في الآخرة.

أي ان ما في بداية السورة من جبال تشير الى احوال الجبال يوم القيامة، وان الحدائق التي في صدر السورة تشير الى رياض الجنة في الآخرة.

فقس سائر النقاط على هذا لتشاهد علو الاسلوب ومدى لطافته.

C ومثلاً:

] قل اللّهّمَّ مالكَ الملكِ تؤتي الملكَ مَن تَشاءُ وتنزعُ الملكَ ممن تشاءُ وتعزُّ من تشاءُ وتذّل من تشاء بيدك الخيرُ انَّكَ على كل شئٍ قدير ^ تولجُ الَّيلَ في النهار وتولج النهار في الّيل وتُخرجُ الحيَّ مِن الميتِ وتخرجُ الميتَ من الحيِّ وترزقُ مَن تشاءُ بغيرِ حِسابٍ[ (آل عمران: 26ـ27)

هذه الآية تبين باسلوب عالٍ رفيع: ما في بني الانسان من شؤون إلهية، وما في تعاقب الليل والنهار من تجليات إلهية، وما في فصول السنة من تصرفات ربانية، وما في الحياة والممات والحشر والنشر الدنيوي على وجه الارض من اجراءات ربانية.. هذا الاسلوب عالٍ وبديع الى حد يسخّر عقول اهل النظر. وحيث أن هذا الاسلوب العالي ساطع يمكن رؤيته بأدنى نظر فلا نفتح الآن هذا الكنز.

C ومثلاً:

] اذا السماءُ انشقّت ^ واَذِنَتْ لربِّها وحُقّت^ واذا الارضُ مُدّت^ وألقتْ ما فيها وتخلّت^ وأذنتْ لربها وحُقت[ (سورة الانشقاق: 1ـ5)

تبين هذه الايات مدى انقياد السموات والارض وامتثالهما أوامر الله سبحانه، تبينها باسلوب عالٍ رفيع؛ اذ كما ان قائداً عظيماً يؤسس دائرتين عسكريتين لأنجاز متطلبات الجهاد؛ كشُعَب المناورة والجهاد، وشُعَب التجنيد والسَوق الى الجهاد، وانه حالما ينتهي وقت الجهاد والمناورة يتوجه الى تينك الدائرتين ليستعملهما في شؤون اخرى، فقد انتهت مهمتهما. فكأن كلاً من الدائرتين تقول بلسان موظفيها وخدّامها أو بلسانها لو أُنطقت:

(( يا قائدى أمهلنا قليلاً كي نهئَ اوضاعنا ونطهّر المكان من بقايا اعمالنا القديمة ونطرحها خارجاً.. ثم شرِّف وتفضَّل علينا!)) وبعد ذلك تقول: (( فها قد ألقيناها خارجاً، فنحن طوع امرك، فافعل ما تشاء فنحن منقادون لأمرك. فما تفعله حق وجميل وخير)) .

فكذلك السموات والارض دائرتان فتحتا للتكليف والامتحان، فعندما تنقضي المدة، تخلّي السموات والأرض باذن الله ما يعود إلى دائرة التكليف، ويقولان: يا ربنا استخدمنا فيما تريد، فالامتثال حق واجب علينا، وكل ما تفعله هو حق.

فانظر الى سمو هذا الاسلوب الخارق في هذه الجمل وأنعم النظر فيه.

C ومثلاً:

] يا أرضُ ابلعي ماءكِ وياسماءُ أقلعي، وغيضَ الماءُ وقـضيَ الأمرُ واستوتْ على الجوديّ، وقيلَ بُعداً للقوم الظالمين[ (هود: 44)

للاشارة الى قطرة من بحر بلاغة هذه الآية الكريمة نبين اسلوباً منها في مرآة التمثيل، وذلك:

ان قائداً عظيماً في حرب عالمية شاملة يأمر جيشه بعد إحراز النصر: اوقفوا اطلاق النار ويأمر جيشه الآخر: كفوا عن الهجوم. ففي اللحظة نفسها ينقطع اطلاق النار ويقف الهجوم، ويتوجه اليهم قائلاً: لقد انتهى كل شئ واستولينا على الأعداء وقد نصبتْ راياتنا على قمة قلاعهم ونال اولئك الظالمون الفاسدون جزاءهم وولوا الى اسفل سافلين.

كذلك، فان السلطان الذي لا ندّ له ولا مثيل، قد أمر السموات والارض باهلاك قوم نوح. وبعد أن امتثلا الأمر توجه اليهما: ايتها الارض ابلعي ماءَك، وانتِ ايتها السماء اسكني واهدأي فقد انتهت مهمتكما. فانسحب الماء فوراً من دون تريث واستوت سفينة المأمور الإلهي كخيمة ضربت على قمة جبل. ولقي الظالمون جزاءهم.

فانظر الى علو هذا الاسلوب، اذ الارض والسماء كجنديين مطيعين مستعدين للطاعة وتلقي الاوامر. فتشير - الآية - بهذا الاسلوب الى ان الكائنات تغضب من عصيان الانسان وتغتاظ منه السموات والارض. وبهذه الاشارة تقول: (( ان الذي تمتثل السموات والأرض بأمره لا يُعصى ولا ينبغي ان يُعصى)) مما يفيد زجراً شديداً رادعاً للأنسان. فأنت ترى ان الآية قد جمعت ببيان موجز معجز جميل مجملٍ في بضع جمل حادثة الطوفان التي هي عامةٌ وشاملة مع جميع نتائجها وحقائقها.

فقس قطرات هذا البحر الاخرى على هذه القطرة.

والان انظر الى الاسلوب الذي يريه(القرآن) من نوافذ الكلمات:فمثلاً الى كلمة (( كالعرجون القديم)) في الآية الكريمة :] والقمرَ قدّرناهُ منازلَ حتى عادَ كالعرجونِ القديم[ (يس:39) كيف تعرض اسلوباً في غاية اللطف، وذلك:

ان للقمر منزلاً هو دائرة الثريا. حينما يكون القمر هلالاً فيه يشبه عرجوناً قديماً ابيض اللون. فتضع الآية بهذا التشبيه امام عين خيال السامع، كأن وراء ستار الخضراء(1) شجرة شق احدُ اغصانها النورانية المدببة البيضاء ذلك الستار ومدّ رأسه الى الخارج، والثريا كأنها عنقود معلق فيه. وسائر النجوم كالثمرات النورانية لشجرة الخلقة المستورة. ولا جرم فان عرض الهلال بهذا التشبيه لاولئك الذين مصدر عيشهم ومعظم قوتهم من النخيل هو اسلوب في غاية الحُسن واللطافة وفي منتهى التناسق والعلو. فإن كنت صاحب ذوق تدرك ذلك.

C ومثلاً:

كلمة ((تجري)) في الآية الكريمة ] والشمس تجري لمستقر لها[ (يس:38) تفتح نافذة لاسلوب عالٍ - كما اثبت في ختام الكلمة التاسعة عشرة - وذلك:

ان لفظ ((تجري)) الذي يعنى دوران الشمس، يفهّم عظمة الصانع الجليل بتذكيره تصرفات القدرة الإلهية المنتظمة في دوران الصيف والشتاء وتعاقب الليل والنهار، ويلفت الانظار الى المكتوبات الصمدانية التي كتبها قلم القدرة الإلهية في صحائف الفصول، فيعلّم حكمة الخالق ذي الجلال.

وان قوله تعالى ] وجعل الشمس سراجاً[ (نوح: 16) اي مصباحاً، يفتح بتعبير ((سراجاً)) نافذةً لمثل هذا الاسلوب وهو:

انه يُفهِّم عظمة الصانع واحسان الخالق بتذكيره: ان هذا العالم كأنه قصر، وان ما فيه من لوازم واطعمة وزينة قد اُعدت للأنسان وذوي الحياة، وان الشمس أيضاً ما هي إلاّ مصباح مسخر. فيبين بهذا دليلاً للتوحيد، إذ الشمس التي يتوهمها المشركون اعظم معبود لديهم وألمعها ما هي إلاّ مصباح مسخّر ومخلوق جامد.

فاذاً بتعبير ((سراجاً)) يذكّر رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، ويفهّم احسانه في سعة رحمته، ويُشعر - بذلك الافهام - بكرمه في عظمة سلطانه، ويفّهم الوحدانية بهذا الإشعار. وكأنه يقول: ان مصباحاً مسخراً وسراجاً جامداً لا يستحق العبادة بأي حال من الأحوال.

ثم ان جريان الشمس بتعبير ((تجري)) يذكّر بتصرفات منتظمة مثيرة للاعجاب في دوران الصيف والشتاء والليل والنهار، ويفهّم بذلك التذكير عظمة قدرة الصانع المتفرد في ربوبيته. بمعنى أنه يصرف ذهن الانسان من الشمس والقمر الى صحائف الليل والنهار والصيف والشتاء، ويجلب نظره الى ما في تلك الصحائف من سطور الحادثات المكتوبة.

أجل! ان القرآن لا يبحث في الشمس لذات الشمس بل لمن نوّرها وجعلها سراجاً، ولا يبحث في ماهيتها التي لا يحتاجها الانسان، بل في وظيفتها، اذ هي تؤدي وظيفة نابض (زنبرك) لانتظام الصنعة الربانية، ومركز لنظام الخلقة الربانية، ومكّوك لإنسجام الصنعة الربانية، في الأشياء التي ينسجها المصوّر الازلي بخيوط الليل والنهار.

ويمكنك ان تقيس على هذا سائرَ الكلمات القرآنية فهي وإن كانت تبدو كأنها كلمات مألوفة بسيطة، إلاّ أنها تؤدي مهمة مفاتيح لكنوز المعاني اللطيفة.

وهكذا فلعلو اسلوب القرآن - كما في الوجوه السابقة في الأغلب - كان الأعرابي يعشق كلاماً واحداً منه احياناً، فيسجد قبل ان يؤمن، كما سمع احدهم الآية الكريمة ] فاصدع بما تؤمر[ (الحجر 94) فخرَّ ساجداً، فلما سئل: أأسلمت؟ قال: لا بل اسجد لبلاغة هذا الكلام!

النقطة الرابعة:

الفصاحة الخارقة في لفظه. نعم، إن القرآن كما هو بليغ خارق من حيث اسلوبه وبيان معناه، فهو فصيح في غاية السلاسة في لفظه. والدليل القاطع على فصاحته هو عدم ايراثه السأم والملل. كما ان شهادة علماء فن البيان والمعاني برهان باهر على حكمة فصاحته.

نعم! لو كرّر الوف المرات فلا يورث سأماً ولا مللاً. بل يزيد لذةً وحلاوة.. ثم أنه لا يثقل على ذهن صبي بسيط فيستطيع حفظه.. ولا تسأم منه أذن المصاب بداء عضال الذي يتأذى من ادنى كلام، بل يتلذذ به.. وكأنه الشراب العذب في فم المحتضر الذي يتقلب في السكرات، وهو لذيذ في اذنه ودماغه لذة ماء زمزم في فمه.

والحكمة في عدم الملل والسأم من القرآن هو:

ان القرآن قوتٌ وغذاء للقلوب، وقوة وغناء للعقول، وماء وضياء للارواح، ودواء وشفاء للنفوس، لذا لا يُمَلّ. مثاله الخبز الذي نأكله يومياً دون ان نملّ، بينما لو تناولنا اطيب فاكهة يومياً لشعرنا بالملل. فإذاً لأن القرآن حق وحقيقة وصدق وهدى وذو فصاحة خارقة فلا يورث الملل والسآمة ، وانما يحافظ على شبابيته دائماً كما يحافظ على طراوته وحلاوته، حتى ان أحد رؤساء قريش وبلغائها عندما ذهب الى الرسول الكريم ليسمع القرآن، قال بعد سماعه له: (( والله ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة .. وما يقوله بشر. ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل اعلم بالشعر مني.. ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا)).

فلم يبق امامهم إلاّ ان يقولوا انه ساحر، ليغرروا به أتباعهم ويصدوهم عنه. وهكذا يبقى حتى أعتى اعداء القرآن مبهوتاً أمام فصاحته.

ان ايضاح اسباب الفصاحة في آيات القرآن الكريم وفي كلامه وفي جمله يطول كثيراً، فتفادياً من الإطالة نُقصر الكلام على اظهار لمعة اعجاز تتلمع من اوضاع الحروف الهجائية وكيفياتها في آية واحدة فقط، على سبيل المثال وهي: قوله تعالى: ] ثم اَنزلَ عليكم مِن بعدِ الغمّ اَمنةً نُعاسَاً يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمّـتْهُم أنفسهم يظنونَ بالله غيرَ الحقِ ظنَّ الجاهليةِ يقولون هل لنا من الأمِر من شئٍ، قُل ان الأمرَ كلَّّه لله يُخفون في أنفسهم ما لا يُبْدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قُـتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرزَ الذين كُتبَ عليهم القتلُ الى مـضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم ولـــيمــحـّص مـــا في قـــلوبـكـم والله علـيم بـذات الصــــدور[ (آل عمران: 154)

لقد جمعت هذه الآية جميع حروف الهجاء واجناس الحروف الثقيلة، ومع ذلك لم يفقدها هذا الجمع سلاستها بل زادها بهاءً الى جمالها ومزج نغمة من الـفصاحة نبعت من اوتار متناسبة متنوعـة.

فأنعم النظر في هذه اللمعة ذات الاعجاز وهي: أن الألف والياء لأنهما أخف حروف الهجاء، وتنقلب إحداهُما بالاخرى كأنهما اختان، تكرّر كلٌ منهما احدى وعشرين مرة.. وان الميم والنون(1) لأنهما اختان، ويمكن ان تحل احداهما محل الأخرى فقد ذُكر كلٌ منهما ثلاثاً وثلاثين مرةً.. وان الصاد والسين والشين متآخية حسب المخرج والصفة والصوت فذُكر كل واحد منها ثلاث مرات.. وان العين والغين متآخيتان فذكر العين ست مرات لخفتها بينما الغين لثقلها ذُكرت ثلاث مرات أي نصفه.. وان الطاء والظاء والذال والزاي، متآخية حسب المخرج والصفة والصوت، فذكر كل واحد منها مرتين.. وان اللام والالف متحدتان في صورة (لا)، وان حصة الالف نصف في صورة (لا) فذُكرت اللام اثنتين واربعين مرة، وذُكرت الالف - نصفها - احدى وعشرين مرة .. وان الهمزة والهاء متآخيتان حسب المخرج فذكرت الهمزة ثلاث عشرة مرة(2) والهاء اربع عشرة مرة لكونها أخفّ منها بدرجة.. وان القاف والفاء والكاف متآخية، فذُكرت القاف عشر مرات لزيادة نقطة فيها، وذكرت الفاء تسع مرات والكاف تسع.. وان الباء ذُكرت تسع مرات، والتاء ذُكرت اثنتا عشرة مرة، لأن درجتها ثلاثة.. وان الراء اخت اللام . ولكن الراء مئتان واللام ثلاثون حسب حساب " ابجدية الجمل " أي ان الراء فوق اللام بست درجات فأنخفضت عنها بست درجات. وايضاً الراء تتكرر كثيراً في التلفظ، فيثقل، فذُكرت ست مرات فقط.. ولأن الخاء والحاء والثاء والضاد ثقيلة وبينها مناسبات ذكر كل منها مرة واحدة.. ولأن الواو أخف من ((الهاء والهمزة)) واثقل من ((الياء والالف)) ذُكرت سبع عشرة مرة فوق الهمزة الثقيلة باربع درجات وتحت الالف الخفيفة باربع درجات ايضاً.

وهكذا فان هذه الحروف بهذا الوضع المنتظم الخارق، مع تلك المناسبات الخفية، والانتظام الجميل، والنظام الدقيق، والانسجام اللطيف تثبت بيقين جازم كحاصل ضرب اثنين في اثنين يساوي اربعاً: أنه ليس من شأن البشر ولا يمكنه أن يفعله. أما المصادفة فمحال ان تلعب به.

هذا فإن ما في اوضاع هذه الحروف من الانتظام العجيب والنظام الغريب مثلما هو مدار للفصاحة والسلاسة اللفظية، يمكن ان تكون له حِكم كثيرة اخرى.

فما دام في الحروف هذا الانتظام، فلا شك انه قد روعي في كلماتها وجملها ومعانيها إنتظام ذو أسرار، وانسجام ذو أنوار، لو رأته العين لقالت من اعجابها: ما شاء الله، واذا ادركه العقل لقال من حيرته: بارك الله.

النقطة الخامسة:

براعة البيان: أي التفوق والمتانة والهيبة، اذ كما ان في نظم القرآن جزالة، وفي لفظه فصاحة، وفي معناه بلاغة، وفي اسلوبه إبداعاً، ففي بيانه ايضاً براعة فائقة.

نعم! ان بيان القرآن لهو في أعلى مرتبة من مراتب طبقات الخطاب واقسام الكلام: كالترغيب والترهيب، والمدح والذم، والاثبات والارشاد، والافهام والافحام.

فمن بين الآف امثلة مقام ((الترغيب والتشويق)) سورة ((الانسان))، إذ بيان القرآن في هذه السورة سلس ينساب كالسلسبيل، ولذيذ كثمار الجنة، وجميل كحلل الحور العين(1).

ومن بين الأمـثلة التي لاتحد لمقام ((الترهيب والتهديد)) مقـدمة ســورة ((الغاشية)) اذ بيان القرآن في هذه السورة يؤثر تأثير غليان الرصاص في صماخ الضالين، ولهيب النار في عقولهم، وكالزقوم في حلوقهم، وكلفح جهنم في وجوههم، وكالضريع الشائك في بطونهم.

نعم، إن كانت مأمورةُ العذاب جهنم ] تكاد تميز من الغيظ[ فكيف يكون تهديد وترهيب آمرها بالعذاب؟

ومن بين الآف امثلة مقام ((المدح)) السور الخمس المستــهلة بـ((الحمد لله))؛ اذ بيان القرآن في هذه السور ساطع كالشمس(2)، مزّين كالنجوم، مهيب كالسموات والارض، محبوب مأنوس كالملائكة، لطيف رؤوف كالرحمة على الصغار في الدنيا، وجميل بهيج كالجنة اللطيفة في الآخرة.

ومن بين آلاف امثلة مقام ((الذم والزجر)) الآية الكريمة:

] أيحبُ احدكُم انْ يأكل لحم اخيهِ ميتاً فكرهتُموه[ . (الحجرات:12)

تنهى هذه الآية الكريمة عن الغيبة بست مراتب وتزجر عنها بشدة وعنف، وحيث ان خطاب الآية موجه الى المغتابين، فيكون المعنى كالاتي:

ان الهمزة الموجودة في البداية، للاستفهام الانكاري حيث يسري حكمه ويسيل كالماء الى جميع كلمات الآية، فكل كلمة منها تتضمن حكماً.

ففي الكلمة الاولى تخاطب الآية الكريمة بالهمزة:

أليس لكم عقل - وهو محل السؤال والجواب - ليعي هذا الامر القبيح؟

وفي الكلمة الثانية: ((ايحب)) تخاطب الآية بالهمزة:

هل فسد قلبكم - وهو محل الحب والبغض - حتى أصبح يحب اكره الاشياء واشدها تنفيراً.

وفي الكلمة الثالثة: ((احدكم)) تخاطب بالهمزة:

ماذا جرى لحياتكم الاجتماعية - التي تستمد حيويتها من حيوية الجماعة - وما بال مدنيتكم وحضارتكم حتى اصبحت ترضى بما يسمم حياتكم ويعكر صفوكم.

وفي الكلمة الرابعة: ((ان يأكل لحم)) تخاطب بالهمزة:

ماذا اصابت انسانيتكم؟ حتى اصبحتم تفترسون صديقكم الحميم.

وفي الكلمة الخامسة: ((اخيه)) تخاطب بالهمزة:

اليس بكم رأفة ببني جنسكم، أليس لكم صلة رحم تربطكم معهم، حتى اصبحتم تفتكون بمن هو اخوكم من عدة جهات، وتنهشون شخصه المعنوي المظلوم نهشاً قاسياً ، ايملك عقلاً من يعض عضواً من جسمه؟ اوَليس هو بمجنون؟.

وفي الكملة السادسة: ((ميتاً)) تخاطب بالهمزة:

اين وجدانكم؟ أفسدت فطرتكم حتى اصبحتم تجترحون ابغض الاشياء وافسدها - وهو أكل لحم اخيكم - في الوقت الذي هو جدير بكل احترام وتوقير.

يفهم من هذه الآية الكريمة - وبما ذكرناه من دلائل مختلفة في كلماتها - ان الغيبة مذمومة عقلاً وقلباً وانسانية ووجداناً وفطرة وملةً.

فتدبر هذه الآية الكريمة، وانظر كيف انها تزجر عن جريمة الغيبة باعجاز بالغ وبايجاز شديد في ست مراتب.

ومن بين آلاف امثلة مقام ((الاثبات)) الآية الكريمة:

] فانظر الى آثارِ رحمتِ الله كيفَ يحيى الأرضَ بعدَ موتِها انّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كلِّ شيء قديرٌ[ (الروم:50) فانها تثبت الحشر وتزيل استبعاده ببيانٍ شافٍ وواف لا بيان فوقه. وذلك كما اثبتنا في الحقيقة التاسعة من الكلمة العاشرة وفي اللمعة الخامسة من الكلمة الثانية والعشرين بأنه: كلما حلّ موسم الربيع، فكأن الأرض تُبعث من جديد بانبعاث ثلاثمائة الف نوع من انواع الحشر والنشور، في انتظام متقن وتمييز تام علماً انها في منتهى الاختلاط والتشابك، حتى يكون ذلك الإحياء والبعث ظاهراً لكل مشاهد، وكأنه يقول له: ان الذي أحيا الأرضَ هكذا لن يصعب عليه اقامة الحشر والنشور. ثم أن كتابة هذه الالوف المؤلفة من انواع الاحياء على صحيفة الأرض بقلم القدرة دون خطأ ولا نقص لهي ختم واضح للواحد الأحد،فكما أثبتت هذه الآية الكريمة التوحيدَ، تثبت القيامة والحشر ايضاً مبينةً ان الحشر والنشور سهل على تلك القدرة وقطعي ثابت كقطعية ثبوت غروب الشمس وشروقها.

ثم ان الآية الكريمة اذ تبين هذه الحقيقة بلفظ ((كيف)) أي من زاوية الكيفية فان سوراً اخرى كثيرة قد فصّلت تلك الكيفية منها: سورة ((ق)) مثلاً: فانها تثبت الحشر والقيامة ببيان رفيع جميل باهر يفيد انه لا ريب في مجئ الحشر كما لا ريب فيمجئ الربيع - فتأمل في جواب القرآن الكفارَ المنكرين وتعجبهم من احياء العظام وتحولها الى خلق جديد، اذ يقول لهم:

] أفلم ينظروا الى السماءِ فوقَهُم كيفَ بنيناها وزينّاها ومالها من فروج^ والأرضَ مددناها وألقينا فيها رواسيَ وانبتنا فيها من كلٍّ زوجٍ بهيج^ تبصرةً وذكرى لكلّ عبدٍ منيب^ ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فانبتنا بهِ جنّاتٍ وحبّ الحصيد^ والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نـضيد ^ رزقاً للعبادِ واحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج[ (ق: 6ـ11)

فهذا البيان يسيل كالماء الرقراق، ويسطع كالنجوم الزاهرة، وهو يطعم القلب ويغذّيه بغذاء حلو طيب كالرطب. فيكون غذاء ويكون لذة في الوقت نفسه.

ومن ألطف امثلة مقام ((الاثبات)) هذا المثال:

] يس^ والقرآنِ الحكيم ^ إنك لمن المرسلين[ (يس : 1ــ3) . هذا القَسَم يشير الى حجية الرسالة وبرهانها بيقين جازم وحق واضح حتى بلغت في الحقانية والصدق مرتبة التعظيم والإجلال، فيُقْسَم به.

يقول القرآن الكريم بهذه الاشارة: انك رسول لأن في يدك قرآناً حكيماً، والقرآن نفسه حق وكلام الحق لأن فيه الحكمة الحقة وعليه ختم الاعجاز.

ونذكر من امثلة مقام ((الاثبات)) ذات الاعجاز والايجاز هذه الآية الكريمة:] قال من يحيى العظامَ وهي رميمٌ^ قلْ يحييها الذي أنشأها أولَ مرةٍ وهو بكلّ خلقٍ عليم[ (يس: 78 - 79 ).

ففي المثال الثالث من الحقيقة التاسعة للكلمة العاشرة تصوير لطيف لهذه المسألة، على النحو الآتي:

ان شخصاً عظيماً يستطيع ان يشكّل - أمام انظارنا - جيشاً ضخماً في يوم واحد. فاذا قال احدهم: ان هذا الشخص يمكنه ان يجمع جنود طابوره المتفرقين للاستراحة ببوق عسكري فينتظم له الطابور حالاً. وانت ايها الانسان إن قلت: لا اصدق!! تدرك عندئذٍ مدى بعد انكارك عن العقل.

والأمر كذلك (ولله المثل الاعلى): ان الذي يبعث أجساد الاحياء قاطبة من غير شئ كأنها أفراد جيش ضخم بكمال الانتظام وبميزان الحكمة، ويجمع ذرات تلك الاجساد ولطائفها ويحفظها بأمر ((كن فيكون)) في كل قرن، بل في كل ربيع، على وجه الارض كافة، ويوجِد مئات الالوف من امثالها من انواع ذوي الحياة. ان القدير العليم الذي يفعل هذا هل يمكن أن يستبعد منه جمع الذرات الاساسية والاجزاء الاصلية المتعارفة تحت نظام الجسد كأنها افراد جيش منظم، بصيحة من صور اسرافيل؟ إن استبعاد هذا من ذلكم القدير العليم لا محالة جنون!

وفي مقام ((الارشاد)) فان البيانات القرآنية مؤثرة ورفيعة ومؤنــسة ورقيقة حتى أنها تملأ الروح شوقاً والعقل لهفة والعين دمعاً. فلنأخذ هذا المثال من بين الآف امثلته:

] ثم قسَتْ قُلوبكُم منْ بعدِ ذلك فهي كالحجارةِ أو أشدُّ قسوةً وانَّ من الحجارة لَمَا يتفجّر منه الانهارُ وانّ منها لَمَا يشّقّـق فيخرجُ منه الماءُ وانّ منها لما يهبطُ من خشية الله وما الله بغافلٍ عما تعملون[ (البقرة: 74) فكما اوضحنا واثبتنا في مبحث الآية الثالثة من ((المقام الاول للكلمة العشرين)) فان الآية هذه تخاطب بني اسرائيل قائلة: ماذا اصابكم يا بني اسرائيل حتى لا تبالون بجميع معجزات موسى عليه السلام، فعيونكم شاخصة جافة لا تدمع، وقلوبكم قاسية غليظة لا حرارة فيها ولا شوق، بينما الحجارة الصلدة القاسية قد ذرفت الدموع من اثنتي عشرة عيناً بضربة من عصا موسى - عليه السلام - وهي معجزة واحدة من معجزاته!

نكتفي بهذا القدر هنا ونحيل الى تلك الكلمة حيث وُضّح هذا المعنى الارشادى ايضاحاً كافياً.

وفي مقام ((الافحام والالزام)) تأمل في هذين المثالين فحسب من بين الآف امثلته.

C المثال الاول:

] وان كنتم في ريبٍ مما نزّلنا على عَبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله وادعوا شهداءَكُم من دون الله إن كنتم صادقين[ (البقرة:23)

سنشير هنا اشارة مجملة فحسب، اذ قد اوضحناه واثبتناه واشرنا اليه في ((اشارات الاعجاز)) وهو:

ان القرآن المعجز البيان يقول: يا معشر الانس والجن إن كانت لديكم شبهة في أن القرآن ليس كلام الله، وتتوهمون انه من كلام بشر. فهيا، فها هو ميدان التحدي. فأتوا بقرآنٍ مثل هذا يصدر عن شخص أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، مثل محمد الذي تصفونه انتم بـ ((الأمين))..

فان لم تفعلوا هذا فأتوا به من غير أمي، وليكن بليغاً أو عالماً..

فان لم تفعلوا هذا فأتوا به من جماعة من البلغاء وليس من شخص واحد، بل اجمعوا جميع بلغائكم وخطبائكم والآثار الجيدة للسابقين منهم ومدد اللاحقين وهمم شهدائكم وشركائكم من دون الله، وابذلوا كل ما لديكم حتى تأتوا بمثل هذا القرآن..

فان لم تفعلوا هذا فاتوا بكتابٍ في مثل بلاغة القرآن ونظمه،بصرف النظر عن حقائقه العظيمة ومعجزاته المعنوية.

بل القرآن قد تحداهم بأقل من هذا اذ يقول:] فاتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات[ (هود:13) أي ليس ضرورياً صدق المعنى فلتكن اكاذيب مفتريات.

وان لم تفعلوا، فليكن عشر سور منه وليس ضرورياً كل القرآن..

وان لم تفعلوا هذا، فأتوا بسورة واحدة من مثله فحسب، وان كنتم ترون هذا ايضاً صعباً عليكم، فلتكن سورة قصيرة..

واخيراً ما دمتم عاجزين لا تستطيعون ان تفعلوا ولن تفعلوا مع انكم في أمسّ الحاجة الى الاتيان بمثيله، لأن شرفكم وعزتكم ودينكم وعصبيتكم واموالكم وارواحكم ودنياكم واخراكم انما تصان باتيان مثله، والاّ ففي الدنيا يتعرض شرفكم ودينكم الى الخطر وتسامون الذل والهوان وتُهدر أموالكم، وفي الآخرة تصيرون حطباً للنار مع اصنامكم ومحكومين بالسجن الابدي ] فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة[ (البقرة: 24).

فما دمتم قد عرفتم عجزكم بثماني مراتب، فلابد ان تعرفوا ان القرآن معجز بثماني مراتب فإما ان تؤمنوا به أو تسكتوا نهائياً وتكون جهنم مثواكم وبئس المصير.

وبعد ما عرفت بيان القرآن هذا والزامه في مقام ((الافحام)) قل: حقاً انه ((ليس بعد بيان القرآن بيان)).

C المثال الثاني:

] فذكّر فما انتَ بنعمتِ ربّك بكاهنٍ ولا مجنون ^ أم يقولون شاعرٌ نتربّصُ به ريبَ المنون ^ قُل تربصوا فاني معكم من المتربصين ^ أم تأمرُهُم احلامُهم بهذا أم هم قوم طاغون ^ أم يقولون تَقَوّله بل لا يؤمنون ^ فليأتوا بحديثٍ مثله ان كانوا صادقين ^ ام خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون^ أم خَلقوا السموات والارض بل لا يـُوقنون^ أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ^ أم لهم سلّمٌ يستمعون فيه فليأتِ مستمعُهم بسلطانٍ مبين ^ أم له البنات ولكم البنونَ^ أم تسئلهم اجراً فهم من مغْرَم مُثقلون^ أم عندهم الغيبُ فهم يكتبون ^ أم يُريدون كيداً فالذين كفروا هم الـمَكيدون ^ أم لهم إلهٌ غيرُ الله سبحان الله عما يشركون[ (الطور: 29 - 43)

من بين الآف الحقائق التي تتضمنها هذه الآيات الجليلة سنبين حقيقة واحدة فقط مثالاً للإلزام وإفحام الخصم. كالآتي:

ان هذه الايات الكريمة تُلزم جميع اقسام اهل الضلالة وتسكتهم، وتسدّ جميع منابت الشبهات وتزيلها، وذلك بلفظ: أم .. أم، بخمس عشرة طبقة من الاستفهام الانكاري التعجبي، فلا تدع ثغرة شيطانية ينزوي فيها اهل الضلالة إلاّ وتسدها، ولا تدع ستاراً يتسترون تحته إلاّ وتمزقه، ولا تدع كذباً من اكاذيبهم إلاّ وتفنّده. فكل فقرة من فقراتها تبطل خلاصة مفهوم كفرٍ تحمله طائفة من الطوائف الكافرة؛ إما بتعبير قصير وجيز، أو بالسكوت عنه واحالته الى بداهة العقل لظهور بطلانه، أو باشارة مجملة إذ قد رُدّ ذلك المفهوم الكفري واُفحم في موضع آخر بالتفصيل. فمثلاً:

الفقرة الاُولى تشير الى الآية الكريمة ] وما عَلّمناهُ الشعرَ وما ينبغي له[ أما الفقرة الخامسة عشرة فهي ترمز الى الآية الكريمة ] لو كانَ فيهما آلهةٌ إلاّ الله لفسدتا[ . قس بنفسك سائر الفقرات في ضوء هذه الفقرة، وذلك:

ففي المقدمة تقول: بلّغ الاحكام الآلهية، فانك لستَ بكاهنٍ، لان كلام الكاهن ملفّق مختلط لا يعدو الظن والوهم، بينما كلامك هو الحق بعينه وهو اليقين.. وذكّر بتلك الاحكام فلستَ مجنوناً قط، فقد شهد اعداؤك كذلك على كمال عقلك.

] أم يقولون شاعرٌ نتربصُ بهِ ريبَ المنون[ فيا عجباً! أيقولون لك: شاعر، كالكفار العوام الذين لا يحتكمون الى العقل! أوَهم ينتظرون هلاكك وموتك! قل لهم: انتظروا وأنا معكم من المنتظرين.فان حقائقك العظيمة الباهرة منزّهة عن خيالات الشعر ومستغنية عن تزييناته.

] أم تأمُرهم أحلاُمهم بهذا[ : أم أنهم يستنكفون عن اتباعك كالفلاسفة المعتدين بعقولهم الفارغة؟؛ الذين يقولون: كفانا عقلنا. مع أن العقل نفسه يأمر باتباعك، فما من قول تقوله إلاّ وهو معقول، ولكن لا يبلغه العقل بمفرده.

] أم هم قوم طاغون[ أم ان سبب انكارهم هو عدم رضوخهم للحق كالطغاة الظلمة؟ مع أن عقبى الجبارين العتاة من فراعنة ونماريد معلومة لا تخفى على أحد.

] أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون[ . أم أنهم يتهمونك بأن القرآن كلام من عندك، كما يقول المنافقون الكاذبون الذين لا ضمير لهم ولا وجدان؟ مع أنهم هم الذين يدعونك الى الآن بـ ((محـمد الأمين)) لصدق كلامك. فاذاً لا ينـوون الايـمان. وإلاّ فليجدوا في آثار البشر مثيلاً للقرآن.

] أم خُلقوا من غير شئ[ أم أنهم يعدّون أنفسهم سائبين، خُلقوا سدىً بلا غاية ولا وظيفة ولا خالق لهم ولا مولى؟ . ويعتقدون الكونَ كله عبثاً كما يعتقد به الفلاسفة العبثيون! أفعَميتْ ابصارهم؟ افلا يرون الكون كله من اقصاه الى اقصاه مزيّناً بالحِكَم ومثمراً بالغايات، والموجودات كلها من الذرات الى المجرات مناطة بوظائف جليلة ومسخرة لأوامر آلهية.

] أم هم الخالقون[ أم أنهم يظنون أن الاشياء تتشكل بنفسها وتُربّى بنفسها وتخلق لوازمها بنفسها كما يقول الماديون المتفرعنون! حتى غدوا يستنكفون من الايمان والعبودية لله، فاذاً هم يظنون أنفسهم خالقين. والحال: ان خالق شئٍ واحد يلزم ان يكون خالقاً لكل شئ. فلقد دفعهم اذن غرورُهم وعتوّهم الى منتهى الحماقة والجهل حتى ظنوا أن مَن هو عاجز امام أضعف مخلوق - كالذباب والميكروب - قادرٌ مطلق! فما داموا قد تخلّوا الى هذا الحد عن العقل وتجردوا من الانسانية، فهم اذاً اضلّ من الأنعام بل أدنى من الجمادات.. فلا تهتم لإنكارهم، بل ضعهم في عداد الحيوانات المضرة والمواد الفاسدة. ولا تلقِ لهم بالاً ولا تلتفت اليهم أصلاً.

] أم خلقوا السموات والارض بل لا يوقنون[ أم يجحدون وجود الله تعالى كالمعطلة الحمقى المنكرين للخالق؟ فلا يستمعون للقرآن! فعليهم اذاً ان ينكروا خلق السموات والارض، أو يقولوا:

نحن الخالقون؛ ولينسلخوا من العقل كلياً وليدخلوا في هذيان الجنون، لأن براهين التوحيد واضحة تُقرأ في أرجاء الكون بعدد نجوم الســماء وبعـدد ازاهير الارض، كلها تدل عـلــى وجــوده تعــالى وتفــصــح عنه. فاذاً لا يرغبــون في الرضــوخ الى الحق واليقين، والاّ فكيف ظنوا ان كتاب الكون العظيم هذا الذي تندرج في كل حرف منه الوف الكتب أنه دون كاتب، مع أنهم يعلمون جيداً أن حرفاً واحداً لا يكون دون كاتب؟

] أم عندهم خزائن ربك[ أم أنهم ينفون الارادة الآلهية كبعض الفلاسفة الضالين او ينكرون اصل النبوة كالبراهمة، فلا يؤمنون بك! فعليهم اذاً ان ينكروا جميع آثار الحِكَم والغايات الجليلة والانتظامات البديعة والفوائد المثمرة واثار الرحمة الواسعة والعناية الفائقة الظاهرة على الموجودات كافة، والدالة على الارادة الآلهية واختيارها، وعليهم ان ينكروا جميع معجزات الانبياء عليهم السلام، أو عليهم أن يقولوا: أن الخزينة التي تفيض بالاحسان على الخلق اجمعين هي عندنا وبايدينا. وليُسْفِروا عن حقيقتهم بأنهم لا يستحقون الخطاب، ولا هم أهلٌ له. اذاً فلا تحزن على انكارهم. فلله حيوانات ضالة كثيرة.

] أم هم المصيطرون[ أم أنهم توهموا أنفسهم رقباء على اعمال الله تعالى؟ أفَيريدون ان يجعلوه سبحانه مسؤولاً، كالمعتزلة الذين نصبوا العقل حاكماً! فلا تبالِ ولا تكترث بهم إذ لا طائل وراء انكار هؤلاء المغرورين وامثالهم.

] أم لهم سلمٌ يستمعونَ فيه فليأتِ مستمعُهُم بسلطانٍ مبين[ أم أنهم يظنون أنفسهم قد وجدوا طريقاً آخر الى عالم الغيب كما يدّعيه الكهان الذين اتبعوا الشياطين والجان، وكمشعوذي تحضير الارواح؟ أم يظنون أن لديهم سلماً الى السموات التي صُكت ابوابها بوجوه الشياطين، حتى لا يصّدقوا بما تتلقاه من خبر السماء! فانكار هؤلاء الفجرة الكذابين وامثالهم، هو في حكم العدم.

] أم لهُ البناتُ ولكم البنون[ أم أنهم يسندون الشرك الى الأحد الصمد باسم العقول العشرة وارباب الانواع كما يعتقد به فلاسفة مشركون، أو بنوعٍ من الالوهية المنسوبة الى النجوم والملائكة كالصابئة، أو باسناد الولد اليه تعالى كالملحدين والضالين، أو ينسبون اليه الولد المنافي لوجوب وجود الأحد الصمد، ولوحدانيته وصمدانيته وهو المستغني المتعال؟ أم يسندون الأنوثة الى الملائكة المنافية لعبوديتهم وعصمتهم وجنسهم (طبيعتهم)؟ أفَهُم يظنون أنهم بهذا يوجدون شفعاء لأنفسهم، فلا يتّبعونك!؟ ان الانسان الفاني الذي يطلب الوريث المعين، والمطبوع على حب الدنيا الى حدّ الهيام بها، وهو العاجز الفقير الى بقاء نوعه، والمؤهل للتناسل والتكاثر والتجزؤ الجسماني، ذلك التناسل الذي هو رابطة البقاء وآصرة الحياة للمخلوقات كافة.. فاسناد التناسل هذا الى مَن وجودُه واجب وهو الدائم الباقي، الأزلي الأبدي، الذاتي، المنزّه عن الجسمانية، المقدس عن تجزئة الماهية، المتعالي عن ان يمس قدرته العجز، وهو الواحد الأحد الجليل ذو الجلال.. واسناد الاولاد اليه ولاسيما الضعفاء العاجزين أي البنات اللاتي لم يرتضها غرورُ هؤلاء، انما هو نهاية السفسطة ومنتهى الجنون وغاية الهذيان، حتى انه لا حاجة الى تفنيد افتراءاتهم واظهار بطلانهم فلا تنصت اليهم ولا تلق لهم بالاً اذ لا تُسمَع سفسطة كل ثملٍ ولا هذيان كل مجنون.

] أم تسألهم أجراً فهم من مغْرمٍ مُثقلون[ أم أنهم يرون تكاليف العبودية التي تطلبها منهم ثقيلاً عليهم؟ كما يراها الطغاة الباغون الحريصون على الدنيا المعتادون على الخسة فيهربون من تلك التكاليف! ألا يعلمون انك لا تريد منهم أجراً ولا من أحدٍ إلاّ منه سبحانه؟ أيعزّ عليهم التصدق من مال الله الذي اعطاه اياهم ليزداد المال بركة وليحصَّن من حسد الفقراء، ومن الدعاء بالسوء على مالكه؟ فالزكاة بمقدار العُشر أو واحد من اربعين، والتصدق بها على فقرائهم أتعدّ أمراً ثقيلاً حتى يهربوا من الاسلام؟ انهم لا يستحقون حتى الجواب على تكذيبهم، فهو واضح جداً وتافه جداً بل يستحقون التأديب لا الاجابة.

] أم عندهم الغيب فهم يكتبون[ أم أنهم لا يروق لهم ما تتلقاه من اخبار الغيب، فيدّعون معرفة الغيب كالبوذيين وكالعقلانيين الذين يحسبون ظنونهم يقيناً! أعندهم كتاب من الغيب وهو مفتوح لهم يكتبون منه حتى يردّوا كتابك الغيبي!؟ ان ذلك العالَم لا ينزاح حجابُه الاّ للرسل الموحى اليهم، ولا طاقة لأحد بالولوج فيه بنفسه قط.

ولا يستخفنَّك عن دعوتك تكذيب هؤلاء المغرورين المتكبرين الذين تجاوزوا طورهم وتعدّوا حدودهم. فعن قريب ستحطم حقائقُك احلامَهم وتكون أثراً بعد عين.

] أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون[ أم أنهم يريدون أن يكونوا كالمنافقين الذين فسدت فطرتهم وتفسخ وجدانهم، وكالزنادقة المكّارين الذين يصّدون الناس عن الهدى - الذي حرموا منه - بالمكيدة والخـديعـة فيصرفوهم عن سواء السبيل، حتى اطلقوا عليك اسم الكاهن أو المجنون أو الساحر، مع أنهم هم أنفسهم لا يصّدقون دعواهم فكيف بالآخرين؟ فلا تهتم بهؤلاء الكذابين الخداعين ولا تعتبرهم في زمرة الأناسي، بل امضِ في الدعوة الى الله، لا يفترك شئ عنها، فاولئك لا يكيدونك بل يكيدون أنفسهم، ويضرونها بأنفسهم. وما نجاحهم في الفساد والكيد إلاّ أمر مؤقت زائل بل هو استدراج ومكر إلهي.

] أم لهم إلهٌ غيرُ الله سبحان الله عما يُشركون[ أم أنهم يعارضونك ويستغنون عنك لانهم يتوهمون الهاً غير الله يستندون اليه كالمجوس الذين توهموا إلهين اثنين باسم خالق الخير وخالق الشر! أو كعبّاد الاسباب والاصنام الذين يمنحون نوعاً من الالوهية للاسباب ويتصورونها موئل استناد؟ اذاً فقد عميت ابصارهم أفلا يرون هذا الانتظام الاكمل الظاهر كالنهار في هذا الكون العظيم ولا هذا الانسجام الاجمل فيه!..

فبمقتضى قوله تعالى ] لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا[ اذا ما حلّ مختاران في قرية، وواليان في ولاية وسلطانان في بلد، فالانتظام يختل حتماً والانسجام يفسد نهائياً. والحال ان الانتظام الدقيق واضح بدءاً من جناح البعوضة الى قناديل السماء. فليس للشرك موضع ولو بمقدار جناح بعوض. فما دام هؤلاء يمرقون من نطاق العقل ويجافون الحكمة والمنطق ويقومون باعمال منافية كلياً للشعور والبداهة، فلا يصرفك تكذيبهم لك عن التذكير والارشاد.

وهكذا فهذه الايات التي هي سلسلة الحقائق، قد بينا بياناً مجملاً جوهرةً واحدة منها فقط من مئات جواهرها، تلك الجوهرة التي تخص (الالزام والافحام). فلو كانت لي قدرة لأبين عدة جواهر اخرى منها لكنتَ تقول ايضاً: ان هذه الآيات معجزة بحد ذاتها!

أما بيان القرآن في ((الافهام والتعليم)) فهو خارق وذو لطافة وسلاسة، حتى ان ابسط شخص عامي يفهم - بتلك البيانات - اعظم حقيقة واعمقها بيسر وسهولة.

نعم! ان القرآن المبين يرشد الى كثير من الحقائق الغامضة ويعلّم الناس اياها باسلوب سهل وواضح وببيان شافٍ يراعي نظر العوام، من دون ايذاء لشعور العامة ولا إرهاق لفكر العوام ولا ازعاج له، فكما اذا ما حاور انسان صبياً فانه يستعمل تعابير خاصــة به، كــذلــك الاســــاليب القرآنية والتــي تســمى بـ ((التنزلات الإلهية الى عقول البشر)) خطاب ينزل الى مستوى مدارك المخاطبين، حتى يفهّم أشد العوام أمية، من الحقائق الغامضة والاسرار الربانية ما يعجز حكماءٌ متبحرون عن بلوغها بفكرهم؛ وذلك بالتشبيهات والتمثيلات بصور متشابهات.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس