عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2011
  #4
عبدالقادر حمود
أبو نفيسه
 الصورة الرمزية عبدالقادر حمود
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: سوريا
المشاركات: 12,194
معدل تقييم المستوى: 10
عبدالقادر حمود is on a distinguished road
افتراضي رد: المثنوي العربي النوري - قطعة من شمة


المثنوي العربي النوري - ص: 365
بسْمِ الله الرَّحْمــن الرَّحِيْم
(انَّ الاَبْرارَ لَفي نَعيمٍ _ وَاِنَّ الْفُجَّارَ لَفي جَحيمٍ) 1.
اعلم ! 2 ايها السعيد الغافل!. ان لكل احدٍ في سفر حياته طريقين الى القبر، والطريقان متساويان في القصر والطول.
لكن احدهما؛ مع انه لا ضرر فيه، فيه منفعة عظيمة بشهادات اهل الشهود المتواترين واجماعهم. يصل الى تلك المنفعة العظيمة من عشرة سالكيه تسعةٌ.
والآخر؛ فمع انه لا نفع فيه بالاتفاق، فيه ضرر عظيم باجماع اهل الخبرة والشهود. فاحتمال الضرر من العشرة تسعة، الا ان من يسلك في هذا لا يحمل سلاحاً ولا زاداً فيخف في الظاهر ويخلص من ثقل مَنّ، لكن يحمل على ظهر قلبه مائة مَنٍ مِن المنة ويثقل على عاتق روحه احمال الاهوال والمخاوف. ولان التمثيل يريك المعقول محسوساً، نمثل لهذه الحقيقة مثالاً :
مثلاً : تريد ان تذهب الى استانبول، أو تُرسَل اليه، ومن مكانك اليه طريقان؛ يميناً وشمالاً متساويان قصراً وطولاً، متخالفان نفعاً وضراً خفةً وكلفةً. ففي جانب اليمين نفع عظيم باجماع اهل الشهود والاختصاص بلا ضررٍ وبالاتفاق.. وحمل سلاح ومِزوَد زاد بمقدار مَنّ، مع خلاص الروح والقلب من ثقلة حمل المنّة والخشية اللتين هما في ثقلة الجبال.. وفي اليسار ضرر بشهادات ملايين من اهل الخبرة والشهود وبلا نفع باتفاق الموافقين والمخالفين، مع خفة الظاهر في طرح السلاح الصارم اللازم وترك الزاد الالذّ الالزم. لكن حمل 3 على عاتق روحه بدل (قيتي) 4 السلاح قناطير الخوف، وعلى ظهر قلبه بدل اربع (حقات) 5 الزاد مائة مَنٍ من المِنّة. اذ قد يخبر الشاهدون الصادقون: ان الذاهبين بيُمن الايمان في اليمين في امنٍ وامان في مدة سيرهم، واذا وصلوا الى البلد حصل لتسعةٍ من العشرة
_____________________
1 الانفطار: 13-14
2 الدرس الرابع من »المدخل الى النور« وفي الكلمة الثالثة توضيح واف.
3 اي السالك قد حمل على عاتق ...
4 مقياس للوزن يساوي (1282 غم) .
5 او اوقية: مقياس للوزن القديم.



المثنوي العربي النوري - ص: 366
نفع عظيم وربح جسيم. وان الماشين بشؤم الضلالة والبطالة والبلاهة في اليسار، لهم في مدة سيرهم اضطراب عظيم من الخوف والجوع، يتنزّل الماشي لكل شئٍ لخوفه في ضعفه في عجزه، ويتذلّل لكلِ شئٍ لاحتياجه في فقره. واذا وصلوا الى البلد يُحْبَسون اويقتلون لا ينجو الا واحد او اثنان. فمن له ادنى عقلٍ لا يرجح ما فيه احتمال الضرر، على ما لا ضرر فيه لأجل خفةٍ قليلة. فكيف يرجح ما فيه اعظم الضرر من المائة بتسعة وتسعين احتمالاً، على ما فيه اَعظم النفع بتسعة وتسعين احتمالاً لاجل خفة جزئية في الصورة، مع ثقلةٍ كليةٍ في الحقيقة؟
اما المسافر فانت. واما استانبول فعالم البرزخ والآخرة. واما الطريق الايمن فطريق القرآن الآمر بالصلاة بعد الايمان. واما الطريق الايسر فطريق اهل الفسق والطغيان. واما اهل الخبرة والشهود فالاولياء المشاهدون؛ اذ ذو الولاية ذو ذوق شهودي في الحقائق الاسلامية، فما يعتقده العامي قد يشاهده الولي. واما السلاح والزاد ففي ضمن التكليف المتضمن للعبودية المتضمنة للصلاة المتضمنة لكلمة التوحيد المتضمنة لنقطتي الاستناد والاستمداد المتضمنتين للتوكل على القدير الحفيظ العليم وعلى الغني الكريم الرحيم.. فخلص من التنزل والتذلل لكل شئ له فيه جهة ضرِّ او نفع. اذ "لا اِلهَ اِلاَّ الله" يفيد ان لا نافع ولا ضار الا هو ولا نفع ولا ضرَّ الا باذنه.

بسْمِ الله الرَّحْمــن الرَّحِيْم
(وما هذه الحَيَاةُ الدُّنيَا اِلاّ لَهْوٌ ولَعِبٌ وَاِنَّ الدَّار الآخِرةَ لَهِيَ الحَيَوانُ)
1
اعلم! 2 ايها السعيد المسافر الى الشيب، الى القبر، الى الحشر، الى الابد!. ان ما اعطاك مالكك من العمر لتحصيل لوازمات الحياتين بقدر الطول والقصر، قد ضيعتَه كله في هذه الحياة الفانية التي هي كقطرة سرابٍ بالنسبة الى البحر، فان كان لك عقل فاصرف نصفه او ثلثه لا اقل عُشره للباقية، ومن العجائب ان يقال لمثلك من احمق الناس هو: عاقل ذو فنون.

_____________________
1 العنكبوت: 64
2 الدرس الخامس من "المدخل الى النور" والكلمة الرابعة تكشف دقائق هذا المثال.



المثنوي العربي النوري - ص: 367
مثلاً: هل ترى احمقَ من عبدٍ اعطاه سيده اربعة وعشرينَ ديناراً وارسله من "بوردور"، الى "انطالية" 1، الى "الشام"، الى "المدينة"، الى "اليمن". وامره ان يصرف تلك الدنانير في لوازمات سفره ، لكن الى "انطالية"، يمشي راجلاً له نوع اختيارٍ، لو لم يصرف شَيْئاً لوصل ايضاً. ومنها الى سائر منازله لا اختيار له، اِن اشترى وثيقةً لركب سفينةً او (شمندوفراً) 2 او طيارةً وقطع مسافة شهرٍ في يومٍ . والا لذهب ماشياً طريداً تائهاً وحيداً . مع ان ذلك السائح الابله صرف ثلاثة وعشرين ديناراً في مسافة يومين!
فقيل له : فلا اقل فاصرف الواحد لزاد السفر الطويل يمكن ان يرحمك سيدك.
فقال : لا اصرف لاحتمال عدمِ الفائدة.
فقيل له: فيا للعجب لبلاهتك الى هذه الدرجة!.. كيف يفتيك عقلك ان ترمي نصفَ مالك في قمار (البيانكو) 3 وهو ثمانية واربعون ديناراً، مع اشتراك الف انسانٍ برجاء الظفر بألفِ دينارٍ، باحتمال واحد من الف احتمالٍ. فكيف لا يفتيك هذا العقل بان تعطي جزءً واحداً من اربعة وعشرين جزء من مالك لتظفر بكنوزٍ لا نفاد لها بتسعمائة وتسعة وتسعين احتمالاً بشهادات ملايين من اهل الخبرة والاختصاص. مع انه يُهتم في مثل هذه المنفعة الجسيمة باخبار واحدٍ عامي، فكيف باخبارات شموس البشر ونجومه المتواترين واهل الشهود الذين يرجّح اثنان من مثبتى اهل الشهود على الوف النافين المنكرين، كما يرجح شاهدان لهلال رمضان على الوف المنكرين لرؤيته.
اما العبد المسافر فانت. واما "بوردور" فدنياك. واما "انطاليه" فالقبر. واما "الشام" فالبرزخ. واما "اليمن" فما بعد الحشر. واما الدنانير الاربعة والعشرون، فاربع وعشرون ساعة في عمر اليوم، تصرف ثلاثاً وعشرين ساعةً لمصالح الحياة الفانية؛ وتتهاون في صرف ساعةٍ واحدةٍ في اداء خمس صلوات التي هي من ألزم الزاد في السفر الطويل !
_____________________
1 اسماء مدن تقع جنوبي تركيا
2 القطار
3 اليانصيب.




المثنوي العربي النوري - ص: 368
هذا التمثيل لبيان سر من اسرار الآية الكريمة:
(وَاُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتقين _ وَبُرّزَتِ الجحيمُ لِلْغاوينَ) 1
اعلم ! 2 ياايها الغافل التارك للدين في طلب الدنيا! احكي لك حكايةً تمثيليةً، فيها مثال قسم من حقائق الدنيا والدين.
كان فيما غبر من الزمان أخوان ، فذهبا الى ان انقسم الطريق طريقين: في احداهما كلفة اتباع القوانين، وفي الاخرى لا كلفة في الظاهر.. فذو الخلق الحسن اختار جانب اليمين مع الكلفة الخفيفة. وذو الخلق السيئ اختار جانب اليسار مع الخفة الثقيلة، فذهب ذو الشمال فيما بين القفار الى ان دخل صحراء خالية فسمع صوتاً هائلاً، فرأى اسداً مدهشاً يهجم عليه، ففر الى ان صادف بئراً عميقاً بستين ذراعاً، فرمى نفسه فيه ، فسقط ثلاثين ذراعاً فوصل يده الى شجرة في جداره، ولها عرقان ؛ قد تسلطت عليهما فارتان بيضاء وسوداء تقطعان العرقين. فنطر فيما تحته فرآى ثعباناً عظيماً ورفع رأسه الى قرب رجله، وسعة فمه كفم البئر. ونظر في جوانبه فرآى حشرات مضرّة مؤذيةً. فنظر الى الشجرة فرآها شجرة التين، لكن اثمرت انواعاً متباينةً من ثمرات الاشجار المختلفة، فبينما ضجت لطائِفهُ من دهشة الوضعية، اذ تجاهلت نفسُه بالتغافل مع انينات لطائفه، فحسب بالمغالطة انه في بستانٍ، فبسر حديث (انا عند ظن عبدي بي) 3 هكذا ظن، فهكذا عومل. فبقى ابداً بين هذه الاهوال لا يموت ولا يحيى. فهذا المسكين بسوء فهمه لم يتفطن انه لا يمكن التصادف في هذه الامور المطلسمة.
فلنرجع ونترك هذا المشؤوم في عذابه؛ ولنذهب خلف الاخ الميمون المتيامن. فهذا يذهب مستأنساً بحسن ظنه الناشئ من حسن سيرته. انظر كيف استفاد بحسن نَظره مما لم يستفد منه اخوه، اذ صادف في طريقه بستانا فيه اثمار وازهار، مع مستقذراتٍ وميتات. فتنزَّه بالمستحسنات ولم يلتفت الى الملوثات كأخيه. ثم ذهب حتى دخل
_____________________
1 الشعراء: 90،91
2 البحث خلاصة الكلمة الثامنة والدرس الثاني من "المدخل الى النور".
3 رواه البخارى ومسلم 2675 والترمذى 3538 (تحقيق احمد شاكر) وفي صحيح الجامع الصغير 4191، 4192



المثنوي العربي النوري - ص: 369
في صحراء خالية فسمع صوت الاسد الهاجم، فخاف لكن لا بدرجة اخيه، باحتمال ان الاسد مأمور سلطان الصحراء، ففر فصادف بئراً بستين ذراعاً فطرح نفسه فيه، فتعلق في نصفه بشجرة لها عرقان، تسلطت عليهما فأرتان تقطعانهما، فنظر فوقه فرأى الاسد؛ ونظر تحته فرأى ثعبانا عظيماً فمه كفم البئر تقرُب الى رجليه، فتدهش من الخوف لكن ادنى بمراتب من دهشة اخيه. لانه تفطّن بحُسن ظنه وفهمه من تناظر هذه الامور العجيبة ان فيه طلسماً، وانها تحت امر حاكم ناظر اليه يجرّبه. فتولد من خوفه (مرق) معرفَةَ مَن هو الذى يتعرّف الىّ ويسوقنى الى امرٍ من عنده. فتولد من (مرقه) محبة صاحب الطلسم. فنظر الى رأس الشجرة فاذا هي تينة اثمرت اثماراً متباينةً فزال خوفه بالكلية، وتيقن انه تحت حكم طلسم، اذ لا يمكن ان تثمر التينة ثمرات سائر الاشجار. فما هي الا اشارات الى الوان الاطعمة التي اعدها ذلك الملك الكريم لضيوفه. فتولد من محبته له طلب ما يفتح به الطلسم ويرضى به الطلسم، فاُلهِمَ المفتاح، فنادى: تركت الكل لك، وتوكلتُ عليك! فانشق الجدار، فانفتح بابٌ الى جنانٍ نزيهة. فرأى الاسد والثعبان انقلبا خادمين يدعوانه الى الدخول..
فانظر الى تفاوت حال الاخوين: ذاك ينتظر الدخول في فم الحية، وهذا يُدعى الى الدخول في باب البستان المنور المزهر المثمر.. وذاك في دهشة اليمةٍ وخوف يتفطر منه اعماق قلبه، وهذا في عبرة لذيذة وخوف تتقطر منه محبة وحرمة ومعرفة.. وذاك في وحشةٍ ويأسٍ ويُتمٍ، وهذا في انسيةٍ ورجاء واشتياق.. وذاك في هدف تهاجم الاعداء الموحشة، وهذا ضيف يستأنس بخدام المضيف.. وذاك يعجل عذابه باكل الثمرات اللذيذة التي اُذن في طعمها لاشتراء ما هي من انموذجها لا الى اكلها، اذ في بعضها سم. وهذا يؤجل الاكل ويلتذ بالانتظار..
فاذا تفهمت دقائق التمثيل فاعرف اوجه التطبيق: اما الاخَوَان فالروح المؤمن والكافر، والقلب الصالح والفاسق. واما الطريقان فطريق القرآن والايمان، وطريق العصيان والطغيان. واما الصحراء فالدنيا. واما الاسد فالموت. واما البئر فالبدن والحياة، واوسط العمر ستون. واما الشجر فالعمر. واما الفأرتان البيضاء والسوداء فالنهار والليل. واما الثعبان فالبرزخ الذى فمه القبر.. واما الحشرات المضرة


المثنوي العربي النوري - ص: 370
فالمصيبات.. واما الثمرات فالنعم الدنيوية المشابهة المذكرات لثمرات الجنة.. واما المسمومة منها فالمحرمات. واما الطلسم فسر حكمة الخلقة.. واما المفتاح فـ (الله لا اِلَهَ الاَّ هُوَ الحَيُّ القَيومُ) 1 أي - يا الله انت معبودي ورضاك مطلوبي - و"لا إله الا الله". واما تبدل فم الثعبان بباب البستان ؛ فلأن القبر لاهل القرآن والايمان باب الى رحمة الرحمن في دهليز الجنان. ولاهل الضلالة والطغيان باب الى ظلمات الوحشة والنسيان في برزخ كالزندان 2 كبطن الثعبان. واما تبدل الاسد المفترس فرساً مونساً؛ فلأن الموت للضال فراق ابدى عن جميع محبوباته، واخراجٌ له من جنته الكاذبة الدنيوية الى زندان القبر في الانفراد. واما للهادي فوصال الى احبابه، ووصول الى اوطانه، وخروج من زندان الدنيا الى بستان الجنان لأخذ اجرة الخدمة من فضل الحنّان، المنّان الديّان الرّحمن. جل جلاله ولا اله الا هو.
اعلم! 3 ايها السعيد المغرور المفتخر بما لم تفعل! انه لا حق لك في الفخر والغرور؛ اذ ليس منك في نفسك الا القصور والشر. وان كان خيراً فهو جزئي كجزئك الاختياري، لكن بجزئك الاختياري تفعل شرّاً كلياً، اذ بقصورك تُسقِط ثمرات سائر الاسباب المتوجهه الى مقصودك. فتستحق خسارة كليةً وخجالةً عامةً، لكن عكست القضية فَتَفَرْعَنت..
مثلك في هذا، كمثل مغرورٍ احمق صار شريكاً لجماعةٍ في التجارة بسفينةٍ، ففعل كل واحد وظيفته، فترك هو وظيفته التى بها تتحرك السفينة حتى غرقت فخسروا الف دينارٍ، فقيل له: الحق ان كل الخسارة عليك، فقال: لا، بل تنقسم علينا فعليَّ بمقدار حصتي. ثم في سفر آخر، فعل كما فعلوا فربحوا الف دينار ؛ فقيل له : فليقسم الربح على رأس المال، فقال: لا، بل كل الربح لي، اذ قلتم اولاً كل الخسارة عليك ، فاذاً كل الربح لي. فقيل له: ايها الجاهل! "الوجودُ" يتوقف على وجود كل اجزاء الموجود والشرائط فثمرة الوجود تُعطى للكل، والربح وجود. واما الخسارة فثمرة العدم مع ان الكل ينعدم بعدم جزء واحد وبفقد شرطٍ.
_____________________
1 البقرة: 255
2 السجن.
3 الدرس السادس من "المدخل الى النور".




المثنوي العربي النوري - ص: 371
فيا ايها السعيد اسما، والشقي جسماً! تُرجع ثمرة العدم على من صار سبباً للعدم، فلا حق لك في الفخر والغرور.
اما اولاً: فلأن الشر منك والخير من ربك.
واما ثانياً: فلأن شرَّك كلي وخيرَك جزئي.
واما ثالثا: فلانك اخذتَ اجرة عملك الخير قبل العمل، بل لا تساوي جميعُ حسناتك لعُشر معشار عشير ما أنعم عليك مَن جعلك انساناً مسلماً. ومن هذا السر تكون الجنة من محض الفضل، وتكون جهنم عين العدل؛ اذ قد يعمل البشر بشرّه الجزئي الآني جنايةً كليةً دائمةً.
واما رابعاً: فلان الخير انما يكون خيراً؛ ان كان لله. فاذا كان له، فالتوفيق منه، فالمنة له.. فالحقُ "الشكرُ" لا "الفخر" بالاراءة والرياء الذي يصير الخير شراً.. فمن جهلك بهذه الحقيقة صرت مغروراً في نفسك، غروراً لغيرك.. فتسند حسنات الجماعة اليه فيتفرعن في نظرك، بل تقسم مال الله وفعله على الطواغيت.
وكذا من هذا الجهل اسنادك سيئاتك التي هي - منك بالنص - الى القدَرَ فراراً من المسؤولية، وتملّكك للحسنات التي هي من فيض فضل فاطرك - بالنص- الى نفسك، لتُحمد بما لم تفعل.. فتأدب بادب القرآن
(مَا اصَابَك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) 1 فالتزم مالك، ولا تغصب ما ليس لك.. وكذا تأدب بآداب القرآن؛ بجعل جزاء السيئة مثلها.. والحسنة عشر امثالها.. فلا تعدّى عداوتك من المسئ بصفةٍ الى اقاربه والى سائر صفاته.. وتجاوز بمحبتك من المحسن الى انسابه مع الصفح عن عيوبه 2.
اعلم ! 3 ايها السعيد الغافل الفضولي!. انك تترك وظيفتك، وتشتغل بوظيفة ربك. فمن ظلمك وجهلك؛ تركك لوظيفة العبودية الخفيفة التي هي في وسعتك.. وحملك على ظهرك ورأسك وقلبك الضعيف، وظيفة الربوبية التى تختص بمن
_____________________
1 النساء: 79
2 هذه المعاني مفصّلة في رسالة "الاخوة"
3 الكلمة الخامسة والدرس السابع من "المدخل الى النور".




المثنوي العربي النوري - ص: 372
(خَلَقَكَ فَسَوّيكَ فَعَدَلَكَ _ في اَيّ صُورَةٍ مَاشَاءَ رَكّبَكَ) 1 فالتزم وظيفتك، وفوّض اليه وظيفته لتسعد وتستريح.. وإلاّ صرت عاصياً شقياً وخائناً غوياً. مثلك 2 كمثل نفر عسكر له وظيفة اصلية هي التعليم المخصوص، والحرب والجهاد، والسلطان مُعينُه في هذه الوظيفة باحضار لوازماتها، ولسلطانه وظيفة مخصوصة هي اعطاء ارزاق ذلك النفر وتعييناته ولباسه حتى دوائه.. لكن قد يستخدم النفر في وسائل هذه الوظيفة، لكن بحساب الدولة.
ومن هذا السر اذا قلت لنفر يطبخ طعامه: ماتفعل؟ يقول: افعل سخرةً (وعنقرةً) 3 للدولة، ولا يقول اعمل لرزقي.. لعلمه انه ليس من وظيفته، بل على الدولة حتى ان تدخل اللقمة في فمه، ان لم يقتدر بالمرض مثلا. فالنفر المشتغل بالتجارة لتدارك رزقه جاهلٌ شقيّ يُزيَّف 4 ويؤدّب.. والتارك للتعليم والجهاد خائن عصيّ يُضرَب ويُعنَّف.
فيا سعيد الشقي! انت ذلك النفر، وصلاتك هي تعليماتك. وتقواك - بترك الكبائر ومجاهدتك مع النفس والشيطان - هي حربُك. فهذه هي غاية فطرتك لكن الله هو الموفق المعين. واما رزقك وادامة حياتك وما يتعلق بك من الاموال والاولاد، فهي من وظيفة فاطرك، لكنه قد يستخدمك في وسائل قرع ابواب خزائن رحمته بالسؤال الفعلي او الحالى او القالى، وقد يستعملك في الذهاب في المسالك التى توصلك الى مطابخ نعمته، فتطلب بلسان الاستعداد او الاحتياج او الفعل او الحال او القال ماعَيّن وَقَدّرلك. . فما اجهلك في اتهامك - في حق رزقك - من رزقك اطيب الرزق، وانت طفل صغير بلا اختيار ولا اقتدار ويرزق كل دآبة لا تحمل رزقها وَهُو السميع العليم القدير الغني الذي جعل الارض في الصيف مطبخةً لضيوفه يفيض فيوضه في ظروف الرياض، ويملأ أواني الاشجار بلذيذات الاطعمة.. فاعمل بحسابه وباسمه وباذنه فيما استعملك فيه بعد ايفاء وظيفتك الاصلية.. فاذا تعارضا فعليك بوظيفتك فتوكل عليه، وقُلْ: حَسْبِيَ الله ونِعْمَ الوَكيلُ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصير.
_____________________
1 الانفطار: 7،8
2 هذا المثال موضح في "الكلمة الثانية"
3 كلمة مستعملة بالتركية اصلها يوناني ، وهي تعني العمل مجاناً من دون رغبة ولا اجرة.
4 بمعنى : يهان ويحقر.



المثنوي العربي النوري - ص: 373
بِسمِ الله الرحمــن الرحيم
(وَاِذا سَاَلَكَ عِبادي عَني فَانّي قَريبٌ اُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ اِذا دَعَانِ) 1
وكذا
(اُدْعُوني اَسْتَجِبْ لَكُمْ) 2
وكذا
(قلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبّي لَوْلا دُعاؤكُم) 3
اعلم ! 4 يامن يدّعي انه يدعو ولا يجاب! ان الدعاء عبادة. وثمرة العبادة في الآخرة. واما المقاصد الدنيوية فاوقات تلك الادعية التي هي عبادات مخصوصة.
فكما ان الغروب وقتُ صلاة المغرب، والخسوف والكسوف وقتُ صلاة الكسوفين لا غايةٌ لهما، وانقطاعَ المطر وقتُ صلاة الاستسقاء، لا ان الصلاة وضعت لنزول المطر، بل هي عبادة لوجه الله تدوم مادام لم ينزل، واذا نزل المطر انقضى وقتها..
وكذا، تسلط الظالمين ونزول البلايا اوقاتٌ لأدعية مخصوصة تدوم مادامت هي، فان رُفعت بها فنورٌ على نور. وان لم تُرفع لا يقال لم يقبل الدعاء، بل لم ينقض وقت الدعاء.
واما وعد الاجابة في
(اُدْعُوني اَسْتَجِب لَكُمْ) فالاجابة غير قبول الدعاء بعينها. بل الجواب دائمي، واسعاف الحاجة تابع لحكمة المجيب.
مثلا: تقول لطبيبك: ياحكيم! فيقول: لبيك مجيبا.. فتقول: اعطني هذا الطعام او الدواء. فقد يعطيك عين ما طلبت او احسن منه، وقد يمنعك بضرورة في مرضك. ومن اسباب عدم قبول الدعاء ظن كون الدعاء لهذه المقاصد الدنيوية. مثلا : يُظن صلاة الاستسقاء موضوعة للمطر فلا تكون خالصة فلا تُقبل.
اعلم ! ان بالانقلاب ينفرج وادٍ معنويّ بين الطرفين، فلابد من جسر ممدود فيه مناسبة بين العالمين ليمرَّ عليه بالتعريّ والتلبس من هذا العالم الى ذلك العالم. لكن
_____________________
1 البقرة: 186
2 غافر: 60
3 الفرقان: 77
4 الدرس الثامن من "المدخل الى النور" وموضح في الكلمة الثالثة والعشرين.



المثنوي العربي النوري - ص: 374
الجسر له اشكال متخالفة، وماهيات متباينة واسماء متنوعة باعتبار اجناس الانقلابات وبُعد مقام المنقلب اليه عن نوع المنقلب. فالنوم جسر بين عالم اليقظة والمثال. والبرزخ جسر بين الدنيا والآخرة. والمثال جسر بين العالم الجسماني والروحاني. والربيع جسر بين الشتاء والصيف. واما في الحشر فليس فيه واحد، بل تندمج فيه انقلابات كثيرة عظيمة فجسرها اعجب واعوج واغرب!.
اعلم! ان في اكثار ذكر القرآن لمآل
(ِالَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) 1 (وَالَيْهِ تُرْجَعُونَ) 2، (وَالَيْهِ الْمَصيرُ) 3 (واليه مَآب) 4 بشارة عظيمة، وتسلية جسيمة - وان تضمنت للعاصي تهديداً - اذ تقول هذه الآيات للناس: ان الموت والزوال والفناء والفراق من الدنيا ليست ابواباً للعدم والسقوط في ظلمات الفناء والانعدام، بل هي ابوابٌ للقدوم والذهاب الى حضور سلطان الازل والابد. فهذه الاشارة تُنجي القلب من دهشة ألمِ تصوُّر تَمزُّقِهِ مع جميع محبوباته بين ايدي عدمات هائلة غير متناهية، والتفرق بين انياب فراقات مدهشة. فانظر الى دهشة جهنّم المعنوية المندمجة في الكفر!.. اذ بسر (انا عند ظنّ عبدي بي) ظنَّ الكافرُ هكذا.. فصَوَّرَ فاطرُه ظنَّه عذاباً ابدياً عليه.. ثم انظر الى درجة تفوق لذة اليقين بلقاء الله، حتى على الجنة. ثم بعده مرتبة الرضاء، ثم بعده درجة الرؤية، حتى ان جهنم الجسمانية للمؤمن العارف العاصي كالجنة بالنسبة الى جهنم المعنوية للكافر الجاهل بخالقه. ولو لم يكن من البراهين الغير المحصورة للبقاء ووسائله، الا "تضرعات حبيب المحبوب الازلي" وقد اصطف خلفه في تلك الصلاة الكبرى صفوف الانبياء وصفوف الاولياء مؤمّنين على دعواته ومناجاته، لكَفَتْ وسيلةً وبرهاناً. أيمكن ان يوجد في هذا الحسن الابدع الاجمل، والجمال الابرع الاكمل هذا القبحُ الاعجب والنقصُ الاغرب؟.. اي بان لا يسمع من يَسمع اخفى هواجس الحاجات لاخفى المخلوقات بدليل قضائها في اوقاتها اللائقة، وان لا يقبل ارفع الاصوات الصاعدة من الفرش الى العرش، واحلى المناجاة، واعظم الدعوات، في اشد الحاجات..؟ كلا ثم كلا هوالسميع البصير.
نعم، هذه المعاملة من اوسع مراتب شفاعته عليه الصلاة والسلام وكونه رحمة للعالمين.
_____________________
1 الانعام : 60
2 البقرة : 28
3 المائدة : 18
4 الرعد : 36

عبدالقادر حمود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس