عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #1
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي المثنوي العربي النوري - شُعْلَةٌ


المثنوي العربي النوري - ص: 385
الرسالة الحادية عشرة
شُعْلَةٌ
من أنوار شمس القرآن
1


_____________________
1 طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة "نجم استقبال" باستانبول سنة 1342هـ (1923م).




المثنوي العربي النوري - ص: 386
اعلم! ان الفاطر الحكيم انما ركّب في وجودك هذه الحواس، والحسيات، والجهازات لإحساس انواع نِعَمه. ولإذاقة اقسام تجليات أسمائه.
فما غايات حياتك، وما حقوقها؛ الا اظهارك لآثار تجليات اسمائه، وتشهير غرائبها لدى انظار المخلوقات..
وما انسانيتك؛ الا شعورك بهذه الوظيفة.
وما اسلاميتك؛ الا اذعانك بهذه المظهرية.


المثنوي العربي النوري - ص: 387
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد من الله.. وبالله.. وعلى الله.. لله.. كما يليق بالله.. الحمد لله على "الحمد لله" بدور يدور بأنابيب في تسلسل وبتسلسل يتسلسل في دور دائرٍ بلا نهاية.
اللّهم انا نقدم اليك بين يَدي كل نعمةٍ ورحمةٍ، وبين يدي كلِّ عنايةٍ وحكمةٍ، وبين يدي كلِّ حياة ومماتٍ، وبين يدي كلِّ حيوانٍ ونباتٍ، وبين يدي كلِّ زهرةٍ وثمرةٍ، وبين يدي كلِّ صنعةٍ وصبغةٍ، وبين يدي كلِّ نظامٍ وميزانٍ، وبين يدي كلِّ سكونٍ وحركة في ذرات العالم ومركباتها شهادةً نشهد ان لا اله الاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، بيده الخير، وهو على كلِّ شئ قدير.. ونشهد انّ محمداً عبده ونبيه وحبيبه ورسوله أرسله رحمةً للعالمين.
اللهمَّ صلِّ على محمد بحر انوارك، ومعدن اسرارك، وشمس هدايتك، وعين عنايتك، ولسان حجّتكَ، ومليك صنع قدرتك، ومثال محبتك، وتمثال رحمتك، واحبّ الخلق اليك، وعلى سائر الانبياء و المرسلين، وعلى آل كلٍ وصحبِ كلٍ اجمعين، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى عبادك الصالحين من اهل السموات والارضين، برحمتك يا ارحم الراحمين.
سبحانك يا مَن يُسبح بحمدك هذا العالم بلسان محمد عليه افضل صلواتك واتم تسليماتك.
سبحانك يامن تسبح لك الدنيا بآثار محمد عليه أنمى بركاتك.
سبحانك يامن تسبح بحمدك الارض ساجدةً تحت عرش عظمتك بلسان محمدها عليه ازكى تحياتك.
سبحانك يامن يُسبح لك المؤمنون والمؤمنات بلسان محمدهم عليه صلواتك ابدا سرمدا.
سبحانك اسبّحك بلسان حبيبك محمد عليه اكمل صلاتك واجمل سلامك، فتقبل مني برحمتك كما تقبلته منه.


المثنوي العربي النوري - ص: 388
اعلم! ان عظمة وسعةِ عموم آية (تُسَبّحُ لَهُ السَّمــواتُ السَّبْعُ والأرضُ ومَن فيهِنَّ وانْ من شَىءٍ الاّ يُسبّحُ بحَمْده) 1 اقتضتْ تفسيراً، فتوجهتُ اليها فترشحتْ متقطرةً منها في قلبي كلماتٌ مفسرات لها، وسلّم مرقاةٍ للصعود اليها. فهي منها واليها. فان احببت ان ترشُف تلك القطرات المفسّرات المترشحات من عمان تلك الآية، والنازلات من سموات عظمتها، فاستمع بقلب شهيد ما سيأتي واقرأ معي هذا:
سبحانك ما عرفناك - نحن معاشر البشر - حقَّ معرفتك يا معروفُ، بمعجزات جميع مصنوعاتك وبتوصيفات جميع مخلوقاتك، وبتعريفات جميع موجوداتك..
سبحانك ما اعظمَ سلطانَك واوضحَ برهانَك!.
سبحانك ما ذكرناك حق ذكرَك يامذكورُ، بألسنة جميع مخلوقاتك، وبذوات جميع مصنوعاتك، وبأنفس جميع كلمات كتاب كائناتك..
سبحانك ما أجلّ ذكرك!.
سبحانك ما شكرناك حقّ شكرك يا مشكورُ، بأثنية جميع احساناتك على أنظار ذوي البصائر، وباعلانات جميع نِعَمك في سوق الكائنات على رؤس الاشهاد، وبشهادات نشائد جميع ثمرات رحمتك المُفْرغة تلك الثمرات في قوالب النظام والميزان..
سبحانك ما اوسعَ رحمتَك!.
سبحانك ما عبدناك حق عبادتك يا معبودَ جميع ملائكتك وجميع مخلوقاتك بجميع انواع العبادات واصناف التمجيدات.
سبحانك ما سبّحناك حق تسبيحك يا مَن
(تُسَبّحُ لَهُ السَمــوات السَبْعُ والأرضُ ومَن فيهن وانْ مِنْ شَئ الاَّيُسَبّحُ بحمده).. آمنا.. نعم..
سبحانك يامن تُسبّحُ لك الملائكة باجناسها المتفاوتة، بألسنتها المختلفة، بأذكارها المتنوعة.
_____________________
1 الاسراء : 44



المثنوي العربي النوري - ص: 389
سبحانك يامن تُسبح لك هذه الكائناتُ بافواه عوالمها، واركان عوالمها، واعضاء اركانها، واجزاء اعضائها، وجزئيات انواعها، وحجيرات جزئياتها، وبفويهات ذراتها واثير ذراتها؛ بألسنة نظاماتها الحكيمة، وموازينها العالية، واحوالها المنظومة، وكيفياتها الموزونة بصُنعك الحكيم.
سبحانك يامن تُسبِّح بحمدك الجنة بافواه بساتينها بنشائد هي: حورُها وقصائد قصورها، ومنظومات اشجارها، ومتشابهات ثمراتها الموزونة.. كما تسبح لك اشباهُها هنا في ضرّتها.
سبحانك يامن يقلّب الليل والنهار وسخر الشمس والقمر، تسبح لك هذه السموات، بمنظومات بروجها، بافواه شموسها بكلمات نجومها، بلسان نظامها في ميزانها، وانتظامها في زينتها، وتلألئها في حشمتها، وانقيادها في مسخريتها، وسكونتها في سكوتها، وحكمتها في حركاتها.
سبحانك يا من تُسبِّح لك طبقاتُ الجو بافواه رعودها وبروقها ورياحها وسحابها وشهابها وامطارها، بكلمات لمعاتها وقطراتها، بلسان نظامها في ميزانها في غاياتها وثمراتها.
سبحانك يا مَنْ تُسبِّح لك الارضُ ساجدة لعظمة قدرتك بمحمدها وقرآنها، بافواه بحورها وجبالها وانهارها واشجارها، وباصوات واهتزازات صوتية - هما حيواناتها ونباتاتها - وبكلمات نورانية وحروف نورية - هما أنبياؤها وأولياؤها - بلسان نظامها وميزانها وحياتها ومماتها، وفقرها ويبسها، وتبرجها وتزينها بأذنك الكريم وصُنعك الحكيم.
سبحانك يا من تسبح لك البحورُ بكلمات - هي: عجائبُ مخلوقاتها.. وبمنظومات نغماتها بلسان نظامها وميزانها وحكمتها وغاياتها.
سبحانك يامَن جعل الارض مهاداً والجبال أوتادا. تسبح لك الجبال بافواه عيونها وانهارها واشجارها، بلسان نظاماتها وموازينها وغاياتها ومخازنها.
سبحانك يامن جعل من الماء كل شئ حي. ويامن تسبح لك الحيوانات بافواه حواسها وحسياتها وجهازاتها واعضائها وصنعتها وصبغتها وعقولها وقلوبها، بألسنة


المثنوي العربي النوري - ص: 390
نظاماتها وموازينها، وبأسئلة استعداداتها واحتياجاتها ودعواتها وتنعماتها، في اوطارها، وتقلباتها في اطوارها وحياتها ومماتها.
سبحانك يا مَن تسبح بحمدك الهوامُ في الهواء عند دورانها بزمزمة هَزَجاتها بشكرك، والطيورُ في اوكارها مع افراخها بسجعاتها ونغماتها شكراً لك، بلسان نظامهما وميزانهما، وصنعتهما ونقوشهما وزينتهما كما تناديان على إحسانك، وتصيحان على نعمتك بأظهار شكرك في وقت تلذذاتهما بثمرات نعمتك، وتنعماتهما بآثار رحمتك.. كما تسبح بحمدك الحشرات في قرارها بدمدمتها، والوحوش في قفارها بغمغمتها بألسنة نظاماتهما وموازينهما وصورهما واشكالهما وتنعماتهما الكريمة وتقلباتهما الحكيمة..
سبحانك ما الطف صنعَك وما انفذ حكمك!
سبحانك يا مَنْ تُسبح لك الاشجارُ صريحاً بغاية الوضوح عند انفتاح اكمامها، وتزايد اوراقها، وتكامل ثمارها، ورقص بناتها على ايادي اغصانها؛ بافواه اوراقها الخضرة، وازهارها المتبسمة، واثمارها الضاحكة بلسان نظاماتها وميزانها وطعومها اللذيذة، والوانها الجميلة، وروائحها اللطيفة، ونقوشها المستحسنة، وزينتها المستملحة.. كما تمجّدك وتنادي على كمال رأفتك، وتصف تجليات صفاتك، وتُعرّف جلوات اسمائك، وتفسر تحببك، وسياستك لمصنوعاتك؛ بما يترشح من شفاه ثمارها من قطرات لمعات جلوات تحبُّبك وتعهّدك لمخلوقاتك..
سبحانك ما ألطف برهانك في احسانك، وازين لُطفك في توددك!.
سبحانك يا من تسبح لك النباتاتُ بكمال الوضوح والبيان عند تنوّر ازهارها، وتبسّم بناتها، وانكشاف اكمامها واشتداد حبوبها، بافواه ازاهيرها وسنابلها بكلمات حباتها المنظومة وبذورها الموزونة بلسان نظامها الارق وميزانها الادق.. كما تمجّدك وتعرّفك وتشفّ عن وجه تحببك، وتصف صفاتك وتذكر اسماءك وتفسر توددك وتعرفك الى عبادك؛ بما يتقطر من عيون ازاهيرها واسنان سنابلها، من رشحات جلوات توددك وتعرفك الى مخلوقاتك..
سبحانك ما الطف برهانك وما اَنوَرَه وما احلاه وما ازينه!.


المثنوي العربي النوري - ص: 391
سبحانك يا من اَنْزَل الحَديد فيه بَأس شَديد ومَنافع للناس، تسبِّح لك المعادنُ بانواعها واجناسها واشكالها وخواصها وخاصياتها وفوائدها ونقوشها وتزييناتها، بلسان نظاماتها المرصوصة وموازينها المخصوصة.
سبحانك يا من تسبح لك العناصرُ باجتماعاتها المنتظمة بامرك وقدرتك، وتركباتها الموزونة باذنك وصنعك الحكيم.
سبحانك يا من تسبح لك الذراتُ بفويهات تعيناتها ووظائفها بألسنة نظاماتها وموازينها، وعجزها المطلق في ذاتها مع حملها - بحولك - وظائف عظيمة، كما تشهد كلُ ذرة منها على وجوب وجودك بلسان عجزها بنفسها عن تحمل ما لاتطيق هي على حملها من وظائفها العالية العجيبة في دقائق نظام الكون. حتى ان كلاً منها كمثل نحلة نحيلة حملت عليها نخلةً طويلةَ، كما تشير كل ذرة منها الى وحدتِك بنظر وظائفها وتوجه حركاتها الى النظام العام المحيط الدال بالقطع على وحدة الناظم. ففي كل ذرة لك شاهدان؛ على انك واجب واحد. وفي كل شأن لك آيتان؛ على انك احد صمد، بل وفي كل شئ لك شواهد وآيات على انك واجب واحد احد، صمد جل جلالُك، ولااله غيرُك، وحدك لاشريك لك.


المثنوي العربي النوري - ص: 392
اعلم ! ان وجودك وحواسك وجوارحك انما تنظر اولا وبالذات الى صانعها الذي يربيها ويدبرها ووجوهها متوجهةٌ اليه سبحانه، ولا تنظر اليك الا وظيفة وبمقدار مالكيتك الموهومة.
فان اشارت - لاجل حسن تعهدك لها - الى لمعةِ شعورك بكيفية حاصلة من كسبك، فبالمشاهدة تصرّح بِعلمِ بارئها بما لايحد من كيفياتها المنتظمة واحوالها المتقنة.. وهكذا تفصح بسائر اسمائه وصفاته المتجلية عليها.
وإن خَدَمَتْكَ بجهة في دقيقة، خَدَمَتْ صانعَها بكل الوجوه في كل آن.. ومن خدمتها تشهيرها لغرائب آثار صنعة فاطرها الحكيم.. وكذا امتثال الوظائف الفطرية المؤذنة بكمال الموازنة في سر التعاون المادي على لطائف رحمته تعالى، ولفائف حكمته سبحانه. وكذا اعلاناتها بلسان فهرستيتها لغرائب الصنعة لمحاسن جلوات فاطرها الحكيم .
وإن نَظرتْ اليك بدرجة ما يصل اليها نظرُك السطحي، وبمقدار ما يحيط بها علمك الاجمالي؛ نظرتْ الى صانعها بجميع ذراتها ومركباتها وكيفياتها واحوالها، فما ميزان مالكيتك الموهومة الا درجة نظرك وتصرفك فيها، وما هو الا كقطرة من بحر، فاعرف حدك ولا تجاوز طورَك.
فوجودُك وتوابعه له وجهان:
فبالوجه الناظر الى الحق سبحانه له قيمة عالية غالية.
وبالوجه الناظر الى الخلق لا قيمة له لفنائه وزواله.
اذ الوجه الاول يقول لك وللناظر: انك صنعةٌ لطيفةٌ، واثرٌ نظيف نزيه لمن فطر السموات والارض. فحسبُك من الوجود وكمالِه ولذتِه وقيمته علمُك بانك صنعةٌ للصانع الذي زيّن السماء بهذه النجوم والشموس حتى صِرتَ اخاً عزيزاً صغيراً لهذا العالم يخدمك اخوك الكبير..
والوجه الثاني يقول لك ناعيا باليُتم: انك مجموعُ عناصر ترافقت باتفاقية عمياء، وعن قريب تتفرق بفراق اليم ومفارقة صماء.


المثنوي العربي النوري - ص: 393
فلا تظلِم وجودك بالتملك ولا تَبْخَسْ حقَّه بقطعه عن الحق المؤدي لإسقاطه من القيمة. فلا يقام له الوزن حينئذ؛ اذ قيمة ملايين سنة والوف قنطار من هذا الوجود الابتر المكفهر لا تساوي قيمة ذرة وآن سيال لذلك الوجود المظهر المطهر.. ألا ترى انك ما أقتطعك بارئُك اقتطاعاً من مواد حاضرة، ولا اخذك اخذاً من صُبْرة الكون، ولا اغترفك اغترافا من بحر الوجود، كيفما اتفق؟ هل ترى في سوق عالم الكون والفساد دكانا يُشترى منه العيون او مخزنا أدخر فيه الادمغة والالسنة، او ماكينة تصنع القلوب وتنسج الجلود؟ كلا ثم كلا! بل أنشأك بارئُك، واخترعك فاطرُك بصورة بديعة جامعة، وخلقك من شئ كلاشئ، او من كل شئ، حتى لا يطمع شئ من الاشياء ولو اعظم الاشياء الممكنة في خلق شئ من الاشياء ولو اصغر الاشياء، وحتى لايتطاول الى دعوى خلق ذبابة مثلا، من لا يقتدر على خلق السماوات.
فمن لا يقتدر على خلق كل شئ، لا يقتدر على خلق ِ شئ ما من الاشياء.
اعلم ! ان المادة التي يتصرف فيها الصانع الماهر فيُظهر فيها صنعةً عجيبة قد لا تساوي قيمةُ تلك المادة عُشر مِعشار قيمة "الصنعة". كالزجاج الذي صُنع منه المرآة الاسكندرية مثلا. وقد تتوازن قيمةُ المادة و الصنعة كالبقلواء 1 النفيسة من يد طابخ حاذق، وقد تزيد عليها. وان لكل من المادة، وما فيها من الصنعة غايات وثمرات تغاير غايات الآخر.
واما مصنوعات الصانع الازلي فاكثرها، بل كلها من القسم الاول حتى كأن المصنوعَ صنعةٌ متجسمة، لاسيما ذوي الحياة، ولاسيما صغارها التي تضاءلت فيها المادة وتلاشت في كثافة دقائق الصنعة، وقد يصير شئ واحد غايةً لهما، لكن بجهتين كالرزق مثلا..
فمن جهة المادة والحياة ما هو الاّ تغذٍ بتلذذ جزئي زائل لحفظ الحياة وبقائها.
واما من جهة الصنعة المعلنة المثمِرة لآثار جلواتِ الصانع، فالرزق كنزٌ عجيب لطيف، وخزينةٌ غريبة نظيفة، اذ في الرزق حينئذ التحسس باحساس جميع النِعَم والشعور بها، والتذوق عند اذاقة اقسام تجليات اسماء الرزاق الكريم، والتشرف بها
_____________________
1 نوع من الحلويات والمعجنات المعروفة .




المثنوي العربي النوري - ص: 394
والتنوّر بفَهمها. فان شئت فانظر الى لسانك الذي هو واحد من الوف آلات الارتزاق بالرزق المادي والمعنوي، كيف اشتمل هذا الجرم الصغير على جهازات ذائقاتٍ بعدد طعوم المذوقات. فان انتبه وشَعَر ذو اللسان شكر هذا اللسانُ بهذه الالسنة الدقيقات في جهازه، لطائفَ نِعَم مَن اذاقه برحمته هذه النعم اللذيذات..
نعم، ومن شُكرِِ النعمةِ بل ألذّ من النعمة الشعورُ بالانعام، ودركُ التفات المنعِم.
اعلم ! انه ما من مصنوع الا وهو منظوم، وما من مخلوق الا وهو موزون، قد انشأه بارئه صحيحا صريحا، وانشده فاطرهُ واضحا فصيحا. وان ما يُرى في هذه الاشياء الدنيوية وما في اثاثات هذا البيت الفاني من "التنظيم" بحساب معدود وبنظام مسرود، ومن "التوزين" بموازين حساسة، والموازنة بمقاييس جساسة يرمزان بل يُفصحان بعظمة الحساب في الحشر وتحقق وجوده فيه، والى هيبة الميزان في عرصات القيامة، ووقوعه ووضعه فيها، إذ ما يشاهد هنا، ما هو الا بذور، واساسات، ومباد، ومبشرات وشواهد وعلامات لما يتسنبل في الآخرة.
وان كل ما نشاهد في هذا الكون ما هو الا مصنوع، واثرُ الصنعةِ عليه ظاهرٌ جلي، يكاد ان ينطق. ولا يُشاهد صانعُه، وما يُتوهم من جنس الممكنات انه صانعُ شئ، فهو اضعفُ واعجز بمراتب غير محدودة من ان يكون صانعه حقيقة. اذ لابد لتصنيع كل شئ وانشائه لاسيما من جنس النباتات والحيوانات من آلات مختلفة، وتجهيزات متنوعة، وموازين حساسة كالموازين المستعملة في تركيب الادوية والمعجونات. وليست فليس.. 1 مع ان عند كل مصنوع ومعه وفوقه وفيه وتحته وقبله وآخره شئ. ومع ذلك الشئ كلُ ما يلزم للمصنوع وجوداً وبقاء، وما ذلك الشئ الا من لمعات وتجليات انوار قدرةِ من خزائنه بين الكاف والنون.
لكن ! انّ من الاسماء ما يقبل توسط الوسائط الظاهرية، فيتجلى ذلك الاسم في خلال الحُجُب، وخلفَ السرادقات: كالمتكلم، والرّزاق، والوهاب، وامثالها. وبعضها لا يقبل التوسيط ولو ظاهريا: كالخالق، والموجِد، والمحيي، وامثالها. كمثل السلطان مع النفر؛ ففي نفس ارزاقه وسلاحه ولباسه لا واسطة، وفي تحريكه وتعليمه وتوظيفه وتلطيفه تتوسط الوسائط، لكن باذن السلطان. الا ان التوسط هنا لعجز سلطان البشر وضعفه. وهناك لعزة سلطان الازل وعظمته..
_____________________
1 اي انه ليست للمصنوع تلك الآلآت المذكورة . فليس له ان يصنع شيئاَ قط.




المثنوي العربي النوري - ص: 395
اعلم! اني رأيت على رأس شجيرة نابتة في صخرة، نوعين من الثمرات، فتحيرت منه! 1 فتحرّيتها: فاذا أحد النوعين؛ ثمرتُها الخاصة بها يقال لها بالكردي (كزوان) 2. والنوع الثاني كالباقلة بمقدار الاصابع، او اصغر او اكبر، مقوسة مجوفة كالمنزل المعد للمسافرين. فاخذت من الثمرة الثانية واحدةً، واذ فتحتها تسارعت الى الطيران في الهواء طويرات، كالذر في الصغر، وهي التي تراها صافاتٍ كاخواتها من طويرات النمل والذباب، قبيل الغروب وهي ترقص في الضياء بجذبةِ الذكر - فلا تظنن انهن لاهيات لاعبات؛ بل ماهن الا مجذوبات ذاكرات للرحمن الذي يمسكهن في الهواء - وهى شبان وتجعل لهن - وهي اجنة - هذه الباقلة التي كما انها لا تناسبهن لمخالفة الجنس ولاتناسب الشجيرة لمخالفة النوع، اوكاراً كالارحام لطيفةً حصينةً من احسن الاوكار، فيها ارزاق نظيفة لذيذة.
فهذه الحالة تصرح بان هذه المعاملة انما تصدر مِن نظرٍ وتدبير فوق نظر هذا الجامد وهذه البهيمة؛ اذ لما لم يصلحا لهذا التدبير الحكيم ؛ لزمتْ حوالة 3 هذا التدبير على خارجٍ عليمٍ، وهذا الخارج المتصرف لابد من اول الامر البتة ان يحيط بكل افراد هذين النوعين في جميع اقطار الارض. وكذا بما يتعلق بهما، وكذا بمهدهما بالضرورة القطعية. ولايكون هكذا الا مَن هو عليمٌ بكل شئ، وقدير على كل شئ.
اسألك يامن يجوِّز تصرف غير الله في ملك الله! ويامن يقبل امكان وجود التصادف في بعض لطائف صنع الله! كيف تسمع، ام كيف تفهم، ام كيف تعلم هذه الشجيرةُ لسانَ الذبابة التي باضت على رأس غصنها، مودعة بيضاتها في يد حمايتها، حتى تشرع الشجيرة في ذلك الآن تتخذ بألطف شفقة اوكاراً امينة كأرحام الامهات، او اَرحاماً كالاوكار رفيعةً، ومهاداً مهتزةً في الهواء. فتأخذ الشجيرة من خزينة الرحمة رزقا كافيا، وافيا، لذيذا، عزيزا. فتدخره في تلك الاوكار في سبيل الله لمن ليس من ابناء جنسها، ولا من جنس بناتها، بل لمسافرين هم وديعة الله. فما هذا "التجاوب" بين هؤلاء المصنوعات الاّ آية شاهدة بانّ كليهما، بل الكل، بل كلّ ما في الكون خدام سيد واحد، وتحت تدبير مربٍ واحد، وفي تربية مدبرٍ واحد، احد صمد. آمنا..
_____________________
1 اي: تحيرت مما رأيت .
2 وهي الحبة الخضراء .
3 بمعنى إحالة.
عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس