الموضوع: اللمعات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2011
  #22
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: اللمعات

اللمعة السادسة والعشرون

((رسالة الشيوخ))

((هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين نور رجاء وضياء تسلٍ))(1).

تنبيه

ان السبب الذي دعاني الى تسجيل ما كنت اعانيه من آلام معنوية في مستهل كل رجاء بأسلوب مؤثر جداً الى حد يثير فيكم الألـم ايضاً، انـما هو لبيان مدى قوة مفعول العلاج الوارد من القرآن الـحكيم وشدة تأثيره الـخارق.

بيد ان هذه ((اللمعة)) التي تـخصّ الشيوخ لـم تـحافظ على حسن البيان، وجـمال الافادة لعدة اسباب:

اولـها: لأنها تـخص احداث حياتي الشخصية ووقائعها، فالذهاب عبر الـخيال الى تلك الازمنة، ومعايشة احداثها، ومن ثـم تناولـها بالكتابة بتلك الـحالة، سبـّب عدم الـمحافظة على الانتظام في البيان والتعبير.

ثانيها: اعترى البيان شيء من الاضطراب، لأن الكتابة كانت بعد صلاة الفجر، حيث كنت اشعر حينها بتعب وانهاك شديدين، فضلاً عن الاضطرار الى الاسراع في الكتابة.

ثالثها: لـم يكن لدينا متسع من الوقت للقيام بالتصحيح الكامل؛ فالكاتب الذي كان معي مرهق بشؤون ((رسائل النور)) وكثيراً ما كان يعتذر عن الـحضور مـما أفقد الـمضمون التناسق الـمطلوب.

رابعها: لـم نستطع الاّ الاكتفاء بالتصحيحات والتعديلات العابرة دون التوغل في اعماق الـمعاني؛ لـما كنا نـحسّ به من تعب ونصب عقب التأليف، فلا جرم ان رافق الـموضوع شيء من التقصير في التعبير والأداء.

لذا نهيب بالشيوخ الكرام أن ينظروا بعين الصفح والسماح الى قصوري في الاداء، وان يـجعلوني ضمن دعواتهم عندما يرفعون اكـّفهم متضرعين الى الله الرحـيم الذي لا يردّ دعوات الشيوخ الطيبين…





بِسْمِ اللهِ الـرَّحـمنِ الـرَّحيْمِ

} كهيعص ` ذِكـْرُ رَحأْمَتِ رَبـِّكَ عَبـْدَهُ زكريـّا ` إذْ نادى رَبـَّهُ نِداءً خَفِيـّاً ` قال ربّ إني وهَنَ العـَظمُ مِنـّي واشَتـَعَلَ الرَّأسُ شَيباً ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيـّاً{ (مريـم:1-4)

(هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين رجاء)

الرجاء الاول

يا من بلغتم سنّ الكمال، ايها الاخوة الشيوخ الاعزاء، ويا ايتها الاخوات العجائز الـمحترمات! انني مثلكم شيخ كبير، سأكتب لكم بعض مامرّ عليّ من احوال، وما وجدته بين حين وآخر من ابواب الامل، وبوارق الرجاء في عهد الشيخوخة، لعلكم تشاركونني في انوار السلوة الـمشعة من تلكم الرجايا والآمال. ان ما رأيته من الضياء، وما فتحه الله عليّ من ابواب النور والرجاء، انـّما شاهدته حسب استعدادي الناقص وقابلياتي الـمشوشة، وستجعل استعداداتكم الـخالصة الصافية – بإذن الله – ذلك الضياء اسطع وأبهر مـما رأيته، وذلكم الرجاء اقوى وامتن مـما وجدته.

ولاريب انّ منبع ماسنذكره من الاضواء ومصدر ما سنورده من الرجايا ما هو الاّ ((الإيـمان)).

الرجاء الثاني

حينما شارفت على الشيخوخة، وفي احد ايام الـخريف، وفي وقت العصر، نظرت الى الدنيا من فوق ذروة جبل، فشعرت فجأة حالة في غاية الرقة والـحزن مع ظلام يكتنفها، تدب في اعماقي.. رأيت نفسي: انني بلغت من العمر عتياً، والنهار قد غدا شيخاً، والسنة قد اكتهلت، والدنيا قد هرمت.. فهزّني هذا الهرم الذي يغشى كل شيء حولي هزّاً عنيفاً. فلقد دنا أوان فراق الدنيا، واوشك أوان فراق الاحباب ان يحلّ.. وبينما اتـململ يائساً حزيناً اذا بالرحـمة الإلـهية تنكشف امامي انكشافاً حوّل ذلك الـحزن الـمؤلـم الى فرحة قلبية مشرقة، وبدّل ذلك الفراق الـمؤلـم للاحباب الى عزاء يضىء جنبات النفس كلها.

نعم يا امثالي من الشيوخ! ان الله سبحانه وتعالى الذي يقدّم ذاته الـجليلة الينا، ويعرّفها لنا في اكثر من مائة موضع في القرآن الكريـم، بصفة ((الرحـمن الرحيم)).. والذي يرسل رحـمته بـما يسبغ على وجه الارض دوماً من النعم، مدداً وعوناً لـمن استرحـمه من ذوي الـحياة، والذي يبعث بهداياه من عالـم الغيب فيغمر الربيع كل سنة بنعم لاتعد ولاتـحصى، يبعثها الينا نـحن الـمحتاجين الى الرزق، مظهراً بها بـجلاء تـجليات رحـمته العميقة، وفق مراتب الضعف ودرجات العجز الكامنة فينا. فرحـمة خالقنا الرحيم هذه اعظمُ رجاءً، واكبر أملاً في عهد شيخوختنا هذه، بل هي اسطع نوراً لنا.

ان ادراك تلك الرحمة والظفر بها، انـّما يكون بالانتساب الى ذلك ((الرحـمن)) بالإيـمان، وبالطاعة له سبحانه باداء الفرائض والواجبات.

الرجاء الثالث

حينما أفقت على صبح الـمشيب، من نوم ليل الشباب، نظرت الى نفسي متأملاً فيها، فوجدتها كأنها تنحدر سعياً من علٍ الى سواء القبر، مثلما وصفها نيازي الـمصري(1):

بناء العمر يذوي حجراً إثر حجر غافلاً يغط الروح وبناؤه قد اندثر

فجسمي الذي هو مأوى روحي، بدأ يتداعى ويتساقط حجراً إثر حجر على مرّ الايام.. وآمالي التي كانت تشدّني بقوة الى الدنيا، بدأت اوثاقها تنفصم وتنقطع. فدب فيّ شعور بدنو وقت مفارقة من لايـحصى من الاحبة والاصدقاء، فاخذت ابـحث عن ضماد لـهذا الـجرح الـمعنوي الغائر، الغائر، الذي لا يرجى له دواء ناجع كما يبدو!. لـم استطع أن اعثر له على علاج، فقلت ايضاً كما قال نيازي الـمصري:

حكمة الاله تقضـي فناء الـجسد والقلــب تواق الـى الابـــــد

لـهف نفـســي من بلاء وكـمــد حار لـقمان في أيـجاد الضمد

وبينما كنت في هذه الـحالة اذا بنور الرسول الكريـم e الذي هو رحـمة الله على العالـمين، ومثالها الذي يعبـّر عنها، والداعي إليها، والناطق بها، واذا بشفاعته، وبـما أتاه من هداية الـهداية الى البشرية، يصبح يلسماً شافياً، ودواءاً ناجعاً لذلك الداء الوخيم الذي ظننته بلا دواء، ويبدل ذلك اليأس القاتـم الذي احاطني الى نور الرجاء الساط.

اجل، ايها الشيوخ وايتها العجائز الـموقرون، ويامن تشعرون كلكم بالشيخوية مثلي!. اننا راحلون ولامناص من ذلك.. ولن يُسمح لنا بالـمكوث هنا بـمخادعة النفس واغماض العين، فنحن مساقون الى الـمصير الـمحتوم. ولكن عالـم البرزخ، ليس هو كما يتراءى لنا بظلمات الاوهام الناشئة من الغفلة، وبـما قد يصوره اهل الضلالة، فليس هو بعالـم الفراق، ولا بعالـم مظلم بل هو مـجمع الأحباب، وعالـم اللقاء مع الاحبة والاخلاّء، وفي طليعتهم حبيب رب العالـمين وشفيعنا عنده يوم القيامة عليه افضل الصلاة والسلام.

نعم، ان مَن هو سلطان ثلاثـمائة وخـمسين مليوناً من الناس في كل عصر، عبر ألف وثلاثـمائة وخـمسين سنة وهو مربـّى ارواحهم، ومرشد عقولـهم، ومـحبوب قلوبهم، والذي يُرفع الى صحيفة حسناته يومياً امثال ما قدمت أمته من حسنات، اذ ((السبب كالفاعل)) والذي هو مدار الـمقاصد الربانية، ومـحور الغايات الإلـهية السامية في الكون، والذي هو السبب لرقي قيمة الـموجودات وسـمـّوها، ذلك الرسول الاكرم e ، فكما أنه قال في الدقائق الاولى التي تشرّف العالـم به ((امتي.. امتي..)) كما ورد في الروايات الصحيحة والكشفيات الصادقة، فانه e يقول في الـمحشر ايضاً: ((امتي.. امتي..)) ويسعى بشفاعته الى امداد امته واغاثتها باعظم رحـمة واسـماها واقدسها واعلاها، في الوقت الذي يقول كلّ فرد من الـجموع العظيمة: ((نفسي.. نفسي)). فنـحن اذن ذاهبون الى العالـم الذي ارتـحل اليه هذا النبي الكريـم، راحلون الى العالـم الذي استنار بنور ذلك السراج الـمنير وبـمن حوله من نـجوم الاصفياء والاولياء الذين لايـحصرهم العد.

نعم، ان اتباع السنة الشريفة لـهذا النبي الكريـم e هو الذي يقود الى الانضواء تـحت لواء شفاعته والاقتباس من انواره، والنـجاة من ظلمات البرزخ.

الرجاء الرابع

حينما وطأت قدماي عتبة الشيخوخة، كانت صحتي الـجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتـمدّها قد اعتلـّت ايضاً فاتفقت الشيخوخة والـمرض معاً على شن الـجوم عليّ، ومازالا يكيلان على راسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عنـّي. ولـم يكن لي ثـمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدت ان عصارة عمري الذي اضعته بغفلة الشباب، انـما هي آثام وذنوب، فاستغثتُ صائحاً مثلـما صاح نيازي الـمصري:

ذهب العُمر هباءً، لـم أفز فيه بشيء

ولقد جئت اسير الدرب، لكنْ

رحل الرّكبُ بعيداً

وبقيتْ

ذلك النائي الغريب

وبكيتْ

همتُ وحدي تائهاً اطوي الطريق

وبعينيّ ينابيع الدموع

وبصدري حرقة الشوق

حار عقلي..!

كنت حينها في غربة مضنية، فشعرت بحزن يائس، واسف نادم، وحسرة ملتاعة على ما فات من العمر. صرخت من اعماقي اطلب امداد العون، وضياء الرجاء.. واذا بالقرآن الـحكيم الـمعجز البيان يـمدّني، ويسعفني، ويفتح امامي باب رجاء عظيم، ويـمنحني نوراً ساطعاً من الامل والرجاء يستطيع ان يزيل اضعاف اضعاف يأسي، ويـمكنه ان يبدد تلك الظلمات القاتـمة من حولي.

نعم، ايها الشيوخ وايتها العجائز الـمحترمون، يامَن بدأت اوثاق صلتهم بالانفصام عن الدنيا مثلي! ان الصانع ذا الـجلال الذي خلق هذه الدنيا كأكمل مدينة وأنظمها، حتى كأنها قصر منيف، هل يـمكن لـهذا الـخالق الكريـم الاّ يتكلم مع احبائه واكرم ضيوفه في هذه الـمدينة او في هذا القصر؟ وهل يـمكن الاّ يقابلهم؟!!

فما دام قد خلق هذا القصر الشامخ بعلم، ونظمه بارادة، وزيـّنه باختيار، فلابد انه يتكلم؛ اذ كما ان الباني يعلم، فالعالـم يتكلم. وما دام قد جعل هذا القصر دار ضيافة جـميلة بهيجة، وهذه الـمدينة متجراً رائعاً، فلابد ان يكون له كتب وصحف يبين فيها مايريده منا، ويوضح علاقاته معنا.

ولاشك ان اكمل كتاب من تلك الكتب الـمقدسة التي انزلـها، انـما هو القرآن الـحكيم الـعجز، الذي ثبت اعجازه بأربعين وجهاً من وجوه الاعـجاز، والذي يتلى في كل دقيقة بألسنة مائة مليون شخص في الاقل، والذي ينشر النور ويـهدي السبيل. والذي في كل حرف من حروفه عشر حسنات، وعشر مثوبات في الاقل، واحياناً عشرة آلاف حسنة، بل ثلاثين ألف حسنة، كما في ليلة القدر. وهكذا يـمنح من ثـمار الـجنة ونور البرزخ ما شاء الله ان يـمنح. فهل في الكون اجـمع كتاب يناظره في هذا الـمقام، وهل يـمكن ان يدّعي ذلك احد قط؟

فـما دام هذا القرآن الكريـم الذي بين ايدينا هو كلام رب العالـمين، وهو أمره الـمبلـّغ الينا، وهو منبع رحـمته التي وسعت كل شيء، وهو صادر من خالق السـموات والارض ذي الـجلال، من جهة ربوبيته الـمطلقة، ومن جهة عظمة ألوهيته، ومن جانب رحـمته الـمحيطة الواسعة، فاستمسك به واعتصم، ففيه دواء لكل داء، ونور لكل ظلام، ورجاء لكل يأس.. وما مفتاح هذه الـخزينة الابدية الاّ الإيـمان والتسليم، والاستماع اليه، والانقياد له، والاستمتاع بتلاوته.

الرجاء الـخامس

في بداية شيخوختي ومستهلها، ورغبة منـّي في الانزواء والاعتزال عن الناس، بـحثَت روحي عن راحة في الوحدة والعزلة على تل ((يوشع)) الـمطل على البسفور. فلما كنت – ذات يوم – اسرح بنظري الى الافق من على ذلك التل الـمرتفعـ رأيت بنذير الشيخوخة لوحة من لوحات الزوال والفراق تتقطر حزناً ورقة، حيث جُلتُ بنظري من قمة شـجرة عمري، من الغصن الـخامس والاربعين منها، الى ان انتهيت الى اعماق الطبقات السفلى لـحياتي، فرأيت ان في كل غصن من تلك الاغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة، جنائز لاتـحصر من جنائز احبائي واصدقائي وكل مَن له علاقة معي. فتأثرت بالغ التأثر من فراق الاحباب وافتراقهم، وترنـمت بأنين ((فضولي البغدادي))(1) عند مفارقته الاحباب قائلاً:

كلــما حــنَّ الوصـال عَذبٌ دمعي مادام الشهيق

لقد بـحثتُ من خلال تلك الـحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أسلـّى بها نفسي. فاذا بنور الإيـمان بالاخرة يغيثني ويـمدّني بنور باهر. انه منحني نوراً لاينطفىء ابداً، ورجاءً لا يـخيب مطلقاً.

اجل يا اخواني الشيوخ ويا اخواتي العجائز! مادامت الآخرة موجودة، ومادامت هي باقية خالدة، ومادامت هي اجـمل من الدنيا، ومادام الذي خلقنا حكيماً ورحيماً؛ فما علينا اذاً إلاّ عدم الشكوى من الشيخوخة، وعدم التضجر منها؛ ذلك لان الشيخوخة الـمشرّبة بالإيـمان والعبادة، والـموصلة الى سنّ الكمال، ماهي الاّ علامة انتهاء واجبات الـحياة ووظائفها، واشارة ارتـحال الى عالـم الرحـمة للخلود الى الراحة. فلابدّ اذن من الرضا بها اشدّ الرضا.

نعم ان اخبار مائة واربعة وعشرين ألفاً من الـمصطفين الاخيار وهم الانبياء والـمرسلون(2) عليهم الصلاة والسلام – كما نص عليه الـحديث – اخباراً بالاجـماع والتواتر مستندين الى الشهود عند بعضهم والى حق اليقين عند آخرين، عن وجود الدار الآخرة، واعلانهم بالاجـماع ان الناس سيساقون اليها، وان الـخالق سبحانه وتعالى سيأتي بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعداً قاطعاً.

وان تصديق مائة واربعة وعشرين مليوناً من الاولياء كشفاً وشهوداً ما اخبر به هؤلاء الانبياء عليهم السلام، وشهادتهم على وجود الآخرة بعلم اليقين، دليل قاطع وايّ دليل على وجود الآخرة.

وكذا، فان تـجليات جـميع الاسـماء الـحسنى لـخالق الكون الـمتجلـّية في ارجاء العالـم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالـم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة.

وكذا القدرة الإلـهية وحكمتها الـمطلقة، التي لا اسراف فيها ولا عبث، والتي تـحيي جنائز الاشـجار الـميتة وهياكلها الـمنتصبة، تـحييها وهي لاتعد ولاتـحصى على سطع الارض في كل ربيع، وفي كل سنة، بأمر ((كن فيكون)) وتـجعلها علامة على ((البعث بعد الـموت)) فتحشر ثلاثـمائة ألف نوع من طوائف النباتات وأمـم الـحيوانات وتنشرها، مظهرةً بذلك مئات الالوف من نـماذج الـحشر والنشور ودلائل وجود الآخرة.

وكذا الرحـمة الواسعة التي تديـم حياة جـميع ذوي الارواح الـمحتاجة الى الرزق، وتعيـّشها بكنال الرأفة عيشة خارقة للغاية. والعناية الدائمة التي تظهر انواع الزينة والـمحاسن بـما لا يُعد ولايـحصى، في فترة قصيرة جداً في كل ربيع. لاشك انهما تستلزمان وجود الآخرة بداهة.

وكذا عشق البقاء، والشوق الى الابدية وآمال السرمدية الـمغروزة غرزاً لا انفصام لـها في فطرة هذا الانسان الذي هو اكمل ثـمرة لـهذا الكون، واحب مـخلوق الى خالق الكون، وهو اوئق صلة مع موجودات الكون كله، لاشك انه يشير بالبداهة الى وجود عالـم باقٍ بعد هذا العالـم الفاني، والى وجود عالـم الآخرة ودار السعادة الابدية.

فـجميع هذه الدلائل تثبت بقطعية تامة – الى حدّ يستلزم القبول – وجود الآخرة بـمثل بداهة وجود الدنيا(1).

فما دام أهم درس يلقننا القرآن أيـّاه هو ((الإيـمان بالآخرة)) وهذا الدرس رصين ومتين الى هذه الدرجة، وفي ذلك الإيـمان نور باهر ورجاء شديد وسلوان عظيم مالو اجتمعت مائة الف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء وذلك السوان النابع من هذا الإيـمان؛ لذا علينا نـحن الشيوخ ان نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين: ((الـحمد لله على كمال الإيـمان)).

الرجاء السادس

حينما كنت في منفاي ذلك الاسر الاليم بقيت وحدي منفرداً منعزلاً عن الناس على قمة جبل ((جام)) الـمطلة على مراعي ((بارلا)).. كنت ابـحث عن نور في تلك العزلة. وذات ليلة، في تلك الغرفة الصغيرة غير الـمسقفة، الـمنصوبة على شجرة صنوبر عالية على قمة ذلك الـمرتفع، اذا بشيخوختي تشعرني بألوان وانواع من الغربة الـمتداخلة – كما جاء ذلك في الـمكتوب السادس بوضوح – ففي سكون تلك الليلة حيث لا اثر ولا صوت سوى ذلك الصدى الـحزين لـحفيف الاشجار وهمهمتها.. احسست بأن ذلك الصدى الاليم قد اصاب صميم مشاعري، ومس اعماق شيخوختي وغربتي، فهمّست الشيخوخةُ في اذني منذرةً:

ان النهار قد تبدل الى هذا القبر الـحالك، ولبست الدنيا كفنها الاسود، فسوف يتبدل نهار عمرك الى ليل، وسف ينقلب نهار الدنيا الى ليل البرزخ، وسوف يتحول نهار صيف الـحياة الى ليل شتاء الـموت.

فأجابتها نفسي على مضض:

نعم، كما انني غريبة هنا عن بلدتي ونائية عن موطني، فان مفارقتي لاحبائي الكثيرين خلالا عمري الذي ناهز الـخمسين ولا املك سوى تذراف الدموع وراءهم هي غربة تفوق غربتي عن موطني.. واني لأشعر في هذه الليلة غربة اكثر حزناً واشد ألـماً من غربتي على هذا الـجبل الذي توشح بالغربة والـحزن، فشيخوختي تنذرني بدنوي من موعد فراق نهائي عن الدنيا وما فيها، ففي هذه الغربة الـمكتنفة بالـحزن، ومن خلال هذا الـحزن الذي يـمازجه الـحزن، بدأتُ ابحث عن نور، وعن قبس امل، وعن باب رجاء، وسرعان ما جاء ((الإيـمان بالله)) لـنجدتي ولشد ازري، ومنحني أنساً عظيماً بـحيث لو تضاعفت آلامي ووحشتي اضعافاً مشاعفة لكان ذلك الانس كافياً لإزالتها.

نعم، ايها الشيوخ، ويا ايتها العجائز!.. فـما دام لنا خالق رحيم، فلا غربة لنا اذاً ابداً.. ومادام سبحانه موجوداً فكل شيء لنا موجود اذاً، ومادام هو موجوداً وملائكته موجودة. فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولاحسيس، وهذه الـجبال الـخاوية، وتلك السحارى الـمقفرة كلها عامرة ومأهولة بعبادة الله الـمكرمين، بالـملائكة الكرام. نعم، ان نور الإيـمان بالله سبحانه، والنظرة الى الكون لاجله، يـجعل الاشجار بل حتى الاحجار كأنها اصدقاء مؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من عباده، حيث يـمكن لتلك الـموجودات ان تتكلم معنا – بلسان الـحال – بـما يسلينا ويروّح عنا.

نعم، ان الدلائل على وجوده سبحانه بعدد موجودات هذا الكون، وبعدد حروف كتاب العالـم الكبير هذا، وهناك دلائل وشواهد على رحـمته بعدد اجهزة ذوي الارواح وما خصهم من نِعَمه ومطعوماته التي هي مـحور الشفقة والرحـمة والعناية، فجميعها تدل على باب خالقنا الرحيم والكريـم، وصانعنا الانيس، وحامينا الودود، ولاشك ان العجز والضعف هما ارجى شفيعين عند ذلك الباب السامي. وان عهد الشيب أوانهما، ووقت ظهورهما، فعلينا إذن ان نوّد الشيخوخة، وان نـحبها، لا ان نعرض عنها؛ اذ هي شفيع مرتـجى امام ذلك الباب الرفيع.

الرجاء السابع

حينما تبدلت نشوة ((سعيد القديـم)) وابتساماته الى نـحيب ((سعيد الـجديد)) وبكائه، وذلك في بداية الـمشيب، دعاني ارباب الدنيا في ((انقرة)) اليها، ظناً منهم انني ((سعيد القديـم)) فاستجبت للدعوة.

ففي ذات يوم من الايام الاخيرة للخريف، صعدت الى قمـّة قلعة انقرة، التي اصابها الكبر والبلى اكثر مني، فتمثـلـّت تلك القلعة امامي كأنها حوادث تأريـخية متحجرة، واعتراني حزن شديد واسى عميق من شيب السنة في موسم الـخريف، ومن شيبي انا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الـخلافة، ومن شيخوخة الدنيا، فاضطرتني تلك الـحالة الى النظر من ذروة تلك القلعة الـمرتفعة الى اودية الـماضي وشواهق الـمستقبل، أنقب عن نور، وابـحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من اكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم الـمتداخل الـمحيط(1).

فـحينما نظرت الى اليـمين الذي هو الـماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الـجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي واجدادي والنوع الانساني، فأوحشتني بدلاً من ان تسلـّيني.

ثم نظرت الى يسار الذي هو الـمستقبل مفتشاً عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضا من ان يؤنسني.

ثـم نظرت الى زمني الـحاضر بعد ان امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الـحسير ونظرتي التأريـخية على شكل نعش لـجنازة جسمي الـمضطرب كالـمذبوح بين الـموت والـحياة.

فلما يئست من هذه الـجهة ايضاً، رفعت رأسي ونظرت الى قمة شـجرة عمري، فرأيت ان على تلك الشجرة ثـمرة واحدة فقط، وهي تنظر اليّ، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظراً الى جذور شجرة عمري، فرأيت ان التراب الذي هناك ما هو الاّ رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تـحت الاقدام، فأضافا الى دائي داء من دون ان يـمنحاني دواءً.

ثـم حوّاتُ نظري على مضض الى ما ورائي، فرأيت ان هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في اودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من ان تواسيها بالـمرهم والعلاج الشافي.

ولـما لـم أجد في تلك الـجهة خيراً ولا أملاً، ولـّيت وجهي شطر الامام ورنوت بنظري بعيداً، فرأيت ان القبر واقف لي بالـمرصاد على قارعة الطريق، فاغراً فاه، يـحدق بي، وخلفه الصراط الـممتد الى حيث الابد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد. وليس لي من نقطة استناد امام هذه الـمصائب الـمدهشة التي تأتيني من الـجهات الست، ولا املك سلاحاً يدفع عني غير جزء ضئيل من الارادة الـجزئية. فليس لي اذن امام كل اولئك الاعداء الذين لا حصر لـهم، والاشياء الـمضرة غير الـمحصورة، سوى السلاح الانساني الوحيد وهو الـجزء الاختياري. ولكن لـما كان هذا السلاح ناقصاً وقاصراً وعاجزاً، ولا قوة له على ايـجاد شيء، وليس في طوقه الاً الكسب فحسب، حيث لا يستطيع ان يـمضي الى الزمان الـماضي ويذبّ عني الاحزان ويسكتها، ولايـمكنه ان ينطلق الى الـمستقبل حتى يـمنع عنّي الاهوال والـمخاوف الواردة منه، أيقنت الاّ جدوى منه فيما يـحيط بي من آلام وآمال الـماضي والـمستقبل.

وفيما كنت مضطرباً وسط الـجهات الست تتولى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، اذ بأنوار الإيـمان الـمتألقة في وجه القرآن الـمعجز البيان، تـمدني وتضيء تلك الـجهات الست وتنورها بانوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وانواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الانوار كافية ووافية لإحاطتها.

فبدّلت – تلك الانوار – السلسلة الطويلة من الوحشة الى سلوان ورجاء، وحولـّت كل الـمخاوف الى انس القلب، وامل الروح الواحدة تلو الاخرى.

نعم، ان الإيـمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالـمقبرة الكبرى، وحوّلـها الى مـجلس منوّر أنوس والى ملتقى الاحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين…

ثـم ان الإيـمان قد أظهر بعلم اليقين ان الـمستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة، كقبر واسع كبير ما هو الاّ مـجلس ضيافة رحـمانية اعدّت في قصور السعادة الـخالدة.

ثـم ان الإيـمان قد حطـّم صورة التابوت والنعش للزمن الـحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، واشهدني ان اليوم الـحاضر انـما هو متجر اخروي، ودار ضيافة رائعة للرحـمن.

ثم ان الإيـمان قد بصـّرني بعلم اليقين ان ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شـجرة العمر على شكل نعش وجنازة. انها ليست كذلك، وانـما هي انطلاق لروحي – التي هي اهل للـحياة الابدية ومرشحة للسعادة الابدية – من وكرها القديـم الى حيث آفاق النـجوم للسياحة والارتياد.

ثـم ان الإيـمان قد بيـّن باسراره؛ ان عظامي ورميمها وتراب بداية خلقتي، ليسا عظاماً حقيرة فانية تداس تـحت الاقدام، وانـما ذلك التراب باب للرحـمة، وستار لسرادق الـجنة.

ثم ان الإيـمان أراني بفضل اسرار القرآن الكريـم ان احوال الدنيا واوضاعها الـمنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم – كما ظنّ في بادىء الامر – بل انها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للاسـماء السبحانية قد اتـّمت مهامها، وأفادت معانيها، واخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيـمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين.

ثم ان الإيـمان قد اوضح لي بنور القرآن ان ذلك القبر الذي احدق بي ناظراً ومنتظراً ليس هو بفوهة بئر، وانـما هو باب لعالـم النور. وان ذلك الطريق الـمؤدي الى الابد ليس طريقاً مـمتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل انه سبيل سوي الى عالـم النور، وعالـم الوجود وعالـم السعادة الـخالدة.. وهكذا اصبحت هذه الاحوال دواء لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة.

ثـم، ان الإيـمان يـمنح ذلك الـجزء الضئيل من – الـجزء الاختياري – الذي يـملك كسباً جزئياً للغاية، وثيقة يستند بها الى قدرة مطلقة، وينتسب بها الى رحـمة واسعة، ضد تلك الكثرة الكاثرة من الاعداء والظلمات الـمحيطة، بل ان الإيـمان نفسه يكون وثيقة بيد الـجزء الاختياري. ثـم ان هذا الـجزء الاختياري الذي هو السلاح الانساني، وان كان في حد ذاته ناقصاً عاجزاً قاصراً، الاّ أنه اذا استعمل باسم الـحق سبحانه، وبذل في سبيله، ولاجله، يـمكن ان ينال به – بـمقتضى الإيـمان – جنة ابدية بسعة خـمسمائة سنة. مَثَلُ الـمؤمن في ذلك مثل الـجندي اذا استعمل قوته الـجزئية باسم الدولة فانه يسهل له ان يؤدي اعمالاً تفوق قوته الشخصية بألوف الـمرات.

وكما ان الإيـمان يـمنح الـجزء الاختياري وثيقة، فانه يسلب زمامه من قبضة الـجسم الذي لايستطيع النفوذ في الـماضي ولا في الـمستقبل، ويسلمه الى القلب والروح، ولعدم انـحصار دائرة حياة الروح والقلب في الزمن الـحاضر كما هو في الـجسد، ولدخول سنوات عدة من الماضي وسنوات مثلها من الـمستقبل في دائرة تلك الـحياة، فان ذلك الـجزء الاختياري ينطلق من الـجزئية مكتسباً الكلية. فكما انه يدخل بقوة الإيـمان في اعمق اودية الـماضي مبدداً ظلمات الاحزان، كذلك يصعد مـحلقاً بنور الإيـمان الى ابعد شواهق الـمستقبل مزيلاً اهواله ومـخاوفه.

فيا ايها الاخوان الشيوخ، ويا ايتها الاخوات العجائز، ويا من تتألـمون مثلي من تعب الـمشيب! ما دمنا والـحمد لله من اهل الإيـمان، والإيمان فيه خزائن حلوة نيرة لذيذة مـحبوبة الى هذا الـحد، وان شيبنا يدفعنا الى هذه الـخزائن دفعاً اكثر، فليس لنا التشكي من الشيخوخة اذاً، بل يـجب علينا ان نقدم ألف شكر وشكر الى الله عزّ وجلّ، وان نـحمده تعالى على شيبنا الـمنوّر بالإيـمان.

الرجاء الثامن

حينما خالط بعض شعرات رأسي البياض الذي هو علامة الشيخوخة، وكانت اهوال الـحرب العالـمية الاولى وما خلفه الاسر لدى الروس من آثار عميقة في حياتي عمـّقت فيّ نوم غفلة الشباب. وتلا ذلك استقبال رائع عند عودتي من الاسر الى استانبول، سواء من قبل الـخليفة او شيخ الإسلام، او القائد العام، او من قبل طلبة العلوم الشرعية، وما قوبلت به من تكريـم وحفاوة اكثر مـما استحق بكثير.. كل ذلك ولـّد عندي حالة روحية فضلاً عن سكرة الشباب وغفلته، وعمـّقتْ فيّ ذلك النوم اكثر، حتى تصورت معها ان الدنيا دائمة باقية، ورأيت نفسي في حالة عجيبة من الالتصاق بالدنيا كأنني لا أموت.

ففي هذا الوقت، ذهبت الى جامع بايزيد في استانبول، وذلك في شهر رمضان الـمبارك لأستمع للقرآن الكريـم من الـحفاظ الـمخلصين، فاستمعت من لسان اولئك الـحفاظ ما اعلنه القرآن الـمعجز بقوة وشدة، خطابه السماوي الرفيع في موت الانسان وزواله، ووفاة ذوي الـحياة وموتهم، وذلك بنص الآية الكريـمة:

} كُلُّ نَفس ذائِقةُ الموْت { (آل عمران:185).

نفذ هذا الاعلان الداوي صماخ أذني مـخترقاً ومـمزقاً طبقات النوم والغفلة والسكرة الكثيفة الغليظة حتى استقر في اعماق اعماق قلبي.

خرجت من الـجامع، رايت نفسي لبضعة ايام، كأن اعصاراً هائلاً يضطرم في رأسي بـما بقي من آثار ذلك النوم الـمستقر فيّ منذ امد طويل، ورأيتني كالسفينة التائهة بين أمواج البـحر الـمضطربة البوصلة. كانت نفسي تتأجج بنار ذات دخان كثيف.. وكلما كنت انظر الى الـمرآة، كانت تلك الشعرات البيضاء تـخاطبني قائلة: انتبه!!!.

نعم ان الامور توضحت عندي بظهور تلك الشعرات البيضاء وتذكيرها إياي، حيث شاهدت ان الشباب الذي كنت أغتر به كثيراً، بل كنت مفتوناً باذواقه يقول لي: الوداع! وان الـحياة الدنيا التي كنت ارتبط بـحبها بدأت بالانطفاء رويداً رويداً، وبدت لي الدنيا التي كنت اتشبث بها، بل كنت مشتاقاً اليها وعاشقاً لـها، رأيتها تقول لي: الوداع!! الوداع!! مشعرة اياي، بانني سأرحل من دار الضيافة هذه، وسأغادرها عما قريب. ورأيتها – أي الدنيا – هي الاخرى تقول: الوداع، وتتهيأ للرحيل. وانفتح الى القلب من كلية هذه الآية الكريـمة } كُلُّ نَفس ذائِقةُ الموْت { (آل عمران:185) ومن شـموليتها، ذلك الـمعنى الذي يتضمنها وهو:

ان البشرية قاطبة انـما هي كالنفس الواحدة، فلابد انها ستموت كي تبعث من جديد، وان الكرة الارضية كذلك نفسٌ فلابد انها سوف تـموت ويصيبها البوار كي تتخذ هيأة البقاء وصورة الـخلود، وان الدنيا هي الاخرى نفسٌ وسوف تـموت وتنقضي كي تتشكل بصورة (آخرة).

فكرت فيما أنا فيه؛ فرأيت:

أن الشباب الذي هو مدار الاذواق واللذائذ، ذاهب نـحو الزوال، تارك مكانه للشيخوخة التي هي منشأ الاحزان. وان الـحياة الساطعة الباهرة لفي ارتـحال، ويتهيأ الـموت الـمظلم الـمخيف – ظاهراً – لـيحل مـحلها.

ورأيت الدنيا التي هي مـحبوبة وحلوة ومعشوقة الغفاة وتُظن انها دائمة، رأيتها تـجري مسرعة الى الفناء. ولكي انغمس في الغفلة واخادع نفسي ولـّيت نظري شطر اذواق الـمنزلة الاجتماعية ومقامها الرفي الذي حظيت به في استانبول والذي خُدعت به نفسي وهو فوق حدى وطوقي من حفاوة واكرام وسلوان واقبال واعجاب.. فرأيت أن جـميعها لا تصاحبني الاّ الى حد باب القبر القريب مني، وعنده تنطفىء.

ورأيت أن رياءً ثقيلاً، وأثرة باردة وغفلة مؤقتة، تكمن تـحت الستار الـمزركش للسمعة والصيت، التي هي الـمثل الاعلى لارباب الشهرة وعشاقها، ففهمت ان هذه الامور التي خدعتني حتى الآن لن تـمنحني أي سلوان، ولا يـمكن ان اتلمس فيها أي قبس من نور.

ولكي استيقظ من غفلتي مرة اخرى وانتبه منها نهائياً، بدأت بالاستماع كذلك لأولئك الـحفاظ الكرام في ((جامع بايزيد)) لأتلقى الدرس السماوي للقرآن الكريـم.. وعندها سمعت بشارات ذلك الارشاد السماوي من خلال الاوامر الربانية الـمقدسة في قوله تعالى:

} وبـَشـِّر الذين آمنوا… { (البقرة:25).

وبالفيض الذي اخذته من القرآن الكريـم تـحريت عن السلوة والرجاء والنور في تلك الامور التي ادهشتني وحيـّرتني في يأس ووحشة، دون البحث عنها في غيرها من الامور. فألف شكر وشكر للـخالق الكريم على ما وفقني لان أجد الدواء في الداء نفسه، وأن أرى النور في الظلمة نفسها، وان اشعر بالسلوان في الالـم والرعب ذاتهما.

فنظرت اول ما نظرت الى ذلك الوجه الذي يُرعب الـجميع ويُتوهم أنه مخيف جداً.. وهو وجه ((الـموت)) فوجدت بنور القرآن الكريم، ان الوجه الـحقيقي للـموت بالنسبة للمؤمن صبوح منور، على الرغم من ان حجابة مظلم والستر الذي يخفيه يكتنفه السواد القبيح الـمرعب. وقد اثبتنا واوضحنا هذه الـحقيقة بصورة قاطعة في كثير من الرسائل وبـخاصة في ((الكلمة الثامنة)) و ((الـمكتوب العشرين)) من ان الـموت: ليس اعداماً نهائياً، ولا هو فراقاً ابدياً، وانـما مقدمة وتـمهيد للحياة الابدية وبداية لـها. وهو إنهاء لأعباء مهمة الـحياة ووظائفها ورخصة منها وراحة واعفاء، وهو تبديل مكان بـمكان، وهو وصال ولقاء مع قافلة الاحباب الذين ارتـحلوا الى عالـم البرزخ.. وهكذا، بـمثل هذه الـحقائق شاهدت وجه الـموت الـمليح الصبوح. فلا غرو لـم انظر اليه خائفاً وجلاً، وانـما نظرت اليه بشيء من الاشتياق – من جهة – وعرفت في حينها سراً من اسرار ((رابطة الـموت)) التي يزاولـها اهل الطرق الصوفية.

ثم تأملت في ((عهد الشباب)) فرأيت أنه يُحزن الـجميع بزواله، ويـجعل الكل يشتاقون اليه وينبهرون به، وهو الذي يـمر بالغفلة والآثام، وقد مرّ شبابي هكذا! فرأيت أن ثـمة وجهاً دميماً جداً بل مسكراً ومـحيراً تـحت الـحلة القشيبة الفضفاضة الـملقاة عليه، فلو لـم اكن مدركاً كنهه لكان يبكيني ويـحزنني طوال حياتي الدنيا، حتى لو عمرت مائة سنة حيال بضع سنين تـمضي بشنوة وابتسامة، كما قال الشاعر الباكي على شبابه بـحسرة مريرة:

ألا ليت الشبابَ يعود يوماً فأُخبره بـما فعلَ الـمشيبُ

نعم ان الذين لـم يتبينوا سر الشباب وماهيته من الشيوخ يقضون شيخوختهم بالـحسرة والنـحيب على عهد شبابهم كهذا الشاعر. والـحال ان فتوة الشباب ونضارته اذا ما حلت في الـمؤمن الـمطمئن الـحصيف ذي القلب الساكن الوقور، واذا ما صُرفت طاقة الشباب وقوته الى العبادة والاعمال الصالـحة والتـجارة الاخروية، فانها تصبح اعظم قوة للخير وتغدو افضل وسيلة للتجارة، واجمل وساطة للحسنات بل ألذها.

نعم، ان عهد الشباب نفيس حقاً وثـمين جداً، وهو نعمة إلـهية عظمى، ونشوة لذيذة لـمن عرف واجبه الإسلامي ولـمن لـم يسىء استعماله. ولكن الشباب ان لـم تصحبه الاستقامة، ولـم ترافقه العفة والتقوى، فدونه الـمهالك الوبيلة، اذ يصدّع طيشه ونزواته سعادة صاحبه الابدية، وحياته الاخروية، وربـما يـحطم حياته الدنيا ايضاً. فيجرعه الآلام غصصاً طوال فترة الهرم والشيخوخة لـما أخذه في بضع سنين من اذواق ولذائذ.

ولـما كان عهد الشباب لا يـخلو من الضرر عند اغلب الناس، فعلينا اذن نـحن الشيوخ ان نشكر الله شكراً كثيراً على ما نـجّانا من مهالك الشباب واضراره. هذا وان لذات الشباب زائلة لا مـحالة، كما تزول جـميع الاشياء. فلئن صُرف عهد الشباب للعبادة، وبذل للخير والصلاح لكان دونه ثـماره الباقية الدائمة، وعنده وسيلة الفوز بشباب دائم وخالد في حياة ابدية.

ثـم نظرت الى ((الدنيا)) التي عشقها اكثر الناس، وابتلوا بها. فرأيت بنور القرآن الكريم ان هناك ثلاث دنىً كلية قد تداخل بعضها في البعض الآخر:

الاولى: هي الدنيا الـمتوجهة الى الاسـماء الإلـهية الـحسنى، فهي مرآة لـها.

الثانية: هي الدنيا الـمتوجهة نـحو الآخرة، فهي مزرعتها.

الثالثة: هي الدنيا الـمتوجهة الى ارباب الدنيا واهل الضلالة، فهي لعبة اهل الغفلة ولهوهم.

ورأيت كذلك ان لكل احد في هذه الدنيا دنيا عظيمة خاصة به، فهناك اذن دنىً متداخلة بعدد البشر. غير ان دنيا كل شخص قائمة على حياته الشخصية، فمتى ما ينهار جسم شخص فإن دنياه تتهدم وقيامته تقوم. وحيث ان الغافلين لايدركون انهدام دنياهم الـخاصة بهذه السرعة الـخاطفة؛ فهم يفتنون بها، ويظنونها كالدنيا العامة الـمستقرة من حولـهم.

فتأملت قائلاً: لاشك أن لي ايضاً دنيا خاصة – كدنيا غيري – تتهدم بسرعة – فما فائدة هذه الدنيا الـخاصة اذن في عمري القصير جداً؟!.. فرأيت بنور القرآن الكريم ان هذه الدنيا – بالنسبة لي ولغيري – ما هي الاّ متجر مؤقت، ودار ضيافة تـملأ كل يوم وتـخلى، وهي سوق مقامة على الطريق لتجارة الغادين والرائحين، وهي كتاب مفتوح يتجدد للبارىء الـمصور، فيمحو فيه ما يشاء ويثبته بـحكمة. وكل ربيع فيها رسالة مرصعة مذهـّبة، وكل صيف فيها قصيدة منظومة رائعة، وهي مرايا تتجدد مظهرة تـجليات الاسـماء الـحسنى للصانع الـجليل، وهي مزرعة لغراس الآخرة وحديقتها، وهي مزهرة الرحـمة الإلـهية، وهي مصنع موقت لتجهيز اللوحات الربانية الـخالدة التي ستظهر في عالـم البقاء والـخلود. فشكرتُ الله الـخالق الكريم اجزل شكر على خلقه الدنيا بهذه الصورة. بيد ان الانسان الذي مُنح حباً مقبلاً الى وجهي الدنيا الـحقيقيين الـمليحين الـمتوجهين الى الاسـماء الـحسنى والى الآخرة، اخطأ الـمرمى وجانب الصواب عندما استعمل تلك الـمحبة في غير مـحلها، فصرفها الى الوجه الفاني القبيح ذي الغفلة والضرر حتى حق عليه الـحديث الشريف ((حب الدنيا رأس كل خطيئة))(1).

فيا ايها الشيوخ ويا ايها العجائز!.

انني رأيت هذه الـحقيقة بنور القرآن الـحكيم، وبتذكير من شيخوختى، وبـما منحه الإيـمان لبصيرتي من نور، وقد اثبتـُّها في رسائل كثيرة مع براهين دامغة.. رايت أن هذه الـحقيقة هي السلوان الـحقيقي لي، وهي الرجاء القوي والضياء الساطع.. فرضيت بشيخوختي وهرمي وسررت من رحيل الشباب.

فلا تـحزنوا اذن، ولا تبكوا يا اخوتي الشيوخ على شيخوختكم بل احـمدوا الله واشكروه. وما دمتم تـملكون الإيـمان، والـحقيقة تنطق هكذا، فليبك اولئك الغافلون، وليحزن الضالون ولينتحبوا..

الرجاء التاسع

كنت اسيراً اثناء الـحرب العالـمية الاولى في مدينة قصية، في شمال شرقي روسيا تدعى ((قوصترما)). كان هناك جامع صغير للتتار على حافة نهر ((فولغا)) الـمشهور.. كنت ضجراً من بين زملائي الضباط الاسرى، فآثرت العزلة، الاّ أنه لـم يكن يسمح لي بالتجوال في الـخارج دون اذن ورخصة، ثم سـمح لي بأن أظل في ذلك الـجامع بضمانة اهل حيّ التتار وكفالتهم، فكنت انام فيه وحيداً، وقد اقترب الربيع، وكانت الليالي طويلة جداً في تلك البقعة النائية..

كان الارق يصيبني كثيراً في تلك الليالي الـحالكة السواد، الـمتسربلة باحزان الغربة القاتـمة، حيث لا يُسمع الاّ الـخرير الـحزين لنهر ((فولغا))، والاصوات الرقيقة لقطرات الامطار، ولوعة الفراق في صفير الرياح.. كل ذلك ايقظني – مؤقتاً – من نوم الغفلة العميق..

ورغم انني لـم اكن اعدّ نفسي شيخاً بعدُ، ولكن من يرى الـحرب شيخ، حيث ايامها يشيب من هولـها الولدان، وكأن سراً من اسرار الآية الكريـمة: } يَوماً يَجعلُ الوِلدانَ شيباً { (الـمزمل:17) قد سرى فيها. ومع انني كنت قريباً من الاربعين الاّ انني وجدتُ نفسي كأنني في الثمانين من عمري..

في تلك الليالي الـمظلمة الطويلة الـحزينة، وفي ذلك الـجو الغامر بأسى الغربة، ومن واقعي الـمؤلـم الاليم، جثم على صدري يأس ثقيل نـحو حياتي وموطني، فكلما التفتُّ الى عجزي وانفرادي انقطع رجائي واملي. ولكن جائني الـمدد من القرآن الكريم..

فردد لساني: } حسبنا الله ونعم الوكيل { (آل عمران:173)

وقال قلبي باكياً:

انا غريب.. انا وحيد.. انا ضعيف.. انا عاجز.. انشد الامان.. اطلب العفو.. اخطب العون.. في بابك يا إلـهي.

اما روحي التي تذكرت احبابي القدامى في بلدي، وتـخيلت موتي في هذه الغربة، فقد تـمثلت بأبيات نيازي الـمصري، وهي التي تبحث عن صديق:

مررت بأحزان الدنيا، واطلقت جناحي

للحرمان

طائراً في شوق، صائحاً في كل لـحظة:

صديق!.. صديق..!

على أي حال.. فقد اصبح ((عجزي)) و ((ضعفي)) في تلك الليالي الـمحزنة الطويلة والـحالكة بالفرقة والرقة والغربة وسيلتين للتقرب الى عتبة الرحـمة الإلـهية، وشفيعين لدى الـحضرة الإلـهية، حتى انني لا ازال مندهشاً كيف استطعت الفرار بعد ايام قليلة. واقطع بصورة غير متوقعة مسافة لا يـمكن قطعها مشياً على الاقدام الاّ في عام كامل، ولـم اكن ملمـّاً باللغة الروسية. فلقد تـخلصت من الاسر بصورة عجيبة مـحيـّرة، بفضل العناية الإلـهية التي ادركتني بناء على عجزي وضعفي، ووصلت استانبول ماراً بـ((وارشو)) و ((فينا)). وهكذا نـجوت من ذلك الاسر بسهولة تدعو الى الدهشة، حيث اكملت سياحة الفرار الطويل بسهولة ويسر كبيرين، بـحيث لـم يكن لينجزها اشجع الاشخاص وأذكاهم وامكرهم ومـمن يلمـّون باللغة الروسية.

ولكن حالتي في تلك الليلة التي قضيتها في الـجامع على ضفاف ((فولغا)) قد ألـهمتني هذا القرار:

((سأقضي بقية عمري في الكهوف والـمغارات معتزلاً الناس.. كفاني تدخلاً في امورهم. ولـما كانت نهاية الـمطاف دخول القبر منفرداً وحيداً، فعليّ ان اختار الانفراد والعزلة من الآن، لأعوّد نفسي عليها!.)).

نعم، هكذا قررت.. ولكن – وياللأسف – فان احبابي الكثيرين الـمخلصين في استانبول، والـحياة الاجتماعية البهيجة البرّاقة فيها، ولاسيما ما لا طائل فيه من اقبال الناس والشهرة والصيت.. كل ذلك أنساني قراري ذلك لفترة قصيرة. فكأن ليلة الغربة تلك هي السواد الـمنوّر البصير لعين حياتي، وكأن النهار البهيج لـحياة استانبول هي البياض غير البصير لعين حياتي. فلـم تتمكن تلك العين من رؤية البعيد، بل غطت ثانية في نوم عميق، حتى فتحها الشيخ الكيلاني بكتابه ((فتوح الغيب)) بعد سنتين.

وهكذا ايها الشيوخ، ويا ايتها العجائز!.. اعلموا ان ما في الشيخوخة من العجز والضعف ليسا الاّ وسيلتين لدرّ الرحـمة الإلـهية وجلب العناية الربانية.. فانني شاهد على هذه الـحقيقة في كثير من حوادث حياتي، وان تـجلي الرحمة على سطح الارض يظهرها كذلك بشكل واضح ابلج؛ لان اعجز الـحيوانات واضعفها هي صغارها، والـحال ان ألطف حالات الرحمـة وألذها واجملها تتجلى في تلك الصغار، فعجزُ الفرخ الساكن في عشـّه على شجرة باسقة، يستخدم والدته – بتجلي الرحـمة – كأنها جندية تنتظر الاوامر. فتحوم حول الزروع الـخضر لتجلب الرزق الوفير لفرخها الصغير، ولكن ما ان ينسى الفرخ الصغير عجزه – بنموّ جناحيه وتكامله – حتى تقول له والدته: عليك ان تبحث عن رزقك بنفسك. فلا تعود تستجيب لندائه بعد ذلك.

فكما يـجري سرّ الرحـمة هذا على هذه الصورة بـحق الصغار، يـجري كذلك من زاوية الضعف والعجز، بـحق الشيوخ الذين اصبحوا في حكم الصغار.

ولقد اعطتني تـجاربي الـخاصة القناعة التامة ان رزق الصغار مثلما يأتي بناء على عجزهم، وترسله الرحـمـة الإلـهية لـهم بشكل خارق، فتفجـّر ينابيع الاثداء وتسيلـّها لـهم سيلاً، فان رزق الشيوخ الـمؤمنين الذين اكتسبوا العصمة يُرسل اليهم من قبل الرحـمة على صورة بركة، وأن عمود البركة لأي بيت وسندها انـما هو اولئك الشيوخ الذين يأهلونه، وان الذي يـحفظ ذلك البيت من البلايا والـمصائب انـما هم اولئك الشيوخ الركع الذين يعمرونه. يثبت هذه الـحقيقة اثباتاً كاملاً جزء من حديث شريف: لولا الشيوخ الركع لصبّ عليكم البلاء صبـّاً(1).

وهكذا فما دام الضعف والعجز اللذان في الشيخوخة يصبحان مـحورين لـجلب الرحـمة الإلـهية الواسعة، وان القرآن الكريم يدعو الاولاد الى الاحترام والرأفة بالوالدين في خـمس مراتب، وبأسلوب غاية في الاعجاز، في قوله تعالى:

} إمـّا يَبلـُغَنّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحدُهُما أو كلاهما فلا تَقُل لـهما أفّ ولاتَنهَرهُما وقُل لُهما قولاً كريـماً ` واخفِضْ لُهما جَناحَ الذُلّ من الرحـمة وقُل ربّ ارحَمهُما كما ربـَّياني صغيرا { (الاسراء:23-24).

وما دام الإسلام يأمر بتوقير الشيوخ والرحـمة بهم، والفطرة الانسانية تقضي الاحترام والرحـمة تـجاه الشيوخ.. فلا بد لنا – نـحن الشيوخ – ألا! نستبدل شيخوختنا هذه بـمائة عهد من عهود الصبا؛ ذلك لان لنا فيها اذواقاً معنوية دائمة جديرة، بدلاً من الذوق الـمادي الناشيء من نزوة الشباب، حيث نأخذ اذواقاً روحية نابعة من الرحـمة الصادرة من العناية الإلـهية ومن الاحترام النابع من فطرة الانسانية.

نعم، انى اُطمئنكم بأنه لو اُعطيتُ عشر سنوات من عهد شباب ((سعيد القديـم)) فلن استبدلـها بسنة واحدة من شيب ((سعيد الـجديد)). فانا راضٍ عن شيخوختي، فارضوا عنها انتهم كذلك..

الرجاء العاشر

بعدما رجعت من الأسر، سيطرت الغفلة عليّ مرة اخرى طوال سنتين من حياتي في استانبول، حيث الأجواء السياسية وتياراتها صرفت نظري عن التأمل في نفسي، وحدثت تشتتاً في ذهني وفكري.

فحينما كنت جالساً ذات يوم في مقبرة ابي ايوب الانصاري رضي الله عنه وعلى مرتفع مطلّ على وادٍ سحيق، مستغرقاً في تأمل الافاق الـمحيطة باستانبول، اذا بي أرى كأن دنياي التخاصة اوشكت على الوفاة، حتى شعرت – خيالاً – كأن الروح تنسل منها انسلالاً من بعض نواحيّ. فقلت: تُرى هل الكتابات الـموجودة على شواهد هذه القبور هي التي دعتني الى هذا الـخيال؟

أشحتُ نظري عن الـخارج وانعمت النظر في الـمقبرة دون الآفاق البعيدة فألقى في روعي:

((ان هذه الـمقبرة الـمحيطة بك تضم مائة استانبول! حيث ان استانبول قد أفرغت فيها مائة مرة، فلن تُستثنى انت وحدك من حكم الـحاكم القدير الذي افرغ جـميع اهالي استانبول هنا، فانت راحل مثلهم لا مـحالة..!)).

غادرت الـمقبرة وانا احـمل هذا الـخيال الـمخيف، ودخلت الغرفة الصغيرة في مـحفل جامع ابي ايوب الانصاري رضي الله عنه والتي كنت ادخلها مراراً في السابق فاستغرقت في التفكير في نفسي: إنـما انا ضيف! وضيف من ثلاثة اوجه؛ اذ كما انني ضيف في هذه الغرفة الصغيرة، فانا ضيفٌ كذلك في استانبول، بل انا ضيف في الدنيا وراحل عنها كذلك، وعلى الـمسافر ان يفكر في سبيله ودربه.

نعم، كما انني سوف اخرج من هذه الغرفة واغادرها، فسوف اترك استانبول ذات يوم واغادرها، وسوف اخرج من الدنيا كذلك.

وهكذا جثمت على قلبي وفكري وانا في هذه الـحالة، حالة أليمة مـحزنة مكدّرة. فلا غرو انني لا أترك احباباً قليلين وحدهم، بل سأفارق ايضاً آلاف الاحبة في استانبول، بل سأغادر استانبول الـحبيبة نفسها وسأفترق عن مئات آلالاف من الاحبة كما افترق عن الدنيا الـجميلة التي ابتلينا بها.

ذهبتُ الى الـمكان الـمرتفع نفسه في الـمقبرة مرة اخرى، فبدا لي اهالي استانبول، جنائز يـمشون قائمين مثلما يظهر الذين ماتوا شخوصاً متحركة في الافلام السينمائية، فقد كنت اتردد اليها احياناً للعبرة! فقال لي خيالي: مادام قسم من الراقدين في هذه الـمقبرة يـمكن ان يظهروا متحركين كالشخوص السينمائية، ففكـّر في هؤلاء الناس كذلك انهم سيدخلون هذه الـمقبرة حتماً، واعتبرهم داخلين فيها من الآن.

وبينما كنت اتقلب في تلك الـحالة الـمحزنة الـمؤلـمة اذا بنور من القرآن الـحكيم وبارشاد من الشيخ الكيلاني (قدس سرّه) يقلب تلك الـحالة الـمحزنة ويـحولـها الى حالة مفرحة مبهجة، ذات نشوة ولذة، حيث ذكـّرني النور القادم من القرآن الكريـم ونبهني الى ما يأتي:

كان لك صديق أو صديقين من الضباط الاسرى عند اسرك في ((قوسترما)) في شمال شرقي روسيا، وكنتَ تعلم حتماً أنهما سيرجعان الى استانبول. ولو خَيـّرك احدهما قائلاً: أتذهب الى استانبول أم تريد ان تبقى هنا؟. فلا جرم انك كنت تـختار الذهاب الى استانبول لو كان لك مسكة من عقل، بفرح وسرور حيث ان تسعمائة وتسعة وتسعين من الف حبيب وحبيب لك هـم الآن في استانبول، وليس لك هنا الاّ واحد او اثنان، وهم بدورهم سيرحلون الى هناك. فالذهاب الى استانبول بالنسبة لك اذن ليس بفراق حزين، ولا بافتراق أليم.. وها أنتذا قد أتيت اليها، ألـم تصبح راضياً شاكراً؟ فلقد نـجوتَ من بلد الاعداء، من لياليها الطوال السوداء، ومن شتائها القارس العاصف، وقدمت استانبول الزاهية الـجميلة، كأنها جنة الدنيا!. وهكذا الامر حيث ان تسعاً وتسعين من مائة شخص مـمن تـحبهم منذ صغرك حتى الآن، قد ارتـحلوا الى الـمقبرة. تلك تبدو لك موحشة مدهشة، ولـم يظل منهم في هذه الدنيا الاّ واحد او اثنان، وهم في طريقهم اليها كذلك. فوفاتك في الدنيا اذن ليست بفراق، ولا بافتراق، وانـما هي وصال ولقاء مع اولئك الاحبة الاعزاء.

نعم ان اولئك – أي الارواح الباقية – قد تركوا مأواهم وعشهم الـمندرس تـحت الارض، فيسرح قسم منهم بين النجوم، وقسم آخر بين طبقات عالـم البرزخ.

وهكذا ذكـّرني ذلك النور القرآني.. ولقد أثبت هذه الـحقيقة اثباتاً قاطعاً كلٌ من القرآن الكريـم، والإيـمان، بـحيث مَن لـم يفقد قلبه وروحه، او لـم تغرقه الضلالة لابد ان يصدق بها كأنه يراها؛ ذلك لأن الذي زيـّن هذه الدنيا بأنواع ألطافه التي لاتـحد وبأشكال آلائه التي لاتُعد مُظهراً بها ربوبيته الكريـمة الرؤوف، حفيظاً حتى على الاشياء الصغيرة الـجزئية جداً – كالبذور مثلاً – ذلك الصانع الكريـم الرحيم، لابد – بل بالبداهة – لايُفني هذا الانسان الذي هو اكمل مـخلوقاته واكرمها واجمعها واهمـّها واحبها اليه، ولا يـمحوه بالفناء والاعدام النهائي، بلا رحـمة وبلا عاقبة – كما يبدو ظاهراً – ولا يضيـّعه ابداً.. بل يضع الـخالق الرحيم ذلك الـمخلوق الـمحبوب تـحت التراب الذي هو باب الرحـمة موقتاً، كي يعطي ثـماره في حياة اخرى، كما يبذر الفلاح البذور على الارض(1).

وبعد ان تلقيت هذا التنبيه القرآني، باتت تلك الـمقبرة عندي مؤنسة اكثر من استانبول نفسها، واصبحت الخلوة والعزلة عندي اكثر لطافة من الـمعاشرة والـمؤانسة، مـما حدا بي ان اجد مكاناً للعزلة في ((صاري ير)) على البسفور. واصبح الشيخ الكيلاني رضي الله عنه استاذاً لي وطبيباً ومرشداً بكتابه ((فتوح الغيب))، وصار الامام الرباني رضي الله عنه(1) كذلك بـمثابة استاذ أنيس ورؤوف شفيق بكاتبه ((مكتوبات)) فاصبحت راضياً كلياً ومـمتنـّاً من دخولي الـمشيب، ومن عزوفي عن مظاهر الـحضارة البراقة ومتعها الزائفة،ومن إنسلالي من الـحياة الاجتماعية وانسحابي منها، فشكرت الله على ذلك كثيراً.

فيا من يدلف الى الـمشيب مثلي.. ويا من يتذكر الـموت بنذير الشيب.. ! ان علينا ان نرضى بالشيخوخة وبالـموت وبالـمرض، ونراها لطيفة بنور الإيـمان الذي أتى به القرآن الكريـم، بل علينا ان نـحبها – من جهة – فما دمنا نـملك إيـماناً وهو النعمة الكبرى، فالشيخوخة اذن طيبة والـمرض طيب، والـموت طيب ايضاً.. وليس هناك شيء قبيح محض في حقيقة الامر الاّ الاثم والسفه والبدع والضلالة.
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس