الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #39
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

الكلمة السادسة والعشرون

رسالة القدر

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واِنْ مِنْ شيءٍ الاّ عندنا خزائنُهُ وما نُنَزّله اِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلومٍ[ (الحجر:21)

] وكلّ شيءٍ اَْحْصَيناه في إمامٍ مُبينٍ[ (يس:12)

[ القدر الإلهي والجزء الاختياري مسألتان مهمتان. نحاول حلّ بعض اسرارهما في اربعة مباحث تخص القدر]



المبحث الاول

ان القدر والجزء الاختياري جزءان من ايمان حالي ووجداني، يبيّن نهاية حدود الايمان والاسلام، وليسا مباحث علمية ونظرية.

اي: ان المؤمن يعطي للهكل شئ، ويحيل اليه كل أمر، وما يزال هكذا حتى يحيل فعله ونفسه اليه.ولكي لا ينجو في النهاية من التكليف والمسؤولية يبرز امامه الجزء الاختياري قائلاً له: ((انت مسؤول، أنت مكلّف))!

ثم انه لكي لا يغتر بما صدر عنه من حسنات وفضائل، يواجهه القدر، قائلاً له: ((اعرف حدّك، فلست انت الفاعل)).

اجل! ان القدر والجزء الاختياري هما في اعلى مراتب الايمان والاسلام قد دخلا ضمن المسائل الايمانية، لانهما ينقذان النفس الانسانية.. فالقدر ينقذها من الغرور، والجزء الاختياري ينجيها من الشعور بعدم المسؤولية. وليسا من المسائل العلمية والنظرية التي تفضي الى ما يناقض سر القدر وحكمة الجزء الاختياري كلياً بالتشبث بالقدر للتبرئة من مسؤولية السيئات التي اقترفتها النفوس الامارة بالسوء والافتخار بالفضائل التي اُنعمت عليها والاغترار بها واسنادها الى الجزء الاختياري.

اجل! ان العوام الذين لم يبلغوا مرتبة ادراك سر القدر لهم مواضع لاستعماله، ولكن هذه المواضع تنحصر في الماضيات من الامور وبخصوص المصائب والبلايا والذي هو علاج اليأس والحزن، وليس في امور المعاصي أو في المقبلات من الايام، والذي ينتفي كونه مساعداً على اقتراف الذنوب والتهاون في التكاليف.

بمعنى ان مسألة القدر ليست للفرار من التكليف والمسؤولية، بل هو لإنقاذ الانسان من الفخر والغرور، ولهذا دخلت ضمن مسائل الايمان.

أما الجزء الاختياري، فقد دخل ضمن مباحث العقيدة ليكون مرجعاً للسيئات، لا ليكون مصدراً للمحاسن والفضائل التي تسوق الى الطغيان والتفرعن.

نعم! ان القرآن الكريم يبين ان الانسان مسؤول عن سيئاته مسؤولية كاملة. لأن الانسان هو الذي اراد السيئات. ولما كانت السيئات من قبيل التخريبات، لذا يستطيع الانسان ان يوقع دماراً هائلاً بسيئة واحدة، كإحراق بيت كامل بعود ثقاب، وبذلك يستحق انزال عقاب عظيم به.

أما في الحسنات، فليس له الحق في الفخر والمباهاة، لأن حصته فيها ضئيلة جداً، لأن الرحمة الإلهية هي التي ارادت الحسنات، واقتضتها. والقدرة الربانية هي التي اوجدتها، فالسؤال والجواب والسبب والداعي كلاهما من الحق سبحانه وتعالى. ولا يكون الانسان مالكاً لهذه الحسنات وصاحباً لها الاّ بالدعاء والتضرع، وبالايمان، وبالشعور بالرضى عنها. بينما الذي اراد السيئات هو النفس الانسانية، إما بالاستعداد او بالاختيار، مثلما تكتسب بعض المواد التعفن والاسوداد من ضياء الشمس الجميل اللامع، فذلك الاسوداد انما يعود الى استعداد تلك المادة، ولكن الذي يوجد تلك السيئات بقانون إلهي متضمن لمصالح كثيرة انما هو الله سبحانه ايضاً. اي أن التسبب والسؤال هما من النفس الانسانية بحيث تتحمل المسؤولية عنها. أما الخلق والايجاد الخاص به سبحانه وتعالى فهو جميل، لأن له ثمرات اخرى جميلة، ونتائج شتى جميلة، فهو خير.

ومن هذا السر يكون خلق الشر ليس شراً، وانما كسب الشر شر، اذ لا يحق لكسلان قد تأذى من المطر - المتضمن لمصالح غزيرة - ان يقول:المطر ليس رحمة.

نعم! ان في الخلق والايجاد خيراً كثيراً مع تضمنه لشر جزئي، وان ترك خير كثير لأجل شر جزئي، يحدث شراً كثيراً، لذا فان ذلك الشــر الجزئي يعدّ خيــراً وفي حكمه. فليس في الخلق الإلهي شرٌ ولا قبح، بل يعود الشر الى كسب العبد والى استعداده.

وكما ان القدر الإلهي منزّه عن القبح والظلم، من حيث النتيجة والثمرات، كذلك فهو مقدّس عن القبح والظلم من حيث العلة والسبب، لأن القدر الإلهي ينظر الى العلل الحقيقية، فيعدل. بينما الناس يبنون احكامهم على ما يشاهدونه من علل ظاهرة فيرتكبون ظلماً ضمن عدالة القدر نفسه.

فمثلاً: هب ان حاكماً قد حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة، وانت برئ منها، ولكن لك قضية قتل مستورة لا يعرفها الاّ الله.

فالقدر الإلهي قد حكم عليك بذلك السجن، وقد عدل من أجل ذلك القتل المستور عن الناس. أما الحاكم فقد ظلمك، حيث حكم عليك بالسجن بتهمة السرقة وانت منها برئ.

وهكذا ففي الشئ الواحد تظهر جهتان، جهة عدالة القدر والايجاد الإلهي، وجهة ظلم البشر وكسبه. قس بقية الامور على هذا.

اي ان القدر والايجاد الإلهي منزّهان عن الشر والقبح والظلم، باعتبار المبدأ والمنتهى والاصول والفروع والعلل والنتائج.

واذا قيل:

ما دام الجزء الاختياري لا قابلية له في الايجاد، ولا يوجد في يد الانسان غير الكسب الذي هو في حكم امر اعتباري، فكيف يكون اذن شكوى القرآن المعجز البيان من هذا الانسان شكاوى عظيمة تجاه عصيانه خالق السموات والارض؛ حتى كأنه اُعطي له وضع العدو العاصي، بل يرسل سبحانه جنوده الملائكة لإمداد العبد المؤمن تجاه ذلك العاصى، بل يُمدّه خالق السموات والارض بنفسه.. فِلمَ هذه الأهمية البالغة؟

الجواب: لأن الكفر والعصيان والسيئة كلها تخريب وعدم، ويمكن ان تترتب تخريبات هائلة وعدمات غير محدودة على امرٍ اعتباري وعدمي واحد. اذ كما ان عدم ايفاء ملاح سفينة ضخمة بوظيفته يغرق السفينة، ويفسد نتائج اعمال جميع العاملين فيها، لترتب جميع تلك التخريبات الجسيمة على عمل عدمٍ واحد، كذلك الكفر والمعصية، لكونهما نوعاً من العدم والتخريب، فيمكن ان يحركهما الجزء الاختياري بأمر اعتباري، فيسببان نتائج مريعة. لأن الكفر وان كان سيئة واحدة؛ الاّ انه تحقير لجميع الكائنات بوصمها بالتفاهة والعبثية، وتكذيب لجميع الموجودات الدالة على الوحدانية، وتزييف لجميع تجليات الاسماء الحسنى. فان تهديده سبحانه وتعالى وشكواه باسم الكائنات قاطبة، والموجودات كافة والاسماء الإلهية الحسنى؛ كلها من الكافر شكاوى عنيفة وتهديدات مريعة هو عين الحكمة وان تعذيبه بعذاب خالد هو عين العدالة.

وحيث ان الانسان لدى انحيازه الى جانب التخريب بالكفر والعصيان، يسبب دماراً رهيباً بعمل جزئي، فان اهل الايمان محتاجون اذن، تجاه هؤلاء المخربين، الى عناية إلهية عظيمة، لأنه اذا تعهّد عشرة من الرجال الأقوياء بالحفاظ على بيت وتعميره، فان طفلاً شريراً في محاولته احراق البيت، يُلجئ اولئك الرجال الى الذهاب الى وليّه بل التوسل الى السلطان.

لذا فالمؤمنون محتاجون اشد الحاجة الى عنايته سبحانه وتعالى للصمود تجاه هؤلاء العصاة الفاجرين.

نحصل مما سبق: ان الذي يتحدث عن القدر والجزء الاختياري ان كان ذا ايمان كامل، مطمئن القلب، فانه يفوّض امر الكائنات كلها، ونفسه كذلك، الى الله سبحانه وتعالى، ويعتقد بان الامور تجري تحت تصرفه سبحانه وتدبيره. فهذا الشخص يحق له الكلام في القدر والجزء الاختياري لأنه يعرف أن نفسه وكل شئ، منه سبحانه وتعالى. فيتحمل المسؤولية، مستنداً الى الجزء الاختياري الذي يعتبره مرجعاً للسيئات، فيقدّس ربه وينزّهه، ويظل في دائرة العبودية ويرضخ للتكليف الإلهي ويأخذه على عاتقه. وينظر الى القدر في الحسنات والفضائل الصادرة عنه، لئلا يأخذه الغرور، فيشكر ربه بدل الفخر، ويرى القدر في المصائب التي تنزل به فيصبر.

ولكن ان كان الذي يتحدث في القدر الإلهي والجزء الاختياري من أهل الغفلة، فلا يحق له الخوض فيهما، لأن نفسه الامارة بالسوء - بدافع من الغفلة أو الضلالة - تحيل الكائنات الى الاسباب، فتجعل ما لله اليها، وترى نفسها مالكة لنفسها، وترجع افعالها الى نفسها ويسنـدها الى الاســباب، بينما تحمّـل القــدر المســؤولية والتقصيرات. وحينئذٍ يكون الخوض في القدر والجزء الاختياري باطلاً لا اساس له - بهذا المفهوم - ولا يعنى سوى دسيسة نفسية تحاول التملص من المسؤولية، مما ينافي حكمة القدر وسر الجزء الاختياري.



المبحث الثاني

هذا المبحث بحث علمي دقيق خاص للعلماء(1).

C اذا قلت: كيف يمكن التوفيق بين القدر والجزء الاختياري؟

الجواب: بسبعة وجوه:

الاول: ان العادل الحكيم الذي تشهد لحكمته وعدالته الكائنات كلها، بلسان الانتظام والميزان، قد اعطى للانسان جزءاً اختيارياً مجهول الماهية، ليكون مدار ثواب وعقاب. فكما ان للحكيم العادل حكَماً كثيرة خفية عنا، كذلك كيفية التوفيق بين القدر والجزء الاختياري خافية علينا. ولكن عدم علمنا بكيفية التوفيق لا يدل على عدم وجوده.

الثاني: ان كل انسان يشعر بالضرورة ان له ارادة واختياراً في نفسه، فيعرف وجود ذلك الاختيار وجداناً. وان العلم بماهية الموجودات شئ والعلم بوجودها شئ آخر. فكثير من الاشياء وجودها بديهي لدينا الاّ أن ماهيتها مجهولة بالنسبة الينا. فهذا الجزء الاختياري يمكن ان يدخل ضمن تلك السلسلة، فلا ينحصر كل شئ في نطاق معلوماتنا، وان عدم علمنا لا يدل على عدمه.

الثالث: ان الجزء الاختياري لا ينافي القدر، بل القدر يؤيد الجزء الاختياري؛ لأن القدر نوع من العلم الإلهي، وقد تعلق العلم الإلهي باختيارنا، ولهذا يؤيد الاختيار ولا يبطله.

الرابع: القدر نوع من العلم، والعلم تابع للمعلوم، اي على اية كيفية يكون المعلوم يحيط به العلم ويتعلق به، فلا يكون المعلوم تابعاً للعلم، اي ان دساتير العلم ليست اساساً لإدارة المعلوم من حيث الوجود الخارجي، لأن ذاتَ المعلوم ووجوده الخارجي ينظر الى الارادة ويستند الى القدرة.

ثم ان الازل ليس طرفاً لسلسلة الماضي كي يُتخذ اساساً في وجود الاشياء ويُتصور اضطراراً بحسبه، بل الازل يحيط بالماضي والحاضر والمستقبل - كاحاطة السماء بالارض - كالمرآة الناظرة من الاعلى.

لذا ليس من الحقيقة في شئ تخيل طرفٍ ومبدأٍ في جهة الماضي للزمان الممتد في دائرة الممكنات واطلاق اسم الازل عليه، ودخول الاشياء بالترتيب في ذلك العلم الازلي، وتوهم المرء نفسه في خارجه، ومن ثم القيام بمحاكمة عقلية في ضوء ذلك.

فانظر الى هذا المثال لكشف هذا السر:

اذا وجدت في يدك مرآة، وفرضتَ المسافة التي في يمينها الماضي. والمسافة التي في يسارها المستقبل، فتلك المرآة لا تعكس الاّ ما يقابلها، وتضم الطرفين بترتيب معين، حيث لا تستوعب اغلبهما، لأن المرآة كلما كانت واطئة عكست القليل، بينما اذا رفعت الى الاعلى فان الدائرة التي تقابلها تتوسع، وهكذا بالصعود تدريجياً تستوعب المرآة المسافة في الطرفين معاً في نفسها في آن واحد.

وهكذا يرتسم في المرآة في وضعها هذا كل ما يجري من حالات في كلتا المسافتين. فلا يقال ان الحالات الجارية في احداها مقدمة على الاخرى، أو مؤخرة عنها، او توافقها، أو تخالفها.

وهكذا فالقدر الإلهي لكونه من العلم الازلي، والعلم الازلي ((في مقام رفيع يضم كل ما كان وما يكون، ويحيط به)) كما يُعبّر عنه في الحديث الشريف، لذا لا نكون نحن ولا محاكماتنا العقلية خارجَين عن هذا العلم قطعاً، حتى نتصوره مرآة تقع في مسافة الماضي.

الخامس: ان القدر يتعلق تعلقاً واحداً بالسبب وبالمسبب معاً - فالارادة لا تتعلق مرة بالمسبب ثم بالسبب مرة اخرى - اي ان هذا المسبَّب سيقع بهذا السبب. لذا يجب الاّ يقال: ما دام موت الشخص الفلاني مقدّراً في الوقت الفلاني، فما ذنب من يرميه ببندقية بارادته الجزئية؛ اذ لو لم يرمه لمات ايضا؟

سؤال: لِمَ يجب الاّ يقال؟

الجواب: لأن القدر قد عّين موته ببندقية ذاك، فاذا فرضت عدم رميه، عندئذٍ تفرض عدم تعلق القدر. فبِمَ تحكم اذن على موته. الاّ اذا تركت مسلك اهل السنة والجماعة ودخلت ضمن الفرق الضالة التي تتصور قدراً للسبب وقدراً للمسبب، كما هو عند الجبرية. أو تنكر القدر كالمعتزلة. أما نحن اهل الحق فنقول: لو لم يرمه فان موته مجهول عندنا. أما الجبرية فيقولون: لو لم يرمه لمات ايضاً. بينما المعتزلة يقولون: لو لم يرمه لا يموت.

السادس (1): ان الميلان الذي هو اس اساس الجزء الاختياري، أمر اعتباري عند الماتريدية، فيمكن أن يكون بيد العبد، ولكن الميلان أمر موجود لدى الاشعريين، فليس هو بيد العبد، الاّ ان التصرف عندهم أمر اعتباري بيد العبد. ولهذا فذلك الميلان وذلك التصرف فيه، امران نسبيان، ليس لهما وجود خارجي محقق. أما الامر الاعتباري فلا يحتاج ثبوته ووجوده الى علة تامة والتي تستلزم الضرورة الموجبة لرفع الاختيار، بل اذا اتخذت علة ذلك الامر الاعتباري وضعاً بدرجة من الرجحان، فانه يمكن ان يثبت،ويمكن ان يتركه في تلك اللحظة، فيقول له القرآن آنئذٍ: هذا شر! لا تفعل.

نعم! لو كان العبد خالقاً لأفعاله وقادراً على الايجاد، لَرُفع الاختيار؛ لأن القاعدة المقررة في علم الاصول والحكمة أنه ((ما لم يجب لم يوجد)) اي لا ياتي الى الوجود شئ مالم يكن وجوده واجباً، اي لابد من وجود علة تامة ثم يوجد. أما العلة التامة فيقتضي المعلول بالضرورة وبالوجوب. وعندها لا اختيار.

C اذا قلت:

الترجيح بلا مرجّحٍ محال، بينما كسب الانسان الذي تسمونه امراً اعتبارياً، بالعمل احياناً وبعدمه اخرى، يلزم الترجيح بلا مرجّح ان لم يوجد مرجّح موجِب، وهذا يهدم اعظم اصل من اصول الكلام!

الجواب: ان الترجّح بلا مرجّح محال - اي الرجحان بلا سبب ولا مرجّح - دون الترجيح بلا مرجّح الذي يجوز وهو واقع، فالارادة الإلهية صفة من صفاته تعالى وشأنها القيام بمثل هذا العمل (اي اختياره تعالى هو المرجّح).

C اذا قلت:

ما دام الذي خلق القتل هو الله سبحانه وتعالى، فلماذا يقال لي: القاتل؟

الجواب: ان اسم الفاعل مشتق من المصدر الذي هو أمر نسبي، حسب قواعد علم الصرف ولا يشتق من الحاصل بالمصدر الذي هو أمر ثابت. فالمصدر هو كسبنا، ونتحمل عنوان القاتل نحن، والحاصل بالمصدر مخلوق الله سبحانه، وما يشم منه المسؤولية لا يشتق من الحاصل بالمصدر.

السابع: ان ارادة الانسان الجزئية وجزأه الاختياري، ضعيف وأمر اعتباري. الاّ ان الله سبحانه وهو الحكيم المطلق قد جعل تلك الارادة الجزئية الضعيفة شرطاً عادياً لارادته الكلية. اي كأنه يقول معنىً: يا عبدي ايّ طريق تختاره للسلوك، فانا اسوقك اليه. ولهذا فالمسؤولية تقع عليك، فمثلاً (ولا مشاحة في الامثال) اذا أخذت طفلاً عاجزاً ضعيفاً على عاتقك وخيّرته قائلاً: الى اين تريد الذهاب، فسآخذك اليه. وطلب الطفل الصعود على جبلٍ عالٍ، وانت اخذته الى هناك، ولكن الطفل تمرض او سقط. فلا شك ستقول له: انت الذي طلبت! وتعاتبه. وتزيده لطمة تأديب. وهكذا.. ولله المثل الاعلى. فهو سبحانه أحكم الحاكمين جعل ارادة عبده الذي هو في منتهى الضعف شرطاً عادياً لارادته الكلية.

حاصل الكلام:

ايها الانسان! ان لك ارادة في منتهى الضعف، الاّ ان يدها طويلة في السيئات والتخريبات وقاصرة في الحسنات، هذه الارادة هي التي تسمى بالجزء الاختياري. فسلّم لإحدى يدى تلك الارادة الدعاء، كي تمتد وتطال الى الجنة التي هي ثمرة من ثمار سلسلة الحسنات وتبلغ السعادة الابدية التي هي زهرة من ازاهيرها.. وسلّم لليد الاخرى الاستغفار كي تقصر يدها عن السيئات، ولا تبلغ ثمرة الشجرة الملعونة زقوم جهنم. اي أن الدعاء والتوكل يمدّان ميلان الخير بقوة عظيمة، كما ان الاستغفار والتوبة يكسران ميلان الشر ويحدّان من تجاوزه.



المبحث الثالث

ان الايمان بالقدر من اركان الايمان، اي ان كل شئ بتقدير الله، والدلائل القاطعة على القدر كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى. ونحن سنبين هنا مدى قوة هذا الركن الايماني وسعته باسلوب بسيط وظاهر في مقدمة.

المقدمة

ان كل شئ قبل كونه وبعد كونه مكتوب في كتاب، يصرّح بهذا القرآن الكريم في كثير من آياته الكريمة امثال ] ولا رطب ولا يابس الاّ في كتاب مبين[ وتصدّق هذا الحكم القرآني الكائنات قاطبة، التي هي قرآن القدرة الإلهية الكبير، بآيات النظام والميزان والانتظام والامتياز والتصوير والتزيين وامثالها من الايات التكوينية.

نعم! ان كتابات كتاب الكائنات المنظومة وموزونات اياتها تشهد على أن كل شئ مكتوب. أما الدليل على أن كل شئ مكتوب ومقدّر قبل وجوده وكونه، فهو جميع المبادىء والبذور وجميع المقادير والصور شواهد صدق. اذ ما البذور الاّ صنيديقات لطيفة ابدعها معمل (ك.ن) أودع فيها القدر فهيرس رسمه، وتبني القدرة - حسب هندسة القدر ـ معجزاتها العظيمة على تلك البذيرات، مستخدمة الذرات. بمعنى ان كل ما سيجري على الشجرة من امور مع جميع وقائعها، في حكم المكتوب في بذرتها. لأن البذور بسيطة ومتشابهة مادةً، فلا اختلاف بينها.

ثم ان المقدار المنظم لكل شئ يبين القدر بوضوح فلو دقق النظر الى كائن حي لتبين أن له شكلاً ومقداراً، كأنه قد خرج من قالب في غاية الحكمة والاتقان، بحيث أن اتخاذ ذلك المقدار والشكل والصورة، اما انه يتأتى من وجود قالب مادي خارق في منتهى الانثناءات والانحناءات.. أو أن القدرة الإلهية تفصّل تلك الصورة وذلك الشكل وتُلبسها الشجرة بقالب معنوي علمي موزون أتى من القدر.

تأمل الآن في هذه الشجرة، وهذا الحيوان، فالذرات الصم العمي الجامدة التي لا شعور لها والمتشابهة بعضها ببعض، تتحرك في نمو الاشياء، ثم تتوقف عند حدود معينة توقف عارف عالم بمظان الفوائد والثمرات. ثم تبدل مواضعها وكأنها تستهدف غاية كبرى.

اي أن الذرات تتحرك على وفق المقدار المعنوي الآتي من القدر، وحسب الامر المعنوي لذلك المقدار.

فما دامت تجليات القدر موجودة في الاشياء المادية المشهودة الى هذه الدرجة، فلابد أن أوضاع الاشياء الحاصلة والصور التي تلبسها والحركات التي تؤديها بمرور الزمان تابعة ايضاً لإنتظام القدر.

نعم! ان في البذرة تجليين للقدر.

الاول: (بديهي) يخبر ويشير الى الكتاب المبين الذي هو عنوان الارادة والاوامر التكوينية.

والآخر: تجلٍ نظري (معقول) يخبر ويرمز الى الامام المبين الذي هو عنوان الامر والعلم الإلهي.

(فالقدر البديهي) هو ما تتضمن تلك البذرة من اوضاع وكيفيات وهيئات مادية للشجرة، والتي ستشاهد فيما بعد.

و(القدر النظري) هو ما سيخلق من تلك البذرة من اوضاع واشكال وحركات وتسبيحات طوال حياة الشجرة وهي التي يُعبّر عنها بتاريخ حياة الشجرة. فتلك الاوضاع والاشكال والافعال تتبدل حيناً بعد حين الاّ ان لها مقداراً قدرياً منتظماً، كما هو الظاهر في اغصان الشجرة واوراقها.

فلئن كان للقدر تجلٍ كهذا في الاشياء الاعتيادية والبسيطة، فلابد أن هذا يفيد؛ ان الاشياء كلها قبل كونها ووجودها مكتوبة في كتاب، ويمكن ان يفهم ذلك بشئ من التدبر.

أما الدليل على أن تأريخ حياة كل شئ، بعد وجوده وكونه، مكتوب؛ فهو جميع الثمرات التي تخبر عن الكتاب المبين والامام المبين. والقوة الحافظة للانسان التي تشير الى اللوح المحفوظ وتخبر عنه، كل منها شاهد صادق، وأمارة وعلامة على ذلك.

نعم! ان كل ثمرة تُكتب في نواتها - التي هي في حكم قلبها - مقدّرات حياة الشجرة ومستقبلها ايضاً.

والقوة الحافظة للانسان - التي هي كحبة خردل في الصغر - تَكتب فيها يدُ القدرة بقلم القدر تاريخ حياة الانسان وقسماً من حوادث العالم الماضية كتابةً دقيقة، كأنها وثيقة وعهد صغير من صحيفة الاعمال اعطته تلك القدرة للانسان ووضعها في زاوية من دماغه ليتذكر بها وقت المحاسبة، وليطمئن انّ خلق هذا الهرج والمرج والفناء والزوال مرايا للبقاء، رسَمَ فيها القدير هوّيات الزائلات، والواحاً يكتب فيها الحفيظ العليم معاني الفانيات.

نحصل مما سبق: ان حياة النباتات، ان كانت منقادة الى هذا الحد لنظام القدر مع انها ادنى حياة وابسطها، فان حياة الانسان التي هي في اعلى مرتبة من مراتب الحياة، لابد انها رسمت بجميع تفرعاتها بمقياس القدر وكتبت بقلمه.

نعم! كما ان القطرات تُخبر عن السحاب، والرشحات تدل على نبع الماء والمستندات والوثائق تشير الى وجود السجل الكبير، كذلك الثمرات والنطف والبذور والنوى والصور والاشكال الماثلة امامنا وهي في حكم رشحات القدر البديهي - اي الانتظام المادي في الاحياء - وقطرات القدر النظري - اي الانتظام المعنوي والحياتي - وبمثابة مستنداتهما ووثائقهما.. تدل بالبداهة على الكتاب المبين، وهو سجل الارادة والاوامر التكوينية، وعلى اللوح المحفوظ، الذي هو ديوان العلم الإلهي، الامام المبين.

النتيجة: ما دمنا نرى أن ذرات كل كائن حي، اثناء نموه ونشوئه ترحل الى حدود ونهايات ملتوية منثنية وتقف عندها. وتغير طريقها لتثمر في تلك النهايات حكمةً وفائدة ومصلحة. فبالبداهة ان المقدار الظاهري لذلك الشئ قد رُسم بقلم القدر.

وهكذا فان القدر البديهي المشهود يدل على ما في الحالات المعنوية ايضاً لذلك الكائن الحي من حدود منتظمة ومثمرة ونهايات مفيدة قد رسمت بقلم القدر ايضاً. فالقدرة مصدر، والقدر مِسطَر، تُسطّر القدرةُ على مسطر القدر، ذلك الكتاب للمعاني.

فما دمنا ندرك ادراكاً جازماً أن ما رُسم من حدود وثمرات ونهايات حكيمة، انما هو بقلم القدر المادي والمعنوي، فلابد أن ما يجريه الكائن الحي طوال حياته من احوال واطوار قد رسم ايضاً بقلم ذلك القدر. اذ إن تاريخ حياته يجري على وفق نظام وانتظام، مع تغييره الصور واتخاذه الاشكال. فما دام قلم القدر مهيمناً على جميع ذوي الحياة، فلاشك ان تاريخ حياة الانسان - الذي هو اكمل ثمرة من ثمرات العالم وخليفة الارض الحامل للامانة الكبرى - اكثر انقياداً لقانون القدر من اي شئ آخر.

C فان قال:

ان القدر قد كبّلنا وسلب حريتنا، الا ترى ان الايمان بالقدر يورث ثقلاً على القلب ويولد ضيقاً في الروح، وهما المشتاقان الى الانبساط والجولان؟

والجواب: كلا. حاشَ للّه! فكما ان القدر لا يورث ضيقاً، فانه يمنح خفة بلا نهاية وراحة بلا غاية وسروراً ونوراً يحقق الأمن والامان والروح والريحان؛ لأن الانسان إن لم يؤمن بالقدر يضطر لأن يحمل ثقلاً بقدر الدنيا على كاهل روحه الضعيف ضمن دائرة ضيقة وحرية جزئية وتحرر مؤقت، لأن الانسان له علاقات مع الكائنات قاطبة، وله مقاصد ومطالب لا تنتهيان الاّ ان قدرته وارادته وحريته لا تكفي لإيفاء واحدٍ من مليون من تلك المطالب والمقاصد، ومن هنا يفهم مدى ما يقاسيه الانسان من ثقل معنوي في عدم الايمان بالقدر، وكم هو مخيف وموحش.

بينما الايمان بالقدر يحمل الانسان على أن يضع جميع تلك الاثقال في سفينة القدر، مما يمنحه راحة تامة، اذ ينفتح امام الروح والقلب ميدان تجوال واسع، فيسيران في طريق كمالاتهما بحرية تامة. بيد أن هذا الايمان يسلب من النفس الامارة بالسوء حريتها الجزئية ويكسر فرعونيتها ويحطم ربوبيتها ويحدّ من حركاتها السائبة.

ألا ان الايمان بالقدر لذيذ ما بعده لذة، وسعادة ما بعدها سعادة. وحيث لا نستطيع تعريف تلك اللذة والسعادة، نشير اليهما بالمثال الآتي:

رجلان يسافران معاً الى عاصمة سلطان عظيم، ويدخلان الى قصر السلطان العامر بالعجائب والغرائب. احدهما لا يعرف السلطان ويريد ان يسكن في القصر خلسة ويمضي حياته بغصب الاموال، فيعمل في حديقة القصر. ولكن ادارة تلك الحديقة وتدبيرها وتنظيم وارداتها وتشغيل مكائنها واعطاء ارزاق حيواناتها الغريبة وامثالها من امورها المرهقة دفعته الى الاضطراب الدائم والقلق المستمر، حتى اصبحت تلك الحديقة الزاهية الشبيهة بالجنة جحيماً لا يطاق. اذ يتألم لكل شئ يعجز عن ادارته، فيقضي وقته بالآهات والحسرات. واخيراً يُلقى به في السجن عقاباً وتأديباً له لسوء تصرفه وادبه.

اما الشخص الثاني فانه يعرف السلطان، ويعدّ نفسه ضيفاً عليه، ويعتقد ان جميع الاعمال في القصر والحديقة تدار بسهولة تامة .. بنظام وقانون وعلى وفق برنامج ومخطط، فيلقى الصعوبات والتــكاليـف الى قانون السلــطان، مســتفيداً بانــشــراح تام وصفاء كامـل من متــع تلــك الحديــقة الـزاهــرة كــالجـنــة، ويــرى كــل شـــئ جميلاً حقاً، استناداً الى عطف السلطان ورحمته، واعتماداً على جمال قوانينه الادارية.. فيقضي حياته في لذة كاملة وسعادة تامة.

فافهم من هذا سر (من آمن بالقدر أمن من الكدر)







المبحث الرابع

اذا قلت: لقد اُثبت في المبحث الاول ان كل ما للقدر جميل وخير، بل حتى الشر الآتي منه خير. والقبح الوارد منه جميل . بينما المصائب والبلايا التي تنزل في دار الدنيا هذه تجرح هذا الحكم وتقدح بهذا الاثبات.

الجواب: يا نفسي ويا صاحبي!

يا من تتألمان كثيراً لشدة ما تحملان من شفقة ورأفة. اعلما ان الوجود خير محض والعدم شر محض، والدليل هو رجوع جميع المحاسن والكمالات والفضائل الى الوجود، وكون العدم اساس جميع المعاصي والمصائب والنقائص.

ولما كان العدم شراً محضاً، فالحالات التي تنجر الى العدم او يُشم منها العدم تتضمن الشر ايضاً، لذا فالحياة التي هي اسطع نور للوجود، تتقوى بتقلبها ضمن احوال مختلفة، وتتصفى بدخولها اوضاعاً متباينة، وتثمر ثمرات مطلوبة باتخاذها كيفيات متعددة، وتبين نقوش اسماء واهب الحياة بياناً لطيفاً وجميلاً بتحولها في اطوار متنوعة.

وبناءً على هذه الحقيقة تعرض حالات على الاحياء في صور الآلام والمصائب والمشقات والبليات، فتتجدد بتلك الحالات انوار الوجود في حياتهم وتتباعد عنها ظلمات العدم، واذا بحياتهم تتطهر وتتصفى، ذلك لأن التوقف والسكون والسكوت والعطالة والدعة والرتابة، كل منها عدمٌ في الكيفيات والاحوال. حتى ان اعظم لذة من اللذائذ تتناقص بل تزول في الحالات الرتيبة.

حاصل الكلام : لما كانت الحياة تبين نقوش الاسماء الحسنى، فكل ما ينزل بالحياة اذن جميل وحسن.

فمثلاً: أن صانعاً ثرياً ماهراً يكلّف رجلاً فقيراً لقاء أجرة معينة ليقوم له في ظرف ساعة بدور النموذج (موديل) لأجل اظهار آثار صنعته الجميلة وابراز مدى ثرواته القيّمة فيُلبسه ما نسجه من حلة قشيبة في غاية الجمال والابداع،و يجرى عليه اعمالاً ويظهر اوضاعاً واشكالاً شتى لإظهار خوارق صنائعه وبدائع مهاراته، فيقصّ ويبدّل ويطوّل ويقصر، وهكذا...

تُرى أيحق لذلك الفقير الأجير أن يقول لذلك الصانع الماهر: ((انك تتعبني وترهقني بطلبك منّي الانحناء مرة والاعتدال أخرى.. وانك تشوّه بقصّك وتقصيرك هذا القميص الذي يجمّلني ويزينني؟ ترى أيقدر ان يقول له: لقد ظلمت وما انصفت؟!)).

وكذلك الأمر في الصانع الجليل الفاطر الجميل (ولله المثل الاعلى) اذ يبدّل قميص الوجود الذي ألبسه ذوي الحياة، ويقلبه في حالات كثيرة، ذلك القيمص المرصع باللطائف والحواس كالعين والاذن والعقل والقلب وامثالها، يبدّله ويقلّبه اظهاراً لنقوش اسمائه الحسنى.

ففي الاوضاع التي تتسم بالآلام والمصائب انوار جمال لطيف تشف عن اشعة رحمة ضمن لمعات الحكمة الإلهية، اظهاراً لأحكام بعض الاسماء الحسنى.



الخاتمة

[ هذه فقرات خمس اسكتت النفس الامارة بالسوء لسعيد القديم، تلك النفس الجاهلة المتفاخرة المغرورة المرائية المعجبة بنفسها]

C الفقرة الاولى:

ما دامت الاشياء موجودة ومتقنة الصنع، فلابد ان صانعاً ماهراً قد صنعها. فلقد اثبتنا في الكلمة الثانية والعشرين اثباتاً قاطعاً انه:

ان لم تُسند كل الاشياء الى الواحد الأحد، يتعسر كل شئ كتعسر الاشياء كلها. وإن اُسند كل شئ الى الواحد الأحد، تسهل الاشياء كلها كسهولة شئ واحد.

ولما كان الذي خلق الارض والسموات هو الواحد الأحد، فلابد ان ذلك البديع الحكيم لا يعطى ثمرات الارض والسموات ونتائجهما وغاياتهما - وهم ذوو الحياة - الى غيره فيفسد الامور. ولا يمكن ان يسلّمها الى ايدي الآخرين فيعبث بجميع اعماله الحكيمة. ولا يمكن ان يبيدها.. ولا يسلّم ايضاً شكرها وعباداتها الى غيره.

C الفقرة الثانية:

يا نفسي المغرورة! انكِ تشبهين ساق العنب، لا تغتري ولا تفتخري، فتلك الساق لم تعلق العناقيد على نفسها، بل علّقها عليها غيرها.

C الفقرة الثالثة:

يا نفسي المرائية! لا تغتري قائلة: انني خدمت الدين. فان الحديث الشريف صريح بـ ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر(1) فعليك ان تعدّى نفسكِ ذلك الرجل الفاجر، لانك غير مزكاة.

واعلمي ان خدمتك للدين وعباداتك ما هي الا شكر ما انعم الله عليك، وهي اداء لوظيفة الفطرة وفريضة الخلق ونتيجة الصنعة الإلهية.. اعلمي هذا وانقذي نفسك من العجب والرياء.

C الفقرة الرابعة:

ان كنت ترومين الحصول على علم الحقيقة، والحكمة الحقة، فاظفري بمعرفة الله، اذ حقائق الموجودات كلها، انما هي اشعة اسم الله الحق، ومظاهر اسمائه الحسنى، وتجليات صفاته الجليلة. واعلمي ان حقيقة كل شئ مادياً كان أو معنوياً وجوهرياً أو عرضياً، وحقيقة الانسان نفسه انما تستند الى نور من انوار اسمائه تعالى وترتكز على حقيقته. والاّ فهي صورة تافهة لا حقيقة لها. ولقد ذكرنا في ختام الكلمة العشرين شيئاً من هذا البحث.

يا نفسي!

ان كنت مشتاقة الى هذه الدنيا، وتفرين من الموت، فاعلمي يقيناً ان ما تظنينه حياة، ما هو الاّ الدقيقة التي انت فيها، فما قبل تلك الدقيقة من زمان وما فيه من اشياء دنيوية كله ميت. وما بعد تلك الدقيقة من زمان وما فيه كله عدم، لا شئ.

بمعنى ان ما تفتخرين به وتغترين به من حياة فانية ليس الاّ دقيقة واحدة، حتى ان قسماً من اهل التدقيق قالوا: ان الحياة عاشرة عشر من الدقيقة، بل آنٌّ سيّال.. من هنا حَكَم قسم من اهل الولاية والصلاح بعدمية الدنيا من حيث انها دنيا.

فما دام الامر هكذا فدعي الحياة المادية النفسية واصعدي الى درجات حياة القلب والروح والسر. وانظري ما اوسع دائرة حياتها، فالماضي والمستقبل - الميتان بالنسبة لك - حيّان بالنسبة لها وموجودان.

فيا نفسي:

ما دام الامر هكذا، ابكي كما يبكي قلبي واستغيثي وقولي:

أنا فانٍ، من كان فانياً لا اريد

انا عاجز، من كان عاجزاً لا اريد..

سلمت روحي للرحمن، سواه لا اريد..

بل اريد، ولكن حبيباً باقياً اريد..

انا ذرة..

ولكن شمساً سرمداً اريد.

انا لا شئ ومن غير شئ، ولكن الموجودات كلّها اريد.

C الفقرة الخامسة:

هذه الفقرة خطرت باللغة العربية وكتبت كما وردت. وهي اشارة الى مرتبة من المراتب الثلاث والثلاثين في ذكر ((الله اكبر)).

الله اكبر؛ اذ هو القدير العليم الحكيم الكريم الرحيم الجميل النقاش الازلي الذي ما حقيقة هذه الكائنات كلاً وجزءاً وصحائف وطبقاتٍ وما حقائق هذه الموجودات كلياً وجزئياً ووجوداً وبقاءً إلا:

خطوط قلم قـضائه وقدره وتنظيمه وتقديره بعلمٍ وحكمة.ٍ

ونقوش بركار علمه وحكمته وتصويره وتدبيره بصنع وعناية.

وتزيينات يد بـيـضاء صنعه وعنايته وتزيينه وتنويره بلطف وكرمٍِ.

وأزاهير لطائف لطفه وكرمه وتودده وتعرّفه برحمة ونعمة.

وثمرات فياض رحمته ونعمته وترحمه وتحننه بجمال وكمال.

ولمعات وتجليات جماله وكماله بشهادات تفانية المرايا وسيالية المظاهر مع بقاء الجمال المجرد السرمدي، الدائم التجلي والظهور، على مر الفصول والعصور والدهور، ودائم الانعام على مر الانام والايام والاعوام.

نعم فالاثر المكمّل يدل ذا عقل على الفعل المكمّل ثم الفعل المكّمل يدل ذا فهم على الاسم المكمل ثم الاسم المكمّل يدل بالبداهة على الوصف المكمّل ثم الوصف المكمل يدل بالضرورة على الشأن المكمّل ثم الشأن المكمل يدل باليقين على كمال الذات بما يليق بالذات وهو الحق اليقين.

نعم تفاني المرآة، زوال الموجودات، مع التجلي الدائم مع الفيض الملازم.. من اظهر الظواهر ان الجمال الظاهر، ليس ملك المظاهر.. من افصح تبيان.. من اوضح برهان للجمال المجرد للاحسان المجدد للواجب الوجود.. للباقي الودود..

اللّهم صل على سيّدنا محمّد من الازل الى الابد عدد ما في علم الله

وعلى آله وصحبه وسلم.

ذيل

هذا الذيل القصير جداً له اهمية عظيمة ومنافع للجميع

للوصول الى الله سبحانه وتعالى طرائق كثيرة، وسبل عديدة ومورد جميع الطرق الحقة ومنهل السبل الصائبة هو القرآن الكريم. الا ان بعض هذه الطرق اقرب من بعض واسلم واعم.

وقد استفدت من فيض القرآن الكريم - بالرغم من فهمي القاصر - طريقاً قصيراً وسبيلاً سوياً هو:

طريق العجز، الفقر، الشفقة، التفكر.

نعم! ان العجز كالعشق طريق موصل الى الله، بل اقرب واسلم، اذ هو يوصل الى المحبوبية بطريق العبودية.

والفقر مثله يوصل الى اسم الله (الرحمن).

وكذلك الشفقة كالعشق موصل الى الله الا انه انفذ منه في السير واوسع منه مدى، اذ هو يوصل الى اسم الله (الرحيم).

والتفكر ايضاً كالعشق الا انه اغنى منه واسطع نوراً وارحب سبيلاً، اذ هو يوصل السالك الى اسم الله (الحكيم).

وهذا الطريق يختلف عما سلكه اهل السلوك في طرق الخفاء - ذات الخطوات العشر كاللطائف العشر - وفي طرق الجهر - ذات الخطوات السبع حسب النفوس السبعة - فهذا الطريق عبارة عن اربع خطوات فحسب، وهو حقيقة شرعية اكثر مما هو طريقة صوفية.

ولا يذهبن بكم سوء الفهم الى الخطأ. فالمقصود بالعجز والفقر والتقصير انما هو اظهار ذلك كله امام الله سبحانه وليس اظهاره امام الناس.

اما اوراد هذا الطريق القصير واذكاره فتنحصر في اتباع السنة النبوية.. والعمل بالفرائض، ولا سيما اقامة الصلاة باعتدال الاركان والعمل بالاذكار عقبها.. وترك الكبائر.

اما منابع هذه الخطوات من القرآن الكريم فهي:

] فلا تُزكّوا انفُسَكم[ (النجم:32) تشير الى الخطوة الاولى.

] ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم أنفُسَهم[ (الحشر:19) تشير الى الخطوة الثانية.

] ما اصابكَ مِن حسنةٍ فمن الله، ومَا اصابكَ مِن سيئةٍ فِمن نفسِك[ (النساء:79) تشير الى الخطوة الثالثة:

] كلُّ شيءٍ هالكٌ الاّ وجْهَه[ (القصص:88)، تشير الى الخطوة الرابعة.

وايضاح هذه الخطوات الاربع بايجاز شديد هو:

الخطوة الاولى:

كما تشير اليها الآية الكريمة ] فلا تزكوا انفسكم[ وهي: عدم تزكية النفس. ذلك لان الانسان حسب جبلّته، وبمقتضى فطرته، محبٌ لنفسه بالذات، بل لا يحب الا ذاته في المقدمة. ويضحي بكل شئ من اجل نفسه، ويمدح نفسه مدحاً لا يليق الا بالمعبود وحده، وينزّه شخصه ويبرئ ساحة نفسه، بل لا يقبل التقصير لنفسه اصلاً ويدافع عنها دفاعاً قوياً بما يشبه العبادة، حتى كأنه يصرف ما اودعه الله فيه من اجهزة لحمده سبحانه وتقديسه الى نفسه، فيصيبه وصف الآية الكريمة: ] من اتّخذ الهَه هَواه[ (الفرقان:43) فيعجب بنفسه ويعتد بها.. فلابد اذن من تزكيتها فتزكيتُها في هذه الخطوة وتطهيرها هي بعدم تزكيتها.

الخطوة الثانية:

كما تلقّنه الآية الكريمة من درس: ] ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهُم انفُسَهم[ . وذلك: ان الانسان ينسى نفسه ويغفل عنها، فاذا ما فكر في الموت صرفه الى غيره، واذا ما رأى الفناء والزوال دفعه الى الآخرين، وكأنه لا يعنيه بشئ، اذ مقتضى النفس الامارة انها تذكر ذاتها في مقام اخذ الاجرة والحظوظ وتلتزم بها بشدة، بينما تتناسى ذاتها في مقام الخدمة والعمل والتكليف. فتزكيتها وتطهيرها وتربيتها في هذه الخطوة هي:

العمل بعكس هذه الحالة، اي عدم النسيان في عين النسيان، اي نسيان النفس في الحظوظ والاجرة، والتفكر فيها عند الخدمات والموت.



والخطوة الثالثة:

هي ما ترشد اليه الآية الكريمة: ] ما اصابكَ مِن حَسَنةٍ فَمِنَ الله وما اصابكَ مِنْ سيئة فمن نفسك[ وذلك: ان ما تقتضيه النفس دائماً انها تنسب الخير الى ذاتها، مما يسوقها هذا الى الفخر والعجب. فعلى المرء في هذه الخطوة ان لا يرى من نفسه الا القصور والنقص والعجز والفقر، وان يرى كل محاسنه وكمالاته احساناً من فاطره الجليل، ويتقبلها نعماً منه سبحانه، فيشكر عندئذ بدل الفخر ويحمد بدل المدح والمباهاة. فتزكية النفس في هذه المرتبة هي في سر هذه الآية الكريمة: ] قَد أفلَحَ مَنْ زَكّاها[ (الشمس:9).

وهي ان تعلم بأن كمالها في عدم كمالها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها، (اي كمال النفس في معرفة عدم كمالها، وقدرتها في عجزها امام الله، وغناها في فقرها اليه).

الخطوة الرابعة:

هي ما تعلمه الآية الكريمة: ] كُلُّ شَيٍء هالكٌ الا وجْهَه[ . ذلك لان النفس تتوهم نفسها حرة مستقلة بذاتها، لذا تدّعى نوعاً من الربوبية، وتضمر عصيانا حيال معبودها الحق. فبادراك الحقيقة الاتية ينجو الانسان من ذلك وهي: كل شئ بحد ذاته، وبمعناه الاسمي: زائلٌ، مفقود، حادث، معدوم، الا انه في معناه الحرفي، وبجهة قيامه بدور المرآة العاكسة لأسماء الصانع الجليل، وباعتبار مهامه ووظائفه: شاهد، مشهود، واجد، موجود.

فتزكيتها في هذه الخطوة هي معرفة: ان عدمها في وجودها ووجودها في عدمها، اي اذا رأت ذاتها واعطت لوجودها وجوداً، فانها تغرق في ظلمات عدم يسع الكائنات كلها. يعني اذا غفلت عن موجدها الحقيقي وهو الله، مغترة بوجودها الشخصي فانها تجد نفسها وحيدة غريقة في ظلمات الفراق والعدم غير المتناهية، كأنها اليراعة في ضيائها الفردي الباهت في ظلمات الليل البهيم. ولكن عندما تترك الانانية والغرور ترى نفسها حقاً انها لا شئ بالذات، وانما هي مرآة تعكس تجليات موجدها الحقيقي. فتظفر بوجود غير متناه وتربح وجود جميع المخلوقات.

نعم، من يجد الله فقد وجد كل شئ، فما الموجودات جميعها الا تجليات اسمائه الحسنى جل جلاله.



خاتمة

ان هذا الطريق الذي يتكون من اربع خطوات وهي العجز والفقر والشفقة والتفكر، قد سبقت ايضاحاته في (الكلمات الست والعشرين) السابقة من كتاب (الكلمات) الذي يبحث عن علم الحقيقة، حقيقة الشريعة، حكمة القرآن الكريم. الا اننا نشير هنا اشارة قصيرة الى بضع نقاط وهي: ان هذا الطريق هو اقصر واقرب من غيره، لانه عبارة عن اربع خطوات. فالعجز اذا ما تمكن من النفس يسلّمها مباشرة الى (القدير) ذي الجلال.بينما اذا تمكن العشق من النفس - في طريق العشق الذي هو انفذ الطرق الموصلة الى الله - فانها تتشبث بالمعشوق المجازي، وعندما ترى زواله تبلغ المحبوب الحقيقي.

ثم ان هذا الطريق اسلم من غيره، لان ليس للنفس فيه شطحات او ادعاءات فوق طاقتها، اذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز والفقر والتقصير كي يتجاوز حده.

ثم ان هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لانه لا يضطر الى اعدام الكائنات ولا الى سجنها، حيث ان اهل (وحدة الوجود) توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: (لا موجود الا هو) لاجل الوصول الى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا اهل (وحدة الشهود) حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان فقالوا: (لا مشهود الا هو) للوصول الى الاطمئنان القلبي.

بينما القرآن الكريم يعفو الكائنات بكل وضوح عن الاعدام ويطلق سراحها من السجن، فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر الى الكائنات انها مسخرة لفاطرها الجليل وخادمة في سبيله، وانها مظاهر لتجليات الاسماء الحسنى كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. اي انه يستخدمها بالمعنى الحرفي ويعزلها عن المعنى الاسمى من ان تكون خادمة ومسخرة بنفسها. وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد الى الحق سبحانه طريقاً من كل شئ.

وزبدة الكلام: ان هذا الطريق لا ينظر الى الموجودات بالمعنى الاسمي، اي لا ينظر اليها انها مسخرة لنفسها ولذاتها، بل يعزلها من هذا ويقلدها وظيفة، انها مسخرة لله سبحانه.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس