الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #37
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات


الاساس الثاني:

ان المدنية الحاضرة لا تقبل تعدد الزوجات، وتحسب ذلك الحكم القرآني مخالفاً للحكمة ومنافياً لمصلحة البشر.

نعم، لو كانت الحكمة من الزواج قاصرة على قضاء الشهوة للزم ان يكون الامر معكوساً، بينماهو ثابت حتى بشهادة جميع الحيوانات وبتصديق النباتات المتزاوجة:

ان الحكمة من الزواج والغاية منه انما هي التكاثر وانجاب النسل. أما اللذة الحاصلة من قـضاء الشــهوة فهــي اجرة جزئية تمنــحها الـرحمــة الإلهــية لــتأدية تلــك المهمة. فما دام الزواج للتكاثر وانجاب النسل ولبقاء النوع حكمةً وحقيقةً، فلا شك ان المرأة التي لا يمكن أن تلد إلاّ مرة واحدة في السنة ولا تكون خصبة الاّ نصف ايام الشهر وتدخل سن اليأس في الخمسين من عمرها لا تكفي الرجل الذي له القدرة على الاخصاب في اغلب الاوقات حتى وهو ابن مائة سنة. لذا تضطر المدنية الى فتح اماكن العهر والفحش.

U الاساس الثالث:

ان المدنية التي لا تتحاكم الى المنطق العقلي، تنتقد الآية الكريمة ] للذَكَرِ مثلُ حظ الانثيين[ (النساء:11) التي تمنح النساء الثلث من الميراث (اي نصف ما يأخذه الذكر).

ومن البديهي ان اغلب الاحكام في الحياة الاجتماعية انما تسنّ حسب الاكثرية من الناس، فغالبية النساء يجدن ازواجاً يعيلونهن ويحمونهن، بينما الكثير من الرجال مضطرون الى اعالة زوجاتهم وتحمّل نفقاتهن.

فاذا ما اخذت الانثى الثلث من ابيها (اي نصف ما اخذه الزوج من ابيه) فان زوجها سيسد حاجتها. بينما اذا اخذ الرجل حظين من ابيه فانه سينفق قسطاً منه على زوجته، وبذلك تحصل المساواة، ويكون الرجل مساوياً لأخته. وهكذا تقتضي العدالة القرآنية(1).



U الاساس الرابع:

ان القرآن الكريم مثلما يمنع بشدة عبادة الاصنام يمنع كذلك اتخاذ الصور التي هي شبيهة بنوع من اتخاذ الاصنام. أما المدنية الحاضرة فانها تعدّ الصورمن مزاياها وفضائلها وتحاول ان تعارض القرآن. والحال ان الصور اياً كانت، ظلية أو غيرها، فهي: إما ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى متجسم، حيث تهيج الاهواء وتدفع الانسان الى الظلم والرياء والهوى.

ثم ان القرآن يأمر النساء ان يحتجبن بحجاب الحياء، رحمةً بهن وصيانة لحرمتهن وكرامتهن ولكيلا تهان تلك المعادن الثمينة معادن الشفقة والرأفة وتلك المصادر اللطيفة للحنان والرحمة تحت اقدام الذل والمهانة، ولكي لا يكنّ آلة لهوسات الرذيلة ومتعة تافهة لا قيمة لها(1). أما المدنية فانها قد اخرجت النساء من اوكارهن وبيوتهن ومزقت حجابهن وأدت بالبشرية ان يجنَّ جنونها. علماً ان الحياة العائلية انما تدوم بالمحبة والاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة. بينما التكشف والتبرج يزيلان تلك المحبة الخالصة والاحترام الجاد ويسممان الحياة العائلية؛ ولا سيما الولع بالصور فانه يفسد الاخلاق ويهدمها كلياً، ويؤدي الى انحطاط الروح وتردّيها، ويمكن فهم هذا بالآتي:

كما ان النظر بدافع الهوى وبشهوة الى جنازة امرأة حسناء تنتظر الرحمة وترجوها يهدم الاخلاق ويحطها، كذلك النظر بشهوة الى صور نساء ميتات أو الى صور نساء حيات - وهي في حكم جنائز مصغرة لهن - يزعزع مشاعر الانسان ويعبث بها، ويهدمها.

وهكذا بمثل هذه المسائل الاربع فان كل مسألة من آلاف المسائل القرآنية تضمن سعادة البشر في الدنيا كما تحقق سعادته الابدية في الاخرة.

فَلكَ أن تقيس سائر المسائل على المسائل المذكورة.

وايضاً، فكما ان المدنية الحاضرة تخسر وتُغلب امام دساتير القرآن المتعلقة بحياة الانسان الاجتماعية، فيظهر افلاسها - من زاوية الحقيقة - ازاء اعجاز القرآن المعنوي، كذلك فان فلسفة اوربا وحكمة البشر - وهي المدنية - عند الموازنة بينها وبين حكمة القرآن بموازين الكلمات الخمس والعشرين السابقة، ظهرت عاجزة وحكمة القرآن معجزة، وان شئت فراجع ((الكلمة الثانية عشرة والثالثة عشرة)) لتلمس عجز حكمة الفلسفة وافلاسها واعجاز حكمة القرآن وغناها.

وايضاً، فكما ان المدنية الحاضرة غُلبت امام اعجاز حكمة القرآن العلمي والعملي، كذلك آداب المدنية وبلاغتها فهي مغلوبة امام الأدب القرآنـي وبلاغتــه. والنسبة بينهما اشبه ما يكـون بــبــكاء يتيم فَقَد أبــوَيه بكاءً ملــؤه الحزن الــقــاتـم واليأس المرير، الى انشاد عاشق عفيف حزينٍ على فراق قصير الأمد غناءً ملؤه الشوق والأمل.. أو نسبة صراخ سكير يتخبط في وضع سافل، الى قصائد حماسية تحضّ على بذل الغوالي من الانفس والاموال وبلوغ النصر. لأن: الادب والبلاغة من حيث تأثير الاسلوب، إما يورثان الحزن وإما الفرح. والحزن نفسه قسمان:

إما انه حزن منبعث من فقد الأحبة، أي من عدم وجود الأحبة والاخلاء، وهو حزن مظلم كئيب تورثه المدنية الملوثة بالضلالة والمشوبة بالغفلة والمعتقدة بالطبيعة، وإما انه ناشىء من فراق الأحبة، بمعنى ان الأحبة موجودون، ولكن فراقهم يبعث على حزن ينم عن لوعة الاشتياق. فهذا الحزن هو الذي يورثه القرآن الهادي المنير.

أما الفرح والسرور فهو ايضاً قسمان:

الاول: يدفع النفس الى شهواتها، هذا هو شأن آداب المدنية من ادب مسرحي وسينمائي وروائي.

أما الثاني: فهو فرح لطيف برئ نزيه، يكبح جماح النفس ويلجمها ويحث الروح والقلب والعقل والسر على المعالي وعلى موطنهم الاصلي، على مقرهم الابدي، على احبتهم الاخرويين. وهذا الفرح هو الذي يمنحه القرآن المعجز البيان الذي يحض البشر ويشوّقه للجنّة والسعادة الابدية وعلى رؤية جمال الله تعالى.

ولقد توهم بعض قاصري الفهم وممن لايكلفون انفسهم دقة النظر: ان المعنى العظيم والحقيقة الكبرى التي تفيدها الآية الكريمة ] قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بـعـضهم لبعـض ظهيراً[ ظنوها صورة محالة ومبالغة بلاغية! حاشَ لله! بل انها بلاغة هي عين الحقيقة، وصورة ممكنة وواقعة وليست محالة قط. فأحد وجوه تلك الصورة هو أنه:

لو اجتمع اجمل ما يقوله الانس والجن الذي لم يترشح من القرآن ولا هو من متاعه، فلا يماثل القرآن قط ولن يماثله. لذا لم يظهر مثيله.

والوجه الآخر: ان المدنية وحكمة الفلسفة والآداب الاجنبية التي هي نتائج افكار الجن والانس وحتى الشياطين وحصيلة اعمالهم، هي في دركات العجز امام احكام القرآن وحكمته وبلاغته. كما قد بيّنا امثلة منها.

الجلوة الثالثة:

خطابه كل طبقة من طبقات الناس

ان القرآن الحكيم يخاطب كل طبقة من طبقات البشر في كل عصر من العصور، وكأنه متوجه توجهاً خاصاً الى تلك الطبقة بالذات. اذ لما كان القرآن يدعو جميع بني آدم بطوائفهم كافة الى الايمان الذي هو اسمى العلوم وادقها، والى معرفة الله التي هي اوسع العلوم وأنورها، والى الاحكام الاسلامية التي هي اهم المعارف واكثرها تنوعاً، فمن الألزم اذاً ان يكون الدرس الذي يلقيه على تلك الطوائف من الناس، درساً يوائم فهم كلٍ منها. والحال أن الدرس واحد، وليس مختلفاً، فلابد اذاً من وجود طبقات من الفهم في الدرس نفسه، فكل طائفة من الناس - حسب درجاتهاــ تأخذ حظها من الدرس من مشهد من مشاهد القرآن.

ولقد وافينا بأمثلة كثيرة لهذه الحقيقة، يمكن مراجعتها، اما هنا فنكتفي بالاشارة الى بضع اجزاءٍ منها، والى حظ طبقة أو طبقتين منها من الفهم فحسب.

فمثلاً:

قوله تعالى: ] لم يلد ولم يولد ^ ولم يكن له كفواً أحد[

فان حظ فهم طبقة العوام التي تشكل الاكثرية المطلقة هو:

((ان الله منزّه عن الوالد والولد وعن الزوجة والأقران))

وحظ طبقة اخرى متوسطة من الفهم هو:

((نفي الوهية عيسى عليه السلام والملائكة، وكل ما هو من شأنه التولد)) لأن نفي المحال لا فائدة منهفي الظاهر؛ لذا فلابد ان يكون المراد اذاً ما هو لازم الحكم كما هو مقرر في البلاغة. فالمراد من نفي الولد والوالدية اللذين لهما خصائص الجسمانية هو نفي الالوهية عن كل مَن له ولد ووالد وكفو، وبيان عدم لياقتهم للالوهية.

فمن هذا السر تبين: أن سورة الاخلاص يمكن أن تفيد كل انسان في كل وقت.

وحظ فهم طبقة اكثر تقدماً هو:

ان الله منزّه عن كل رابطة تتعلق بالموجودات تُشم منها رائحة التوليد والتولد، وهو مقدّس عن كل شريك ومعين ومجانس، وانما علاقتــه بالمــوجــودات هي الخــلاقيـة. فهو يخلق الموجودات بأمر ((كن فيكون)) بارادته الازلية وباختياره. وهو منزّه عن كل رابطة تنافي الكمال، كالايجاب والاضطرار والصدور بغير اختيار.

وحظ فهم طبقة أعلى من هذه هو:

ان الله ازلي، ابدي، اول وآخر، لانظير له ولا كفو، ولاشبيه، ولامثيل ولامثال في اية جهة كانت، لا في ذاته ولافي صفاته ولا في افعاله. وانما هناك (المَثَل) (ولله المثل الاعلى) الذي يفيد التشبيه في افعاله وشؤونه فحسب.

فلك أن تقيس على هذه الطبقات اصحاب الحظوظ المختلفة في الادراك من امثال طبقة العارفين وطبقة العاشقين وطبقة الصديقين وغيرهم...

المثال الثاني:

قوله تعالى ] ما كان محمد أبا احدٍ من رجالكم[ (الاحزاب:40)

فحظ فهم الطبقة الاولى من هذه الآية هو:

ان زيداً خادم الرسول e ومتبناه ومخاطبه بـ : يا بني، قد طلّق زوجته العزيزة بعدما احسّ انه ليس كفواً لها، فتزوجها الرسول e بأمر الله تعالى، فالآية (النازلة بهذه المناسبة) تقول: ان النبي e اذا خاطبكم مخاطبة الاب لإبنه، فانه يخاطبكم من حيث الرسالة، اذ هو ليس اباً لأحدٍ منكم باعتباره الشخصي حتى لا تليق به زوجاته.

وحظ فهم الطبقة الثانية هو:

ان الامير العظيم ينظر الى رعاياه نظر الأب الرحيم، فان كان سلطاناً روحانياً في الظاهر والباطن فان رحمته ستفوق رحمة الاب وشفقته اضعافاً مضاعفة، حتى تنظر اليه افراد الرعية نظرهم للاب وكأنهم اولاده الحقيقيون. وحيث إن النظرة الى الاب لا يمكن ان تنقلب الى النظر الى الزوج والنظر الى البنت لايتحول بسهولة الى النظر الى الزوجة، فلا يوافق في فكر العامة تزوج الرسول e ببنات المؤمنين استناداً الى هذا السر. لذا فالقرآن يخاطبهم قائلاً: ان الرسول e ينظر اليكم نظر الرحمة والشفقة من زاوية الرحمة الإلهية ويعاملكم معاملة الاب الحنون من حيث النبوة، ولكنه ليس اباً لكم من حيث الشخصية الانسانية حتى لا يلائم تزوجه من بناتكم ويحرم عليه.

القسم الثالث يفهم الآية هكذا:

ينبغي عليكم ألاّ ترتكبوا السيئات والذنوب اعتماداً على رأفة الرسول الكريم e عليكم وانتسابكم اليه. اذ إن هناك الكثيرين يعتمدون على ساداتهم ومرشديهم فيتكاسلون عن العبادة والعمل، بل يقولون احياناً:

((قد اُديِّتْ صلاتُنا)) (كما هو الحال لدى بعض الشيعة).

النكتة الرابعة:

ان قسماً آخر يفهم اشارة غيبية من الآية وهي:

ان أبناء الرسول e لا يبلغون مبلغ الرجال، وانما يتوفاهم الله - قبل ذلك - فلا يدوم نسله من حيث كونهم رجالاً لحكمة يراها سبحانه وتعالى. إلاّ أن لفظ " رجال " يشير الى أنه سيدوم نسله من النساء دون الرجال.

فللّه الحمد والمنة فان النسل الطيب المبارك من فاطمة الزهراء (رضى الله عنها) كالحسن والحسين (رضي الله عنهما) وهما البدران المنوران لسلسلتين نورانيتين، يديمان ذلك النسل المبارك (المادي والمعنوي) لشمس النبوة.

اللّهم صلِّ عليه وعلى آله .

((تمت الشعلة الاولى بأشعتها الثلاثة)).









الشعلة الثانية

هذه الشعلة لها ثلاثة انوار

النور الاول

ان القرآن الكريم قد جمع السلاسة الرائقة والسلامة الفائقة والتساند المتين والتناسب الرصين والتعاون القوي بين الجمل وهيئاتها، والتجاوب الرفيع بين الآيات ومقاصدها، بشهادة علم البيان وعلم المعاني وشهادة الوف من ائمة هذه العلوم كالزمخشري والسكاكي وعبد القاهر الجرجاني، مع ان هناك ما يقارب تسعة اسباب مهمة تخل بذلك التجاوب والتعاون والتساند والسلاسة والسلامة، فلم تؤثر تلك الاسباب في الافساد والاخلال بل مدّت وعضّدت سلاسته وسلامته وتسانده إلاّ ما اجرته بشئ من حكمها في اخراج رؤوسها من وراء ستار النظام والسلاسة، وذلك لتدلّ على معان جليلة من سلاسة نظم القرآن، بمثل ما تخرج البراعم بعض البروزات والندب في جذع الشجرة المنسقة، فهذه البروزات ليست لإخلال تناسق الشجرة وتناسبها وانما لإعطاء ثمرات يتم بها جمال الشجرة وكمال زينتها.

اذ إن ذلك القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة نجماً نجماً لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقطعاً، مع أنه يُظهر من التلاؤم الكامل كأنه نزل دفعة واحدة.

وايضاً ان ذلك القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة لاسباب نزول مختلفة متباينة، مع أنه يظهر من التساند التام كأنه نزل لسبب واحد.

وايضاً ان ذلك القرآن جاء جواباً لأسئلة مكررة متفاوتة، مع انه يظهر من الامتزاج التام والاتحاد الكامل كأنه جواب عن سؤال واحد.

وأيضاً ان ذلك القرآن جاء بياناً لأحكام حوادث متعددة متغايرة، مع أنه يبين من الانتظام الكامل كأنه بيان لحادثة واحدة.

وايضاً ان ذلك القرآن نزل متضمناً لتنزلات كلامية إلهية في اساليب تناسب افهامَ مخاطبين لا يحصرون، ومن حالات من التلـقي متخــالــفة متــنوعة، مع أنه يبين من السلاسة اللطيفة والتماثل الجميل، كأن الحالة واحدة والفهم واحد، حتى تجري السلاسة كالماء السلسبيل.

وايضاً ان ذلك القرآن جاء مكلماً متوجهاً الى اصناف متعددة متباعدة من المخاطبين، مع أنه يظهر من سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الافهام كأن المخاطبين صنف واحد بحيث يظن كل صنف انه المخاطب وحده بالاصالة.

وأيضاً ان ذلك القرآن نزل هادياً وموصلاً الى غايات ارشادية متدرجة متفاوتة، مع انه يبين من الاستقامة الكاملة والموازنة الدقيقة والانتظام الجميل كأن المقصد واحد.

فهذه الاسباب مع انها اسباب للتشويش واختلال المعنى والمبنى إلاّ انها استخدمت في اظهار اعجاز بيان القرآن وسلاسته وتناسبه.

نعم! من كان ذا قلبٍ غير سقيم، وعقل مستقيم، ووجدان غير مريض، وذوق سليم، يرى في بيان القرآن سلاسة جميلة وتناسقاً لطيفاً ونغمة لذيذة وفصاحة فريدة. فمن كانت له عين سليمة في بصيرته، فلا ريب أنه يرى في القرآن عيناً ترى كل الكائنات ظاهراً وباطناً بوضوح تام كأنها صحيفة واحدة، يقلّبها كيف يشاء، فيعرّف معانيها على ما يشاء من اسلوب.

فلو اردنا توضيح حقيقة هذا النور الاول بأمثلة، لاحتجنا الى بضعة مجلدات. لذا نكتفي بالايضاحات التي تخص هذه الحقيقة في كل من ((الرسائل العربية))(1) و ((اشارات الاعجاز)) والكلمات الخمس والعشرين السابقة. بل القرآن الكريم بكامله مثال لهذه الحقيقة. ابيّنه كله دفعة واحدة.



















النور الثاني

يبحث هذا النور عن مزية الاعجاز في الاسلوب البديع للقرآن في الخلاصات (الفذلكات) والاسماء الحسنى التي تنتهي بها الآيات الكريمة:

تنبيه

سترد آيات كثيرة في هذا النور الثاني، وهي ليست خاصة به وحده بل تكون امثلة ايضاً لما ذكر من المسائل والاشعة. ولو اردنا ان نوفي هذه الامثلة حقها من الايضاح لطال بنا البحث، بيد اني اراني مضطراً في الوقت الحاضر الى الاختصار والاجمال، لذا فقد أشرنا اشارة في غاية الاختصار والاجمال الى الآيات التي اوردناها مثالاً لبيان هذا السر العظيم سر الاعجاز مؤجلين تفصيلاتها الى وقت آخر.

فالقرآن الكريم يذكر في اكثر الاحيان قسماً من الخلاصات والفذلكات في خاتمة الآيات. فتلك الخلاصات: إما انها تتضمن الاسماء الحسنى أو معناها، واما انها تحيل قضاياها إلى العقل وتحثه على التفكر والتدبر فيها.. أو تتضمن قاعدة كلية من مقاصد القرآن فتؤيد بها الآية وتؤكدها.

ففي تلك الفذلكات بعض اشارات من حكمة القرآن العالية، وبعض رشاشات من ماء الحياة للهداية الإلهية، وبعض شرارات من بوراق إعجاز القرآن.

ونحن الآن نذكر اجمالاً ((عشر اشارات)) فقط من تلك الاشارات الكثيرة جداً، كما نشير الى مثال واحد فقط من كثير من امثلتها، والى معنى اجمالي لحقيقة واحدة فقط من بين الحقائق الكثيرة لكل مثال.

هذا وان اكثر هذه الاشارات العشر تجتمع في اكثر الآيات معاً مكونة نقشاً اعجازياً حقيقياً. وان اكثر الآيات التي نأتي بها مثالاً هي امثلة لأكثر الاشارات. فنبين من كل آية اشارة واحدة مشيرين اشارة خفيفة الى معاني تلك الآيات التي ذكرناها في ((كلمات)) سابقة.



C مزية الجزالة الاولى:

ان القرآن الكريم - ببياناته المعجزة - يبسط افعال الصانع الجليل ويفرش آثاره أمام النظر، ثم يستخرج من تلك الافعال والآثار، الاسماء الإلهية، أو يثبت مقصداً من مقاصد القرآن الاساسية كالحشر والتوحيد.

فمن امثلة المعنى الاول:

قوله تعالى ] هو الذي خلقَ لكُم ما في الارض جميعاً ثم استوى الى السماء فسويهنّ سبعَ سمواتٍ وهو بكل شيء عليم[ (البقرة: 29)

ومن امثلة المعنى الثاني:

قوله تعالى] ألم نجعل الارض مهاداً^ والجبال اوتاداً^ وخلقناكم ازواجاً[ الى قوله تعالى ] إن يوم الفصل كان ميقاتاً[ (النبأ)

ففي الآية الاولى: يعرض القرآن الآثار الإلهية العظيمة التي تدل بغاياتها ونظمها على علم الله وقدرته،يذكرها مقدّمة لنتيجة مهمة وقصد جليل ثم يستخرج اسم الله ((العليم)).

وفي الآية الثانية: يذكر افعال الله الكبرى وآثاره العظمى، ويستنتج منها الحشر الذي هو يوم الفصل، كما وُضح في النقطة الثالثة من الشعاع الاول من الشعلة الاولى.

C النكتة البلاغية الثانية:

ان القرآن الكريم ينشر منسوجات الصنعة الإلهية ويعرضها على انظار البشر ثم يلفّها ويطويها في الخلاصة ضمن الأسماء الإلهية، أو يحيلها الى العقل.

فمن أمثلة الاول:

] قل من يرزقكم من السماء والارض، أمّن يملك السمعَ والابصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومَن يدّبر الأمر فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون ^ فذلكم الله ربكم الحق[ (يونس: 31- 32)

فيقول اولاً: (( مَن الذي هيأ السماء والارض وجعلهما مخازن ومستودعاتٍ لرزقكم، فأنزل من هناك المطر ويخرج من هنا الحبوب ؟ ومَن غيرُ الله يستطيع ان

يجعل السماء والارض العظيمتين في حكم خازنين مطيعين لحكمه؟ فالشكر والحمد اذاً له وحده)).

ويقول في الفقرة الثانية: ((أمّن هو مالك اسماعكم وابصاركم التي هي اثمن ما في اعضائكم؟ من أي مصنع أو محل ابتعتموها؟ فالذي منحكم هذه الحواس اللطيفة من عين وسمع انما هو ربّكم! وهو الذي خلقكم ورباكم، ومنحها لكم،فالرب اذاً انما هو وحده المستحق للعبادة ولا يستحقها غيره)).

ويقول في الفقرة الثالثة: ((أمّن يحيى مئات الالاف من الطوائف الميتة كما يحيى الارض؟ فمن غير الحق سبحانه وخالقُ الكون يقدر ان يفعل هذا الأمر؟ فلا ريب انه هو الذي يفعل وهو الذي يحيى الارض الميتة. فما دام هو الحق فلن تضيع عنده الحقوق، وسيبعثكم الى محكمة كبرى وسيحييكم كما يحيى الارض)).

ويقول في الفقرة الرابعة: ((مَن غير الله يستطيع ان يدبّر شؤون هذا الكون العظيم ويدير أمره ادارةً منسقة منظمة بسهولة إدارة قصر أو مدينة؟ فما دام ليس هناك غير الله، فلا نقص اذاً في القدرة القادرة على ادارة هذا الكون العظيم – بكل أجرامهِ بيسر وسهولة – ولا حاجة لها الى شريك ولا الى معين فهي مطلقة لا يحدها حدود. ولايدع مَن يدبّر امور الكون العظيم ادارة مخلوقات صغيرة الى غيره. فانتم اذاً مضطرون لأن تقولوا: الله.)).

فترى ان الفقرة الاولى والرابعة تقول: الله، وتقول الثانية: رب. وتقول الثالثة: الحق. فافهم مدى الاعجاز في موقع جملة ] فذلكم الله ربكم الحق[ .

وهكذا يذكر القرآن عظيم تصرفات الله سبحانه وعظيم منسوجاته ثم يذكر اليد المدبرة لتلك الآثار الجليلة والمنسوجات العظيمة: ] فذلكم الله ربكم الحق[ ، أي: أنه يُري منبع تلك التصرفات العظيمة ومصدرها بذكر الاسماء الإلهية: الله، الرب، الحق.

ومن امثلة الثاني:

] ان في خلق السموات والارض واختلاف الّيل والنهار والفُلك التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس وما انزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الارضَ بعد موتها وبثَّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون[ (البقرة: 164)



يذكر القرآن في هذه الآيات ما في خلق السموات والارض من تجلي سلطنة الالوهية الذي يُظهر تجلي كمال قدرته سبحانه وعظمة ربوبيته، ويَشهد على وحدانيته.. ويذكر تجلي الربوبية في اختلاف الليل والنهار، وتجلي الرحمة بتسخير السفينة وجريانها في البحر التي هي من الوسائل العظمى للحياة الاجتماعية، وتجلي عظمة القدرة في انزال الماء الباعث على الحياة من السماء الى الارض الميتة واحيائها مع طوائفها التي تزيد على مئات الآلاف، وجعلها في صورة معرض للعجائب والغرائب.. كما يذكر تجلي الرحمة والقدرة في خلق ما لا يحد من الحيوانات المختلفة من تراب بسيط.. كما يذكر تجلي الرحمة والحكمة من توظيف الرياح بوظائف جليلة كتلقيح النباتات وتنفسها، وجعلها صالحة في ترديد انفاس الأحياء بتحريكها وادارتها.. كما يذكر تجلي الربوبية في تسخير السحب وجمعها وتفريقها وهي معلقة بين السماء والارض كأنها جنود منصاعون للاوامر يتفرقون للراحة ثم يجّمعون لتلقي الاوامر في عرض عظيم.

وهكذا بعد سرد منسوجات الصنعة الإلهية يسوق العقل الى اكتناه حقائقها تفصيلاً فيقول: ] لاياتٍ لقوم يعقلون[ آخذاً بزمام العقل الى التدبر موقظاً اياه الى التفكر.

C مزيّة الجزالة الثالثة:

ان القرآن الكريم قد يذكر افعال الله سبحانه بالتفصيل ثم بعد ذلك يوجزها ويجملها بخلاصة، فهو بتفصيلها يورث القناعة والاطمئنان وبايجازها واجمالها يسهّل حفظها وتقييدها. فمثلاً:

] وكذلك يَجتَبيك ربُّك ويعلّمك من تأويل الاحاديث ويُتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما اتمها على أبَويك من قبلُ ابراهيم واسحق ان ربك عليمٌ حكيمٌ[ (يوسف:6)

يشير بهذه الآية الى النعم التي انعمها الله على سيدنا يوسف وعلى آبائه من قبل، فيقول: ان الله تعالى هو الذي اصطفاكم من بنى آدم لمقام النبوة وجعل سلسلة جميع الانبياء مرتبطة بسلسلتكم وسوّدها على سائر سلاسل بني البشر، كما جعل اسرتكم موضع تعليم وهداية، تلقّن العلوم الإلهية والحكمة الربانية، فجمع فيكم سلطنة الدنيا الســـعــيــدة وســعادة الآخـــرة الخــالـدة، وجعــلك بالعلــم والحــكمة عــزيــزاً لمصر ونبياً عظيماً ومرشداً حكيماً.. فبعد أن يذكر تلك النعم ويعدّدها وكيف ان الله قد جعله هو واباءه ممتازين بالعلم والحكمة، يقول: ] ان ربك عليم حكيم[ أي اقتضت ربوبيته وحكمته ان يجعلك واباءك تحظون بنور اسم ((العليم الحكيم)).

وهكذا أجمل تلك النعم المفصّلة بهذه الخلاصة.

ومثلاً: قوله تعالى ] قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) الى قوله تعالى (وترزق من تشاء بغير حساب[ (آل عمران:27)

تعرض هذه الآية أفعال الله سبحانه في المجتمع الانساني وتفيد:

بأن العزة والذلة والفقر والغنى مربوطة مباشرة بمشيئة الله وارادته تعالى. أي: ((ان التصرف في اكثر طبقات الكثرة تشتتاً انما هو بمشيئة الله وتقديره فلا دخل للمصادفة قط)).

فبعد ان اعطت الآية هذا الحكم، تقول: ان اعظم شئ في الحياة الانسانية هو رزقه، فتثبت ببضع مقدمات ان الرزق انما يرسل مباشرة من خزينة الرزاق الحقيقي؛ إذ إن رزقكم منوط بحياة الارض، وحياة الارض منوطة بالربيع، والربيع انما هو بيد من يسخر الشمس والقمر ويكور الليل والنهار. اذاً فان منح تفاحة لإنسان رزقاً حقيقياً، انما هو من فعل من يملأ الارض بانواع الثمرات، وهو الرزاق الحقيقي.

وبعد ذلك يجمل القرآن ويثبت تلك الافعال المفصّلة بهذه الخلاصة: ] وترزق من تشاء بغير حساب[ .

C النكتة البلاغية الرابعة:

ان القرآن قد يذكر المخلوقات الإلهية مرتبة بترتيب معين ثم يبين به ان في المخلوقات نظاماً وميزاناً، يُريان ثمرة المخلوقات وكأنه يضفي نوعاً من الشفافية والسطوع على المخلوقات التي تظهر منها الاسماء الإلهية المتجلية فيها، فكأن تلك المخلوقات المذكورة ألفاظ، وهذه الاسماء معانيها، أو انها ثمرات وهذه الاسماء نواها أو لبابها.

فمثلاً: ] ولقد خلقنا الانسان من سلالةٍ من طين ^ ثم جعلناهُ نطفةً في قرارٍ مكين^ ثم خلقنا النطفةَ عَلَقةً فخلقنا العلقة مُـضغةً فخلقنا الـمُـضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم انشأناهُ خلقاً آخر فتبارك الله احسن الخالقين[ (المؤمنون:12ـ14) يذكر القرآن خلق الانسان واطواره العجيبة الغريبة البديعة المنتظمة الموزونة ذكراً مرتباً يبيّن كالمرآة ] فتبارك الله احسنُ الخالقين[ ، حتى كأن كل طـور يبـين نفسه ويـوحي بنفسه هـذه الآيـة، بل حـتـى قـالـها قبل مجيئها احـد كتّاب الوحي حينما كان يـكـتب هـذه الآية، فذهب به الظن الى أن يقول: أأوحي اليّ ايضاً؟ والحال أن كمال نظام الكلام الأول وشفافيته الرائقة وانسجامه التام يظهر نفسه قبل مجئ هذه الكلمة.

وكذا قوله تعالى:

] ان ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة ايامٍ ثم استوى على العرش يُغشي الّيل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخّراتٍ بأمره ألا له الخلقُ والامرُ تبارك الله ربُ العالمين[ (الاعراف: 54)

يبين القرآن في هذه الآية عظمة القدرة الإلهية وسلطنة الربوبية بوجه يدلّ على قدير ذي جلال استوى على عرش ربوبيته ويسطّر آيات ربوبيته على صحائف الكون ويحوّل الليل والنهار كأنهما شريطان يعقب احدهما الاخر. والشمس والقمر والنجوم متهيئة لتلقي الاوامر كجنود مطيعين. لذا فكل روح ما ان تسمع هذه الآية إلاّ وتقول: تبارك الله رب العالمين.. بارك الله.. ماشاء الله. أي أن جملة ] تبارك الله رب العالمين[ تجري مجرى الخلاصة لما سبق من الجمل وهي بحكم نواتها وثمرتها وماء حياتها.

C مزية الجزالة الخامسة:

ان القرآن قد يذكر الجزئيات المادية المعرّضة للتغير والتي تكون مناط مختلف الكيفيات والاحوال، ثم لأجل تحويلها الى حقائق ثابتة يقيدها ويُجْمِلها بالاسماء الإلهية التي هي نورانية وكلية وثابتة. أو يأتي بخلاصة تسوق العقل الى التفكر والاعتبار.

ومن امثلة المعنى الاول:

] وعلّم ادمَ الاسماءَ كلّها ثم عرضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين^ قالوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاّ ما عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم[ (البقرة:31 - 32)

هذه الآية تذكر اولاً حادثة جزئية هي: ان سبب تفضيل آدم في الخلافة على الملائكة هو ((العلم)) ومن بعد ذلك تذكر حادثة مغلوبية الملائكة امام سيدنا آدم في قضية العلم، ثم تعقب ذلك باجمال هاتين الحادثتين بذكر اسمين كليين من الاسماء الحسنى انت العليم الحكيم بمعنى ان الملائكة يقولون: انت العليم يارب فعلّمتَ آدم فغلبنا وانت الحكيم فتمنحنا كل ما هو ملائم لإستعدادنا، وتفضّله علينا باستعداداته.

ومن امثلة المعنى الثاني:

] وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكُم مما في بطونه من بين فرثٍ ودمٍ لَبَنًا خالصاً سائغاً للشاربين^ ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سَكرَاً ورزقاً حسناً ان في ذلك لاية لقومٍ يعقلون^ واوحى ربُّك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يَعرشُون^ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سُبُلَ ربّكِ ذُلُلاً يخرج من بطونها شراب مختلفٌ الوانهُ فيه شفاءٌ للناس ان في ذلك لاية لقومٍ يتفكرون[ (النحل:66ــ69)

تعرض هذه الآيات الكريمة ان الله تعالى جعل الشاة، والمعزى، والبقر، والابل وامثالها من المخلوقات ينابيع خالصة زكية لذيذة تدفق الحليب، وجعل سبحانه العنب والتمر وأمثالهما أطباقاً من النعمة وجفاناً لطيفة لذيذة.. كما جعل من امثال النحل - التي هي معجزة من معجزات القدرة - العسل الذي فيه شفاء للناس الى جانب لذته وحلاوته.. وفي خاتمة المطاف تحث الآيات على التفكر والاعتبار وقياس غيرها عليها بــ ] ان في ذلك لايةً لقوم يتفكرون[ .

C النكتة البلاغية السادسة:

ان القرآن الكريم قد يَنشر احكام الربوبية على الكثرة الواسعة المنتشرة ثم يضع عليها مظاهر الوحدة ويجمعها في نقطة توحدّها كجهة وحدة بينها، أو يمكّنها في قاعدة كلية. فمثلاً: قوله تعالى ] وسع كرسيه السموات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم[ (البقرة: 255) فهذه الآية (أي آيةُ الكرسي) تأتي بعشر جمل تمثل عشر طبقات من التوحيد في اشكال مختلفة، وتثبتها. وبعد ذلك تقطع قطعاً كلياً بقوة صـارمة عـرق الـشـرك ومداخـلة غيـر اللّـه بـ ] مَن ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه[ .

فهذه الآية لأنها قد تجلّى فيها الاسم الاعظم فان معانيها من حيث الحقائق الإلهية هي في الدرجة العظمى والمقام الاسمى، اذ تبين تصرفات الربوبية في الدرجة العظمى، وبعد ذكر تدبير الالوهية الموّجه للسموات والارض كافة توجهاً في اعلى مقام واعظم درجة تذكر الحفيظية الشاملة المطلقة بكل معانيها ثم تلخص منابع تلك التجليات العظمى في رابطة وحدة اتحادٍ، وجهة وحدة بقوله تعالى: ] وهو العلي العظيم[ .

ومثلاً:

] الله الذي خلق السموات والارض وانزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار^ وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الّيل والنهار ^ وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدّوا نعمة الله لا تحصوها[ (ابراهيم:32ـ34)

تبين هذه الآيات: كيف أن الله تعالى قد خلق هذا الكون للانسان في حكم قصر، وارسل ماء الحياة من السماء الى الارض، فجعل السماء والارض مسخرتين كأنهما خادمان عاملان على ايصال الرزق الى الناس كافة، كما سخر له السفينة ليمنح الفرصة لكل أحد، ليستفيد من ثمار الارض كافة، ليضمن له العيش فيتبادل الافراد فيما بينهم ثمار سعيهم واعمالهم. أي جعل لكل من البحر والشجر والريح أوضاعاً خاصة بحيث تكون الريح كالسوط والسفينة كالفرس والبحر كالصحراء الواسعة تحتها. كما انه سبحانه جعل الانسان يرتبط مع كل ما في انحاء المعمورة بالسفينة وبوسائط نقل فطرية في الانهار والروافد وسيّر له الشمس والقمر وجعلهما ملاحين مأمورين لإدارة دولاب الكائنات الكبير واحضار الفصول المختلفة واعداد ما فيها من نعم إلهية. كما سخر الليل والنهار جاعلاً الليل لباساً وغطاءً ليخلد الانسان الى الراحة والنهار معاشاً ليتجر فيه.

وبعد تعداد هذه النعم الإلهية تأتي الآية بخلاصة ] وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها[ لبيان مدى سعة دائرة انعام الله تعالى على الانسان وكيف انها مملوءة بانواع النعم أي: ان كل ما سأله الانسان بحاجته الفطرية وبلسان استعداده قد منحه الله تعالى اياه. فتلك النعم لا تدخل في الحصر ولا تنفد ولا تنقضي بالتعداد.

نعم، ان كانت السموات والارض مائدة من موائد نعمه العظيمة وكانت الشمس والقمر والليل والنهار بعضاً من تلك النعم التي احتوتها تلك المائدة، فلا شك أن النعم المتوجهة الى الانسان لا تعد ولاتحصى.

C سر البلاغة السابعة:

قد تبين الآية غايات المسَبَّب وثمراته لتعزل السبب الظاهري وتسلب منه قدرة الخلق والايجاد. وليُعلَم ان السبب ما هو الاّ ستار ظاهري؛ ذلك لأن ارادة الغايات الحكيمة والثمرات الجليلة يلزم ان يكون من شأن من هو عليم مطلق العلم وحكيم مطلق الحكمة، بينما سببها جامدٌ من غير شعور. فالآية تفيد بذكر الثمرات والغايات: ان الاسباب وإن بدتْ في الظاهر والوجود متصلة مع المسببَّات إلاّ ان بينهما في الحقيقة وواقع الأمر بوناً شاسعاً جداً.

نعم! ان المسافة بين السبب وايجاد المسبَّب مسافة شاسعة بحيث لا طاقة لأعظم الاسباب ان تنال ايجاد أدنى مسبَّب، ففي هذا البعد بين السبب والمسبَّب تشرق الاسماء الإلهية كالنجوم الساطعة. فمطالع تلك الاسماء هي في تلك المسافة المعنوية، اذ كما يُشاهد اتصال أذيال السماء بالجبال المحيطة بالافق وتبدو مقرونة بها، بينما هناك مسافة عظيمة جداً بين دائرة الافق والسماء، كذلك فان ما بين الاسباب والمسببات مسافة معنوية عظيمة جداً لا تُرى الاّ بمنظار الايمان ونور القرآن. فمثلاً:

] فلينظر الانسانُ الى طعامهِ^ أنّا صَببنا الماء صبّاً^ ثم شققنا الارض شقّاً^ فانبتنا فيها حبّاً^ وعنباً وقـضباً^ وزيتوناً ونخلاً^ وحدائقَ غُلباً^ وفاكهة وأبّاً^ متاعاً لكم ولأنعامكم[ (عبس:24 – 32).

هذه الآيات الكريمة تذكر معجزات القدرة الإلهية ذكراً مرتباً حكيماً تربط الاسباب بالمسببات، ثم في خاتمة المطاف تبيّن الغاية بلفظ (متاعاً لكم ولأنعامكم) فتثبت في تلك الغاية أن متصرفاً مستتراً وراء جميع تلك الاسباب والمسببات المتسلسلة يرى تلك الغايات ويراعيها. وتؤكد أن تلك الاسباب ما هي إلاّ حجاب دونه.

نعم ان عبارة ] متاعاً لكم ولأنعامكم[ تسلب جميع الاسباب من القدرة على الايجاد والخلق. اذ تقول معنىً:

ان الماء الذي ينزل من السماء لتهيئة الارزاق لكم ولأنعامكم لا ينزل بنفسه، لأنه ليس له قابلية الرحمة والحنان عليكم وعلى انعامكم كي يرأف بحالكم؛ فاذاً يُرسل إرسالاً.

وان التراب الذي لاشعُور له، لأنه بعيد كل البعد من أن يرأف بحالكم فيهئ لكم الرزق، فلا ينشق اذاً بنفسه، بل هناك مَن يشقّه ويفتح ابوابه، ويناولكم النِعَم منه.

وكذا الاشجار والنباتات، فهي بعيدة كل البعد عن تهيئة الثمرات والحبوب رأفة بكم وتفكراً برزقكم، فما هي إلاّ حبالٌ وشرائط ممتدة من وراء ستار الغيب يمدها حكيم رحيم علّق تلك النعم بها وارسلها الى ذوي الحياة.

وهكذا فمن هذه البيانات تظهر مطالع اسماء حسنى كثيرة كالرحيم والرزاق والمنعم والكريم.

ومثلاً:

] ألم ترَ أن الله يُزجى سحاباً ثم يؤلّف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودْقَ يخرج من خلاله ويُنزّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار^ يقلبُ الله الّيل والنهار ان في ذلك لعبرةً لاولي الابصار^ والله خلَق كلَّ دابة من ماءٍ فمنهم مَن يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم مَن يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء ان الله على كل شيء قدير[ (النور:43 ــ45).

فهذه الآية الكريمة حينما تبين التصرفات العجيبة في انزال المطر وتشكل السحاب التي تمثل ستار خزينة الرحمة الإلهية واهم معجزة من معجزات الربوبية، تبينها كأن اجزاء السحاب كانت منتشرة ومختفية في جو الســــماء - كالجـنــود المنـتـشـريـن لـلراحــة - فــتــجـتـمع بـــأمــر الله وتـتألف تلك الاجـــزاء الصغيــرة مشكلة السحاب كما تجتمع الجنود بصوت بوق عسكري، فيرسل الماء الباعث على الحياة الى ذوي الحياة كافة، من تلك القطع من السحاب التي هي في جسامة الجبال السيارة في القيامة وعلى صورتها. وهي في بياض الثلج والبَرَد وفي رطوبتها.. فيُشاهد في ذلك الارسال ارادة وقصداً لأنه يأتي حسب الحاجة، أي ترسل المطر ارسالاً، ولا يمكن ان تجتمع تلك الاجزاء الضخمة من السحاب وكأنها جبال بنفسها في الوقت الذي نرى الجو براقاً صحواً لا شئ يعكّره، بل يرسلها مَن يعرف ذوي الحياة ويعلم بحالهم.

ففي هذه المسافة المعنوية تظهر مطالع الاسماء الحسنى كالقدير والعليم والمتصرف والمدبّر والمربي والمغيث والمحيي.

C مزية الجزالة الثامنة:

ان القرآن الكريم قد يذكر من افعال الله الدنيوية العجيبة والبديعة كي يعدّ الاذهان للتصديق ويحضر القلوب للايمان بافعاله المعجزة في الآخرة. أو أنه يصوّر الافعال الإلهية العجيبة التي ستحدث في المستقبل والآخرة بشكل يجعلنا نقنع ونطمئن اليه بما نشاهده من نظائرها العديدة. فمثلاً:

] أوَ لم يَرَ الانسانُ أنّا خَلقناه مِن نطفةٍ فاذا هو خصيمٌ مبينٌ..[ الى آخر سورة (يس).. هنا في قضية الحشر، يثبت القرآن الكريم ويسوق البراهين عليها، بسبع أو ثماني صور مختلفة متنوعة.

انه يقدّم النشأة الاولى اولاً، ويعرضها للانظار قائلاً: انكم ترون نشأتكم من النطفة الى العلقة ومن العلقة الى المضغة ومن المضغة الى خلق الانسان، فكيف تنكرون اذن النشأة الاخرى التي هي مثل هذا بل أهون منه؟ ثم يشير بـ ] الذي جعل لكم من الشجَر الأخضر ناراً[ الى تلك الآلاء وذلك الاحسان والانعام الذي انعمه الحق سبحانه على الانسان، فالذي ينعم عليكم مثل هذه النعم، لن يترككم سدىً ولا عبثاً، لتدخلوا القبر وتناموا دون قيام. ثم انه يقول رمزاً: انكم ترون احياء واخضرار الاشجار الميتة، فكيف تستبعدون اكتساب العظام الشبيهة بالحطب للحياة ولا تقيسون عليها؟ ثم هل يمكن ان يعجز مَن خلق السماوات والارض عن إحياء الانسان واماتـتــه وهو ثــمــرة الســـموات والأرض؟ وهل يمــكن من يــديــر أمر الشجرة ويرعاها ان يهمل ثمرتها ويتركها للآخرين؟! فهل تظنون أن يُترك للعبث ((شجرة الخلقة)) التي عجنت جميع اجزائها بالحكمة، ويهمل ثمرتها ونتيجتها؟ وهكذا فان الذي سيحييكم في الحشر مَن بيده مقاليد السموات والارض، وتخضع له الكائنات خضوع الجنود المطيعين لأمره فيسخرهم بأمر ((كن فيكون)) تسخيراً كاملاً.. ومَن عنده خلق الربيع يسيـر وهـيّـن كخلق زهـرة واحـدة، وايجاد جميع الحيـوانات سهل على قدرته كايجاد ذبابة واحدة. فلا ولن يُسأل للتعجيز صاحب هذه القدرة: ] من يحيي العظام[ ؟

ثم انه بعبارة ] فسبحان الذي بيده ملكوتُ كل شيء [ يبين انه سبحانه بيده مقاليد كل شئ، وعنده مفاتيح كل شئ، يقلب الليل والنهار، والشتاء والصيف بكل سهولة ويسر كأنها صفحات كتاب، والدنيا والآخرة هما عنده كمنزلين يغلق هذا ويفتح ذاك. فما دام الأمر هكذا فان نتيجة جميع الدلائل هي: ] واليه تُرجعون[ أي انه يحييكم من القبر، ويسوقكم الى الحشر، ويوفي حسابكم عند ديوانه المقدس.

وهكذا ترى ان هذه الآيات قد هيأت الاذهان، واحضرت القلوب لقبول قضية الحشر، بما أظهرت من نظائرها بافعال في الدنيا.

هذا وقد يذكر القرآن ايضاً افعالاً اخروية بشكل يحسس ويشير الى نظائرها الدنيوية،ليمنع الانكار والاستبعاد. فمثلاً:

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا الشمسُ كُوِّرتْ ^ واذا النجومُ انكدَرتْ ^ واذا الجبالُ سُيرتْ^ واذا العشارُ عطلتْ^ واذا الوحوشُ حُـشِرتْ^ واذا البحار سُجّرتْ^ واذا النفوسُ زُوّجتُْ^ واذا الموؤدة سُئلتْ^ بأيّ ذنبٍ قُتلَتْ^ واذا الصُحُفُ نُشرت^ واذا السماء كُشطتْ^ واذا الجحيمُ سُعّرتْ^ واذا الجنةُ ازلفتْ^ علمتْ نفسٌ ما احــضرتْ...[ الى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا السماءُ انفطرتْ^ واذا الكواكبُ انتثرتْ^ واذا البحار فُجرتْ^ واذا القبورُ بُعثرتْ^ علمتْ نفسٌ ما قدّمتْ واخّرت...[ الى آخر السورة.

بسم الله الرحمن الرحيم ] اذا السماءُ انشقّتْ^ واذنتْ لربّها وحُـقّتْ ^ واذا الارضُ مُدّت^ والقتْ ما فيها وتخلّتْ^ واذنتْ لربّها وحُـقّتْ...[ الى آخر السورة.

فترى ان هذه السوَر تذكر الانقلابات العظيمة والتصرفات الربانية الهائلة باسلوب يجعل القلب أسير دهشة هائلة يضيق العقل دونها ويبقى في حيرة. ولكن الانسان ما أن يرى نظائرها في الخريف والربيع إلاّ ويقبلها بكل سهولة ويسر. ولما كان تفسير السور الثلاث هذه يطول، لذا سنأخذ كلمة واحدة نموذجاً، فمثلاً:

] واذا الصحف نشرت[ تفيد هذه الآية: ((ستنشر في الحشر جميع اعمال الفرد مكتوبة على صحيفة)). وحيث ان هذه المسألة عجيبة بذاتها فلا يرى العقل اليها سبيلاً، إلاّ أن السورة كما تشير الى الحشر الربيعي وكما ان للنقاط الاخرى نظائرها وأمثلتها كذلك نظير نشر الصحف ومثالها واضح جلي فلكل ثمر ولكل عشب ولكل شجر، أعمال وله أفعال، وله وظائف. وله عبودية وتسبيحات بالشكل الذي تظهر به الاسماء الإلهية الحسنى، فجميع هذه الاعمال مندرجة مع تاريخ حياته في بذوره ونواه كلها. وستظهر جميعها في ربيع آخر ومكان آخر. أي انه كما يذكر بفصاحة بالغة أعمال أمهاته وأصوله بالصورة والشكل الظاهر، فانه ينشر كذلك صحائف أعماله بنشر الاغصان وتفتح الاوراق والاثمار.

نعم إن الذي يفعل هذا أمام أعيننا بكل حكمة وحفظ وتدبير وتربية ولطف هو الذي يقول ] واذا الصحف نشرت[ .

وهكذا قس النقاط الاخرى على هذا المنوال. وان كانت لديك قوة استنباط فاستنبط. ولاجل مساعدتك ومعاونتك سنذكر ] اذا الشمس كوّرت[ ايضاً. فان لفظ (كوّرت) الذي يرد في هذا الكلام هو بمعنى: لُفّت وجمعت، فهو مثال رائع ساطع فوق أنه يومئ الى نظيره ومثيله في الدنيا:

اولا: ان الله سبحانه وتعالى قد رفع ستائر العدم والاثير والسماء، عن جوهرة الشمس التي تضئ الدنيا كالمصباح، فأخرجها من خزينة رحمته واظهرها الى الدنيا. وسيلفّ تلك الجوهرة بأغلفتها عندما تنتهي هذه الدنيا وتنسد أبوابها.

ثانياً: ان الشمس موظفة ومأمورة بنشر غلالات الضوء في الاسحار ولفّها في الاماسي وهكذا يتناوب الليل والنهار هامة الارض، وهي تجمع متاعها مقللة من تعاملها، أو يكون القمر - الى حدٍ ما - نقاباً لاخذها وعطائها ذلك، أي كما ان هذه الموظفة تجمع متاعها وتطوي دفاتر اعمالها بهذه الاسباب فلابد من أن يأتي يوم تعفى من مهامها، وتفصل من وظيفتها، حتى ان لم يكن هناك سبب للاعفاء والعزل. ولعلّ توسع ما يشاهده الفلكيون على وجهها من البقعتين الصغيرتين الآن اللتين تتوسعان وتتضخمان رويداً رويداً. تسترجع الشمس - بهذا التوسع - وبأمر رباني ما لفّته ونشرته على رأس الارض باذن إلهي من الضوء، فتلف به نفسها. فيقول ربّ العزة: الى هنا انتهت مهمتك مع الارض، فهيّا الى جهنم لتحرقي الذين عبدوك وأهانوا موظفة مسخرة مثلك وحقروها متهمين إياها بالخيانة وعدم الوفاء. بهذا تقرأ الشمسُ الأمر الرباني ] اذا الشمس كوّرت[ على وجهها المبقع.

C نكتة البلاغة التاسعة:

ان القرآن الكريم قد يذكر بعضاً من المقاصد الجزئية،ثم لأجل أن يحوّل تلك الجزئيات الى قاعدة كلية ويجيلَ الاذهان فيها يثبّت ذلك المقصد الجزئي ويقرره ويؤكده بالاسماء الحسنى التي هي قاعدة كلية.

فمثلاً:

] قد سمعَ الله قولَ التي تُجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمعُ تحاوركما ان الله سميعٌ بصير[ (المجادلة: 1)

يقول القرآن: ان الله سميع مطلق السمع يسمع كل شئ، حتى إنه ليسمع باسمه ((الحق)) حادثة جزئية، حادثة لمرأة - المرأة التي حظيت بألطف تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية وهي التي تمثل اعظم كنز لحقيقة الرأفة والحنان - هذه الدعوى المقدمة من امرأة وهي محقة في دعواها على زوجها وشكواها الى الله منه يسمعها باهتمام بالغ كأي أمرعظيم باسم ((الرحيم)) وينظر اليها بكل جد ويراها باسم ((الحق)).

فلأجل جعل هذا المقصد الجزئي كلياً تفيد الآية بأن الذي يسمع ادنى حادثة من المخلوقات ويراها، يلزم ان يكون ذلك الذي يسمع كل شئ ويراه، وهو المنزّه عن الممكنات. والذي يكون رباً للكون لابد أن يرى ما في الكون اجمع من مظالم ويسمع شكوى المظلومين، فالذي لا يرى مصائبهم ولا يسمع استغاثاتهم لايمكن ان يكون رباً لهم.

لذا فان جملة ] ان الله سميع بصير[ تبين حقيقتين عظيمتين. كما جعلت المقصد الجزئي أمراً كلياً.

ومثل ثان:

] سبحانَ الذي اسرى بعبدهِ ليلاً من المسجدِ الحرام الى المسجد الاقصا الذي باركنا حوله لنُريهُ من آياتنا انه هو السميعُ البصير[ (الاسراء:1).

ان القرآن الكريم يختم هذه الآية بـ ] انه هو السميع البصير[ وذلك بعد ذكره إسراء الرسول الحبيب e من مبدأ المعراج - أي من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى - ومنتهاه الذي تشير إليه سورة النجم.

فالضمير في ((إنّه)) إما أن يرجع الى الله تعالى، أو الى الرسول الكريم e فاذا كان راجعاً الى الرسول e ، فان قوانين البلاغة ومناسبة سياق الكلام تفيدان: أنّ هذه السياحة الجزئية، فيها من السير العمومي والعروج الكلي ما قد سَمِع وشاهَدَ كلَّ ما لاقى بَصَره وسمعَه من الآيات الربانية، وبدائع الصنعة الإلهية اثناء ارتقائه في المراتب الكلية للاسماء الإلهية الحسنى البالغة الى سدرة المنتهى، حتى كان قاب قوسين أو أدنى. مما يدل على أن هذه السياحة الجزئية هي في حُكم مفتاحٍ لسياحةٍ كليةٍ جامعة لعجائب الصنعة الإلهية(1).

واذا كان الضمير راجعاً الى الله سبحانه وتعالى، فالمعنى يكون عندئذٍ هكذا:

إنه سبحانه وتعالى دعا عبدَه الى حضوره والمثول بين يديه لينيط به مهمةً ويكلّفه بوظيفة؛ فاسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي هو مجمع الانبياء. وبعد اجراء اللقاء معهم واظهاره بأنه الوارث المطلق لأصول أديان جميع الأنبياء، سَيَّره في جولةٍ ضمن مُلكه وسياحةٍ ضمن ملكوته، حتى أبلغه سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى.

وهكذا فان تلك السياحة أو السير، وإن كانت معراجاً جزئياً وأن الذي عُرج به عبدٌ، إلاّ ان هذا العبد يحمل امانة عظيمة تتعلق بجميع الكائنات، ومعه نور مبين ينير الكائنات ويبدل من ملامحها ويصبغها بصبغته. فضلاً عن أن لديه مفتاحاً يستطيع ان يفتح به باب السعادة الأبدية والنعيم المقيم.

فلأجل كل هذا يصف الله سبحانه وتعالى نفسَه بــ ] إنه هو السميعُ البصير[ كي يُظهِر ان في تلك الأمانة وفي ذلك النور وفي ذلك المفتاح، من الحِكم السامية ما يشمل عموم الكائنات، ويعم جميع المخلوقات، ويحيط بالكون اجمع.

ومثل آخر:

] الحمد للّه فاطرِ السموات والارض جاعلِ الملئكةِ رسلاً اولي اجنحةٍ مثنى وثلثَ ورباعَ يزيدُ في الخلقِ ما يشاءُ ان الله على كل شئٍ قدير[ (فاطر:1).

ففي هذه السورة يقول تعالى: ان فاطر السموات والارض ذا الجلال قد زيّن السموات والارض وبيّن آثار كماله على ما لا يعد من المشاهدين وجعلهم يرفعون اليه ما لا نهاية له من الحمد والثناء. وانه تعالى زيّن الارض والسماء بما لا يحد من النعم والآلاء فتحمد السموات والارض بلسان نعمها وبلسان المنعمين عليهم جميعاً وتثنى على فاطرها (الرحمن). وبعد ذلك يقول: ان الله سبحانه الذي منح الانسان والحيوانات والطيور من سكان الارض اجهزة واجنحة يتمكنون بها من الطيران والسياحة بين مدن الارض وممالكها، والذي منح سكان النجوم وقصور السموات - وهم الملائكة - كي تسيح وتطير بين ممالكها العلوية وابراجها السماوية لابد ان يكون قادراً على كل شئ. فالذي اعطى الذبابة الجناح لتطير من ثمرة الى اخرى، والعصفور ليطير من شجرة الى اخرى، هو الذي جعل الملائكة اولي اجنحة لتطير من الزُهَرة الى المشتري ومن المشتري الى زُحَل.

ثم ان عبارة ] مثنى وثلث ورباع[ تشير الى أن الملائكة ليسوا منحصرين بجزئية ولا يقيدهم مكان معين، كما هو الحال في سكان الارض بل يمكن ان يكونوا في آن واحد في اربع نجوم أو اكثر.

فهذه الحادثة الجزئية، أي تجهيز الملائكة بالاجنحة تشير الى عظمة القدرة الإلهية المطلقة العامة وتؤكدها بخلاصة ] ان الله على كل شيء قدير[

C نكتة البلاغة العاشرة:

قد تذكر الآية ما اقترفه الانسان من سيئات، فتزجره زجراً عنيفاً، ثم تختمها ببعض من الاسماء الحسنى التي تشير الى الرحمة الإلهية لئلا يلقيه الزجر العنيف في اليأس والقنوط.

فمثلاً:

] قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا الى ذي العرش سبيلاً^ سبحانه وتعالى عمّا يقولون علواً كبيراً ^ تسبح له السموات السبع والارض ومَن فيهن وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليماً غفوراً[ (الاسراء:42 - 44)

تقول هذه الآية: ((قل لهم لو كان في ملك الله شريك كما تقولون لامتدّت ايديهم الى عرش ربوبيته ولظهرت علائم المداخلة باختلال النظام، ولكن جميع المخلوقات من السموات السبع الطباق الى الأحياء المجهرية، جزئيها وكليّها، صغيرها وكبيرها، تسبّح بلسان ما يظهر عليها من تجليات الاسماء الحسنى ونقوشها، وتقدس مسمّى تلك الاسماء ذا الجلال والاكرام، وتنزّهه عن الشريك والنظير)).

نعم، ان السماء تقدسه وتشهد على وحدته بكلماتهاالنيرة من شموس، ونجوم، وبحكمتها وانتظامها.. وان جو الهواء يسبّحه ويقدسه ويشهد على وحدانيته بصوت السحاب وكلمات الرعد والبرق والقطرات.. والارض تسبح خالقها الجليل وتوحدهّ بكلماتها الحية من حيوانات ونباتات وموجودات.. وكذا تسبحه وتشهد على وحدانيته كل شجرة من اشجارها بكلمات اوراقها وازاهيرها وثمراتها.. وكل مخلوق صغير ومـصــنوع جــزئــي مــع صــغره وجزئيــته يســبح باشــارات ما يحـمــله مــن نقوش وكيفيات وما يظهره من أسماء حسنى كثيرة وتقدس مسمى تلك الاسماء ذا الجلال وتشهد على وحدانيته تعالى. وهكذا فالكون برمته معاً وبلسان واحد، يسبح خالقه الجليل متفقاً ويشهد على وحدانيته، مؤدياً بكمال الطاعة ما انيط به من وظائف العبودية. الاّ الانسان الذي هو خلاصــة الكـون ونتيجته وخليفته المكرم وثمرته الــيانــعة، يقــوم بخلاف جميع ما في الكون وبضده، فيكفر بالله ويشرك به. فكــم هــو قبــيــح صنــيعه هـذا؟ وكــم ياترى يــســتـحق عقـاباً عـلى مـا قــدمت يــداه؟ ولكن لئلا يقع الانسان في هاوية اليأس والقنوط تبين له الآية حكمةَ عدم هدم القهار الجليل الكونَ على رأسه بما يجترحه من سيئات شنيعة كهذه الجناية العظمى، وتقول ] انه كان حليماً غفوراً[ مبينة حكمة الامهال وفتح باب الأمل بهذه الخاتمة.

فافهم من هذه الاشارات العشر الاعجازية، ان في الخلاصات والفذلكات التي في ختام الآيات لمعات اعجازية كثيرة فضلاً عما تترشح منها من رشحات الهداية الغزيرة، حتى بلغ بدهاة البلغاء أنهم لم يتمالكوا انفسهم من الحيرة والاعجاب امام هذه الاساليب البديعة فقالوا: ما هذا كلام البشر، وآمنوا بحق اليقين بقوله تعالى:

] ان هو الاّ وحي يوحى[ .

هذا وان بعض الآيات - الى جانب جميع الاشارات المذكورة - تتضمن مزايا اخرى عديدة لم نتطرق اليها في بحثنا، فيُشاهد من اجماع تلك المزايا نقش اعجازي بديع يراه حتى العميان.

النور الثالث

وهو أن القرآن الكريم لا يمكن ان يقاس بأي كلام آخر، اذ إن منابع علو طبقة الكلام وقوته وحسنه وجماله أربعة:

الأول: المتكلم. الثاني: المخاطب. الثالث: المقصد. الرابع: المقام. وليس المقام وحده كما ضل فيه الادباء. فلابد من ان تنظر في الكلام الى: مَن قال؟ ولمن قال؟ ولِمَ قال؟ وفيمَ قال؟ فلا تقف عند الكلام وحده وتنظر اليه.

ولما كان الكلام يستمد قوته وجماله من هذه المنابع الاربعة فبانعام النظر في منابع القرآن تُدرك درجة بلاغته وحسنها وسموها وعلوها.

نعم ان الكلام يستمد القوة من المتكلم، فاذا كان الكلام أمراً ونهياً يتضمن ارادة المتكلم وقدرته حسب درجته وعند ذاك يكون الكلام مؤثراً نافذاً يسري سريان الكهرباء من دون اعاقة أو مقاومة. وتتضاعف قوة الكلام وعلوه حسب تلك النسبة.

فمثلاً: ] ياارضُ ابلعي ماءكِ وياسماءُ أقلعي[ (هود:44) و] فقال لها وللارض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين[ (فصلت:11)

فانظر الى قوة وعلو هذه الاوامر الحقيقية النافذة التي تتضمن القوة والارادة. ثم انظر الى كلام انسان وأمره الجمادات الشبيه بهذيان المحموم: اسكني يا ارض وانشقي ياسماء وقومي ايتُها القيامة!

فهل يمكن مقايسة هذا الكلام مع الأمرين النافذين السابقين؟ ثم اين الاوامر الناشئة من فضول الانسان والنابعة من رغباته والمتولدة من أمانيه.. واين الاوامر الصادرة ممن هو متصف بالآمرية الحقة يأمر وهو مهيمن على عمله.

نعم! اين امر أمير عظيم مطاع نافذ الكلام يأمر جنوده بـ : تقدّم، واين هذا الأمر اذا صدر من جندي بسيط لا يُبالى به؟ فهذان الأمران وان كانا صورة واحدة إلاّ أن بينهما معنىً بوناً شاسعاً،كما بين القائد العام والجندي.

ومثلاً: ] انما امره اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون[ (يس:82) و] واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم[ (البقرة:34) انظر الى قوة وعلو الامرين في هاتين الآيتين. ثم انظر الى كلام البشر من قبيل الأمر. ألا تكون النسبة بينهما كضوء اليراع أمام نور الشمس الساطعة؟.

نعم! اين تصوير عامل يمارس عمله، وبيان صانع وهو يصنع، وكلام مُحسن في آن احسانه، كلٌ يصور أفاعيله، ويطابق فعله قوله، أي يقول: انظروا فقد فعلت كذا لكذا، افعل هذا لذاك، وهذا يكون كذا وذاك كذا... وهكذا يبين فعلَه للعين والاذن معاً، فمثلاً :

] أفلم ينظروا الى السماءِ فوقَهم كيف بنيناها وزيّناها ومالَها من فروج^ والارضَ مددناها وألقينا فيها رواسيَ وانبتنا فيها من كل زوج بهيج^ تَبصرةً وذكرى لكل عبدٍ منيب^ ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فانبتنا به جناتٍ وحبّ الحصيد^ والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نـضيد^ رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج[ (ق:6ــ11).

اين هذا التصوير الذي يتلألأ كالنجم في برج هذه السورة في سماء القرآن؛ كأنه ثمار الجنة. - وقد ذكر كثيراً من الدلائل ضمن هذه الافعال مع انتظام البلاغة واثبت الحشر الذي هو نتيجتها بتعبير ] كذلك الخروج[ ليلزم بـه الــذين ينكرون الحــشر فــي مستــهل الــسورة - فــأيــن هذا وايــن كلام النــاس عــلى وجه الفــضول عن افعال لا تمسهم إلاّ قليلاً؟ فلا تكون نسبته اليه إلاّ كنسبة صورة الزهرة الى الزهرة الحقيقية التي تنبض بالحياة.

ان بيان معنى هذه الآيات من قوله تعالى ] أفلم ينظروا[ الى ] كذلك الخروج[ على وجه أفضل يتطلب منا وقتاً طويلاً فنكتفي بالاشارة اليه ونمضي الى شأننا:

ان القرآن يبسط مقدّمات ليرغم الكفار على قبول الحشر، لإنكارهم اياه في مستهل السورة. فيقول: افلا تنظرون الى السماء فوقكم كيف بنيناها، بناءً مهيباً منتظماً.. أوَلا ترون كيف زيّناها بالنجوم وبالشمس والقمر دون نقص او فطور..؟ أوَلا ترون كيف بسطنا الارض وفرشناها لكم بالحكمة، وثبتنا فيها الجبال لتقيها من مّد البحار واستيلائها؟ أوَلا ترون انا خلقنا فيها ازواجاً جميلة متنوعة من كل جنس من الخضراوات والنباتات، وزيّنا بها ارجاء الارض كافة؟ أوَلا ترون كيف ارُسلُ ماءً مباركاً من السماء فاُنبتُ به البساتين والزرع والثمرات اللذيذة من تمر ونحوه واجعله رزقاً لعبادي؟ أوَلا يرون انني احيي الارض الميتة، بذلك الماء. وآتي الوفاً من الحشر الدنيوي. فكما اُخرج بقدرتي هذه النباتات من هذه الارض الميتة، كذلك خروجكم يوم الحشر؛ اذ تموت الارض في القيامة وتبعثون انتم أحياء. فأين ما اظهرته الآية في اثبات الحشر من جزالة البيان ـ التي ما اشرنا إلا الى واحدة من الألف منها ـ واين الكلمات التي يسردها الناس لدعوى من الدعاوى؟.

* * *

لقد انتهجنا من اول هذه الرسالة الى هنا نهج المحايد الموضوعي في تحقيق قضية الاعجاز، وقد ابقينا كثيراً من حقوق القرآن مطوية مخفية مستورة، فكنا نعقد موازنة ننزل تلك الشمس منزلة الشموع، وذلك كله لكي نُخضع خصماً عاتياً لقبول اعجاز القرآن.

والآن وقد وفَّى التحقيق العلمي مهمته، واُثبت اعجاز القرآن اثباتاً ساطعاً. فنشير ببعض القول باسم الحقيقة لا باسم التحقيق العلمي، الى مقام القرآن، ذلك المقام العظيم الذي لا تسعه موازنة ولا ميزان.

نعم! ان نسبة سائر الكلام الى آيات القرآن، كنسبة صور النجوم المتناهية في الصغر التي تتراءى في المرايا، الى النجوم نفسها.

نعم! اين كلمات القرآن التي كل منها تصوّر الحقائق الثابتة وتبينها، واين المعاني التي يرسمها البشر بكلماته على مرايا صغيرة لفكره ومشاعره؟

اين الكلمات الحية حياة الملائكة الاطهار.. كلمات القرآن الذي يفيض بانوار الهداية وهو كلام خالق الشمس والقمر.. واين كلمات البشر اللاذعة الخادعة بدقائقها الساحرة بنفثاتها التي تثير اهواء النفس.

نعم! كم هي النسبة بين الحشرات السامة والملائكة الاطهار والروحانيين المنوّرين؟ انها هي النسبة نفسها بين كلمات البشر وكلمات القرآن الكريم. وقد اثبتتْ هذه الحقيقة مع الكلمة الخامسة والعشرين جميع الكلمات الاربع والعشرين السابقة. فدعوانا هذه ليست ادعاء وانما هي نتيجة لبرهان سبقها.

نعم! اين الفاظ القرآن التي كل منها صدف درر الهداية ومنبـع حقائق الايمان، ومعدن أسس الاسلام، والتي تتنزل من عرش الرحمن وتتوجه من فوق الكون ومن خارجه الى الانسان، فاين هذا الخطاب الازلي المتضمن للعلم والقدرة والارادة، من الفاظ الانسان الواهية المليئة بالأهواء؟

نعم! ان القرآن يمثل شجرة طوبى طيبة نشرت اغصانها في جميع ارجاء العالم الاسلامي، فاورقت جميع معنوياته وشعائره وكمالاته ودساتيره واحكامه، وابرزت اولياءه واصفياءه كزهور نضرة جميلة تستمد حسنها ونداوتها من ماء حياة تلك الشجرة، واثمرت جميعَ الكمالات والحقائق الكونية والإلهية حتى غدت كل نواة من نوى ثمارها دستور عمل ومنهج حياة.. نعم اين هذه الحقائق المتسلسلة التي يطالعنا بها القرآن بمثابة شجرة مثمرة وارفة الظلال واين منها كلام البشر المعهود. اين الثرى من الثريا؟

ان القرآن الحكيم ينشر جميع حقائقه في سوق الكون ويعرضها على الملأ اجمعين منذ اكثر من الف وثلاث مائة سنة وان كل فرد وكل امة وكل بلد قد اخذ من جواهره ومن حقائقه، وما زال يأخذ.. على الرغم من هذا فلم تخل تلك الألفة، ولا تلك الوفرة، ولا مرور الزمان، ولا التحولات الهائلة، بحقائقه القيمة ولا باسلوبه الجميل، ولم تشيّبه ولم تتمكن من ان تفقِدهُ طراوته أو تسقط من قيمته أو تطفئ سنا جماله وحسنه.

ان هذه الحالة وحدها اعجاز أي اعجاز.

والآن اذا ما قام أحدٌ ونظم قسماً من الحقائق التي اتى بها القرآن حسب اهوائه وتصرفاته الصبيانية، ثم اراد أن يوازن بين كلامه وكلام القرآن بغية الاعتراض على بعض آياته وقال: لقد قلت كلاماً شبيهاً بالقرآن. فلا شك ان كلامه هذا يحمل من السخف والحماقة ما يشبه هذا المثال:

ان بنّاءً شيد قصراً فخماً، احجاره من جواهر مختلفة، ووضع تلك الاحجار في اوضاع وزينها بزينة ونقوش موزونة تتعلق بجميع نقوش القصر الرفيعة، ثم دخل ذلك القصر من يقصر فهمه عن تلك النقوش البديعة، ويجهل قيمة جواهره وزينته. وبدأ يبدّل نقوش الاحجار واوضاعها، ويجعلها في نظام حسب اهوائه حتى غدا بيتاً اعتيادياً.ثم جمّله بما يعجب الصبيان من خرز تافه، ثم بدأ يقول: انظروا ان لي من المهارة في فن البناء ما يفوق مهارة باني ذلك القصر الفخم، ولي ثروة اكثر من بنّاء القصر! فانظروا الى جواهري الثمينة! لا شك ان كلامه هذا هذيان بل هذيان مجنون ليس إلا.
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس