الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #35
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

فمثلاً: الآية الكريمة:

] الرحمن على العرشِ استوى[ تبين الربوبية الإلهية وكيفية تدبيرها لشؤون العالم في صورة تمثيل وتشبيه لمرتبة الربوبية بالسلطان الذي يعتلي عرشه ويدير أمر السلطنة.

نعم! لما كان القرآن كلاماً لرب العالمين نزل من المرتبة العظمى لربوبيته الجليلة، مهيمناً على جميع المراتب الاخرى، مرشداً البالغين الى تلك المراتب، مخترقاً سبعين ألف حجاب، ملتفتاً اليها ومنوراً لها، وقد نشر نوره على الاف الطبقات من المخاطبين المتباينين في الفهم والادراك، ونثر فيضه طوال عصور وقرون متفاوتة في الاستعدادات. وعلى الرغم من نشره لمعانيه بسهولة تامة في جميع الانحاء والازمان، احتفظ بحيويته ونداوته ونضارته ولم يفقد شيئاً منها، بل ظل في منتهى الطراوة والجدة واللطافة سهلاً ممتنعاً، اذ مثلما يلقى دروسه على أي عامي كان في غاية السهولة يلقيه على المختلفين في الفهم والمتباينين في الذكاء لكثير جداً من الطبقات المتفاوتة ويرشدهم الى الصواب ويورثهم القناعة والاطمئنان.

ففي هذا الكتاب المبين اينما وجهت نظرك يمكنك ان تشاهد لمعة اعجاز.

حاصل الكلام:

كما ان لفظة قرآنية مثل: ((الحمد لله)) عندما تُتلى تملأ الكهف الذي هو بمثابة اُذن الجبل، فانها تملأ في الوقت نفسه ما تشبه الاُذين الصغيرة جداً لبعوض فتستقر اللفظة نفسها فيهما معاً. كذلك الأمر في معاني القرآن الكريم. اذ مثلما تُشبع عقولاً جبارة، تعلّم عقولاً صغيرة وبسيطة جداً، وتُطمئنها بالكلمات نفسها، ذلك لأن القرآن يدعو جميع طبقات الجن والانس الى الايمان ويعلّم جميعهم علوم الايمان ويثبتها لهم جميعاً، لذا يستمع الى درس القرآن وارشاده اغبى الاغبياء من عامة الناس مع اخص الخواص جنباً الى جنب متكاتفين معاً.

أي أن القرآن الكريم مائدة سماوية تجد فيها الآف من مختلف طبقات الأفكار والعقول والقلوب والارواح غذاءهم، كل حسب ما يشتهيه ويلبّي رغباته. حتى ان كثيراً من أبواب القرآن ظلت مغلقة لتفتح في المستقبل من الزمان.

فإن شئت مثالاً على هذا المقام، فالقرآن كله من بدايته الى نهايته أمثلة لهذا المقام.

نعم، أن تلامذة القرآن والمستمعين لإرشاده من المجتهدين والصديقين وحكماء الاسلام والعلماء المحققين وعلماء اصول الفقه والمتكلمين والاولياء العارفين والاقطاب العاشقين والعلماء المدققين وعامة المسلمين.. كلهم يقولون بالاتفاق ((نحن نتلقى الارشاد على أفضل وجه من القرآن)).

والخلاصة:

أن لمعة اعجاز القرآن تتلمع في هذا المقام ايضاً - مقام الافهام والتعليم - كما هو الحال في سائر المقامات.

الشعاع الثاني

جامعية القرآن الخارقة

لهذا الشعاع خمس لمعات

اللمعة الاولى:

الجامعية الخارقة في لفظه. هذه الجامعية واضحة جلية في الآيات المذكورة في (الكلمات) السابقة وفي هذه (الكلمة).

نعم! ان الالفاظ القرآنية قد وُضعت وضعاً بحيث: أن لكلِ كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى لسكون احياناً وجوهاً كثيرة جداً، تمنح كل مخاطب حظّه ونصيبه من ابواب مختلفة، كما يشير الى ذلك الحديث الشريف، فلكل آية ظهرٌ وبطن وحدّ ومطّلع(1)، ولكلٍ شجون وغصون وفنون(2).

U فمثلاً:

] والجبالَ اوتاداً[ (النبأ: 7)

فحصة عامي من هذا الكلام أنه:

يرى الجبال كالاوتاد المغروزة في الارض كما هو ظاهر أمام عينه، فيتأمل ما فيها من نِعم وفوائد، ويشكر خالقه.

وحصة شاعر من هذا الكلام أنه:

يتخيل أن الارض سهل منبسط، وقبة السماء عبارة عن خيمة عظيمة خضراء ضربت عليه، وزينت الخيمة بمصابيح، وان الجبال تتراءى وهي تملأ دائرة الافق، تمس قممها اذيال السماء، وكأنها اوتاد تلك الخيمة العظيمة. فتغمره الحيرة والاعجاب ويقدس الصانع الجليل.

أما البدوي البليغ فحصته من هذا الكلام أنه:

يتصور سطح الارض كصحراء واسعة، وكأن سلاسل الجبال سلسلة ممتدة لخيم كثيرة بانواع شتى لمخلوقات متنوعة، حتى أن طبقة التراب عبارة عن غطاء اُلقي على تلك الاوتاد المرتفعة فرفعتها برؤوسها الحادة، جاعلةً منها مساكن مختلفة لأنواع شتى من المخلوقات.. هكذا يفهم فيسجد للفاطر الجليل سجدة حيرة واعجاب بجعله تلك المخلوقات العظيمة كأنها خيام ضربت على الارض.

أما الجغرافي الاديب فحصته من هذا الكلام أن:

كرة الارض عبارة عن سفينة تمخر عباب بحر المحيط الهوائي أو الاثيري.وان الجبال أوتاد دقّت على تلك السفينة للتثبيت والموازنة.. هكذا يفكر الجغرافي ويقول أمام عظمة القدير ذي الكمال الذي جعل الكرة الارضية الضخمة سفينة منتظمة وأركَبَنا فيها، لتجري بنا في آفاق العالم: (سبحانك ما اعظم شأنك).

أما المتخصص في امور المجتمع والملم بمتطلبات الحضارة الحديثة فحصتهُ من هذا الكلام:

أنه يفهم الارض عبارة عن مسكن، وان عماد حياة هذا المسكن هو حياة ذوي الحياة، وان عماد تلك الحياة هو الماء والهواء والتراب، التي هي شرائط الحياة. وان عماد هذه الثلاثة هو الجبال، لأن الجبال مخازن الماء، مشّاطة الهواء ومصفاته - اذ ترسب الغازات المضرة - وحامية التراب - اذ تحميه من استيلاء البحر والتوحل - وخزينة لسائر ما تقتضيه حياة الانسان.. هكذا يفهم فيحمد ويقدّس ذلكم الصانع ذا الجلال والاكرام الذي جعل هذه الجبال العملاقة اوتاداً ومخازن معايشنا على الارض التي هي مسكن حياتنا.

وحصة فيلسوف طبيعي من هذا الكلام:

أنه يدرك أن الامتزاجات والانقلابات والزلازل التي تحصل في باطن الارض تجد استقرارها وسكونها بظهور الجبال، فتكون الجبال سبباً لهدوء الارض واستقرارها حول محورها ومدارها وعدم عدولها عن مدارها السنوي وكأن الارض تتنفس بمنافذ الجبال فيخفّ غضَبُها وتسكن حدّتها.. هكذا يفهم ويطمئن ويلج في الايمان قائلاً: الحكمة لله.

U ومثلاً: ] ان السموات والارض كانتا رتقاً ففتقناهما[ (الانبياء: 30)

ان كلمة ((رتقاً)) في هذه الآية تفيد لمن لم يتلوث بالفلسفة:

السماء كانت صافية لا سحاب فيها. والارض جدباء لا حياة فيها، فالذي فتح ابواب السماء بالمطر وفرش الارض بالخضرة هو الذي خلق جميع ذوي الحياة من ذلك الماء، وكأنه حصل نوع من المزاوجة والتلقيح بينهما، وما هذا إلاّ من شأن القدير ذي الجلال الذي يكون وجه الارض لديه كبستان صغير والسحب التي تحجب وجه السماء معصرات لذلك البستان.. يفهم هكذا فيسجد امام عظمة قدرته تعالى.

وتفيد تلك الكلمة ((رتقاً)) للعالم الكوني:

انه في بدء الخليقة، كانت الارض والسماء كتلتين لا شكل لهما وعجينتين طريتين لا نفع لهما، فبينما هما مادة لا مخلوقات لهما ولا مَن يدب عليهما، بسطهما الفاطر الحكيم بسطاً جميلاً، ومنحهما صوراً نافعة وزينة فاخرة وكثرة كاثرة من المخلوقات.. هكذا يفهم ويأخذه العجب أمام سعة حكمته تعالى.

وتفيد هذه الكلمة للفلاسفة المعاصرين:

ان كرتنا الارضية وسائر السيارات التي تشكل المنظومة الشمسية كانت في البداية ممــتـزجة مـع الشــمــس بشــكل عجينة لم تُفـرش بعــدُ، ففتـّق القادر القـيوم تلك العجينة ومكّن فيها السيارات كلاً في موضعه، فالشمس هناك والارض هنا.. وهكذا. وفرش الارض بالتراب وانزل عليها المطر من السماء، ونثر عليها الضياء من الشمس واسكنها الانسان.. هكذا يفهم ويرفع رأسه من حمأة الطبيعة قائلاً:آمنت بالله الواحد الأحد.

U ومثلاً: ] والشمس تجري لمستقر لها[ (يس: 38): فاللام في (لمستقر) تفيد معنى اللام نفسها ومعنى (في) ومعنى (الى).

فهذه (اللام) يفهمها العوام بمعنى (الى) ويفهم الآية في ضوئها؛ أي:

ان الشمس التي تمنحكم الضوء والحرارة، تجري الى مستقرٍ لها وستبلغه يوماً، وعندها لـن تفيدكم شيئاً. فيتذكر بهذا ما ربط الله سبحانه وتعالى من نعمٍ عظيمة بالشمس، فيحمد ربه ويقدّسه قائلاً: سبحان الله والحمد للّه.

والآية نفسها تظهر (اللام) بمعنى (الى) الى العالِم ايضاً، ولكن ليس بمعنى ان الشمس مصدر الضوء وحده، وانما كمكوك تحيك المنسوجات الربانية التي تنسج في معمل الربيع والصيف. وانها مدادٌ ودواةٌ من نور لمكتوبات الصمد التي تُكتب على صحيفة الليل والنهار. فيتصورها هكذا ويتأمل في نظام العالم البديع الذي يشير اليه جريان الشمس الظاهري، فيهوي ساجداً أمام حكمة الصانع الحكيم قائلاً: ما شاء الله كان، تبارك الله.

أما بالنسبة للفلكي، فان (اللام) يفهمها بمعنى (في) أي: ان الشمس تنظم حركة منظومتها ((كزنبرك)) الساعة بحركة محورية حول نفسها. فأمام هذا الصانع الجليل الذي خلق مثل هذه الساعة العظمى يأخذه العجب والانبهار فيقول: العظمة والقدرة لله وحده، ويدع الفلسفة داخلاً في ميدان حكمة القرآن.

و(اللام) هذه يفهمها العالِم المدقق بمعنى ((العلة)) وبمعنى ((الظرفية)) أي: أن الصانع الحكيم جعل الاسباب الظاهرية ستاراً لأفعاله وحجاباً لشؤونه. فقد ربط السيارات بالشمس بقانونه المسمى بـ((الجاذبية)) وبه يُجري السيارات المختلفة بحركات مختلفة ولكن منتظمة. ويجري الشمس حول مركزها سبباً ظاهرياً لتوليد تلك الجاذبية. أي أن معنى لمستقر هو: ان الشمس تجري في مستقر لها لإستقرار منظومتها، لأن الحركة تولد الحرارة والحرارة تولد القوة والقوة تولد الجاذبية الظاهرية، وذلك قانون رباني وسنة إلهية.

وهكذا، فهذا الحكيم المدقق يفهم مثل هذه الحكمة من حرف واحد من القرآن الحكيم ويقول: الحمد لله، ان الحكمة الحقة لهي في القرآن فلا اعتبر الفلسفة بعدُ شيئاً يذكر.

ومن هذه (اللام) والاستقرار يرد هذا المعنى الى مَن يملك فكراً وقلباً شاعرياً: ان الشمس شجرة نورانية، والسيارات التي حولها انما هي ثمراتها السائحة، فالشمس تنتفض دون الثمرات - بخلاف الاشجار الاخرى - لئلا تتساقط الثمرات، وبعكسه تتبعثر الثمرات.

ويمكن ان يتخيل ايضاً أن الشمس كسيد في حلقة ذكر، يذكر الله في مركز تلك الحلقة ذكر عاشقٍِ ولهان، حتى يدفع الآخرين الى الجذبة والانتشاء.

وقد قلت في رسالة اخرى في هذا المعنى

نعم، ان الشمس مثمرة، تنتفض لئلا تتساقط الثمرات الطيبة ولو سكنت وسكتت، لانفقد الانجذاب، فيصرخ العشاقُ المنسّقون في الفضاء الواسع هلعاً من السقوط والضياع!

U ومثلاً: ] واولئك هم المفلحون[ (البقرة: 5) فيها سكوت، وفيها اطلاق؛ اذ لم تعين بم يفلحون؟ ليجد كل واحد مبتغاه في هذا السكوت. فالآية تختصر الكلام ليتسع المعنى.

اذ إن قصد قسم من المخاطبين هو النجاة من النار، وقسم آخر لا يفكر إلاّ بالجنة، وقسم يأمل السعادة الابدية، وقسم يرجو الرضى الإلهي فحسب، وقسم غاية امله رؤية الله سبحانه. وهكذا.. فيترك القرآنُ الكلامَ على إطلاقه ليعمّ، ويحذف ليفيد معاني كثيرة، ويوجز ليجد كلُ واحدٍ حظَه منها.

وهكذا فـ (المفلحون) هنا لا يعِّين بِمَ سيفلحون. وكأن الآية بسكوتها تقول: أيها المسلمون: لكم البشرى! أيها المتقي: ان لك نجاة من النار. أيها العابد الصالح: فلاحُك في الجنة. أيها العارف باللّه: ستنال رضاه. أيها العاشق لجمال الله: ستحظى برؤيته تعالى.. وهكذا.

ولقد أوردنا من القرآن الكريم من جهة جامعية اللفظ في الكلام والكلمة والحروف والسكوت مثالاً واحداً فحسب من بين الآف الامثلة؛ فقس الآية والقصة على ما اسلفناه.

U ومثلا:ً ] فاعلم انه لا إله إلاّ الله واستغفر لذنبك[ (محمد:19)

هذه الآية لها من الوجوه الكثيرة والمراتب العديدة حتى رأت جميع طبقات الاولياء في شتى وسائل سلوكهم ومراتبهم حاجتهم الى هذه الآية. فأخذ كلٌ منهم غذاءً معنوياً لائقاً بمرتبته التي هو فيها، لأن لفظ الجلالة (الله) اسم جامع لجميع الاسماء الحسنى، ففيه انواع من التوحيد بقدر عدد الاسماء نفسها، أي: لا رزاق إلاّ هو، لا خالق إلاّ هو، لا رحمن إلاّ هو.. وهكذا.

U ومثلاً: قصة موسى عليه السلام من القصص القرآنية، فيها من العبر والدروس بقدر ما في عصا موسى عليه السلام من الفوائد؛ اذ فيها تطمين للرسول e وتسلية له، وتهديد للكفار، وتقبيح للمنافقين، وتوبيخ لليهود وما شابهها من المقاصد. فلها اذاً وجوه كثيرة جداً. لذا كررت في سور عدة. فمع انها تفيد جميع المقاصد في كل موضع إلاّ أن مقصداً منها هو المقصود بالذات، وتبقى المقاصد الاخرى تابعة له

اذا قلت: كيف نفهم ان القرآن قد أراد جميع تلك المعاني التي جاءت في الامثلة السابقة، ويشير اليها؟

فالجواب: ما دام القرآن الكريم خطاباً أزلياً، يخاطب به الله سبحانه وتعالى مختلف طبقات البشرية المصطفة خلف العصور ويرشدهم جميعاً، فلابد أنه يدرج معاني عدة لتلائم مختلف الافهام، وسيضع إمارات على ارادته هذه.

نعم، ففي كتاب ((اشارات الاعجاز)) ذكرنا هذه المعاني الموجودة هنا وأمثالها من المعاني المتعددة لكلمات القرآن، واثبتناها وفق قواعد علم الصرف والنحو وحسب دساتير علم البيان وفن المعاني وقوانين فن البلاغة.

والى جانب هذا فان جميع الوجوه والمعاني التي هي صحيحة حسب علوم العربية، وصائبة وفق اصول الدين، ومقبولة في فن المعاني، ولائقة في علم البيان ومستحسنة في علم البلاغة، هي من معاني القرآن الكريم، باجماع المجتهدين والمفسرين وعلماء اصول الدين واصول الفقه وبشهادة اختلاف وجهات نظرهم. وقد وضع القرآن الكريم امارات على كل من تلك المعاني حسب درجاتها وهي؛ إما لفظية أو معنوية، والامارة المعنوية هي: اما السياق نفسه او سباق الكلام أو أمارة من آيات اُخر تشير الى ذلك المعنى.

ان مئات الالوف من التفاسير التي قد بلغ بعضها ثمانين مجلداً(1) وقد الّفها علماء محققون، برهان قاطع باهر على جامعية وخارقية لفظ القرآن.

وعلى كل حال فلو اوضحنا في هذه الكلمة كل امارة تدل على كل معنى من المعاني بقانونها وبقاعدتها لطالت بنا الكلمة، لذا نختصر الكلام هنا ونحيل الى كتاب (اشارات الاعجاز في مظان الايجاز).

اللمعة الثانية:

الجامعية الخارقة في معانيه. نعم، ان القرآن الكريم قد افاض من خزينة معانيه الجليلة مصادرَ جميع المجتهدين، ومذاقَ جميع العارفين، ومشاربَ جميع الواصلين ومسالكَ جميع الكاملين، ومذاهبَ جميع المحققين فضلاً عن انه صار دليلَهم في كل وقتٍ ومرشدَهم في رقيهم كل حين ناشراً على طرقهم انواره الساطعة من خزينته التي لا تنضب، كما هو مصدَّق ومتفق عليه بينهم.

اللمعة الثالثة:

الجامعية الخارقة في علمه. نعم، ان القرآن الكريم مثلما اجرى من بحر علومه؛ علومَ الشريعة المتعددة الوفيرة، وعلومَ الحقيقة المتنوعة الغزيرة، وعلومَ الطريقةِ المختلفة غير المحدودة، فانه اجرى كذلك من ذلك البحر بسخاء وانتظام؛ الحكمة الحقيقية لدائرة الممكنات، والعلومَ الحقيقية لدائرة الوجوب والمعارف الغامضة لدائرة الآخرة.

ولو اردنا ايراد مثال لهذه اللمعة فلابد من كتابة مجلد كامل! لذا نبيّن ((الكلمات)) الخمسة والعشرين السابقة فحسب.

نعم ان الحقائق الصادقة للكلمات الخمس والعشرين كلها إن هي إلاّ خمس وعشرون قطرة من بحر علم القرآن. فان وجد قصور في تلك ((الكلمات)) فهو راجع الى فهمي القاصر.

اللمعة الرابعة:

الجامعية الخارقة في مباحثه. نعم، ان القرآن قد جمع المباحث الكلية لما يخص الانسان ووظيفته، والكون وخالقه والارض والسموات والدنيا والاخرة والماضي والمستقبل والازل والابد فضلاً عن ضمه مباحث مهمة اساسية ابتداءً من خلق الانسان من النطفة الى دخوله القبر، ومن آداب الاكل والنوم الى مباحث القضاء والقدر، ومن خلق العالم في ستة ايام الى وظائف هبوب الريح التي يشير اليها القَسَم في والمرسلاتوالذاريات ومن مداخلته سبحانه في قلب الانسان وارادته باشارات الآيات الكريمة ] وما تشاؤن إلاّ أن يشاء الله[ (التكوير :29) ] يحولُ بين المرء وقلبهِ[ (الانفال:24) الى ] والسموات مطويات بيمينه[ (الزمر:67)، ومن ] وجعلنا فيها جنات من نخيلٍ واعناب[ (يس:34) الى الحقيقة العجيبة التي تعبّر عنها الآية ] اذا زلزلت الارض زلزالها[ (الزلزال)، ومن حالة السماء ] ثم استوى الى السماء وهي دخان[ (فصلت: 11) الى انشقاق السماء وانكدار النجوم وانتشارها في الفضاء الذي لايحد، ومن انفتاح الدنيا للامتحان الى انتهاء الاختبار، ومن القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة والبرزخ والحشر والصراط الى الجنة والسعادة الابدية، ومن وقائع الزمان الماضي الغابر من خلق آدم عليه السلام وصراع إبنَيْهِ الى الطوفان، الى هلاك قوم فرعون وحوادث جليلة لأغلب الانبياء عليهم السلام، ومن الحادثة الازلية في ] ألستُ بربكم[ (الاعراف: 172) الى ] وجوه يومئذ ناضرة ^ الى ربها ناظرة[ (القيامة:22،23) التي تفيد الابدية.

فجميع هذه المباحث الاساسية والمهمة تُبين في القرآن بياناً واضحاً يليق بذات الله الجليلة سبحانه الذي يدير الكون كله كأنه قصر ويفتح الدنيا والآخرة كغرفتين يفتح احداهما ويسد الاخرى بسهولة ، ويتصرف في الارض تصرفه في بستان صغير، وفي السماء كأنها سقف مزيّن بالمصابيح ، ويطّلع على الماضي والمستقبل كصحيفتين حاضرتين امام شهوده كالليل والنهار ويشاهد الازل والابد كاليوم وامس، يشاهدهما كالزمان الحاضر الذي اتصل فيه طرفا سلسلة الشؤون الإلهية . فكما ان معمارياً يتكلم في بناءين بناهما وفي إدارتهما ويجعل للاعمال المتعلقة بهما صحيفة عمل وفهرس نظـام؛ فالقــرآن الكــريم كــذلك كلام مبين يلــيـق بمن خلق هذا الــكـون ويديره وكتب صحيفة اعمـــاله وفــهارس برامــجه - إن جاز التعــبيــر - واظــهــرهــا. فلا يُشاهَد فيه اثرٌ من تصَـنّع وتكلّف باي جهة كانت كما لا أمارة قطعاً لشائبة تقليد أي كلامٍ عن أحد وفرض نفسه في موضع غير موضــعه وامثــالها من الخــدع. فهو بكل جديته، وبكل صـفائه، وبكــل خلوصـــه صـــافٍ بـــراق ســـاطــع زاهــر، اذ مثلما يقول ضوء الشمس: انا منبعث من الشمس فالقرآن كذلك يقول: ((انا كلام رب العالمين وبيانه)).

نعم ان الذي جمّل هذه الدنيا وزينها بصنائعه الثمينة وملأها باطايب نعمه الشهية ونشر في وجه الارض بدائع مخلوقاته ونعمه القيمة بكل إبداع واحسان وتنسيق وتنظيم ذلكم الصانع الجليل والمنعم المحسن، مَن غيرُهُ يليق أن يكون صاحب هذا البيان، بيان القرآن الكريم الذي ملأ الدنيا بالتقدير والتعظيم والاستحسان والاعجاب والحمد والشكر حتى جعل الارض رباط ذكر وتهليل،ومسجداً يرفع فيه اسم الله ومعرضاً لبدائع الصنعة الإلهية؟ ومَن يكون غيرُه صاحب هذا الكلام؟ ومَن يمكنه ان يدّعى ان يكون صاحبه؟ فهل يليق للضياء الذي ملأ الدنيا نوراً ان يعود لغير الشمس؟ وبيان القرآن الذي كشف لغز العالم ونوّره، نور مَن يكون غير نور من خلق السموات والارض؟ فمن يجرؤ ان يقلّده ويأتي بنظيرِ له؟

حقاً، ان الصانع الذي زيّن بابداع صنعته هذه الدنيا، محال الاّ يتكلم مع هذا الانسان المبهور بصُنعهِ وابداعه، فما دام انه يفعل ويعلم فلابد انه يتكلم، وما دام انه يتكلّم فلا يليق بكلامه إلاّ القرآن. فمالك الملك الذي يهتم بتنظيم زهرة صغيرة كيف لا يبالي بكلام حوّل مُلكه الى جذبة ذكر وتهليل؟ أيمكن أن يُنزّل من قدر هذا الكلام بنسبته الى غيره؟.

اللمعة الخامسة:

الجامعية الخارقة في اسلوبه وايجازه

((في هذه اللمعة خمسة اضواء))

الضوء الاول:

ان لأسلوب القرآن جامعية عجيبة، حتى ان سورة واحدة تتضمن بحر القرآن العظيم الذي ضم الكون بين جوانحه، وان آية واحدة تضم خزينة تلك السورة. وان اكثر الايات - كل منها - كسورة صغيرة، واكثر السور - كل منها - كقرآن صغير. فمن هذا الايجاز المعجز ينشأ لطف عظيم للارشاد وتسهيل واسع جميل. لأن كل انسان على الرغم من حاجتـه الى تــلاوة القــرآن كل وقــت، فانه قــد لا يتاح له تلاوته، اما لغباوته وقصور فهمه أو لأسباب اخرى. فلكي لا يُحرم أحدٌ من القرآن فان كل سورة في حكم قرآن صغير، بل كل آية طويلة في مقام سورة قصيرة، حتى أن اهل الكشف متفقون ان القرآن في الفاتحة والفاتحة في البسملة.أما البرهان على هذا فهو اجماع أهل التحقيق العلماء.

الضوء الثاني:

ان الايات القرآنية جامعة بدلالاتها واشاراتها لأنواع الكلام والمعارف الحقيقية والحاجات البشرية كالأمر والنهي، والوعد والوعيد، الترغيب والترهيب، الزجر والارشاد، القصص والامثال، الاحكام والمعارف الإلهية، العلوم الكونية، وقوانين وشرائط الحياة الشخصية والحياة الاجتماعية والحياة القلبية والحياة المعنوية والحياة الاخروية. حتى يصدق عليه المَثَل السائر بين اهل الحقيقة: ((خذ ما شئت لما شئت)) بمعنى ان الايات القرآنية فيها من الجامعية ما يمكن ان يكون دواء لكل داء وغذاء لكل حاجة.

نعم هكذا ينبغي ان يكون، لأن الرائد الكامل المطلق لجميع طبقات اهل الكمال الذين يقطعون المراتب دوماً الى الرقي - ذلك القرآن العظيم - لابد أن يكون مالكاً لهذه الخاصية.

الضوء الثالث:

الايجاز المعجز للقرآن. فقد يذكر القرآن مبدأ سلسلة طويلة ومنتهاها ذكراً لطيفاً يُري السلسلة بكاملها، وقد يدرج في كلمة واحدة براهين كثيرة لدعوىً؛ صراحة واشارة ورمزاً وايماءً.

فمثلاً:

] ومن آياتهِ خلقُ السموات والارض واختلافُ ألسنتِكُم وألوانكم[ (الروم:22)

هذه الآية الكريمة تذكر مبدأ سلسلة خلق الكون ومنتهاها. وهي سلسلة آيات التوحيد ودلائله، ثم تبين السلسلة الثانية، جاعلة القارئ يقرأ السلسلة الاولى وذلك:

ان أولى صحائف العالم الشاهدة على الصانع الحكيم هي خلق السموات والارض، ثم تزيين السموات بالنجـوم واعمــار الارض بـــذوي الحياة، ثم تبدل المواسم بتسخير الشمس والقمر،ثم سلسلة الشؤون الربانية في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما.. وهكذا تدريجياً حتى تبلغ خصوصية الملامح والاصوات وامتيازها وتشخصاتها التي هي اكثر مواضع انتشار الكثرة.

فاذا ما وجد انتظام بديع حكيم محير للالباب، وتبينَ عملُ قلمٍ صَنّاع حكيم في اكثر المواضع بُعداً عن الانتظام وازيدها تعرضاً للمصادفة ظاهراً، تلك هي ملامح وجوه الانسان والوانه، فلابد أن الصحائف الأخرى الظاهر نظامها تفهم بنفسها وتدل على مصّورها البديع.

ثم انه لما كان اثر الابداع والحكمة يُشاهد في أصل خلق السموات والارض التي جعلها الصانع الحكيم الحجر الاساس للكون، فلابد أن نقش الحكمة واثر الابداع ظاهر جداً في سائر اجزاء الكون.

فهذه الآية حوت ايجازاً لطيفاً معجزاً في اظهار الخفي واضمار الظاهر فأوجزتْ وأجملت. حقاً ان سلسلة البراهين المبتدئة من ] فسبحان الله حين تمسون..[ الى ] وله المثل الاعلى في السموات والارض وهو العزيز الحكيم[ والتي تتكرر فيها ست مرات ((ومن آياته... ومن آياته)) انما هي سلسلة جواهر، سلسلة نور، سلسلة اعجاز، سلسلة ايجاز اعجازي؛ يتمنى القلب ان اُبيّن الجواهر الكامنة في هذه الكنوز، ولكن ما حيلتي فالمقام لا يتحمله، فلا افتح ذلك الباب، واعلق الامر الى وقت آخر بمشيئة الله.

ومثلاً:

] ...فارسلون ^ يوسفُ ايها الصدِّيق[ (يوسف: 45-46) فبين كلمة (فارسلون) وكلمة (يوسف) يكمن معنى العبارة التالية: الى يوسف لأستعبر منه الرؤيا، فأرسلوه، فذهب الى السجن، وقال.. بمعنى انه أوجز عدة جملٍ في جملة واحدة من دون ان يخلّ بوضوح الآية ولا أشكل في فهمها.

ومثلاً:

] الذي جعل لكم من الشجر الاخـضر ناراً[ (يس: 80)

ففي معرض ردّ القرآن على الانسان العاصي الذي يتحدى الخالق بقوله: ] مَن يحيى العظام وهي رميم[ (يس: 78) يقول ] قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم[ (يس 79) ويقول أيضاً ] الذي جعل لكم من الشجر الاخـضر ناراً[ قادر على أن يحيى العظام وهي رميم.

فهذا الكلام يتوجه الى دعوى الاحياء من عدة جهات ويثبتها. إذ إنه يبدأ من سلسلة الاحسانات التي احسن الله بها الى الانسان فيذكّره بها ويثير شعوره، إلاّ انه يختصرالكلام لأنه فصّله في آيات اخرى، ويوجزه محيلاً اياه على العقل. أي: أن الذي منحكم من الشجر الثمرَ والنار، ومن الاعشاب الرزقَ والحبوب ، ومن التراب الحبوبَ والنباتات، قد جعل لكم الارض مهداً، فيها جميع ارزاقكم، والعالم قصراً فيه جميع لوازم حياتكم، فهل يمكن ان يترككم سدىً فتفروا منه، وتختفوا عنه في العدم؟ فلا يمكن أن تكونوا سدىً فتدخلوا القبر وتناموا براحة دون سؤال عما كسبتم ودون احيائكم؟.

ثم يشير الى دليل واحد لتلك الدعوى: فيقول رمزاً بكلمة ] الشجر الاخـضر[ ايها المنكر للحشر! انظر الى الاشجار! فإن مَن يحيى اشجاراً لاحدّ لها في الربيع بعد أن ماتت في الشتاء واصبحت شبيهة بالعظام.. ويجعلها مخضرّة ، بل يُظهر في كل شجرة ثلاثة نماذج من الحشر؛ في الاوراق والازهار والاثمار.. ان هذا القدير لا تُتحدّى قدرتُه بالانكار ولا يُستبعد منه الحشر.

ثم يشير الى دليل آخر ويقول:

ان الذي اخرج لكم النار، تلك المادة الخفيفة النورانية، من الشجر الكثيف الثقيل المظلم، كيف تستبعدون منه منح حياةٍ لطيـفة كالـنار، وشعورٍ كالــنور لعظـام كالحطب.

ثم يأتي بدليل آخر صراحة ويقول:

ان الذي يخلق النار من الشجر المشهور لدى البدويين بحكّ غصنين معاً، ويجمع بين صفتين متضادتين الرطوبة والحــرارة ويجعل احــداهما منــشأ للاخــرى، يدلنا على أن كل شـــئ حتى العــنــاصــر الأصــلية والتابعة انما تتــحرك بقــوته وتــتمـثل بأمره. ولاشئ منها يتحرك بذاته أو سدىً. فمثل هذا الخالق العظيم لا يمكن أن يُستبعد منه احياء الانسان من التراب ـ وقد خلقه من التراب ويعود اليه - فلا يُتحدى بالعصيان.

ثم بعد ذلك يذكّر بكلمة ] الشجر الاخـضر[ شجرة موسى عليه السلام المشهورة فيومئ الى اتفاق الانبياء ايماءً لطيفاً، بأن هذه الدعوى الاحمدية (عليه الصلاة والسلام) هي بعينها دعوى موسى عليه السلام. مما يزيد ايجاز هذه الكلمة لطافةً وحسناً آخر.

الضوء الرابع:

ان ايجاز القرآن جامع ومعجز، فلو انعم النظر فيه لشوهد بوضوح ان القرآن قد بيّن في مثالٍ جزئي وفي حادثة خاصة، دساتيرَ كلية واسعة وقوانينَ عامة طويلة، وكأنه يبين في غرفة ماءٍ بحراً واسعاً.

سنشير الى مثالين اثنين من آلاف امثلته.

C المثال الاول:

هو الايات الثلاث التي فصّلنا شرحها في المقام الاول من ((الكلمة العشرين)) : وهي:

انه بتعليم آدم عليه السلام الاسماء كلها تفيد الآية الكريمة: تعليم جميع العلوم والفنون الملهَمة لبني آدم.

وبحادثة سجود الملائكة لآدم عليه السلام وعدم سجود الشيطان تبين الآية: ان اكثر الموجودات ـ من السمك الى المَلَك ـ مسخرةٌ لبني الانسان، كما ان المخلوقات المضرة ـ من الثعبان الى الشيطان ـ لا تنقاد اليه بل تعاديه.

وبحادثة ذبح قوم موسى عليه السلام البقرة تعبّر الآية عن: ان فكرة عبادة البقر قد ذُبحتْ بسكين موسى عليه السلام، تلك الفكرة التي كانت رائجة في مصر حتى ان لها اثراً مباشراً في حادثة العجل.

وبنبعان الماء من الحجر وتشقق الصخور وسيلان الماء منها تبين الآية: ان الطبقة الصخرية التي تحت التراب خزائن أوعية الماء تزوّد التراب بما يبعث فيه الحياة.

C المثال الثاني:

ان قصة موسى عليه السلام قد تكررت كثيراً في القرآن الكريم؛ اذ إن في كل جملة منها، وفي كل جزء منها إظهاراً لطرفٍ من دستور كلي، ويعبّر عن ذلك الدستور.

منها: الآية الكريمة ] يا هامان ابنِ لي صرحاً[ (غافر: 36) يأمر فرعون وزيره: إبنِ لي برجاً عالياً لأطّلِع على احوال السموات وانظر هل هناك إله يتصرف فيها كما يدّعيه موسى عليه السلام؟ فبكلمة ((صرحا)) تبين الآية الكريمة بحادثة جزئية دستوراً عجيباً وعُرفاً غريباً كان جارياً في سلالة فراعنة مصر الذين ادّعوا الربوبية لجحودهم بالخالق وايمانهم بالطبيعة، وخلّدوا اسماءهم بجبروتهم وعُتوهم، فشيّدوا الاهرام المشهورة كأنها جبال وسط صحراء لا جبال فيها، ليشتهروا بها، وحفظوا جنائزهم بالتحنيط واضعين اياها في تلك المقابر الشامخة، لاعتقادهم بتناسخ الارواح والسحر.

ومنها: قوله تعالى ] فاليوم ننجيك ببدنك[ (يونس: 92) والخطاب موجه الى فرعون الذي غرق، وفي الوقت نفسه تبين الآية: ما كان للفراعنة من دستور لحياتهم مذكّرٍ بالموت ملئٍ بالعبر، وهو نقل اجساد موتاهم بالتحنيط من الماضي الى الاجيال المقبلة لعرضها امامهم وفق اعتقادهم بتناسخ الارواح، كما تفيد الآية الكريمة باسلوب معجز اشارة غيبية الى: ان الجسد الذي اكتشف في العصر الأخير هو نفسه جسد فرعون الذي غرق، فكما اُلقي به الى الساحل في الموضع الذي غرق فيه، فسيلقى به كذلك من بحر الزمان فوق امواج العصور الى ساحل هذا العصر.

ومنها: قوله تعالى ] يذبّحون ابناءكم ويستحيون نساءكم[ (البقرة: 49) فانه بحادثة ذبح بنى اسرائيل واستحياء نسائهم وبناتهم في عهد فرعون يبين الإبادة الجماعية التي يتعرض لها اليهود في اكثر البلدان وفي كل عصر، والدور المهم الذي تؤديه نساؤهم وبناتهم في حياة السفاهة للبشرية وتحلل اخلاقها.

ومنها: ] ولتجدنّهم أحرصَ الناسِ على حياة[ (البقرة: 96)

] وترى كثيراً منهم يُسارعون في الاثم والعدوان واكلهم السُحت لبئسَ ما كانوا يعملون[ (المائدة: 62 )

] ويسعوْن في الارض فساداً والله لا يحبُ المفسدين[ (المائدة: 64)

] وقـضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الارض مرتين[ (الاسراء:4)

] ولاتعثوا في الارض مفسدين[ (البقرة: 60)

هذان الحكمان القاضيان في حق اليهود - الحرص والفساد - يتضمنان هذين الدستورين العامين المهمين، اللذين يديرهما اولئك القوم في حياة المجتمع الانساني بالمكر والحيل والخديعة؛ فالآية تبين: انهم هم الذين زلزلوا الحياة الاجتماعية الانسانية واوقدوا الحرب بين الفقراء والاغنياء بتحريض العاملين على اصحاب رأس المال. وكانوا السبب في تأسيس البنوك بجعلهم الربا أضعافاً مضاعفة، وجمعوا اموالاً طائلة بكل وسيلة دنيئة بالمكر والحيل، هؤلاء القوم هم انفسهم ايضاً انخرطوا في كل انواع المنظمات الفاسدة ومدّوا أيديهم الى كل نوع من انواع الثورات، أخذاً لثأرهم من الشعوب الغالبة ومن الحكومات التي ذاقوا منها الحرمان وسامتهم انواع العذاب.

ومنها:

] فتمنوا الموت إن كنتم صادقين^ ولن يتمنوه ابداً[ (البقرة: 94ـ95)

فالآية تبين بعنوان حادثة جزئية وقعت في مجلس صغير في الحضرة النبوية الكريمة من أن اليهود الذين هم أحرص الناس على حياة وأخوفهم من الموت، لن يتمنوا الموت ولن يتخلّوا عن الحرص على الحياة حتى قيام الساعة.

ومنها:

] وضربت عليهم الذلة والمسكنة[ (البقرة:61)

تبين الآية الكريمة بهذا العنوان مقدرات اليهود في المستقبل بصورة عامة، وحيث أن الحرص والفساد قد تغلغل في سجاياهم وتمكن من طبعهم فالقرآن الكريم يغلظ عليهم في الكلام ويصفعهم صفعات زجر عنيفة للتأديب.

ففي ضوء هذه الامثلة، قس بنفسك قصة موسى عليه السلام وحوادث وقعت لبني اسرائيل وقصصهم.

وبعد، فان وراء كلمات القرآن البسيطة ومباحثه الجزئية هناك كثير من امثال ما في هذا الضوء الرابع من لمعات اعجاز كلمعة ايجاز اعجازي، والعارف تكفيه الاشارة.

الضوء الخامس:

هو الجامعية الخارقة لمقاصد القرآن ومسائله ومعانيه واساليبه ولطائفه ومحاسنه. نعم! اذا انعم النظر في سور القرآن الكريم وآياته، ولاسيما فواتح السور، ومبادئ الآيات ومقاطعها تبيّن:

ان القرآن المعجز البيان قد جمع انواع البلاغة، وجميع اقسام فضائل الكلام، وجميع اصناف الاساليب العالية وجميع افراد محاسن الاخلاق، وجميع خلاصات العلوم الكونية، وجميع فهارس المعارف الإلهية، وجميع الدساتير النافعة للحياة البشرية الشخصية والاجتماعية، وجميع القوانين النورانية السامية لحكمة الكون.. وعلى الرغم من جمعه هذا لايظهر عليه أي اثر كان من آثار الخلط وعدم الاستقامة في التركيب أو المعنى.

حقاً، ان جمع جميع هذه الاجناس المختلفة الكثيرة في موضع واحد من دون أن ينشأ منه اختلال نظامٍ أو اختلاط وتشوش، انما هو شأن نظام اعجاز قهّار ليس إلاّ.

وحقاً ان تمزيق ستار العاديّات - التي هي مصدر الجهل المركب - ببيانات نافذة، واستخراج خوارق العادات المتسترة تحت ذلك الستار واظهارها بجلاء، وتحطيم طاغوت الطبيعة - التي هي منبع الضلالة - بسيوف البراهين الالماسية، وتشتيت حجب نوم الغفلة الكثيفة بصيحات مدوية كالرعد، وحل طلسم الكون المغلق والمعمّى العجيب للعالم الذي أعجز الفلسفة البشرية والحكمة الانسانية... ما هو إلاّ من صنع هذا القرآن المعجز البيان، البصير بالحقيقة ، المطّلع على الغيب، المانح للهداية، المظهر للحق.

نعم، إذا اُنعم النظر في آيات القرآن الكريم بعين الانصاف لشوهدت أنها لا تشبه فكراً تدريجياً متسلسلاً يتابع مقصداً أو مقصدين كما هو الحال في سائر الكتب بل انها تُلْقى إلقاءً، ولها طور دفعي وآني، وان عليها علامة أن كل طائفة منها ترد معاً انما ترد مستقلة وروداً وجيزاً منجّماً ومن مكان قصي ضمن مخابرة في غاية الاهمية والجدية.

نعم، مَن غيرُ رب العالمين يستطيع ان يجري هذا الكلام الوثيق الصلة بالكون وبخالق الكون وبهذه الصورة الجادة؟ ومَن غيرُه تعالى يتجاوز حدّه بما لا حد له من التجاوز فيتكلم حسب هواه باسم الخالق ذي الجلال وباسم الكون كلاماً صحيحاً كهذا؟

نعم، انه واضح جلي في القرآن أنه كلام رب العالمين.. هذا الكلام الجاد الحق السامي الحقيقي الخالص، ليس عليه اية امارة كانت تومئ بالتقليد. فلو فرضنا محالاً ان هناك مَن هو مثل مسيلمة الكذاب الذي تجاوز حدّه بغير حدود فقلّد كلام خالقه ذي العزة والجبروت وتكلّم من بنات فكره ناصباً نفسه متكلماً عن الكون، فلابد أن ستظهر الاف من أمارات التقليد والتصنع والاف من علامات الغش والتكلف. لأن مَن يتلـبّس طوراً اسمى واعلى بكثير من حالته الدنيئة لا شك أن كل حالة من حالاته تدل على التقليد والتصنع.

فانظر الى هذه الحقيقة التي يعلنها هذا القَسَم وانعم النظر فيها:

] والنجم اذا هوى ^

ما ضل صاحبكم وما غوى ^

وما ينطق عن الهوى ^

ان هو إلاّ وحيٌ يوحى[ (النجم: 1ـ4).



الشعاع الثالث

اعجاز القرآن الكريم الناشئ من إخباره عن الغيوب وديمومة شبابه، وصلاحه لكل طبقة من الناس . ولهذا الشعاع ثلاث جلوات.

الجلوة الاولى:

إخباره عن الغيوب . لهذه الجلوة ثلاث قبسات.

القبس الاول:

إخباره الغيبي عن الماضي

ان القرآن الحكيم، بلسان امي امين بالاتفاق يذكر اخباراً من لدن آدم عليه السلام الى خير القرون، مع ذكره أهم احوال الانبياء عليهم السلام واحداثهم المهمة، يذكرها ذكراً في منتهى القوة وغاية الجد، وبتصديق من الكتب السابقة كالتوراة والانجيل فيوافق ما اتفقت عليه تلك الكتب السابقة ويصحح حقيقة الواقعة ويفصِل في تلك المباحث التي اختلفت فيها.

بمعنى أن نظر القرآن الكريم ذلك النظر المطّلع على الغيب يرى احوال الماضي أفضل من تلك الكتب وبما هو فوقها جميعاً بحيث يزكيّها ويصدّقها في المسائل المتفق عليها، ويصححها ويفصِل في المباحث التي اختلف فيها. علماً ان إخبار القرآن الذي يخص احوال الماضي ووقائعه ليس امراً عقلياً حتى يُخبر عنه بالعقل، بل هو أمر نقلي متوقف على السماع، والنقل خاص بأهل القراءة والكتابة، مع ان الاعداء والاصدقاء متفقون معاً على أن القرآن انما نزل على شخص امي لا يعرف القراءة والكتابة، معروف بالامانة موصوف بالأُمية. وحينما يخبر عن تلك الاحوال الماضية يخبر عنها وكأنه يشاهدها كلها، اذ يتناول روح حادثة طويلة وعقدتها الحياتية، فيخبر عنها، ويجعلها مقدمة لمقصده. بمعنى ان الخلاصات والفذلكات المذكورة في القرآن الكريم تدل على: ان الذي أظهرها يرى جميع الماضي بجميع احواله، إذ كما ان شخصاً متخصصاً في فن أو صنعة اذا اتى بخلاصة من ذلك الفن، أو بنموذج من تلك الصنعة، فانها تدل على مهارته وملكته. كذلك الخلاصات وروح الوقائع المذكورة في القرآن الكريم تبين:

ان الذي يقولها انما يقولها وقد أحاط بها ويراها ثم يخبر عنها بمهارة فوق العادة (ان جاز التعبير).

الفبس الثاني:

إخباره الغيبي عن المستقبل

لهذا القسم انواع كثيرة:

القسم الاول: خاص بقسم من اهل الكشف والولاية.

C مثلاً:

ان محي الدين بن عربي وجد كثيراً من الإخبار عن الغيب في سورة الروم ] الم ^ غُلبت الروم[ (الروم:1- 2)

وان الامام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) قد شاهد في المقطّعات التي في بدايات السور كثيراً من اشارات المعاملات الغيبية.

وبالنسبة الى علماء الباطن فالقرآن الحكيم من اوله الى آخره نوع من الاخبار عن الغيب.

أما نحن فسنشير الى قسم منها، الى الذي يخص العموم ويرجع الى الجميع. ولهذا القسم ايضاً طبقات كثيرة، فسنقصركلامنا على طبقة واحدة.

فالقرآن الكريم يقول للرسول الكريم e (1) : ] فاصبر إنّ وعدَ الله حقٌ[ (الروم: 60)

] لتدخُلنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله آمنين محلّقين رؤسَكُم ومقصّرين لا تخافون[ (الفتح: 27)

] هو الذي ارسل رسُولهُ بالهدى ودين الحق ليُظْهرهُ على الدين كله..[ (الفتح:28)

] وهم مِن بعدِ غَلَبهم سَيغْلِبون^ في بـضع سنين للّه الامر[ (الروم: 3،4)

] فستبْصِر ويُبصرون^ بأيّكم المفتون[ (القلم: 5،6)

] ام يقولون شاعرٌ نتربّص به ريبَ المنون^ قل تربّصوا فاني معكم من المتربصين[ (الطور: 30 - 31)

] والله يعصِمُك من الناس[ (المائدة: 67)

] فان لم تفعلوا ولن تفعلوا..[ (البقرة:24)

] ولن يتمنَوه ابداً[ (البقرة:95)

] سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهِم حتى يتبيّن لهم انه الحقّ[ (فصلت: 53)

] قل لئن اجتمعتِ الانسُ والجنُ على ان ياتوا بمثل هذا القرآنِ لا يأتون بمثله ولو كان بعـضُهم لبعضٍٍ ظهيراً[ (الاسراء:88)

] ياتى الله بقومٍ يحبّهم ويحبّونه أذلةٍ على المؤمنين اعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم[ (المائدة :54)

] وقل الحمد لله سيريكم اياته فتعرفونها[ (النمل: 93)

] قل هو الرحمنُ امنّا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين[ (الملك:29)

] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليَستَخلفنَّهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم ديَنهم الذي ارتـضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا[ (النور: 55)

وامثال هذه الآيات كثيرة جداً تتضمن اخباراً عن الغيب وقد تحققت كما أخبرت.

فالإخبار عن الغيب دون تردد وبكمال الجد والاطمئنان وبما يُشعر بقوة الوثوق، على لسان مَن هو معرّض لاعتراضات المعترضين وانتقاداتهم، وربما يفقد دعواه لخطأ طفيف، يدل دلالة قاطعة: انه يتلقى الدرس من استاذه الازلي ثم يقوله للناس.

القبس الثالث:

إخباره الغيب عن الحقائق الإلهية والحقائق الكونية والامور الاخروية.

نعم! ان بيانات القرآن التي تخص الحقائق الإلهية، وبياناته الكونية التي فتحت طلسم الكون وكشفت عن معمّى خلق العالم لهي اعظم البيانات الغيبية، لأنه ليس من شأن العقل قط، ولا يمكنه أن يسلك سلوكاً مستقيماً بين مالايحد من طرق الضلالة، فيجد تلك الحقائق الغيبية. وكما هو معلوم فان اعظم دهاة حكمـاء البــشر لم يصلوا الى اصغر تلك الحقائق وابسطها بعقولهم. ثم ان عقول البشر ستقول بلا شك امام تلك الحقائق الإلهية والحقائق الكونية التي اظهرها القرآن الكريم: صدقتَ، وستقبل تلك الحقائق بعد استماعها الى بيان القرآن بصفاء القلب وتزكية النفس، وبعد رقي الروح واكتمال العقل، وستباركه.

وحيث ان ((الكلمة الحادية عشرة)) قد أوضحت وأثبتت نبذة من هذا القسم فلا داعي للتكرار.

أما اخبار القرآن الغيبي عن الآخرة والبرزخ، فان عقل البشر وإن لم يدرك احوال الآخرة والبرزخ بمفرده ولا يراها وحده، إلاّ ان القرآن يبينها ويثبتها اثباتاً يبلغ درجة الشهود.

فراجع ((الكلمة العاشرة)) لتلمس مدى صواب الاخبار الغيبي عن الآخرة الذي أخبر به القرآن الكريم. فقد اثبتته تلك الرسالة ووضحته ايّما ايضاح.

الجلوة الثانية:

شبابية القرآن وفتوته

ان القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوته حتى كأنه ينزل في كل عصر نضراً فتياً.

نعم! ان القرآن الكريم لأنه خطاب ازلي يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطاباً مباشراً يلزم ان تكون له شبابية دائمة كهذه. فلقد ظهر شاباً وهو كذلك كما كان. حتى انه ينظر الى كل عصر من العصور المختلفة في الافكار والمتباينة في الطبائع نظراً كأنه خاص بذلك العصر ووفق مقتضياته ملقناً دروسه ملفتاً اليها الانظار.

ان آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم مثله، وتتغير وتُبدَّل. إلاّ ان احكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها اكثر كلما مرت العصور.

نعم، ان هذا العصر الذي اغترّ بنفسه وأصمَّ اذنيه عن سماع القرآن اكثر من أي عصر مضى، واهل الكتاب منهم خاصة، أحوج ما يكونون الى ارشاد القرآن الذي يخاطبهم بـ ((يا اهل الكتاب.. يا اهل الكتاب)) حتى كأن ذلك الخطاب موجّه الى هذا العصر بالذات إذ إن لفظ ((اهل الكتاب)) يتضمن معنى: اهل الثقافة الحديثة ايضاً!

فالقرآن يطلق نداءه يدوّي في اجواء الآفاق ويملأ الارض والسبع الطباق بكل شدة وقوة وبكل نضارة وشباب فيقول:

] يا أهل الكتاب تعالَوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم..[ (آل عمران 64)

فمثلاً: ان الافراد والجماعات مع انهم قد عجزوا عن معارضة القرآن إلاّ أن المدنية الحاضرة التي هي حصيلة افكار بني البشر وربما الجن ايضاً قد اتخذت طوراً مخالفاً له واخذت تعارض اعجازه باساليبها الساحرة. فلأجل اثبات اعجاز القرآن بدعوى الآية الكريمة ] قل لئن اجتمعت الانس والجن..[ لهذا المعارض الجديد الرهيب نضع الاسس والدساتير التي اتت بها المدنية الحاضرة امام اسس القرآن الكريم.

ففي الدرجة الاولى: نضع الموازنات التي عقدت والموازين التي نصبت في الكلمات السابقة، ابتداءاً من الكلمة الاولى الى الخامسة والعشرين، وكذا الآيات الكريمة المتصدرة لتلك الكلمات والتي تبين حقيقتها، تثبت إعجاز القرآن وظهوره على المدنية الحاضرة بيقين لا يقبل الشك قطعاً.

وفي الدرجة الثانية: نورد اجمالاً قسماً من دساتير المدنية والقرآن التي وضحته واثبتته (الكلمة الثانية عشرة).

فالمدنية الحاضرة تؤمن بفلسفتها: ان ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي (القوة) وهي تستهدف (المنفعة) في كل شئ. وتتخذ (الصراع) دستوراً للحياة. وتلتزم بالعنصرية والقومية السلبية رابطةً للجماعات. وغايتها هي (لهو عابث) لإشباع رغبات الاهواء وميول النفس التي من شأنها تزييد جموح النفس واثارة الهوى. ومن المعلوم ان شأن (القوة) هو (التجاوز). وشأن (المنفعة) هو (التزاحم) اذ هي لا تفي بحاجات الجميع وتلبية رغباتهم. وشأن (الصراع) هو (التصادم) وشأن (العنصرية) هو (التجاوز) حيث تكبر بابتلاع غيرها.

فهذه الدساتير والاسس التي تستند اليها هذه المدنية الحاضرة هي التي جعلتها عاجزة - مع محاسنها - عن ان تمنح سوى عشرين بالمائة من البشر سعادة ظاهرية بينما ألقت البقية الى شقاء وتعاسة وقلق.

أما حكمة القرآن فهي تقبل (الحق) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية بدلاً من (القوة).. وتجعل (رضى الله ونيل الفضائل) هو الغاية والهدف، بدلاً من (المنفعة)..

وتتخذ دستور (التعاون) اساساً في الحياة، بدلاً من دستور (الصراع).. وتلتزم رابطة الدين والصنف والوطن لربط فئات الجماعات، بدلاً من (العنصرية والقومية السلبية).. وتجعل غاياتها (الحدّ من تجاوز النفس الامارة ودفع الروح الى معالي الامور وتطمين مشاعرها السامية لسوق الانسان نحو الكمال والمثل العليا لجعل الانسان انساناً حقاً).

ان شأن (الحق) هو (الاتفاق).. وشأن (الفضيلة) هو (التساند).. وشأن (التعاون) هو (اغاثة كل للآخر).. وشأن (الدين) هو (الاخوة والتكاتف).. وشأن (إلجام النفس وكبح جماحها واطلاق الروح وحثها نحو الكمال) هو (سعادة الدارين).

وهكذا غُلبت المدنية الحاضرة أمام القرآن الحكيم مع ما أخذت من محاسنَ من الاديان السابقة ولا سيما من القرآن الكريم.

وفي الدرجة الثالثة: سنبين - على سبيل المثال - اربعة مسائل فحسب من بين الاف المسائل:

U المسألة الاولى:

ان دساتير القرآن الكريم وقوانينه لأنها آتية من الازل فهي باقية وماضية الى الابد. لاتهرم ابداً ولا يصيبها الموت، كما تهرم القوانين المدنية وتموت، بل هي شابة وقوية دائماً في كل زمان.

فمثلاً: ان المدنية بكل جمعياتها الخيرية، وانظمتها الصارمة ونظمها الجبارة، ومؤسساتها التربوية الاخلاقية لم تستطع ان تعارض مسألتين من القرآن الكريم بل انهارت امامهما وهي في قوله تعالى :

] وآتوا الزكاة[ (البقرة: 43) و] ..واحلّ الله البيع وحرّم الربا[ (البقرة: 275)

سنبين هذا الظهور القرآني المعجز وهذه الغالبية بمقدمة:

ان اس اساس جميع الاضطرابات والثورات في المجتمع الانساني انما هو كلمة واحدة، كما أن منبع جميع الاخلاق الرذيلة كلمة واحدة ايضاً. كما اُثبت ذلك في (اشارات الاعجاز).

الكلمة الاولى: (ان شبعتُ، فلا عليّ ان يموت غيري من الجوع).

الكلمة الثانية: (اكتسبْ انتَ، لآكل انا، واتعبْ انت لأستريح أنا).

نعم، انه لا يمكن العيش بسلام ووئام في مجتمع إلاّ بالمحافظة على التوزان القائم بين الخواص والعوام، اي بين الاغنياء والفقراء، واساس هذا التوزان هو رحمة الخواص وشفقتهم على العوام، واطاعة العوام واحترامهم للخواص.

فالآن، ان الكلمة الاولى قد ساقت الخواص الى الظلم والفساد، ودفعت الكلمة الثانية العوام الى الحقد والحسد والصراع. فسُلبت البشرية الراحة والامان لعصور خلت كما هو في هذا العصر، حيث ظهرت حوادث اوربا الجسام بالصراع القائم بين العاملين واصحاب رأس المال كما لا يخفى على أحد.

فالمدنية بكل جمعياتها الخيرية ومؤسساتها الاخلاقية وبكل وسائل نظامها وانضباطها الصارم عجزت عن ان تصلح بين تينك الطبقتين من البشر كما عجزت عن ان تضمد جرحي الحياة البشرية الغائرَين.

أما القرآن الكريم فانه يقلع الكلمة الاولى من جذورها، ويداويها بوجوب الزكاة. ويقلع الكلمة الثانية من اساسها ويداويها بحرمة الربا.

نعم، ان الآيات القرآنية تقف على باب العالم قائلة للربا: الدخول ممنوع. وتأمر البشرية: اوصدوا ابواب الربا لتنسد امامكم ابواب الحروب. وتحذّر تلاميذ القرآن المؤمنين من الدخول فيها.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس