الموضوع: الخلوة
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-11-2010
  #3
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي

ابن عجيبة:

وقال ابن عجيبة شارحاً قول ابن عطاء الله رحمهما الله تعالى: ما نفعَ القلبَ شيءٌ مثلُ عُزلةٍ يدخل بها مَيْدانَ فكرة:

(والعزلة انفراد القلب بالله. وقد يراد بها الخلوة التي هي انفراد القالب عن الناس، وهو المراد هنا، إذ لا ينفرد القلب بالله إلا إذا انفرد القالب. والفكرة سير القلب إلى حضرة الرب، وهي على قسمين: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان. ولا شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة، لأن العزلة كالحِمْية، والفكرة كالدواء، فلا ينفع الدواء بغير حمية، ولا فائدة في الحمية من غير دواء، فلا خير في عزلة لا فكرة فيها ولا نهوض بفكرة لا عزلة معها، إذ المقصود من العزلة هو تفريغ القلب، والمقصود من التفرغ هو جَولاَن القلب واشتغال الفكرة، والمقصود من اشتغال الفكرة تحصيل العلم وتمكنه من القلب، وتمكن العلم بالله من القلب هو دواؤه وغاية صحته، وهو الذي سماه الله القلب السليم، قال الله تعالى في شأن القيامة: {يومَ لا ينفَعُ مالٌ ولا يَنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88ـ89].

وقد قالوا: إن القلب كالمعدة إذا قويت عليها الأخلاط مرضت، ولا ينفعها إلا الحمية، وهو قلة موادها، ومنعها من كثرة الأخلاط (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء). وكذلك القلب إذا قويت عليه الخواطر واستحوذ عليه الحس مرض، وربما مات، ولا ينفعه إلا الحمية منها، والفرار من مواطنها، وهي الخلطة، فإذا اعتزل الناس واستعمل الفكرة نجح دواؤه، واستقام قلبه، وإلا بقي سقيماً حتى يلقى الله بقلب سقيم بالشك والخواطر الرديئة، نسأل الله العافية.

قال الجنيد رحمه الله تعالى: أشرف المجالس الجلوس مع الفكر في ميدان التوحيد.

وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: ثمار العزلة الظفر بمواهب المنة، وهي أربعة:

كشف الغطاء، وتنزل الرحمة، وتحقيق المحبة، ولسان الصدق في الكلمة.

ثم ذكر للخلوة عشر فوائد:

1ـ السلامة من آفات اللسان، فإنَّ مَنْ كان وحده لا يجد معه من يتكلم، ولا يسلم في الغالب من آفاته إلا من آثرَ الخلوة على الاجتماع.

2ـ السلامة من آفات النظر،فإنَّ من كان معتزلاً عن الناس سلم من النظر إلى ما هم مُنْكَبُّون عليه من زهرة الدنيا وزخرفها، قال بعضهم: (من كثرت لحظاته دامت حسراته).

3ـ حفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة وغيرهما من الأمراض.

4ـ حصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، وفي ذلك شرف العبد وكماله.

5ـ السلامة من صحبة الأشرار ومخالطة الأرذال، وفي مخالطتهم فساد عظيم.

6ـ التفرغ للعبادة والذكر، والعزم على التقوى والبر.

7ـ وُجْدانُ حلاوة الطاعات، وتمكن لذيذ المناجاة بفراغ سره، قال أبو طالب المكي في "القوت": (ولا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية).

8ـ راحة القلب والبدن، فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب.

9ـ صيانة نفسه ودينه من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة.

10ـ التمكن من عبادة التفكر والاعتبار، وهو المقصود الأعظم من الخلوة) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" لأحمد بن عجيبة ج1/ص30].

هذه نبذة يسيرة من أقوال السادة العلماء الأفاضل، تُبين بوضوح أن الخلوة هي السبيل العملي الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، كي يقوى إيمانهم، وتصفو نفوسهم، وتسمو أرواحهم، وتتطهر قلوبهم، وتتأهل لتجليات الله تعالى.

أليس هذا التوجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبباً للتعرف على فاطر السموات والأرض ؟

أليس هذا أساساً للأذواق والمواجيد الصوفية، وسبيلاً للكشف والفيض والإشراق والصفاء ؟

ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق عن أبي هريرة رضي الله عنه].

أليس هذا الحديث دليلاً قاطعاً على مشروعية الخلوة لذكر الله تعالى ؟.

وفي هذه الخلوة يذكر الصوفي ربه خالياً فيغمره بأنواره ويحظى بمجالسته "أهل ذكري أهل مجالستي" [أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث طويل]. لا يدور بخَلدِه أي طائف يشغله عن ربه، حتى إنه لينسى نفسه في حضرة القدُس الأعلى. وما أحسن قول عمر بن الفارض رحمه الله تعالى معبراً عن تلك الحالة الشائقة:

ولقد خَلوتُ مع الحبيب وبَيننا سرٍّ أرقُّ مِنَ النسيم إذا سرى

فدهشتُ بين جماله وجلالهِ وغدا لسانُ الحالِ عني مخْبراً


فتفيض عيناه دمعاً مما عرف من الحق، ذاهلاً بالله خاشعاً له مستأنساً بحضرته:

وَليُّ الله ليس له أنيسُ سوى الرحمن فهو له جليسُ

فيذكرهُ ويذكرهُ فيبكي وحيدُ الدهر جوهره نفيسُ



فالعبد المقصر إذا أراد اللحاق بهؤلاء الأولياء المخلصين خلا بنفسه الأمارة بالسوء ؛ فعاتبها وزجرها وصدق في سيره إلى ربه، فرقَّ قلبه، وذرفت عيناه بالدمع حزناً وأسفاً على ضياع عمره في اللهو والغفلة قائلاً:

على نفسه فليبك من ضاع عمرهُ وليس له فيها نصيب ولا سهمُ



فانتبهَ من رقدته، وصحا من غفلته، وأقبل على ربه راجياً عفوه وغفرانه ومعاهداً إياه على طاعته وعبادته، ففرح الله بتوبته حين تاب، وأقبل عليه حين تقرب منه. قال تعالى في الحديث القدسي: "وإن تقرَّب إليَّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً، وإذا تقرَّبَ إليَّ ذراعاً تقربتُ إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيتُهُ هرولة" [من حديث قدسي أوله: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً...". الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه]. واستحق ـ ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إظلال الله تعالى له يوم الحر الأكبر في ظل عرشه والناس في حر الشمس، قد صهرتهم في ذلك الموقف الرهيب.

وأخيراً فلعل القارىء الكريم بعد هذه النصوص الصريحة والنقول الكثيرة عن العلماء الأعلام الذين نأخذ عنهم تعاليم ديننا تبيَّنَ له أن الخلوة مشروعة في الإسلام، وليست مبتدعة، وأنها ليست غاية تقصد، بل وسيلة لشفاء القلب من علله وأمراضه، حتى يكون سليماً، فينجو صاحبه يوم الحساب الأكبر {يومَ لا ينْفَعُ مالٌ ولا يَنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88ـ89]

وليست الخلوة عزلة دائمة، وانزواءً مستمراً عن الناس، فكما أن المريض يقضي فترة يسيرة من الوقت في المستشفى كي يتخلص من أمراضه الجسدية، ثم يخرج للعمل بصحة أوفر ومناعة أقوى، متلذذاً بنعيم العافية ؛ فكذلك المسلم يقضي في الخلوة فترة يسيرة، يخرج بعدها للحياة العملية، قوي الصلة بربه، عامر القلب بالإيمان واليقين متمتعاً بالمناعة القوية من تسرب بهارج الحياة الخادعة ومفاتنها المغرية إلى نفسه، وخصوصاً بعد أن اطلع على حقائقها الفانية، وتَذوَّقَ معنى قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عليها فانٍ} [الرحمن: 26].

فكم نرى من الناس من يهتم بجسمه الفاني ويوفر له أسباب الصحة، ويفرغ له كثيراً من وقته للاستجمام والاستشفاء والراحة، فإذا دُعي إلى تطبيب قلبه وتهذيب نفسه، في فترة وجيزة يخلو فيها بربه، إذا به يُعرض ويستغرب، ويعتبر ذلك ـ لجهله ـ ضياعاً للوقت، وابتداعاً لا أصل له في الدين. فمثل هذا ينطبق عليه قول بعْضِهم:

تطبِّبُ جسمكَ الفاني ليَبْقى وتتركُ قلبكَ الباقي مريضاً



فلو فَهم حقيقة الإسلام، وأنه دعا لإصلاح الأبدان والقلوب معاً لاهتم بقلبه، كما يهتم بجسمه:

يا خادمَ الجسمِ كم تسْعى لخدمته أتطلُبُ الربحَ مما فيه خسرانُ

أقبلْ على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ



فعلى المؤمن أن تكون له خلوات يراقب بها ربه، ويحاسب نفسه على ما قدمت من خير أو شر.

ولقد كان شيخي وسيدي محمد الهاشمي رحمه الله تعالى يرغب مريديه بالخلوة حيث يجلس المريد منفرداً في مكان منعزل عن الناس بعيد عن صخب الدنيا وضوضائها، ثم يأذن له الشيخ بذكر الاسم المفرد [الله] ليردده مستغرقاً جميع أوقاته في الليل والنهار، لا يتوقف إلا لصلاة أو طعام أو نوم، ولا يشغل نفسه بالتحدث إلى الناس، بل يتفرغ للذكر موافقة لقوله تعالى: {واذكر اسم ربِّكَ وتبَتَّلْ إليه تبتيلاً} [المزمل: 8].

ويواصل الذكر ملاحظاً قلبه طارداً عنه أنواع الوساوس والخواطر وصور الأكوان، جامعاً قلبه على الله تعالى، مستعيناً بما يمنحه شيخه من خبرته ومعارفه وأحواله وتوجيهاته.

وحينئذ ينفذ الذكر إلى سويداء قلبه ؛ فيرتسم الاسم المفرد فيه، وترتحل عنه الغفلة، وتزول الأغيار، ويشعر بحلاوة الأنس بالله تعالى، ويترقى في مدارج الأذواق والمعارف مما لا يستطيع البيان أن يعبر عنه، وليس له سوى الذوق إفشاء.



والخلاصة:

إن الخلوة نوعان: خلوة عامة، ينفرد بها المؤمن ليتفرغ لذكر الله تعالى بأية صيغة كانت، أو لتلاوة القرآن الكريم، أو محاسبة نفسه، أو ليتفكر في خلق السموت والأرض.

وخلوة خاصة: يقصد منها الوصول إلى مراتب الإحسان والتحقق بمدارج المعرفة، وهذه لا تكون إلا بإشراف مرشدٍ مأذون، يُلَقِّنُ المريدَ ذكراً معيناً، ويكون على صلة دائمة به ليزيل عنه الشكوك ويدفعه إلى آفاق المعرفة، ويرفع عنه الحجب والأوهام والوساوس، وينقله من الكون إلى المُكَوِّن.

ولا يظنَنَّ أحد أن الخلوة خاتمة السير، بل هي أول خطوة في طريق الوصول إلى الله تعالى، فلا بد أن تتلوها خلوات ومجاهدات طويلة ومذاكرة متواصلة للمرشد بهمة وصدق واستقامة، وملازمة على ذكر الاسم المفرد في الصباح والمساء، وعند كل فراغ، حتى يكون على اتصال دائم بالله تعالى، قد جمع بين مرتبتي الإحسان: المراقبة والمشاهدة ؛ اللتين أشار إليهما الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: "الإحسان أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره فإنه يراك".
__________________
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي
صلى عليه الله ُ في الايات ِ
وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً
لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس