عرض مشاركة واحدة
قديم 03-09-2009
  #3
أبو أنور
يارب لطفك الخفي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 3,299
معدل تقييم المستوى: 19
أبو أنور is on a distinguished road
افتراضي رد: ألف دلالة ودلالة في الصلاة على نور الوحي والرسالة

وسنحاول أن نعالج هنا بعدا أساسيا في صيغة الصلاة على النبي الكريم المشروعة منه عليه الصلاة والسلام.. وارتأيت أن أسمي هذا الفصل بــ :

أنى لنا الصلاة عليك يا رسول الله:

أما الصحابة رضوان الله عليهم وخاصة الأعراب منهم الذين كانوا يفهمون جيدا معاني الكلمات العربية فقد وقفوا وقفة دهشة واستفسار حول كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فور نزول هذه الآية الكريمة، فدلهم الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام دلالة تفيد كل الأجيال القادمة بعده إلى طريق العبودية السيار: الدعاء.
وقفوا وقفة دهشة واستفسار لأنهم يعرفون أن الصلاة على سيدنا محمد، حسبما يقتضيه فضاء اللغة العربية، تعني تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وتقديم سنته حبا وكرامة وليس بالإكراه والجبر.

قال شيخنا أبو الفتوح حفظه الله في بداية الوصول:
وهي ـ يقصد الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ محتملة للرحمة والدعاء والثناء، غير أن المشهور بين العلماء أن صلاة الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم زيادة تشريف وتعظيم وتكريم هـ.

قلت: إذا كانت الصلاة لغة تعني الدعاء، فإن الصلاة على المرء تعني الدعاء له برفع شأنه ومقامه من شأن إلى شأن أعلى منه ومن مقام إلى مقام أحمد منه، وهذا يقتضي أن يكون القائم بالصلاة على إنسان ما مدركا لمقام هذا الأخير ليتمكن من الرفع منه إلى ما هو أعلى وأرقى وأعظم.

ومن ثم استعملت الصلاة على المرء بمعنى الاستغفار، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم.

فإنه فسر في رواية بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
أمرت أن أستغفر لهم.

فالاستغفار للشخص هو دعاء له برفعه من شأن وحال المتلبس بالمعصية والذنب إلى شأن وحال من لا ذنب له.

وكذا يقال لمعنى البركة ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
اللهم صل على آل أبي أوفى.

فإنه عليه الصلاة والسلام قد دعا لهم بالصلاة عليهم من أجل البركة في أرزاقهم وأموالهم.

فالبركة انتقال ورفعة من شأن إلى شأن مزيد فيه من الخير.

ومن ذلك استعمال لفظ الصلاة على النبي أو العبد بمعنى الثناء عليه، فالثناء على المرء انتقال أيضا من مقام ثناء إلى مقام ثناء أعلى منه.

فالصلاة على العبد لها وجوه عديدة لتحقيق مقتضاها كالرحمة والعفو والمغفرة والثناء والتشريف.. .

فقد كان، إذن، تساؤل الصحابة رضوان الله عليهم عن الكيفية تعبيرا صادقا عن عجزهم لبلوغ قدر الواجب من الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم ما دام المسلم لا يستطيع مهما بلغ إيمانه إدراك مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فسؤالهم كما قال القرطبي رحمه الله: سؤال من أشكلت عليه كيفية ما فهم أصله، وذلك أنهم عرفوا المراد بالصلاة، فسألوا عن الصفة التي تليق بها ليستعملوها هـ.

قلت: ولقد عرفوا رضي الله عنهم مع ما عرفوا من مراد لفظ الصلاة على النبي أنهم عاجزون عن أداء معنى ذلك وهو الرفع من مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الحافظ السخاوي رحمه الله: والحامل لهم على ذلك أن السلام لما تقدم بلفظ مخصوص، وهو: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فهموا منه أن الصلاة أيضا تقع بلفظ مخصوص وعدلوا عن القياس لإمكان الوقوف على النص، ولا سيما في ألفاظ الأذكار، فإنها تجيء خارجة عن القياس غالبا، فوقع الأمر كما فهموه، فإنه لم يقل لهم: كالسلام، بل علمهم صفة أخرى هـ.

قلت: فأحالهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الله سبحانه.

أحالهم سيد الوجود على واجب الوجود. فكأنه قال لهم:
اطلبوا من الله عز وجل أن ينوب عنكم في الصلاة علي لأنه أعلم بما يليق بي كما علم بما يليق بسيدنا إبراهيم عليه السلام.

فقد يغيب المرء في التوحيد فيتوه عن التعلق بأذيال النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أو أذيال غيره من الربانيين الوارثين لأسرار النبوة، وهو وجه آخر للعقلانية المتحررة من كل متعلقات العاطفة والوجدان.

كما قد يستغرق المرء في معرفة ومحبة النبي الكريم فيقف عند ذلك دون أن يتمكن من فعل أي شيء فيه تعظيم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلمه بقصور أي جهد عن بلوغ ذلك التعظيم المطلوب.

فكانت الصيغة النبوية بلسما شافيا لكلا الحالتين وهدية روحية لكل المسلمين إذ بها يحقق المرء توحيده لله عز وجل باعتقاده من خلال دعائه أن لا أحد يعلم ما يليق بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله سبحانه، كما تمكنه هذه الوصفة النبوية من استحضار عظمة الرسول عند الله عز وجل وفضله على سائر البشر.

فعن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى فَأَهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ قَالَ:
قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: أُمِرْنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ وَنُسَلِّمَ أَمَّا السَّلَامُ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ:
قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ.
وفي رواية: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال: قولوا اللهم صل على محمد.. الحديث.

حق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسكت لأن المقام بعد هذا السؤال-الدهشة هو مقام تأمل واستبصار، ولأن الصحابي السائل قد عبر عن عجز طبيعي قهري لا يد للمسلم المكلف في معالجته.

فالكيفية المسؤول عنها لم تكن كيفية توصيف وتحديد بقدر ما كانت كيفية اعتراف بالعجز عن بلوغ المقصود الواجب من أمر الله بالصلاة على نبيه الكريم.

لقد علم الصحابة، وهم أعرف بلغة قريش التي نزل بها القرآن، أن من فيه معائب ونقائص لا يثني على من هو طاهر مطهر لا عيب فيه، ومن ثم كانت مرتبة العبد تقصر عن أن تكتفي بالقول: صليت على محمد، أو ما قارب ذلك من الألفاظ.

فكان جواب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأن بين للأمة طريق الدعاء والسؤال، ليكون الله هو المتولي بهذا التشريف نيابة عنا، فهو المصلي في الحقيقة، أما العبد فنسبة الصلاة إليه مجازية.

وقد أشار ابن أبي حجلة إلى شيء من ذلك فقال رحمه الله: الحكمة في تعليمه الأمة صيغة: اللهم صلى على محمد: أنا لما أمرنا بالصلاة عليه ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك أحلناه عليه ـ يعني الله سبحانه ـ، لأنه أعلم بما يليق به، وهو كقوله: لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك هـ.

قال الحافظ السخاوي رحمه الله:
وسبقه أبو اليمن ابن عساكر فقال: حسن قول من قال: لما أمر الله سبحانه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم نبلغ معرفة فضيلة الصلاة عليه، ولم ندرك حقيقة مراد الله عز وجل فيه، فأحلنا ذلك إلى الله سبحانه، فقلنا: اللهم صل أنت على رسولك، لأنك أعلم بما يليق به وأعرف بما أردته له صلى الله عليه وآله وسلم هـ .

قلت: وقول ابن عساكر رحمه الله حسن قول من قال.. إلخ، يدل على أن هذا المعنى المشار إليه مما توارثه العلماء عن أئمتهم، إلى عهد التابعين والصحابة رضوان الله عليهم.

فنحن في الصيغة النبوية مستشعرون أن الله قد أمرنا بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يأمرنا إلا بما هو كمال لنا وكامل في نفسه، ونحن لا قدرة لنا على توفية حق ذلك الكمال لقصورنا الطبيعي إلا بإقدار الله عز وجل.

فنحن في دعائنا بالصلاة على نبينا وحبيبنا وسيدنا محمد نناجي ربنا ونتوسل قائلين:
كن أنت يا ربنا المتولي للصلاة على سيدنا محمد بتلك الصلاة الكاملة التي أمرتنا بها ليكون نقصنا مغفورا بكمالك، ولأنك أولى بذلك منا لأنك البر المحسن، وما يظهر علينا فإنما هو من آثار أوصافك تباركت وتعاليت.
وكن أنت يا ربنا المتولي للصلاة عليه كما ينبغي في حكمة المنعم الحكيم الذي يراعي كل أحد وما يناسبه، فينعم على كل أحد على قدره ويصلي عليه الصلاة التي تناسب قدره، فقد علمت بما يليق بسيدنا إبراهيم فصليت عليه في العالمين، وأنت أعلم بما يليق بسيد الأولين والآخرين فصل عليه صلاة تناسب منزلته عندك وأهليته فيكون فضل صلاتك عليه على صلاة غيرك طبق فضله صلى الله عليه وآله وسلم على سائر الخلق.

إذن، فالله سبحانه في هذه الآية الكريمة يأمرنا بمكافأة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما أحسن به إلينا وأنعم، وقد عجزنا عنها ولم يكن لنا سوى أن ندعو الله ليقوم بذلك نيابة عنا، فلذلك أرشدنا الرسول الحكيم صلى الله عليه وآله وسلم إلى سبيل الدعاء لما علم عجزنا عن مكافأته.

قال الإمام الحليمي: فإذا قلنا: اللهم صل على سيدنا محمد، فإنما نريد: اللهم عظم سيدنا محمدا في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وإجزال أجره ومثوبته، وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود، وتقديمه على كافة المقربين والشهود هـ.

قلت: وهذه الأمور والخصائص وإن كان الله قد أوجبها وخص بها نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم فإن ما من شيء منها إلا وفيها درجات ومراتب، فإذا دعا واحد من أمته بالصلاة عليه فاستجيب دعاؤه فيه زيد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك الدعاء في كل شيء منها.

فنحن في الحقيقة لا نملك إيصال ما يعظم به أمره ويعلو به قدره إليه، إلا إذا كان الحق عز وجل لساننا. فحينئذ تصح الصلاة التي أمرنا بها. وبهذه المثابة كانت صلاة الملائكة في هذا المقام الذي جمع بينهم وبين الله في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن في تلك الصلاة كان نطقهم بالله عز وجل.

يتبع..
أبو أنور غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس