الموضوع: الكلمات
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2011
  #52
عبدالرزاق
عضو شرف
 الصورة الرمزية عبدالرزاق
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 329
معدل تقييم المستوى: 14
عبدالرزاق is on a distinguished road
افتراضي رد: الكلمات

ممثل العصر هناك

***

اذا تسلَّم الجهلُ المجازَ حوّله الى حقيقة

اذا وقع المجاز من يد العلم الى يد الجهل ينقلب حقيقة ويفتح ابواباً الى الخرافات. فلقد رأيتُ ايام صباي خسوف القمر، سألتُ والدتي عن السبب، فقالت: ابتلعه الثعبان. قلت: لِمَ يشاهد اذن؟. قالت: الثعابين هناك نصف شفافة!

وهكذا ظُن المجاز حقيقة. اذ يخسف القمر بأمر إلهي بحيلولة الارض بين الشمس والقمر وعند نقطتي تقاطع مدارهما وهما الرأس والذنب.

وقد اطلق على ذينك القوسين الموهومين اسم (التنين) اي الثعبان ولكن الاسم الذي اطلق حسب تشبيه خيالي تحوّل الى مسمىً (حقيقي).

المبالغة ذم ضـمني

اذا وصفت شيئاً فصفْه على ما هو عليه. اعتقد ان المبالغة في المدح ذم ضمني. لا احسان اكثر من الاحسان الإلهي.

الشهرة ظالمة

الشهرة مستبدة متحكمة، اذ تُمَلِّكُ صاحبَها مالا يملِكْ

فالخواجة نصر الدين (جحا) لا يملك من لطائفه المنتشرة غير العُشر.

وهالة الخيال التي وضعت حول رستم السيستاني قد أغارت على مفاخر ايران لعصر كامل. فلقد انتعش الغصب وتضخم ذلك الخيال، حتى اختلط بالخرافات والقى الانسان فيها.



***



الذين يعزلون الدين عن الحياة يردون المهالك

ان خطأ (تركيا الفتاة)(1) نابع من عدم معرفتهم أن الدين اساس الحياة. فظنوا ان الامة شئ والاسلام شئ آخر؛ وهما متمايزان! ذلك لأن المدنية الحاضرة. اوحت بذلك واستولت على الافكار بقولها: أن السعادة هي في الحياة نفسها. الاّ ان الزمان أظهر الآن أن نظام المدنية فاسد ومضرّ(2). والتجارب القاطعة اظهرت لنا: أن الدين حياة للحياة ونورها واساسها.

احياء الدين احياء لهذه الأمة. والاسلام هو الذي ادرك هذا.

ان رقي امتنا هو بنسبة تمسكها بالدين، وتدنيها هو بمقدار اهمالها له، بخلاف الدين الآخر. هذه حقيقة تاريخية، قد تنوسيت.

***

الموت ليس مرعباً كما يُتوهم

الموت تبديل مكان وتحويل موضع وخروج من سجن الى بستان. فليطلب الشهادة من يريد الحياة . والقرآن الكريم ينص على حياة الشهيد.

الشهيد الذي لم يذق ألم السكرات يُعدّ نفسه حياً. وهو يرى نفسه هكذا، الاّ أنه يجد حياته الجديدة نزيهة طاهرة اكثر من قبل، فيعتقد انه لم يمت. والنسبة بين الاموات والشهداء شبيهة بالمثال الآتي:

رجلان يتجولان في الرؤيا في بستان زاهر جامع لأنواع اللذائذ.

احدهما يعرف ان الذي يراه هو رؤيا، لذا لا يستمتع كثيراً، وربما يتحسر. والآخر يظن ان ما يراه في الرؤيا حقيقة في عالم اليقظة فيستمتع ويتلذذ حقيقة.

الرؤيا ظلُ عالم المثال، وعالم المثال ظلُ عالم البرزخ، ومن هنا تتشابه دساتير هذه العوالم.

السياسة الحاضـرة شيطان في عالم الافكار ينبغي الاستعاذة منها

ان سياسة المدنية الحاضرة تضحي بالاكثرية في سبيل الاقلية، بل تضحي قلةٌ قليلة من الظلمة بجمهور كبير من العوام في سبيل مقاصدها.

اما عدالة القرآن الكريم، فلا تضحى بحياة برئ واحد، ولا تهدر دمه لأي شئ كان، لا في سبيل الاكثرية، ولا لأجل البشرية قاطبة. اذ الآية الكريمة ] مَن قَتَل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الارض فكأنما قَتَل الناسَ جميعاً[ (المائدة: 32) تضع سرّين عظيمين امام نظر الانسان:

الاول: العدالة المحضة، ذلك الدستور العظيم الذي ينظر الى الفرد والجماعة والشخص والنوع نظرة واحدة، فهم سواء في نظر العدالة الإلهية مثلما انهم سواء في نظر القدرة الإلهية. وهذه سنة دائمة. الاّ ان الشخص يستطيع - برغبة من نفسه - ان يضحي بنفسه، من دون ان يُضحّى به قطعاً، حتى في سبيل الناس جميعاً. لأن ازهاق حياته وازالة عصمته وهدر دمه بإبطال حق الناس جميعاً شبيه بازالة عصمتهم جميعاً وهدر دمائهم جميعاً.

والسر الثاني: هو لو قتل مغرورٌ بريئاً دون ورع، تحقيقاً لحرصه واشباعاً لنزواته وهوى رغباته، فانه مستعد لتدمير العالم والجنس البشري ان استطاع.

***

الــضعف يشجع الخصم

ايها الخائف الضعيف!

ان خوفك وضعفك يذهبان سدىً، لا طائل وراءه، بل يكونان عليك لا لك. لانهما يشجعان الآخرين ويثيران شهيتهم لإفتراسك.

ان لله ان يختبر عبده وليس للعبد ان يختبر ربه.

أيها المرتاب!

ان مصلحة محققة لا يضحى بها في سبيل مضرة موهومة. فعليك بالسعي والنتيجة موكولة الى الله تعالى. فان لله ان يختبر عبده ويقول لك ان قمتَ بهذا سأكافئك بكذا، ولكن ليس للعبد ان يختبر ربه قائلاً: فليوفقني الله تعالى في هذا لأعمل هذا كذا. فان قال هكذا فقد تجاوز حدّه.

وقد قال ابليس يوماً لعيسى بن مريم عليه السلام: مادام الأمر كله للّه، ولن يصيبك الاّ ما كتبه عليك فارمِ نفسك من ذروة هذا الجبل، وانظر ماذا يفعل بك؟

فقال له عيسى عليه السلام:

يا ملعون إن لله أن يختبر عبده وليس للعبد أن يختبر ربه!

***

لا تفرط فيما يعجبك

قد يكون دواء مرضٍ داءً لداء آخر وينقلب بلسَمُه الشافي سماً زعافاً، اذ لو جاوز الدواءُ حدَّه انقلبَ الى ضدّه.

***

عين العناد ترى المَلَك شيطاناً

امر العناد هو: انه اذا ما ساعد شيطانٌ امرءاً قال له: انه (مَلَكٌ) وترحّم عليه. بينما اذا رأى مَلكاً في صف مَن يخالفه في الرأي؛ قال: (انه شيطان قد بدّل لباسه) فيعاديه ويلعنه.

***

لا تثر الاختلاف لأجل الأحق بعد وجدانك الحق

يا طالب الحقيقة!

ان كان الاتفاق في الحق اختلافاً في الأحق، يكون الحقُ أحقَّ من الأحقِّ، والحسنُ أحسنَ من الأحسن.

***

الاسلام دين السلام والأمان، يرفـض النزاع والخصام في الداخل

ايها العالم الاسلامي! ان حياتك في الاتحاد.

ان كنت طالباً للاتحاد فاتخذ هذا دستورك:

لابد أن يكون (هو حق) بدلاً من (هو الحق). و (هو حسن) بدلاً من (هو الحسن).

اذ يحق لكل مسلم أن يقول في مسلكه ومذهبه: ان هذا (حق) ولا اتعرض لما عداه. فان يك جميلاً فمذهبي أجمل. بينما لا يحق له القول في مذهبه: ان هذا هو (الحق) وما عداه باطل. وما عندي هو (الحسن) فحسب وغيره قبيح وخطأ!

ان ضيق الذهن وانحصاره على شئ، ينشأ من حب النفس ثم يكون داءً. ومنه ينجم النزاع.

فالادوية تتعدد حسب تعدد الادواء، ويكون تعددها حقاً.. وهكذا الحق يتعدد. والحاجات والاغذية تتنوع، وتنوعها حق.. وهكذا الحق يتنوع.

والاستعدادات ووسائل التربية تتشعب، وتشعبها حق.. وهكذا الحق يتشعب.

فالمادة الواحدة قد تكون داءً ودواءً حسب مزاجين اثنين..

اذ تعطى نسبية مركبة وفق أمزجة المكلفين، وهكذا تتحقق وتتركب.

ان صاحب كل مذهب يحكم حكماً مطلقاً مهملاً من دون ان يعين حدود مذهبه، اذ يدعه لاختلاف الأمزجة، ولكن التعصب المذهبي هو الذي يولد التعميم ولدى الالتزام بالتعميم ينشأ النزاع.

كانت هناك هوّات سحيقة بين طبقات البشر، قبل الاسلام. مع بُعدٍ شاسع عجيب بينهما. فاستوجب تعدد الانبياء وظهورهم في وقت واحد، كما استوجب تنوع الشرائع وتعدد المذاهب.

ولكن الاسلام أوجد انقلاباً في البشرية فتقارب الناس واتحد الشرع واصبح الرسول واحداً.

وما لم تتساو المستويات فان المذاهب تتعدد. ومتى ما تساوت وأوفت التربية الواحدة بحاجات الناس كافة تتحد المذاهب.

***

في ايجاد الاضداد وجمعها حكمة عظيمة

الذرة والشمس في قبـضة القدرة سواء

يا اخي ياذا القلب اليقظ!

ان القدرة تتجلى في جمع الأضداد؛

فوجود الالم في اللذة والشر في الخير والقبح في الحسن والضر في النفع والنقمة في النعمة والنار في النور.. فيه سر عظيم. أتعرف لماذا؟

انه لكي تثبت الحقائق النسبية وتتقرر، وتتولد اشياء كثيرة من شئ واحد وتنال الوجود وتظهر.

فالنقطة تتحول خطاً بسرعة الحركة، واللمعة تتحول بالدوران دائرة من نور. فوظيفة الحقائق النسبية في الدنيا هي حبات تنشأ منها سنابل، اذ هي التي تشكل طينة الكائنات وروابط نظامها وعلائق نقوشها.

اما في الآخرة فهذه الاوامر النسبية تصبح حقائق حقيقية.

فالمراتب التي في الحرارة انما هي ناشئة من تخلل البرودة فيها. ودرجات الحسن هي من تداخل القبح، فالسبب يصبح علة.

فالضوء مدين للظلام، واللذة مدينة للألم، ولا متعة للصحة من دون المرض، ولولا الجنة لما عذبت جهنم، فهي لا تكمل الاّ بالزمهرير، بل لولاه لما احرقت جهنم احراقاً تاماً.

فذلك الخلاّق القديم أظهر حكمته العظيمة في خلق الاضداد، فتجلت هيبته وبهاؤه.

وذلك القدير الدائم اظهر قدرته في جمع الاضداد، فظـهرت عظمته وجلاله.

فما دامت تلك القدرة الإلهية لازمة للذات الجليلة، فبالضرورة لا ضد في تلك الذات. ولا يتخللها العجز، ولا مراتب في القدرة، ونسبتها واحدة لكل شئ، لا يثـقل عليها شئ. وقد اصبحت الشمس مشكاةً لضوء تلك القدرة، وغدا وجه الارض مرآة لتلك المشـكاة بل حتى عيون الندى اصبحت مرايا لها. فالوجه الواسع للبحر مرآة لتلك الشمس كما تظهرهاحبابات ذلك الوجه المتموج. وعيون الندى تتلمع كالنجوم. كل منها يبين الهوية نفسها. فـفي نظر الشمس يتساوى البحر والندى، فالقدرة نظير هذا. اذ بؤبؤ عين الندى شُميسة تلمع، والشمس الضخمة هي ندى صغير، يستلم بؤبؤ عينها الـنور من شمـس القدرة الإلهية فتدور دوران القمر حول تلك القدرة. والسموات بحر عظيم لا ساحل له. تتماوج على وجهها بأمر الرحمن الحبابات، تلك هي الشموس والنجوم.

وهكذا تجلت القدرة ونثرت على تلك القطرات لمعات النور.

فكل شمس قطرة وكل نجم ندى. وكل لمعة صورة.

فتلك الشمس العظيمة - الشبيهة بالقطرة - انعكاس خافت لتجلي ذلك الفيض العظيم فلميعةٌ من ذلك الفيض تُحوّل الشمس كوكباً دريّاً

وذلك النجم الشبيه بالندى يمكّن تلك اللميعة من عينه، وتغدو سراجاً، وعينه زجاجة ، تزيد المصباح ضياءً.

ادفن مزاياك تحت تراب الخفاء لتنمو

ياذا المزايا ويا صاحب الخاصية!

لا تظلِم بالتعيّن والتشخص، فلو بقيتَ تحت ستار الخفاء، منحتَ اخوانك بركةً واحساناً.اذ من الممكن ظهورك في كل أخٍ لك، وان يكون هو أنت بالذات، وبهذا تجلب الانظار والاحترام الى كل اخ.

بينما تلقي الظل هنا، بالتعين والتشخص، بعد ان كنت شمساً هناك. فتُسقط شأن اخوانك وتقلل من احترامهم.

بمعنى ان التعيّن والتشخص امران ظالمان.

فلئن كان هذا هو امر المزايا الصحيحة، وصاحبها الصادق وانت تراه، فكيف بكسب الشهرة والتشخص بالتصنع الكاذب والرياء؟!

فهو اذن سر عظيم وحكمة إلهية ونظام أكمل، ان فرداً خارقاً في نوعه يمنح القيمة والأهمية الى افراد نوعه بالستر والخفاء، ودونك المثال:

الولي في الانسان، والأجل في العمر، فقد ظلا مخفيين. وكذا ساعة الاجابة في الجمعة وليلة القدر في رمضان، والاسم الاعظم في الاسماء الحسنى.

والسر اللطيف في هذه الامثلة وقيمتها العظيمة هي:

ان في الإبهام اظهاراً وفي الإخفاء اثباتاً.

فمثلاً في إبهام الأجل موازنة لطيفة بين الخوف والرجاء، موازنة بين توهم البقاء في الدنيا وثواب العاقبة.

فالعمر المجهول الذي يستغرق عشرين سنة ارجح من الف سنة من عمر معلوم النهاية، لأنه بعد قضاء نصف هذا العمر يكون المرء كأنه يخطو خطوات الى منصة الاعدام. فالحزن المستمر المتلاحق لا يدع صاحبه يتمتع بالراحة والسلوان.





لا رحمة أوسع من رحمته تعالى

ولا غـضب اشد من غـضبه سبحانه

لا رحمة تفوق رحمة الله، ولا غضب يفوق غضبه.

فدع الأمور للعادل الرحيم. اذ فرط الشفقة أليم وفرط الغضب ذميم.

الاسراف باب السفاهة وهي تقود الى السفالة

يا أخي المسرف!

لقمتان مغذيتان؛ أحداهما بقرش والاخرى بعشرة، هما سيّان قبل دخولهما الفم، وسيّان كذلك بعد مرورهما من الحلقوم.

فلا فرق الاّ ذوق يدوم لبضع ثوان، للغافل الأحمق؛ اذ تخدعه حاسة الذوق دوماً بهذا الفرق،

فهذه الحاسة حارسة الجسم وناظرة مفتشة للمعدة.

ولها تأثير سلبي لا ايجابي، ان أصبحت وظيفتها ارضاء الحارس.

كي يديم الذوق للغافل، فيتعكر صفو وظيفتها بدفع احد عشر قرشاً بدلاً من واحد، فيجعلها تابعة للشيطان.

لا تتقرب من هذا، فيسوقك الى أبشع أنواع الاسراف. وأفظع أنواع التبذير.

***

حاسة الذوق مأمورة البرق

لا تجعل اللذة همها فتفسدها

(1)لقد أسـس سبحانه بفضل ربوبيته وحكمته وعنايته في فم الانسان وانفه مركزين : وضع فيهما حراسَ حدودِ هذا العالم الصغير وعيونه. ونصب كل عرق، بمثابة الهاتف، وجعـل كل عصب في حكم البرق. وجعلت عنايته الكريمة حاسةَ الشم مأمورة ارسال المكـالمات الهاتفية، وحاسة الذوق موظفة ارسال البرقيات.

ومن رحمة ذلك الرزاق الحقيقي انه وضع قائمة الاثمان على الأرزاق، تلك هي: الطعم، واللون، والرائحة.

فهذه الخواص الثلاثة - من حيث الإرزاق - لوحة اعلان، وبطاقة دعوة، وتذكرة رخصة، ومنادية الزبائن وجالبة المحتاجين.

وقد منح ذلك الرزاق الكريم، الاحياء المرزوقة أعضاءً للذوق والرؤية والشم. وزين الاطعمة بمختلف ألوان الزينة والجمال.. ليسلّي بها القلوب المشتاقة ويثير شوق غير المبالين.

فحالما يدخل الطعام الفم، تخبر حاسة الذوق انحاء الجسم برقياً به، وتبلّغ الشم هاتفياً نوع الطعام الوارد وصنفه.

فالحيوانات المتباينة في الرزق والحاجات، تتصرف وفق تلك الاخبار وتتهيأ على حسبها. أو يأتي الجواب بالرد، فيلفظ الفم الطعام خارجاً، بل قد يبصق عليه.

ولما كانت حاسة الذوق مأمورة من قبل العناية الإلهية فلا تفسدها بالتذوق المستمر، ولاتخدعها بالتلذذ دوماً.

اذ ستنسى ما الشهية الحقة؟ لورود الشهية الكاذبة اليها، تلك التي تأخذ بلبها.. فيجازى صاحبها بالمرض ويعاقب بالعلل جراء خطئها.

اعلم ان اللذة الحقيقية، انما تنبع من شهية حقيقية.

وان الشهية الحقة الصادقة تنبع من حاجة حقيقية صادقة.

وفي هذه اللذة الحقة - الكافية للانسان ـ يتساوى السلطان والشحاذ.

***

نوع النظر كالنية يقلب العادات الى عبادات

لاحظ بدقة، هذه النقطة:

كما تصبح العادات المباحة بالنية عبادات.

كذلك تكون العلوم الكونية بنوع النظر معارف إلهية.

فاذا ما نظرت الى هذه العلوم نظراً حرفياً، مع دقة الملاحظة والتفكر العميق، من حيث الصنعة والاتقان. أي ان تقول: (ما أبدع خلق هذا! ما أجمل صنع الصانع الجليل!) بدلاً من قولك: (ما أجمله).

نعم، اذا ما نظرت الى الكون من هذه الزاوية تجد ان نقوش المصور الجليل ولمعةَ القصد والاتقان في نظامه وحكمته تنور الشبهات وتبددها.

وعندها تتبدل العلوم الكونية معارف إلهية.

ولكن لو نظرت الى الكائنات بالمعنى الاسمي، ومن حيث «الطبيعة» أي انها تولدت بذاتها، فعندها تتحول دائرة العلوم الى ميدان جهل.

فيا لضياع الحقائق في الأيادي الوضيعة.

وما أكثر الامثلة الشاهدة على هذه الحقيقية.

في مثل هذا الزمان لا يأذن الشرع لنا باختيار الترفّه

كلما نادت اللذائذ ينبغي الاجابة: (كانني أكلت).

فالذي جعل هذا دستوراً له، لم يأكل مسجداً(1).

لم يكن أكثر المسلمين في السابق جائعين. فكان الترفّه جائز الاختيار الى حدٍ ما. اما الآن فمعظمهم يبيتون جياعاً، فلم يعد لناإذنٌ شرعي للتلذذ.

اذ إن معيشة السواد الأعظم وغالبية المسلمين بسيطة. فينبغي الاقتداء بهم في الطعام الكفاف البسيط.

وهذا هو الأفضل بألف مرة من الانسياق وراء أقلية مسرفة أو ثلة من السفهاء في ترفههم في الطعام.

***

سيكون عدم النعمة نعمة

قوة الذاكرة نعمة، ولكن يرجّح عليها النسيان في شخص سفيه وفي زمن البلاء. والنسيان كذلك نعمة، لانه لا يذيق الاّ آلام يوم واحد وينسي الآلام المتراكمة.

***

في كل مصيبة جهة خير

أيها المبتلى ببلية!

ان نعمةً ما مندرجةٌ ضمن كل مصيبة. لاحظها بدقة لتشاهدها.

اذ كما توجد درجة حرارةٍ في كل شئ، ففي كل مصيبة توجد درجة من النعمة.

شاهد درجة النعمة هذه في البلية الصغرى، وفكّر بالعظمى واشكر ربك الرحيم.

والاّ، فكلما استعظمتها جفلتَ منها، لأنك اذا ما تأسفت عليها تستعظم وتكبر حتى تتضخم ويصيبك الرعب منها. واذا ما زدتها بالقلق والأوهام، تتوأمتْ بعد ان كانت واحدة، لأن صورتها الوهمية التي في القلب تنقلب الى حقيقة ثم تعود تُنزل بضرباتها الموجعة على القلب.

لا تظهر بزي الكبير فتصغر

يا من يحمل (أنا) مضاعفاً، ويحمل في رأسه غروراً وكبراً! عليك ان تعرف هذا الميزان!

لكل شخص نافذة يطل منها على المجتمع ـ للرؤية والاراءة ـ تسمى مرتبة. فاذا كانت تلك النافذة أرفع من قامة قيمته، يتطاول بالتكبر. اما اذا كانت أخفض من قامة همته يتواضع بالتحدّب ويتخفض، حتى يشهد في ذلك المستوى ويشاهَد.

ان مقياس العظمة في الكاملين هو التواضع.

اما الناقصون القاصرون فميزان الصُغر فيهم هو التكبر.

***

تتغير ماهية الخصال بتغير المنازل

خصلة واحدة في مواضع متباينة وصورة واحدة تكون تارة غولاً بشعاً وتارة مَلَكاً رقيقاً ومرةً صالحة واخرى طالحة. أمثلة ذلك الآتي:

ان عزة النفس التي يشعر بها الضعيف تجاه القوي، لو كانت في القوي لكانت تكبراً وغروراً. وكذا التواضع الذي يشعر به القوي تجاه الضعيف لو كان في الضعيف لكان تذللاً ورياءً.

ان جدّية ولي الأمر في مقامه وقارٌ، اما لينه فذلةٌ.

كما ان جديته في بيته دليل على الكبر، ولينه دليل على التواضع.

ان صفح المرء عن المسيئين وتضحيته بما يملك، عمل صالح. بينما هو خيانة وعمل طالح ان كان متكلماً عن الجماعة.

ان التوكل في ترتيب المقدمات كسل، بينما تفويض الأمر الى الله في ترتّب النتيجة توكل يأمر به الشرع.

ان رضى المرء عن ثمرة سعيه وقسمته قناعةٌ ممدوحة. تقوي فيه الرغبة في مواصلة السعي. بينما الاكتفاء بالموجود قناعة لا ترغب، بل تقاصر في الهمة.

وهناك أمثلة كثيرة على هذا.

فالقرآن الكريم يذكر الصالحات و التقوى ذكراً مطلقاً. ويرمز في ابهامهما الى تأثير المقامات والمنازل. فايجازه تفصيل. وسكوته كلام واسع.

الحق يعلو

ايها الصديق! سألني احدهم ذات يوم:

لما كان (الحق يعلو) أمراً حقاً لا مراء فيه، فلِمَ ينتصر الكافرُ على المسلم، وتغلُب القوة على الحق؟.

قلت: تأمل في النقاط الاربع الآتية، تنحل المعضلة.

C النقطة الاولى:

لا يلزم ان تكون كلُّ وسيلةٍ من وسائل كل حقٍّ حقاً، كما لا يلزم ايضاً ان تكون كلُّ وسيلةٍ من وسائل كلِّ باطلٍ باطلاً.

فالنتيجة اذن: ان وسيلةً حقة (ولو كانت في باطل) غالبةٌ على وسيلةٍ باطلة (ولو كانت في الحق).

وعليه يكون: حقٌ مغلوب لباطل، مغلوبٌ بوسيلته الباطلة، اي مغلوبٌ موقتاً، والاّ فليس مغلوباً بذاته، وليس دائماً، لأن عاقبة الأمور تصير للحق دوماً.

أما القوة، فلها من الحق نصيبٌ، وفيها سرٌّ للتفوق كامنٌ في خلقتها.

C النقطة الثانية:

بينما يجب أن تكون كلُّ صفةٍ من صفات المسلم مسلمةً مثله، الا ان هذا ليس أمراً واقعاً، ولا دائماً!

ومثله، لا يلزم ايضاً ان تكون صفات الكافر جميعها كافرةً ولا نابعةً من كفره.

وكذا الأمر في صفات الفاسق، لا يشترط ان تكون جميعُها فاسقة، ولا ناشئة من فسقه.

إذن، صفةٌ مسلمةٌ يتصف بها كافرٌ تتغلب على صفةٍ غير مشروعة لدى المسلم. وبهذه الوساطة (والوسيلة الحقة) يكون ذلك الكافر غالباً على ذلك المسلم (الذي يحمل صفة غير مشروعة).

ثم ان حقّ الحياة في الدنيا شامل وعام للجميع. والكفر ليس مانعاً لحق الحياة الذي هو تجلٍ للرحمة العامة والذي ينطوي على سر الحكمة في الخلق.

C النقطة الثالثة:

لله سبحانه وتعالى تجليان ــ يتجلى بهما على المخلوقات ــ وهما تجليان شرعيان صادران من صفتين من صفات كماله جل وعلا.

اولهما:

الشرع التكويني ـ أو السنة الكونية ـ الذي هو المشيئة والتقدير الإلهي الصادر من صفة (الارادة الإلهية).

والثاني:

الشريعة المعروفة الصادرة من صفة (الكلام الرباني).

فكما ان هناك طاعةً وعصياناً تجاه الاوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعةٌ وعصيانٌ تجاه الاوامر التكوينية.

وغالباً ما يرى الاول ـ مطيع الشريعة والعاصي لها ـ جزاءه وثوابه في الدار الآخرة. والثاني ـ مطيع السنن الكونية والعاصي لها ـ غالباً ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا.

فكما ان ثواب الصبر النصرُ.

وجزاء البطالة والتقاعس الذلُّ والتسفّل.

كذلك ثواب السعي الغنى،

وثواب الثبات التغلب.

مثلما ان نتيجة السمِّ المرضُ.

وعاقبةَ الترياقِ والدواء الشفاء والعافية.

وتجتمع احياناً اوامر الشريعتين معاً في شئ.. فلكلٍ جهة.

فطاعةُ الأمر التكويني الذي هو حق، هذه الطاعة غالبة ـ لأنها طاعة لأمر إلهي ـ على عصيان هذا الأمر بالمقابل، لأن العصيان ـ لأي أمر تكويني ـ يندرج في الباطل ويصبح جزءاً منه.

فاذا ما اصبح حقٌ وسيلةً لباطلٍ فسينتصر على باطلٍ اصبح وسيلةً لحق، وتظهر النتيجة:

حقٌ مغلوب أمام باطل! ولكن ليس مغلوباً بذاته، وانما بوسيلته. اذن فــ(الحق يعلو) يعلو بالذات، والعقبى هي المرادة ــ فليس العلو قاصراً في الدنيا ـ الاّ ان التقيّد والأخذ بحيثيات الحق مقصود ولابد منه.

C النقطة الرابعة:

ان ظلَّ حقٌ كامناً في طور القوة ـ اي لم يخرج الى طور الفعل المشاهَد ـ أو كان مشوباً بشـئ آخــر، أو مغشــوشــاً، وتطلّب الأمر كشــف الحق وتــزويده بـقــوة جديدة، وجعله خالصاً زكياً، يُسلّط عليه مؤقتاً باطلٌ حتى يخلُص الحق ـ نتيجة التدافع ـ من كل درن فيكون طيباً.

ولتظهر مدى قيمة سبيكة الحق الثمينة جداً.

فاذا ما انتصر الباطل في الدنيا ـ في مكان وزمان معينين ـ فقد كسب معركة ولم يكسب الحرب كلها، لأن (العاقبة للمتقين) هي المآل الذي يؤول اليه الحق.

وهكذ الباطل مغلوب ـ حتى في غلبه الظاهر ـ وفي (الحق يعلو) سرٌّ كامن عميق يدفع الباطل قهراً الى العقاب في عقبى الدنيا أو الآخرة، فهو يتطلع الى العقبى. وهكذا الحق غالب مهما ظهر انه مغلوب!.

***

دساتير اجتماعية

ان شئت دساتير في المجتمع فدونك:

ان العدالة التي لا مساواة فيها ليست عدالة اصلاً..

فالتماثل سبب مهم للتضاد.

واما التناسب فهو اساس التساند.

منبع التكبر اظهار صغر النفس

ومنبع الغرور ضعف القلب.

وقد أصبح العجز منشأ الخلاف.

اما حب الاستطلاع فهو استاذ العلم.

الحاجة أم الاختراع.

والضيق معلم السفاهة.

ولقد أصبح الضيق منبع السفاهة. ومنبع الضيق نفسه هو اليأس وسوء الظن.

فالضلالة ضلالة الفكر.

والظلمات تعم القلب.

والاسراف يكون في الأمور الجسدية.

اضلت النساء البشرية بخروجهن من بيوتهن فعليهن العودة اليها

)اذا تأنث الرجال السفهاء بالهوسات اذاً ترجل النساء الناشزات بالوقاحات)(1) لقد اطلقت المدنية السفيهة النساء من أعشاشهن. وامتهنت كرامتهن. وجعلتهن متاعاً مبذولاً.

بينما شرعُ الاسلام يدعو النساء الى اعشاشهن رحمة بهنّ. فكرامتهن فيها، وراحتهن في بيوتهن وحياتهن في دوام العائلة.

الطهـر زينتـهـن

الخُـلق هيبتـهـن

العـفة جـمالهـن

الشفقة كمالهـن

الاطفال لهوهـن.

ولا تصمد ازاء جميع هذه الاسباب المفسدة الاّ ارادة من حديد.

كلما دخلتْ حسناء في مجلس تسود فيه الأخوة، أثارت فيهم عروق الرياء والمنافسة والحسد والأنانية، فتتنبه الأهواء الراقدة.

ان تكشّف النساء تكشفاً دون قيد، أصبح سبباً لتكشّف اخلاق البشر السيئة وتناميها.

هذه الصور التي هي جنائز مصغرة، وأموات متبسمة، لها دور خطير جداً في الروح الرعناء للانسان المتحضر. بل ان تأثيرها مخيف مرعب(1). ان الهياكل والتماثيل الممنوعة شرعاً والصور المحرمة، اما انها ظلم متحجر، أو رياء متجسد، أو هوى منجمد. أو طلسم يجلب تلك الأرواح الخبيثة.

***

سعة تصرف القدرة، تردّ الوسائط

ان شمسنا تصبح كالذرة ازاء تصرف قدرة القدير ذي الجلال وسعة تأثيرها.

ان مساحة تصرفه العظيم في النوع الواحد واسعة جداً.

خذ القوة الجاذبة بين ذرتين، ثم ضعها قرب القوة الجاذبة الموجودة في شمس الشموس وفي درب التبانة.

واجلب المَلَك الذي يحمل حبة البَرَد مع المَلَك الشبيه بالشمس الذي يحمل الشمس.

وضع أصغر سمكة ـ صغر الابرة ـ جنب الحوت العظيم وبعد ذلك تصوَّر التجلي الواسع للقدير ذي الجلال واتقانه الكامل في أصغر شئ وفي أكبره.

عندها تعلم ان الجاذبية والنواميس كلها ان هي الاّ وسائل سيالة وأوامر عرفية، وليست الاّ اسماء وعناوين لتجلي القدرة وتصرف الحكمة.

فهذا هو التفسير لا غير.

فكّر في هذه الأمور معاً تجد بالضرورة؛ ان الاسباب الحقيقية والوسائط المعينة، وكذا الشركاء، ما هي الاّ أمور باطلة وخيال محال في نظر تلك القدرة الجليلة.

ان الحياة كمال الوجود.

ولجلالة مقامها أقول:

لِمَ لا تكون كرتنا وعالمنا مسخراً مطيعاً كالحيوان؟

فللّه سبحانه كثير من أمثال هذه الحيوانات الطائرة منتشرة في الفضاء الواسع تنشر البهاء والجمال والعظمة والهيبة.

انه سبحانه يديرها ويسيّرها في بستان خلقه.

فالنغمات التي تبعثها تلك الكائنات والحركات التي تقوم بها هذه الطيور.. تلك الأقوال والأحوال تسبيحات وعبادات للقديم الذي لم يزل، وللحكيم الذي لا يزال.

ان كرتنا الأرضية كثيرة الشبه بالحيوان، إذ انها تبرز آثار الحياة، فلو صغرت كبيضة صغيرة ــ بفرض محال ــ لتحولت الى حيوان لطيف.

ولو كبر حيوان مجهرى كروي واصبح كالكرة الأرضية، لصار شبيهاً بها.

فلو صغر عالمنا صغر الانسان وانقلبت نجومه الى ما يشبه الذرات، ربما يكون حيواناً ذا شعور. والعقل يجد مجالاً في هذا الاحتمال.

فالعالَم اذن عابدٌ مسبّح بأركانه،

كل ركن مسخّر مطيع، للخالق القدير القديم.

فليس من الضروري ان يكون الكبير كمّاً كبيراً نوعاً.

بل الساعة الصغيرة صغر الخردل ابدع صنعة وأعظم جزالة من كبيرتها التي هي بكبر (ايا صوفيا)..

فخلق الذبابة أعجب من خلق الفيل.

لو كتب قرآنٌ بقلم القدرة بالجواهر الفردات للأثير على جزءٍ فردٍ، فان دقة صفحاته تعادل في صنعة الاتقان القرآن الكريم المكتوب بمداد النجوم في صحيفة السماء. فهما سيّان في الجزالة والابداع.

فالصنعة الباهرة بالجمال والكمال للمصور الازلي مبثوثة هكذا في كل جهة، والاتحاد الكامل الاتم في كمالها يعلن التوحيد.

خذ هذا الكلام البيّن بعين الاعتبار.

***

الملائكة أمة مأمورة لتنفيذ الشريعة الفطرية

الشريعة الإلهية اثنتان:

وهما آتيتان من صفتين إلهيتين، والمخاطب انسانان وهما مكلفان بهما.

اولاهما: الشريعة التكوينية الآتية من صفة الارادة الإلهية، وهي الشريعة والمشيئة الربانية التي تنظّم أحوال العالم ــ الانسان الاكبر ــ وحركاته التي هي ليست اختيارية. وقد يطلق عليها خطأ ً اسم الطبيعة.

اما الأخرى: فهي الشريعة الآتية من صفة الكلام الإلهي، هذه الشريعة تنظم أفعال الانسان الاختيارية، ذلك العالم الأصغر. وتجتمع الشريعتان أحياناً معاً.

اما الملائكة فهم أمة عظيمة، جند الله، حَمَلة الشريعة الاولى وممثلوها وممتثلوها.

قسم منهم عباد مسبّحون.

وقسم منهم مستغرقون في العبادة وهم مقربو العرش الأعظم.

***

كلما رقّت المادة اشتدت الحياة فيها

الحياة أساس الوجود وأصله. والمادة تابعة لها وقائمة بها.

فاذا ما قارنت الحواس الخمس في الانسان والحيوان المجهري تجد:

كم يكبر الانسان عن ذلك المجهري، فان حواسه ادنى من حواسه بالنسبة نفسها. فذلك المجهري يسمع صوت أخيه ويرى رزقه.

فلو كَبُر كبر الانسان لتوسعت حواسه الى حدّ محيّر للالباب. فحياته تنشر الشعاع، وبصرُه نور سماوي يضاهي البرق.

والانسان نفسه ليس كائناً ذا حياة مركّب من كتلة من موات. بل هو حجيرة كبيرة مركبة من مليارات من الحجيرات الحية.

[ان الانسان كصورة (يس) كُتب فيها سورة (يس)].

فتبارك الله أحسن الخالقين.

الفلسفة المادية طاعون معنوي

الفلسفة المادية طاعون معنوي، حيث سبّبت في سريان حمّى مهلكة في البشرية(1)، وعرّضها للغضب الإلهي.

فكلما توسعت قابلية التمرد والانتقاد ـ بالتلقين والتقليد ـ توسّع ذلك الطاعون ايضاً وانتشر.

فانبهار الانسان بالعلوم، وانغماره في تقليد المدنية الحاضرة اعطاه الحرية وروح الانتقاد والتمرد، فظهر الضلال من غروره.

***

لا تعطُّلَ في الوجود، العاطل يسعى في الوجود في سبيل العدم

ان أشد الناس شقاءً واضطراباً وضيقاً هو العاطل عن العمل، لأن العطل هو (عدم) ضمن الوجود، اي موت ضمن حياة.

اما السعي فهو حياة الوجود ويقظة الحياة.

***

الربا ضرر محض في الاسلام

الربا يسبب العطل، ويطفىء جذوة الشوق الى السعي.

ان ابواب الربا ووسائطه، هذه البنوك، انما تعود بالنفع الى أفسد البشر وأسوأهم. وهم الكفار.. والى أسوأ هؤلاء وهم الظلمة، والى اسوأ هؤلاء وهم أسفههم.

ان ضرر الربا على العالم الاسلامي ضرر محض. والشرع لا يرى تحقيق رفاهية البشر قاطبة في كل حين.اذ الكافر الحربي، لاحرمة له ولاعصمة لدمه.

القرآن يحمي نفسه بنفسه وينفذ حكمه (1)

رأيت شخصاً قد ابتلي باليأس، وأصيب بالتشاؤم. يقول:

لقد قلّ العلماء في هذه الايام، وغلبت الكميةُ النوعيةَ، نخشى ان ينطفئ ديننا في يوم من الايام.

قلت: كما لا يمكن اطفاء نور الكون ولا يمكن اطفاء ايماننا الاسلامي، كذلك سيسطع الاسلام في كل آن ان لم تطفأ منارات الدين، معابد الله، معالم الشرع، تلك هي شعائر الاسلام، الاوتاد الراسخة في الارض.

فلقد اضحى كل معبد من معابد الله معلّماً بطبعه يعلّم الطبائع.

وصار كلُ مَعْلَمٍ من معالم الشرع استاذاً، يلقن الدين بلسان حاله. من دون خطأ ولا نسيان!

واصبحت كل شَعيرة من شعائر الاسلام، عالماً حكيماً بذاته، يدرّس روح الاسلام ويبسطه امام الانظار بمرور العصور.

حتى كأن روح الاسلام قد تجسم في شعائره. وكأن زلال الاسلام قد تصلب في معابده، عموداً سانداً للايمان، وكأن احكام الاسلام قد تجسدت في معالمه. وكأن اركان الاسلام قد تحجرت في عوالمه، كل ركن عمود من الألماس يربط الارض بالسماء. ولا سيما هذا القرآن العظيم، الخطيب المعجز البيان، يلقي خطاباً ازلياً في اقطار عالم الاسلام.. لم تبقَ ناحيةٌ ولا زاوية الاّ واستمعت له واهتدت بهديه. حتى صار حفظُه مرتبة جليلة يسري فيها سر الآية الكريمة ] .. وانا له لحافظون..[ وغدت تلاوته عبادة الانس والجان.

فيه تعليم، فيه تذكير بالمسلّمات. اذ النظريات تنقلب الى مسلّمات بمرور الازمان، ثم الى بديهيات حتى لا تدع حاجة الى بيان.

فقد خرجت الضروريات الدينية من طور النظريات. فالتذكير بها اذن كافٍ والتنبيه وافٍ، والقرآن شاف في كل وقت وآن، اذ فيه التنبيه والتذكير.

ويقظة المسلمين وصحوتهم الاجتماعية تسلّم لكل فرد ما يخص العموم من الدلائل، وتضع لهم الميزان.

فايمان كل شخص لا ينحصر بدليله، ولا يستند الوجدان اليه وحده، بل والى اسباب لا تحد في قلب الجماعة ايضاً.

فلئن كان رفض مذهب ضعيف يصعب كلما مرّ عليه الزمن. فكيف بالاسلام الذي هيمن طوال هذه العصور هيمنة تامة، وهو المستنِد الى اساسين عظيمين هما: الوحي الإلهي، والفطرة السليمة.

لقد التحم الاسلام وتغلغل في اعماق نصف المعمورة، بأسسه الراسخة وآثاره الباهرة. فسرى روحاً فطرياً فيه. فأنّى يستُره كسوفٌ وقد انزاح عنه الكسوف تواً.

ولكن وياللاسف يحاول بعض الكفرة البلهاء واهل السفسطة ان يتعرضوا لأسس هذا القصر الشاهق العظيم، كلما سنحت لهم الفرصة.

ولكن هيهات.. فهذه الاسس لا تتضعضع ابداً.

فليخرس الالحاد الآن، ولقد افلس ذلك الديوث.

ألا تكفيه تجربة الكفران ومزاولة الكذب والبهتان.

كانت هذه الدار، دار الفنون (الجامعة). في مقدمة قلاع عالم الاسلام تجاه الكفر والطغيان، بيد أن اللامبالاة والغفلة والعداوة، تلك الطبيعة الثعبانية المنافية للفطرة، شقّت فرجة خلف الجبهة فهاجم منها الالحاد، واهتزت عقيدة الامة ايّ اهتزاز.

فلابد أن تكون طليعة الحصون المستنيرة بروح الاسلام، اكثَرها صلابة وازيدها انتباهاً ويقظة، هكذا تكون والاّ فلا. فلا ينبـغي ان يُخدع المسلمون.

ان القـلب مستـقر الايمـان، بينما الدماغ مرآة لنوره، وقد يكون مجاهداً وقد يزاول كنس الشبهات وادران الاوهام.

فان لم تدخل الشبهات التي في الدماغ الى القلب لا يزيغ ايمان الوجدان.

ولو كان الايمان في الدماغ ــ كما هو ظن البعض ــ فالاحتمالات الكثيرة والشكوك تصبح اعداءاً ألدّاء لروح الايمان الذي هو حق اليقين.

ان القلب والوجدان محل الايمان.

والحدس والالهام دليل الايمان.

وحسّ سادس طريق الايمان.

والفكر والدماغ حارس الايمان.

تدعو الحاجة الى التذكير بالمسلّمات اكثر من تعليم النظريات

لقد استقرت في القلوب الضروريات، والمسلّمات الشرعية.

ويحصل المطلوب بمجرد التنبيه للاطمئان، والتذكير للاستشعار. والعبارة العربية(1) تنبّه وتذكّر على أفضل وجه واسماه ولهذا؛ فخطبة الجمعة باللغة العربية كافية ووافية للتنبيه على الضروريات والتذكير بالمسلّمات. اذ تعليم النظريات ليس مقصود الخطبة.

ثم ان هذه العبارة العربية تمثل شعار الوحدة الاسلامية في اعماق وجدان الاسلام الذي يرفض التشتت.

الحديث يقول للآية: بلوغك محال

اذا قارنت بين الحديث والآية، ترى بالبداهة ان أبلغ البشر (وهو مبلّغ الوحي الإلهي) لا يبلغ ايضاً شأوَ بلاغة الآية، فالحديث لا يشبهها.

بمعنى إن ما يصدر من فم النبوة من كلام ليس دائماً كلام النبي.

بيان موجز لاعجاز القرآن

رأيت في الماضي فيما يرى النائم: انني تحت جبل (آرارات). انفلق الجبل على حين غرة، وقذف صخوراً بضخامة الجبال الى انحاء العالم، فهزّ العالم وتزلزل.

وفجأة وقف بجنبي رجل، قال لي: بيّن بايجاز ما تعرفه مجملاً من أنواع الاعجاز... اعجاز القرآن.

فكرتُ في تعبير الرؤيا، وأنا ما زلت فيها وقلت:

ان ما حدث هنا من انفلاق مثالٌ لما يحدث في البشرية من انقلاب، وسيكون هدى القرآن بلا ريب عالياً ومهيمناً في هذا الانقلاب. وسيأتي يوم يبين فيه اعجازه.

أجبتُ ذلك السائل قائلاً:

ان اعجاز القرآن يتجلى من سبعة منابع كلية، ويتركب من سبعة عناصر.

المنبع الأول:

سلاسة لسانه من فصاحة اللفظ؛ اذ تنشأ بارقة بيانه من جزالة النظم، وبلاغة المعنى، وبداعة المفاهيم، وبراعة المضامين، وغرابة الاساليب. فيتولد نقش بياني عجيب، وصنعة لسان بديع، من امتزاج كل هذه في نوع اعجاز لا يملّ الانسان من تكراره أبداً.

أما العنصر الثاني:

فهو الاخبار السماوي عن الغيوب في الحقائق الغيبية الكونية والاسرار الغيبية للحقائق الإلهية. فمن أمور الغيب المنطوية في الماضي، ومن الأحوال المستترة الباقية في المستقبل تنشأ خزينة علم الغيوب. فهو لسان عالم الغيوب يتكلم مع عالم الشهادة، في أركان (الايمان) يبينها بالرموز، والهدف هو نوع الانسان، وما هذا الاّ نوع من لمعة نورانية للاعجاز.

اما المنبع الثالث فهو:

ان للقرآن جامعية خارقة من خمس جهات: في لفظه، في معناه، في أحكامه، في علمه، في مقاصده.

لفظه:يتضمن احتمالات واسعة ووجوهاً كثيرة بحيث ان كل وجهٍ تستحسنه البلاغة، ويستصوبه علم اللغة العربية، ويليق بسر التشريع.

في معناه: لقد أحاط ذلك البيان المعجز بمشارب الأولياء واذواق العارفين ومذاهب السالكين، وطرق المتكلمين، ومناهج الحكماء، بل قد تضمن كلَّها. ففي دلالاته شمولٌ وفي معناه سعة.

فما أوسع هذا الميدان ان أطللت من هذه النافذة!.

الاستيعاب في الاحكام: هذه الشريعة الغراء قد اُستنبطتْ منه، اذ قد تضمن طراز بيانه جميع دساتير سعادة الدارين، ودواعي الأمن والاطمئنان، وروابط الحياة الاجتماعية، ووسائل التربية، وحقائق الأحوال.

استغراق علمه: لقد ضم ضمن سُورِ سوره العلوم الكونية والعلوم الإلهية، مراتب ودلالات ورموزاً واشارات.

في المقاصد والغايات: لقد راعى الرعاية التامة في الموازنة والاطراد والمطابقة لدساتير الفطرة، والاتحاد في المقاصد والغايات، فحافظ على الميزان.

وهكذا الجامعية الباهرة في احاطة اللفظ وسعة المعنى واستيعاب الاحكام واستغراق العلم وموازنة الغايات.

اما العنصر الرابع:

فافاضته النورانيةَ حسب درجة فهم كل عصر، ومستوى أدب كل طبقة من طبقاته وعلى وفق استعدادها ورتب قابليتها.

فبابُه مفتوح لكل عصر ولكل طبقة من طبقاته، حتى كأن ذلك الكلام الرحماني ينزل في كل مكان في كل حين.

فكلما شاب الزمان شبّ القرآنُ وتوضحت رموزه، فذلك الخطيب الإلهي يمزق ستار الطبيعة وحجاب الاسباب فيفجّر نورَ التوحيد من كل آية، في كل وقت. رافعاً راية الشهادة شهادة التوحيد على الغيب.

ان علو خطابه يلفت نظر الانسان ويدعوه الى التدبّر؛ اذ هو لسان الغيب يتكلم بالذات مع عالم الشهادة.

يُخلَص من هذا العنصر: أن شبابيته الخارقة شاملة محيطة، وأنسيته جعلته محبوب الانس والجان، وذلك بالتنزلات الإلهية الى عقول البشر لتأنيس الأذهان، والمتنوعة بتنوع أساليب التنزيل.

أما المنبع الخامس:

فنُقولُه واخبارُه في اسلوب بديع غزير المعاني، فينقل النقاط الأساس للاخبار الصادقة كالشاهد الحاضر لها. ينقل هكذا لينبّه بها البشر.

ومنقولاته هي الآتية: اخبار الأولين وأحوال الآخرين وأسرار الجنة والجحيم، حقائق عالم الغيب، واسرار عالم الشهادة، والاسرار الإلهية والروابط الكونية. تلك الاخبار المشاهَدة شهود عيان حتى انه لا يردّها الواقع ولا يكذّبها المنطق بل لا يستطيع ردّها ابداً ولو لم يدركها.

فهو مطمَح العالم في الكتب السماوية، اذ ينقل الاخبار عنها مصدّقاً بها في مظان الاتفاق، ويبحث فيها مصححاً لها في مواضع الاختلاف.

ألا انه لمعجزة هذا الزمان ان يصدر مثل هذه الأمور النقلية من " أميّ " !

اما العنصر السادس:

فانه مؤسس دين الاسلام ومتضمنه. ولن تجد مثل الاسلام ان تحريت الزمان والمكان، لا في الماضي ولا في المستقبل. انه حبل الله المتين، يمسك الأرض لئلا تفلت، ويديرها دوراناً سنوياً ويومياً. فلقد وضع وقاره وثقله على الأرض، وساسها وقادها وحال بينها وبين النفور والعصيان.

أما المنبع السابع:

فان الأنوار الستة المفاضة من هذه المنابع الستة يمتزج بعضها مع بعض، فيصدر شعاع حُسنٍ فائق، ويتولد حدس ذهني، وهو الوسيلة النورانية.

والذي يصدر عن هذا: ذوق، يُدرَك به الاعجاز.

لساننا يعجز عن التعبير عنه، والفكر يقصر دونه.

فتلك النجوم السماوية تُشاهَد ولا تُستمسك.

طوال ثلاثة عشر قرناً من الزمان يحمل أعداء القرآن روح التحدي والمعارضة..

وتولدت في أوليائه واحبائه.. روح التقليد والشوق اليه.

وهذا هو بذاته برهان للاعجاز،

اذ كُتبت من جراء هاتين الرغبتين الشديدتين ملايين الكتب بالعربية، فلو قورنت تلك الملايين من الكتب مع القرآن الكريم، لقال كلُ من يشاهد ويسمع، حتى أكثر الناس عامية، دونك الذكي الحكيم:

ان هذه الكتب بشرية.. وهذا القرآن سماوي.

وسيحكم حتماً:

ان هذه الكتب كلها لا تشبه هذا القرآن ولا تبلغ شأوه قطعاً.

لذا فإما انه أدنى من الكل. وهذا معلوم البطلان وظاهر بالبداهة.

اذن فهو فوق الكل.

ولقد فتح أبوابه على مصراعيه للبشر ونشر مضامينه أمامهم طوال هذه المدة الطويلة. ودعا لنفسه الأرواح والأذهان.

ومع هذا لم يستطع البشر معارضته، ولا يمكنهم ذلك. فلقد انتهى زمن الامتحان.

ان القرآن لا يقاس بسائر الكتب ولا يشبهها قطعاً.

اذ نزل في عشرين سنة ونيف نجماً نجماً ــ لحكمة ربانية ــ لمواقع الحاجات نزولاً متفرقاً متقطعاً. ولأسباب نزول مختلفة متباينة. وجواباً لأسئلة مكررة متفاوتة. وبياناً لحادثات أحكام متعددة متغايرة. وفي أزمان نزول مختلفةمتفارقة. وفي حالات تَلَقٍّ متنوعة متخالفة. ولأفهام مخاطبين متعددة متباعدة. ولغايات ارشاداتٍ متدرجة متفاوتة.

وعلى الرغم من هذه الأسس فقد أظهر كمال السلاسة والسلامة والتناسب والتساند في بيانه وجوابه وخطابه، ودونك علم البيان وعلم المعاني.

وفي القرآن خاصية لا توجد في أي كلام آخر: لأنك اذا سمعت كلاماً من أحدٍ فانك ترى صاحب الكلام خلفه أو فيه فالاسلوب مرآة الأنسان.

أيها السائل المثالي!

لقد أردت الاعجاز، وها قد أشرتُ اليه.

وان شئت التفصيل، فذلك فوق حدّي وطوقي. أتقدر الذبابة مشاهدة السماوات؟

وقد بيّن كتاب (اشارات الاعجاز) واحداً من أربعين نوعاً من ذلك الاعجاز، ولم تفِ مائة صفحة من تفسير لبيان نوع واحد.

بل أنا الذي أريد منك التفصيل، فقد تفضّل المولى عليك بفيضٍ من الهامات روحية.

لا تبلغ يد الأدب الغربي ذي الاهواء والنزوات والدهاء..

شأن أدب القرآن الخالد ذي النور والهدى والشفاء.

اذ الحالة التي ترضى الأذواق الرفيعة للكاملين من الناس وتُطمئنهم، لا تسرّ أصحاب الاهواء الصبيانية وذوي الطبائع السفيهة، ولا تسلّيهم، فبناءً على هذه الحكمة؛

فان ذوقاً سفيهاً سافلاً، ترعرع في حمأة الشهوة والنفسانية، لا يستلذ بالذوق الروحي، ولا يعرفه أصلاً.

فالأدب الحاضر؛ المترشح من أدب أوروبا، عاجز عن رؤية ما في القرآن الكريم من لطائف عالية ومزايا سامية، من خلال نظرته الروائية، بل هو عاجز عن تذوقها، لذا لا يستطيع ان يجعل معياره محكّاً له.

والأدب يجول في ثلاثة ميادين، دون ان يحيد عنها:

ميدان الحماسة والشهامة..

ميدان الحسن والعشق..

ميدان تصوير الحقيقة والواقع..

فالأدب الأجنبي:

في ميدان الحماسة؛

لا ينشد الحق، بل يلقّن شعور الافتتان بالقوة بتمجيده جَور الظالمين وطغيانهم.

وفي ميدان الحسن والعشق؛

لا يعرف العشق الحقيقي، بل يغرز ذوقاً شهوياً عارماً في النفوس.

وفي ميدان تصوير الحقيقة والواقع؛

لا ينظر الى الكائنات على انها صنعة إلهية، ولا يراها صبغة رحمانية، بل يحصر همه في زاوية الطبيعة ويصور الحقيقة في ضوئها، ولا يقدر الفكاك منها.. لذا يكون تلقينه عشق الطبيعة، وتأليه المادة، حتى يمكّن حبها في قرارة القلب، فلا ينجو المرء منه بسهولة.

ثم ان ذلك الأدب المشوب بالسفه، لا يغني شيئاً عن اضطرابات الروح وقلقها الناشئة من الضلالة والواردة منه أيضاً، ولربما يهدئها وينيّمها.

وفي حسبانه انه قد وجد حلاً، وكأن العلاج الوحيد، وهو رواياته. وهي:

في كتاب.. ذلك الحي الميت.

وفي سينما.. وهي أموات متحركة.

وفي مسرح.. الذي تبعث فيه الأشباح وتخرج سراعاً من تلك المقبرة الواسعة المسماة بالماضي!

هذه هي أنواع رواياته.

وأنّى للميت ان يهب الحياة!..

وبلا خجل ولا حياء!.. وضع الأدب الأجنبي لساناً كاذباً في فم البشر.. وركّب عيناً فاسقة في وجه الانسان.. وألبس الدنيا فستان راقصة ساقطة.

فمن أين سيعرف هذا الأدب؛ الحسنَ المجرد.

حتى لو أراد ان يُري القارئ الشمسَ؛ فانه يذّكره بممثلة شقراء حسناء.

وهو في الظاهر يقول: (السفاهة عاقبتها وخيمة، لا تليق بالانسان)..

ثم يبين نتائجها المضرة..

الاّ انه يصورها تصويراً مثيراً الى حد يسيل منه اللعاب، ويفلت منه زمام العقل، اذ يضرم في الشهوات، ويهيج النزوات. حتى لا يعود الشعور ينقاد لشئ.

T اما أدب القرآن الكريم:

فانه لا يحرك ساكن الهوى، لا يثيره، بل يمنح الانسان الشعور بنشدان الحق وحبه، والافتتان بالحسن المجرد، وتذوّق عشق الجمال، والشوق الى محبة الحقيقة.. ولا يخدع أبداً.

فهو لا ينظر الى الكائنات من زاوية الطبيعة، بل يذكرها صنعة إلهية، صبغة رحمانية، دون ان يحير العقول.

فيلقّن نور معرفة الصانع..

ويبين اياته في كل شئ..

والأدبان.. كلاهما يورثان حزناً مؤثراً. الاّ انهما لا يتشابهان.

فما يورثه أدب الغرب هو حزن مهموم، ناشئ من فقدان الأحباب، وفقدان المالك. ولا يقدر على منح حزن رفيع سامٍ .

اذ استلهام الشعور من طبيعة صماء، وقوة عمياء يملاؤه بالالام والهموم حتى يغدو العالم مليئاً بالاحزان، ويلقي الانسان وسط اجانب وغرباء دون أن يكون له حامٍ ولامالك! فيظل في مأتمه الدائم..

وهكذا تنطفىء أمامه الآمال.

فهذا الشعور الملئ بالأحزان والآلام يهيمن على كيان الانسان، فيسوقه الى الضلال، والى الالحاد، والى انكار الخالق.. حتى يصعب عليه العودة الى الصواب، بل قد لا يعود أصلاً.

أما أدب القرآن الكريم:

فانه يمنح حزناً سامياً علوياً، ذلك هو حزن العاشق، لا حزن اليتيم.. هذا الحزن نابع من فراق الأحباب، لا من فقدانهم.

ينظر الى الكائنات؛ على أنها صنعة إلهية، رحيمة، بصيرة بدلاً من طبيعة عمياء. بل لا يذكرها اصلاً، وانما يبين القدرة الإلهية الحكيمة، ذات العناية الشاملة، بدلاً من قوة عمياء.

فلا تلبس الكائنات صورة مأتم موحش، بل تتحول ـ امام ناظريه ـ الى جماعة متحابّة، اذ في كل زاوية تجاوب. وفي كل جانب تحابب. وفي كل ناحية تآنس.. لا كدر ولا ضيق.

هذا هو شأن الحزن العاشقي.

وسط هذا المجلس يستلهم الانسان شعوراً سامياً، لا حزناً يضيق منه الصدر.

الأدبان.. كلاهما يعطيان شوقاً وفرحاً.

فالشوق الذي يعطيه ذلك الأدب الأجنبي؛ شوق يهيج النفس، ويبسط الهوس.. دون ان يمنح الروح شيئاً من الفرح والسرور.

بينما الشوق الذي يهبه القرآن الكريم؛ شوق تهتز له جنبات الروح، فتعرج به الى المعالي.

وبناءً على هذا السر:

فقد نهت الشريعة الغراء عن اللهو، وما يُلهي.. فحرّمت بعض آلات اللهو، واباحت أخرى.

بمعنى:

ان الآلة التي تؤثر تأثيراً حزيناً حزناً قرآنياً وشوقاً تنزيلياً، لا تضر. بينما ان أثرت في الانسان تأثيراً يتيمياً وهيّجت شوقاً نفسانياً شهوياً. تحرم الآلة.

تتبدل حسب الاشخاص هذه الحالة..

والناس ليسوا سواء.

الاغصان تقدم الثمرات باسم الرحمة الالهية

ان اغصان شجرة الخليقة تقدم ثمرات النعم وتوصلها ظاهراً الى أيدي الأحياء في كل ناحية من أنحاء العالم.

بل تقدم اليكم تلك الثمرات بتلك الاغصان من يد الرحمة ويد القدرة.

فقبّلوا يد الرحمة تلك، بالشكر،

وقدّسوا يد القدرة تلك، بالامتنان.

بيان الطرق الثلاث المشار اليها في ختام سورة الفاتحة

يا اخي! يا من امتلأ صدره بالامل المشرق! امسكْ خيالك في يدك، وتعال معي.. نحن الآن في ارض واسعة، ننظر الى جوانبها، دون ان يرانا أحد، ولكن اُلقي علينا غيم اسود مظلم فهبط على جبالٍ شمٍ، حتى غطى وجه ارضنا بالظلمات، بل كأنه سقف صلب كثيف.. الاّ انه سقف تُرى الشمس من جهته الاخرى.

ولكننا نحن تحت ذلك الغيم الكثيف، لا نكاد نطيق ضيق الظلمات، ويخنقنا الضجر والانقباض، ففقدان الهواء مميت!.

واذ نحن في هذه الحالة من الضيق الخانق انفتحت امامنا ثلاث طرق تؤدي الى ذلك العالم المضئ. ولقد اتيناه مرةً وشاهدناه من قبل. فمضينا من الطرق الثلاث، كل على انفراد:

T الطريق الاولى:

معظم الناس يمرون منها، فهي سياحة حول العالم؛ والسياحة تشدّنا اليها.. فها نحن ندرج في الطريق نسير مشياً على الاقدام.. فها تجابهنا بحار الرمال في هذه الصحراء الواسعة.. انظر كيف تغضب علينا. وتستطير غيظاً وتزجرنا زجراً.. وانظر الى امواجٍ كالجبال لهذا البحر العظيم.. انها تحتد علينا وها نحن في الجهة الاخرى.. والحمد للّه. نتنفس الصعداء.. نرى وجه الشمس المضئ. ولكن لا أحد يقدّر مدى ما قاسينا من اتعاب وآلام.

ولكن وا أسفى! لقد رجعنا مرة ثانية الى هذه الارض الموحشة التي اطبقت عليها الغيوم بالظلمات ونحن احوج ما نكون الى عالم مضئ يفتح بصيرتنا.

ان كنت ذا شجاعة فائقة فرافقني في الطريق المليئة بالمخاطر، سنخوضها بشجاعة.

وهي طريقنا الثانية:

نثقب طبيعة الارض، ننقب فيها لننفذ ونبلغ الجهة الاخرى. نمضي في انفاق فطرية في الارض والخوف يحيطنا.. فلقد شاهدتُ ــ في زمن ما ــ هذه الطريق ومضيت فيها بوجل واضطراب ولكن كانت في يدي آلة أو مادة تذيب ارض الطبيعة وتخرقها وتمهد السبيل.. تلك المادة اعطانيها القرآن الكريم في الطريق الثالثة.

يا اخي! لا تتركني. اتبعني. لا تخف ابداً. انظر فها امامك كهوف ومغارات كالانفاق تحت الارض، تنتظرنا وتسهّل لنا الطريق الى الجهة الاخرى.

لا تروعك صلابة الطبيعة، فان تحت ذلك الوجه العبوس القمطرير وجه مالكها الباسم. ان تلك المادة القرآنية مادة مشعة كالراديوم.

بشراك يا اخي! فلقد خرجنا الى العالم المنور.. انظر الى الارض الجميلة، والسماء اللطيفة المزينة.. الا ترفع رأسك يا أخي لتشاهد هذا الذي غطى وجه السماء كلها وسما عليها وعلى الغيوم. انه القرآن الكريم.. شجرة طوبى الجنة.. مدّت اغصانها الى ارجاء الكون كله. وما علينا الاّ التعلق بهذا الغصن المتدلي والتشبث به، فهو بقربنا ليأخذنا الى هناك.. الى تلك الشجرة السماوية الرفيعة.

ان الشريعة الغراء نموذج مصغر من تلك الشجرة المباركة.

فلقد كان باستطاعتنا اذن بلوغ ذلك العالم المضئ بتلك الطريق.. طريق الشريعة، من دون ان نرى صعوبة وكللاً.

بيد أننا اخطأنا السير. فلنرجع القهقرى الى ما كنا فيه لنسلك الطريق المستقيم.. فانظر فها هي:

T طريقنا الثالثة:

الداعية العظيم يقف منتصباً على هذه الشواهق الراسية.. انه ينادي مؤذناً بحيهلوا الى عالم النور.. انه يشترط علينا الدعاء والصلاة.. انه المؤذن الاعظم محمد الهاشمي e .

انظر الى هذه الجبال.. جبال الهدى، وقد اخترقت الغيوم، انها تناطح السموات.

وانظر الى جبال الشريعة الشاهقة انها جمّلت وجه ارضنا وأزهرتها. وعلينا أن نحلّق بالهمة لنرى الضياء هناك ونرى نور الجمال.

نعم! فها هنا.. اُحُد التوحيد.. ذلك الجبل الحبيب العزيز.

وها هناك.. جودي الاسلام.. ذلك الجبل الاشم.. جبل السلامة والاطمئنان.

وها هو جبل القمر، القرآن الازهر.. يسيل منه زلال النيل. فاشرب هنيئاً ذلك الماء العذب السلسبيل.

فتبارك الله أحسن الخالقين. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

فيا اخي!

اطرح الآن الخيال، وتقلّد العقل.

ان الطريقين الاُوليين، هما طريق: (المغضوب عليهم والضالين) ففيهما مخاطر كثيرة، فهما شتاء دائم لا ربيع فيهما. بل ربما لا ينجو الاّ واحد من مائة شخص قد سلك فيهما.. كأفلاطون وسقراط.

أما الطريق الثالثة: فهي سهلة قصيرة، لأنها مستقيمة، الضعيف والقوي فيها سيّان. والكل يمكنه ان يمضي فيها.

أما أفضل الطرق واسلمها فهو:

ان يرزقك الله الشهادة أو شرف الجهاد.

فها نحن الآن على عتبة النتيجة.

ان الدهاء العلمي يسلك في الطريقين الأوليين.

أما الهدى القرآني، وهو الصراط المستقيم، فهو الطريق الثالثة فهي التي تبلغنا هناك.

اللّهم اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين.

كل الالام في الـضلالة وكل اللذائذ في الايمان

((حقيقة كبرى تزيّت بزي الخيال))

ايها الصديق الفطن!

ان شئت ايها العزيز ان ترى الفرق الواضح بين (الصراط المستقيم) ذلك المسلك المنور (وطريق المغضوب عليهم والضالين) ذلك الطريق المظلم! تناول اذن يا اخي وهْمَك واركب متن الخيال. سنذهب سوية الى ظلمات العدم، تلك المقبرة الكبرى المليئة بالاموات. ان القدير الجليل قد أخرجنا من تلك الظلمات بيد قدرته، واركبنا هذا الوجود، وأتى بنا الى هذه الدنيا.. الخالية من اللذة الحقة.

فها نحن قد اتينا الى هذا العالم، عالم الوجود.. هذه الصحراء الواسعة. وأعيُننا قد فُتحت فنظرْنا الى الجهات الست، وصوّبنا نظرنا الى الامام واذا البلايا والالام تريد الانقضاض علينا كالاعداء.. ففزعنا منها، وتراجعنا عنها.

ثم نظرنا الى اليمين والى الشمال مسترحمين العناصر والطبائع، فرأيناها قاسية القلوب لا رحمة فيها، وقد كشرت عن اسنانها تنظر الينا بنظرات شزرة. لا تسمع دعاءً ولا تلين بكثرة التوسل. فرفعنا ابصارنا مضطرين الى الاعلى مستمدين العون من الاجرام، ولكن رأيناها مرعبة مهيبة، تهددنا، اذ إنها كالقذائف المنطلقة تسير بسرعة فائقة تجوب بها انحاء الفضاء، من دون اصطدام! يا تُرى لو أخطأت سيرها وضلّت، اذاً لانفلق كبد العالم، عالم الشهادة. والعياذ باللّه. أليس امره موكولاً الى المصادفة، هل يأتي منها خير؟! فصرفنا انظارنا عن هذه الجهة يائسين، ووقعنا في حيرة أليمة، وخفـضنا رؤوسنا وفي صدورنا استترنا، ننظر الى نفوسنا ونطالع ما فيها.. فاذا بنا نسمع ألوف صيحات الحاجات والوف أنّات الفاقات، تنطلق كلها من نفوسنا الضعيفة. فنستوحش منها في الوقت الذي ننتظر منها السلوان، لاجدوى اذن من هذه الجهة كذلك. لجأنا الى وجداننا، نبحث عن دواء. ولكن وا أسفاه لا دواء. بل علينا وقع العلاج، اذ تجيش فيه الوف الآمال والرغبات والوف المشاعر والنزعات، الممتدة الى اطراف الكون.. تراجعنا مذعورين.. نحن عاجزون عن اغاثتها. فلقد تزاحمت الآمال في الانسان حتى امتدت اطرافها من الازل الى الأبد، بل لو ابتلعت الدنيا كلها لما شبعت.

وهكذا اينما ولّينا وجوهنا، قابَلَنا البلاء.. هذا هو طريق (الضالين والمغضوب عليهم) لأن النظر مصوّب الى المصادفة والضلال.

وحيث أننا قلّدنا ذلك المنظار، وقعنا في هذه الحال، ونسينا موقتاً الصانع والحشر والمبدأ والمعاد. انها أشد ايلاماً للروح من جهنم واشد احراقاً منها.. فما جنينا من تلك الجهات الست الاّ حالة مركبة من خوف واندهاش وعجز وارتعاش وقلق واستيحاش مع يتم ويأس.. تلك التي تعصر الوجدان..

فلنحاول دفعها ولنجابهها..

فنبدأ مقدماً بالنظر الى قدرتنا. فوا أسفاه! انها عاجزة ضعيفة.

ثم نتوجه الى تطمين حاجات النفس العطشى، تصرخ دون انقطاع ولكن ما من مجيب ولا من مغيث لإسعاف تلك الآمال التي تستغيث!

فظننا كل ما حولنا اعداءً.. كل شئ غريب. فلا نستأنس بشئ، ولا شئ يبعث الاطمئنان.. فلا متعة ولا لذة حقيقية.

ومن بعد ذلك كلما نظرنا الى الاجرام، امتلأ الوجدان خوفاً وهلعاً ووحشة، والعقول اوهاماً وريباً.

فيا أخي!

هذه هي طريق الضلال. وتلك ماهيتها. فلقد رأينا فيها ظلام الكفر الدامس.

هيا الآن يا اخي لنرجع الى العدم، ثم لنعود منه، فطريقنا هذه المرة في (الصراط المستقيم) ودليلنا العناية الإلهية، وإمامُنا القرآن الكريم.

نعم! لما ارادنا المولى الكريم، اخرجتنا قدرتُه من العدم، رحمةً منه وفضلاً. واركبنا قانون المشيئة الإلهية، وسيّرنا على الاطوار والادوار.. ها قد أتى بنا، وخلع علينا خلعة الوجود وهو الرؤوف، واكرمنا منزلة الأمانة، شارتُها الصلاة والدعاء.

كل دور وطور منزل من منازل الضعف في طريقنا الطويلة هذه، وقد كتب القدر على جباهنا أوامره لتيسير امورنا، فاينما حللنا ضيوفاً نُستقبل بالترحاب الاخوى. نسلّمهم ما عندنا ونتسلّم من اموالهم.. هكذا تجري التجارة في محبة ووئام. يغذّوننا، ثم يحمّلوننا بالهدايا، ويشيّعوننا.. هكذا سرنا في الطريق، حتى بلغنا باب الدنيا، نسمع منها الاصوات.

وها قد اتيناها ودخلناها، وطأت اقدامنا عالم الشهادة، معرض الرحمن، مشهر مصنوعاته، وموضع صخب الانسان وضجيجه. دخلناها ونحن جاهلون بكل ما حولنا، دليلنا وإمامنا مشيئة الرحمن، ووكيلها عيوننا اللطيفة.

ها قد فتحت عيونُنا، أجلناها في اقطار الدنيا.. أتذكر مجيئنا السابق الى ههنا؟ كنا ايتاماً غرباء، بين اعداء لا يعدّون من دون حامٍ ولا مولى.

أما الآن، فنور الايمان (نقطة استناد) لنا، ذلك الركن الشديد تجاه الاعداء.

حقاً، ان الايمان بالله نورحياتنا، ضياء روحنا، روح ارواحنا، فقلوبنا مطمئنة بالله لا تعبأ بالاعداء، بل لا تعدّهم اعداء.

في الطريق الاولى، دخلنا الوجدان، سمعنا الوف الصيحات والاستغاثات، ففزعنا من البلاء. اذ الآمال والرغبات والمشاعر والاستعدادات لا ترضى بغير الأبد. ونحن نجهل سبيل اشباعها. فكان الجهل منا، والصراخ منها.

أما الآن، فاللّه الحمد والمنة، فقد وجدنا (نقطة استمداد) تبعث الحياة في الآمال والاستعدادات، وتسوقها الى طريق أبد الآباد. فيتشرب الاستعداد منها والآمال ماء الحياة، وكلٌ يسعى لكماله.

فتلك النقطة المشوقة، نقطة الاستمداد، هي القطب الثاني من الايمان، وهو الايمان بالحشر. والسعادة الخالدة هي درّة ذلك الصدف.

ان برهان الايمان هو القرآن والوجدان، ذلك السر الانساني.

ارفع رأسك يا اخي، وألق نظرة في الكائنات، وحاورها، أما كانت موحشة في طريقنا الاولى والآن تبتسم وتنشر البشر والسرور؟ الا ترى قد اصبحت عيوننا كالنحلة تطير الى كل جهة في بستان الكون هذا، وقد تفتحت فيه الازهار في كل مكان، وتمنح الرحيق الطهور. ففي كل ناحية انس وسلوان، وفي كل زاوية محبة ووئام.. فهي ترتشف تلك الهدايا الطيبة، وتقطّر شهد الشهادة، عسلاًِ على عسل.

وكلما وقعت انظارنا على حركات النجوم والشموس، تسلِّمها الى يد حكمة الخالق، فتستلهم العبرة وجلوة الرحمة. حتى كأن الشمس تتكلم معنا قائلة:

«يا اخوتي! لا تستوحشوا مني ولا تضجروا! فأهلاً وسهلاً بكم. فقد حللتم أهلاً ونزلتم سهلاً. انتم اصحاب المنزل، وانا المأمور المكلف بالاضاءة لكم. انا مثلكم خادم مطيع سخرّني الأحد الصمد للاضاءة لكم، بمحض رحمته وفضله. فعليّ الاضاءة والحرارة وعليكم الدعاء والصلاة.

فيا هذا! هلاّ نظرت الى القمر.. الى النجوم.. الى البحار.. كل يرحب بلسانه الخاص ويقول: حياكم وبياكم. فأهلاً وسهلاً بكم!

فانظر يا اخي بمنظار التعاون، واستمع بصماخ النظام، كل منها يقول: (نحن ايضاً خدّام مسخرون. نحن مرايا رحمة الرحمن. لا نسأم من العمل ابداً. لا تتضايقوا منا).

فلا تخيفنكم نعرات الزلازل وصيحات الحوادث، فهي ترنمات الاذكار ونغمات التسبيحات، وتهاليل التضرعات.. نعم ان الذي ارسلكم الى هنا، هو ذلك الجليل الجميل الذي بيده زمام كل اولئك.. ان عين الايمان تقرأ في وجوهها آيات الرحمة.

ايها المؤمن ياذا القلب اليقظ!

ندع عيوننا لتخلد الى شئ من الراحة، ونسلّم آذاننا للايمان بدلاً منها.

ولنستمع من الدنيا الى نغمات لذيذة.. فالاصوات التي كانت تتعالى في طريقنا السابقة ــ وظنناها اصوات مآتم عامة ونعيات الموت.. هي اصوات اذكار في هذه الطريق وتسابيح وحمد وشكر.

فترنمات الرياح ورعدات الرعود ونغمات الامواج.. تسبيحات سامية جليلة وهزجات الامطار وسجعات الاطيار.. تهاليل رحمة وعناية..

كلها مجازات تومئ الى حقيقة.

نعم! ان صوت الاشياء، صدى وجودها، يقول: انا موجود.

وهكذا تنطق الكائنات كلها معاً وتقول: ايها الانسان الغافل لا تحسبنا جامدات! فالطيور تنطق، في تذوق نعمةٍ، أو نزول رحمةٍ فتزقزق باصوات عذبة، بافواه دقيقة ترحاباً بنزول الرحمة المهداة. حقاً النعمة تنزل عليها، والشكر يديمها، وهي تقول رمزاً: ايتها الكائنات! يا اخوتي! ما اطيب حالنا! ألا نُربّى بالشفقة والرأفة.. نحن راضون عما نحن عليه من احوال.. وهكذا تبث اناشيدها بمناقيرها الدقيقة، حتى تحول الكائنات كلها الى موسيقى رفيعة.

ان نور الايمان هو الذي يسمع اصداء الاذكار وانغام التسابيح، حيث لا مصادفة ولا اتفاقية عشواء.

ايها الصديق!

ها نحن نغادر هذا العالم المثالي، ونقف على عتبة العقل وندخل ميدانه، لنزن الامور بميزانه كي نميّز الطرق المختلفة.

فطريقنا الاولى: طريق المغضوب عليهم والضالين. تورث الوجدان حساً أليماً وعذاباً شديداً حتى في اعمق اعماقه، فتطفح تلك المشاعر المؤلمة الى الوجوه، فنخادع انفسنا مضطرين للنجاة من تلك الحالة، ونحاول التسكين والتنويم وابطال الشعور وإلغائه.. وإلاّ لا نطيق تجاه استغاثات وصيحات لا تنقطع! فالهوى يبطل الحس ويخدّر الشعور، والشهوات الساحرة تطلب اللهو، كي تخدع الوجدان وتستغفله وتنيم الروح وتسكّنها لئلا تشعر بالألم. لأن ذلك الشعور يحرق الوجدان حتى لا يكاد يطاق صراخه من شدة الالم.. ألا ان ألم اليأس لا يطاق حقاً!

اذ كلما ابتعد الوجدان عن الصراط المستقيم اشتدت عليه تلك الحالة، حتى ان كل لذة تترك أثراً من الألم، ولا تجدي بهرجة المدنية الممزوجة بالشهوات والهوى واللهو.. انها مرهم فاسد وسمّ منوّم للضيق الذي يولده الضلال.

فيا صديقي العزيز!

لقد شعرنا بالراحة من حالتنا في الطريق الثانية المنورة، فتلك هي منبع اللذات وحياة الحياة، بل تنقلب فيها الآلام الى لذائذ.. هكذا عرفناها، فهي تبعث الاطمئنان الى الروح ــ حسب قوة الايمان ــ والجسد متلذذ بلذة الروح، والروح تتنعم بنعم الوجدان.

ان في الوجدان سعادة عاجلة مندرجة فيه، انها فردوس معنوي مندمج في سويداء القلب. والتفكر يقطّرها ويذيقها الانسان. أما الشعور فهو الذي يُظهرها.

ونعلم الآن: انه بمقدار تيقظ القلب، وحركة الوجدان، وشعور الروح، تزداد اللذة والمتعة، وتنقلب نار (الحياة) نوراً وشتاؤها صيفاً.

وهكذا تنفتح ابواب الجنان على مصراعيها في الوجدان، وتغدو الدنيا جنة واسعة تجول فيها ارواحنا، بل تعلو علو الصقور، بجناحي الصلاة والدعاء.

واستودعكم الله يا صديقي الحميم. ولندع معاً كلٌ لأخيه. نفترق الآن والى لقاءٍ.

اللّهم اهدنا الصراط المستقيم.

جواب موجّه الى الكنيسة الانكليكية

سأل ذات يوم قسيس حاقد، ذلك السياسي الماكر، العدوّ الألدّ للاسلام، عن اربعة امور طالباً الإجابة عنها في ستمائة كلمة. سألها بغية اثارة الشبهات، مستنكراً ومتعالياً، وبشماتة متناهية، وفي وقت عصيب حيث كانت دولته تشد الخناق في مضايقنا.

فينبغي الإجابة بـ: تباً لك! تجاه شماتته، وبالسكون عليه بسخط تجاه مكره ودسيسته، فضلاً عن جواب مسكت ينزل به كالمطرقة تجاه انكاره. فأنا لا أضعه موضع خطابي، بل اجوبتنا لمن يلقي السمع وينشد الحق وهي الاتية:

فلقد قال في السؤال الأول: ما دين محمد e ؟. قلت: انه القرآن الكريم. أساس قصده ترسيخ اركان الايمان الستة وتعميق اركان الاسلام الخمسة.

ويقول في الثاني: ماذا قدّم للفكر وللحياة؟ قلت: التوحيد للفكر، والاستقامة للحياة. وشاهدي في هذا: قوله تعالى ] قل هو الله أحد[ ] فاستقم كما اُمرت[ .

ويقول في الثالث: كيف يعالج الصراعات الحاضرة؟. اقول: بتحريم الربا وفرض الزكـاة. وشاهـدي قوله تعـالى: ] واحل الله البيـع وحرم الربـا[ ] يمحـق الله الــربا[ ] واقيموا الصلاة واتوا الزكاة[ .

ويقول في الرابع: كيف ينظر الى الاضطرابات البشرية؟ اقول: السعي هو الاساس، والاّ تتكدس ثروة الانسان بيد الظالمين، ولا يكنزوها. وشاهدي قوله تعالى: ] وأن ليس للانسان الاّ ما سعى[ ] والذين يكنزون الذهـب والفـضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم[ (1).

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا فرد، يا حي، يا قيوم، يا حكم، يا عدل. يا قدوس

بحق الاسم الاعظم وبحرمة القرآن المعجز البيان وبكرامة الرسول الاعظم e ، ادخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنة الفردوس والسعادة الابدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الايمان والقرآن دوماً وابداً.. آمين واكتب في صحيفة حسناتهم ألف حسنة لكل حرف من حروف كتاب (الكلمات)... آمين. وأحسن اليهم الثبات والدوام والاخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا ارحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والانس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

بإسم جميع طلاب النور

سعيد النورسي



باسمه سبحانه

لقد كانت ترجمة كليات رسائل النور الى اللغة العربية ونشرها غاية المنى لمؤلّفها الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، وقد حث عليها في رسائل عديدة. حتى أنه كان يأمل قيام علماء من الازهر أو من بلاد الشام على ترجمة (مجموعة عصا موسى). وقبل ارتحاله الى دار البقاء ارسل احد طلبته الى العراق ومصر بغية الاتصال بالعلماء هناك على أمل الشروع بترجمة الرسائل. وفعلاً تمت ترجمة ونشر عدد قليل من رسائل صغيرة في الشام.

ولما درّس الاستاذ من كان حوله من الطلاب (المثنوي العربي النوري) و تفسير (اشارات الاعجاز) وهما مؤلفان باللغة العربية، أمر بطبعهما (بالرونيو) ونشرهما، كما بعث (المثنوي العربي النوري) الى علماء في العالم ولا سيما الى علماء في العالم الاسلامي. وقد نشرت وقتئذٍ بعض الرسائل من قبل عدد من الفضلاء.

أما الآن فقد ظهرت ولله الحمد، الترجمة الأمينة الكاملة لكليات رسائل النور بفضل الله وكرمه وشمول عنايته، بجهود ذوي علم فاضلين متعاونين مخلصين صادقين وهمتهم كشخص معنوي جاد وهيئة علمية دؤوبة، اذ قام الأخ احسان قاسم الصالحي واخوة صادقون معه في خدمة نور القرآن والايمان بترجمتها ونشرها.

ومن التوافق العجيب والتشابه الغريب أن تظهر هذه المترجمات في ظروف عصيبة واوقات صعبة تمر على العراق شبيهة تماماً بالسنين الحالكة الاولى لتأليف رسائل النور. ولم تظهر هذه المترجمات إلا بفضل إمداد معنوي وحماية شاملة ورعاية تامة القتها رحمة الرحمن الرحيم على اولئك الاخوة الصادقين فوجّهت انظارهم الى حقائق رسائل النور وعزفتهم عن الاحداث السياسية المتقلبة. وهكذا تجلت العناية الربانية، فبذلوا ما وسعهم لنشر انوار القرآن والايمان، واصبحت الادعية المرفوعة من انحاء العالم الاسلامي والتهاني القلبية بظهور المترجمات مدداً لهم يشد من عزائمهم على مواصلة العمل. فللّه الحمد والمنة ان تمت ترجمة كليات رسائل النور على هذه الصورة الكاملة وعرضت أمام انظار العالم الاسلامي على هيئة مجموعات.

ولما كان استاذنا المحترم بديع الزمان سعيد النورسي يكتب دعاءً جامعاً ختام كل مجموعة من مجموعات رسائل النور المنشورة، لذا ثبّتنا الدعاء نفسه اعلاه لما نعتقد بأن كتابته ختام المترجمات العربية ايضاً كانت من رغبات استاذنا المعنوية.

ونلفت نظر القراء الكرام الى ما يأتي:

كان استاذنا يقول: ان رسائل النور درس قرآني يوافق أفهام هذا العصر. وقد علق هذه اللوحة على ظهر الباب الخارجي لمحل اقامته في كل من اسبارطة واميرداغ، وكان يستقرئها كل زائر له:

الى جميع اخوتي الاعزاء الراغبين في مقابلتي وزيارتي ابيّن لهم الاتي:

انني لا اطيق مقابلة الناس ما لم تكن هناك ضرورة، اذ التسمم الحالي، والـضعف الذي اعترى جسمي، وكذا الشيخوخة والمرض.. كل ذلك جعلني عاجزاً عن التكلم كثيراً. ولأجل هذا ابلّغكم يقيناً أن كل كتاب من رسائل النور انما هو (سعيد). فما من رسالة تطالعونها إلاّ وتستفيدون فوائد افـضل من مواجهتي بعشرة اضعاف، بل تواجهونني مواجهة حقيقية. فلقد قررت: ان اذكر في دعواتي وقراءاتي صباح كل يوم اولئك الراغبين في لقائي لوجه الله بديلاً عن عدم استطاعتهم من اللقاء، وسأستمر على هذا القرار.

سعيد النورسي

وبعد وفاة استاذنا الجليل تبين أنه يواصل خدمة الايمان والقرآن برسائله، رسائل النور وكأنه على قيد الحياة مرشداً كاملاً وإماماً للعصر.

اجل.. اجل.. ان التحاق ابناء الجيل الجديد افواجاً افواجاً في كل مكان بقافلة النور واسترشادهم برسائل النور يثبت اثباتاً فعلياً مجسماً هذه الحقيقة. ونحن على ثقة من ان الرسائل المترجمة الى العربية تؤدي العمل نفسه وتحمل المعنى نفسه والروح نفسها.

والحمد لله هذا من فضل ربي والخير والنور والسعادة كلها من الله وحده.

ومن الله التوفيق والسداد.



من طلاب النور الذين خدموا

الاستاذ بديع الزمان سعيد النورسي

عبدالله، حسني، بايرام، صونغور



بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

] واما بنعمة ربك فحدّث[

حمداً لله بما لا يتناهى من الحمد، حمداً لله بما يليق من الحمد، حمداً لله بما هو أهله. فاللّهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام الأصفياء والمتقين وحبيب رب العالمين وعلى آله الأطهار وصحبه الابرار.

واذ أبتهل الى المولى القدير أن مَنّ علينا هذه النعمة العظمى، نعمة ترجمة رسائل النور. أتضرع اليه تعالى أن يوزعني شكر نعمته هذه، ويديمها علينا جميعاً.. ولقد عزمنا على نشر (كليات رسائل النور) كاملة في مجموعات بإذن الله تعالى وسنفرد منها مجلداً كاملاً لحياة الاستاذ المؤلف مع دراسة مفصلة عن رسائل النور، لذا لم نَر داعياً الى تقديم الكتاب بنبذة عن المؤلف والمؤلَّف كما هو معتاد.

ومع هذا أراني مضطراً الى ان اضع هذه الملاحظات امام القارئ الكريم في ختام هذه (الكلمات):

ان الذي يواكب خيالاً زمن تأليف رسائل النور ونشرها يجد أن الأمة، أمة الإسلام تمر في أحلك فترات حياتها، حيث تجتاح سيول الظلمات، ظلمات الفتن العاتية أرجاء العالم الاسلامي كافة، وتغزو الشبهات والأفكار الباطلة العقول والقلوب من كل صوب، فأظلمت النفوس واختنقت الارواح حتى انقطع الرجاء..

في هذه الفترة الحرجة من حياة الامة مَنّ الله عزوجل على هذه الأمة فقيّض الاستاذ سعيد النورسي للذود عن حياض الإيمان وبيان انوار القرآن، وشرح صدره للتتلمذ على يدي القرآن العظيم والتزود من نبعه الفيّاض، حتى استنار قلبه وسطع فكره وارتوت روحه من زلال القرآن ونور الايمان فأملى على من حوله من محبيه ما استلهمه من نور الكتاب المبين هذه اللفتات القرآنية والمعارف الإلهية والفيوضات الإيمانية، فكانت هذه الرسائل التي أطلق عليها اسم (رسائل النور).

وهذه المجموعة (الكلمات) التي تضم ثلاثاً وثلاثين كلمة هي عمدة رسائل النور، اذ الكلمة الثالثة والثلاثون منها عبارة عن ثلاث وثلاثين مكتوباً، جُمعت في مجموعة مستقلة سميت بـ (االمكتوبات). وانبثقت من المكتوب الحادي والثلاثين ثلاث وثلاثون لمعة هي مجموعة (اللمعات). وتشعبت من اللمعة الحادية والثلاثين منها مجموعة (الشعاعات) التي تضم خمسة عشر شعاعاً.

فرسائل النور مائة وثلاثون ونيف من الرسائل مع خمس عشرة رسالة باللغة العربية.. كل منها رسالة مستقلة بحد ذاتها اي لا تلجئ القارئ الكريم الى البحث عن الرسائل الاولى كي يحيط فهماً بالتالية منها، بل هو حر في اختيار الرسالة من أية مجموعة كانت بغير اعتبار لتسلسلها. وإن لقيه شئ من الغموض سواء في العبارة أو في المعنى فسيلاقيه حتماً توضيح وبيان في موضع آخر.

وقد وضعنا هوامش لتوضيح بعض العبارات أو المصطلحات، كما وضعنا ارقام الآيات الكريمة واسماء سورها، وكذا خرّجنا الاحاديث الشريفة من مظانها من الكتب الموثوقة، وأبقينا ما لم نستطع على تخريجه كما هو، علّنا نظفر في قابل الأيام بنصيحة أخوية من عالم ضليع بالحديث النبوي الشريف.

وقد يلفت نظر القارئ الكريم ما يذكره الاستاذ المؤلف من مفاهيم علمية أو مصطلحاتها التي كانت دارجة زمن تأليف الرسالة، الاّ انها تبدلت وتغيرت بمرور الزمن، كمولّد الحموضة ومولّد الماء، أو عدد المسلمين في العالم.. أو ما شابهها من الامور، فترجمناها نصاً دون أن نحشر فيها شيئاً من عندنا الاّ ما اشرنا اليه بهامش، وذلك حفاظاً على امانة الترجمة.

واسم هذه المجموعة (سوزلر) ترجمناه بـ(الكلمات) لأن الاستاذ المؤلف نفسه قد ذكر في الشعاع الأول: ان (سوزلر) تعنى (الكلمات) باللغة العربية. أما اسم الديوان الملحق بهذه المجموعة (لمعات) فقد ترجمناه بـ(اللوامع) لئلا يلتبس مع اسم مجموعة (اللمعات).

ولقد حرصت كل الحرص في الترجمة ان اكون اميناًً ما استطعت، محافظاً على المعنى الذي يقصده الاستاذ المؤلف، مما تطلب مني طول النظر في الرسائل كلها والتأمل في عباراتها والامعان في معانيها. لذا تحاشيت التقيد بحرفية النص، لاعتقادي بعدم إيفائه الغرض، اذ لا يوحي المعنى الذي يريده المؤلف الى روح القارئ، ولا يخفى مدى الصعوبة البالغة في نقل المعنى من لغة الى اخرى ولا سيما المعاني الواسعة العميقة التي يحصرها الاستاذ النورسي في عبارات دقيقة وجمل موجزة، ولكن بفضل الله العميم وبعنايته الشاملة ذُللت تلك الصعوبات، اذ هيأ سبحانه وتعالى للأمر اساتذة كرماء ممن درسوا ودرّسوا قواعد اللغة العربية وآدابها، وعلماء أفاضل ممن لهم الباع الطويل في التفسير والحديث والعلوم الاسلامية، واخوة صادقين تولوا مهمة التبييض والتنقيح ومقابلة النصوص. بل كنت استنصح كل قارئ واستشير كل من له خبرة في هذا الموضوع ليدلّني على الصواب. مما أضفى على الترجمة جمالاً في العبارة ودقّة في التعبير وبعداً عن الاخطاء ما امكن وتطابقاً في المعنى، حتى سلمت - في نظري - من عورات الركاكة وعيوب العجمة. والحمدلله اولاً وآخراً، وهذا من فضل ربي الذي أسبغ عليّ نعمه ظاهرة وباطنة رحمةً منه تعالى لضعفي ورأفة بعجزي فأمدّني باولئك الميامين من ذوي الاقلام القوية والفكر الخصب والرأي السديد، الذين آزروني وشدّوا من عزيمتي على الاستمرار في العمل بغير كلل، حتى ظهرت المترجمات الى ساحة النشر ببركة اخلاصهم وصدق نواياهم. ولولا علمي بأن هؤلاء الاخوة البررة لا يحبذون ذكر اسمائهم، لما ترددت في ذكرهم فرداً فرداً. ولئن لم اذكرهم باسمائهم فهم مذكورون لدى العلي القدير بما قدّموا من عمل جليل خالص زكي في سبيل نشر الايمان ورفع راية القرآن.

فالى كل اولئك الاخوة الأكارم، والى الاخوات الفاضلات، والى كل من أعانني في أيّ شأن من شؤون الترجمة، تصحيحاً وتهذيباً وتشذيباً وتبييضاً ودعاءً وحثاً، أقدم عظيم شكري ومزيد امتناني راجياً المولى القدير ان يجزل ثواب عملهم الخالص ويرزقهم واياي حبّه وحب من يحبّه والعمل الذي يبلغنا الى حبه.

وأملي في الله عظيم ان يكون القارئ العزيز ايضاً كريماً يصفح عن الزلات ويغض الطرف عن الهفوات ويدعو لنا بظهر الغيب خالص الدعوات ويرشدنا الى مافيه الخير والسداد.

ومما يزيد شكري وحمدي لله تعالى ان مسك الختام لهذه المجموعة الاولى هو دعاء الاستاذ النورسي نفسه بقلم أوصيائه وطلابه الذين رافقوه ولازموه طوال سني حياته المباركة حتى وافاه الأجل ورحل الى عالم الآخرة فرحمة الله عليه رحمة واسعة ونفعنا بعلومه القرآنية وخدمته الأيمانية.

والله نسأل أن يوفقنا الى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

احسان قاسم الصالحي
__________________
رفيقك علم الله فلابد ان لا تنسى رفيقك
عبدالرزاق غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس